رواية صراع الذئاب الجزء الثاني (عهد الذئاب) الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم ولاء رفعت علي


 رواية صراع الذئاب الجزء الثاني (عهد الذئاب) الفصل الثالث والثلاثون

_ قد مر يومان منذ أن عاد إلي قصره، يجلس بشرودٍ خلف المكتب دون أن يسند ظهره للخلف بسبب جراحه التي بدأت في التعافي ... يتذكر حديث أشقائه الذي جعل كم هائل من المشاعر المتضاربة والمتناقضة تخالجه في آن واحد... الأمان و الخوف... الحب والكراهية... الحنين والجفاء... الثقة وإنعدامها... الإنتصار والهزيمة ... والندم أحياناً لما لم يتخذ تلك الخطوة منذ سنوات حيث الإقتراب منهم ومصراحتهم بحقيقته... صراع بداخل صدره يُشعره بالإختناق، لذا فضل أن يمكث بمفرده في غرفة مكتبه مما جعلها تُظن إنه لايريد التحدث معها أو رؤيتها.
طرقات مترددة علي الباب تخبره من يكون الطارق... قال بنبرة جادة:
_ نعم؟.
فتحت صبا الباب و ولجت إلي الداخل:
_ ممكن أدخل؟.
يمسك بقداحته الذهبية يشعلها ويطفأها مِراراً وتكراراً... فأجاب عليها بدون النظر إليها:
_ ما أنتي دخلتي.
عقدت حاجبيها بضيق من تجاهله المتعمد لها... أغلقت الباب و أتجهت لتجلس علي إحدي المقاعد أمام المكتب... وقالت:
_ ممكن أفهم سبب قعادك هنا من ساعة ما رجعنا من المستشفي!... ولا بتاكل ولابتشرب معايا.. ورافض أغيرلك علي جرح كتفك ورجلك و أم سحلول الي بعتهالك يوسف هي الي بتغيرلك... حتي النوم بتنام في المكتب.. للدرجدي زعلان مني ومش طايقني!.

أجاب بنبرة هادئة فلنقُل بالأحري باردة ومازال يلهو بالقداحة :
_ ما أنا قولتلك أول ما جينا أنا عايز أبقي لوحدي ياصبا.. و غيار جرحي تخصص الممرضة لأن ده شغلها وهي عارفه بتعمل أي .
كاد ينفذ صبرها... نهضت وأتجهت نحوه جالسة فوق المكتب أمامه مباشرة مُنحنية بالقرب من وجهه، وأختطفت منه القداحة... فتفوهت بنبرة حاده:
_ برضو مجاوبتش علي سؤالي.
_ آه زعلان... بس مش ده السبب، أنا فعلاً محتاج أقعد مع نفسي شويه.
قالها وأخذ منها القداحة ثم فتح علبة سجائره الخشبية ليتناول واحدة وكاد يشعلها... أختطفتها منه وألقت بها بعيداً قائلة:
_ أنا مكنتش قصدي أقول لكارين بس غصب عني.
نظرت نحو القداحة وأستطردت:
_ وبلاش سجاير عشان صحتك... وبعدين أنا عارفه الي شاغل دماغك فبدل ما أنت شايل جواك لوحدك أحكيلي وفضفض لي.. شاركني همومك... مش أنا صبا قلبك وروحك؟.
دنت منه وعانقته... وبمجرد أن لمست يديها ظهره داهمه ألم مُبرح قام بكتمانه وهو يجز علي أسنانه،صاح بغضب:
_ حاسبي بقي.
دفعها بعنف ليبعدها عنه ونهض بصعوبة، فأشاح وجهه حتي لاتراه يتألم.
وقفت تنظر له وعينيها متسعتان غير مصدقة .. فقالت بصوت مهزوز علي وشك البكاء:
_ أنا آسفة.
ألتفت لكي تذهب، فأمسك بيدها وهو ينهر نفسه بداخله فقال:
_ حقك عليا... أنا مكنتش عايز أشغلك وأتعبك معايا كفاية عليكي قلقك عليا الأيام الي فاتت... وكمان فيه حاجه.
صمت ليحدق في رماديتيها اللامعة كحبات اللؤلؤ... فقالت له بتهكم :
_ في أي تاني مخبيه عليه يا قصي!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

_ وفي حي المعصرة الشعبي... حيث تقطن دنيا تلك الفتاة المشاكسة التي أختطفت قلبه منذ الوهلة الأولي... كانت تقف في الشرفة توزع الثياب علي الأحبال وتثبتها بالمشبك الخشبي، فأنتبهت إلي سيارة الشرطة التي جاءت للتو وخرج منها مجموعة من العساكر وضابط.. دلف جميعهم إلي داخل البناء المقابل ليخرجو بعد أن قبضو علي هذا الشاب الذي كان يتعرض لها دوماً ويتوعد لها، ألقو القبض عليه بتهمة حيازة المخدرات وتجارتها.
ولجت إلي الردهة لتخبر جدتها فأوقفها رنين جرس المنزل... أتاها صوت جدتها من الغرفة:
_ مين الي بيخبط يا دنيا؟ .
أجابت وهي متجهة نحو الباب:
_ لسه هاشوف يا تيتا.
فتحت الباب... وقعت عينيها علي وجهه المليئ بالكدمات والجروح ويمسك في يده باقة زهور واليد الأخري علبة شيكولاتة.
_ أنت مين يا عم المتشلفط؟ .
قالتها دنيا ليجيب الآخر بضحك من هيئتها المبعثرة... فهي ترتدي جلباب مزركش مثل التي ترتديه جدتها المُسنة وترفع طرفه في ثنية بنطالها من الخصر ويغطي شعرها حجاب غير مهندم تخرج منه خصلاتها المشعثة وفي طرفه مشبك يتدلي.
_ لحقتي تنسيني! ... أنا كنان.
ظلت صامتة لثوان وهي تتذكره، فأنتابتها تلك الرجفة... وما كان منها سوي قالت:
_ دقيقة بس وجيالك.. أتفضل.
وقبل أن تذهب عادت قبل أن يدخل وقالت:
_ معلش يا كنان بيه أقلع الجذمة برة الله يخليك... زي ما أنت شايف بعينيك لسه ماسحة الشقة وفرشه السجاجيد الي قطمو ضهري في غسيلهم.
خلع حذائه ويكتم ضحكاته بصعوبة من كلماتها وأسلوبها الفكاهي الذي جذبه إليها أكثر.... وعندما دخل ركضت إلي غرفتها، نظرت لهيئتها في المرآه... شهقت وشعرت بالإحراج الشديد:
_ يا حوستي السوده ده شافني وأنا في أقذر حالاتي... حبكت يعني أقلب الشقة النهاردة... يلا أحسن أهو جه علي نضافه أحسن ما كان شافها وهي شبه مقلب الزبالة.
صاحت جدتها بصوتها ذو البحة من الغرفة الأخري:
_ مين يابت يا دنيا الي كان بيخبط؟.
أجابت عليها وهي تبدل ثيابها المتسخة بأخري نظيفة:
_ ده كنان بيه الي حكتلك عليه يا تيتا.
سمعها كنان وضحك بصوت لم يصل إليها... وبعد ثوان خرجت له الجدة تستند علي عكاز معدني... نهض مسرعاً ليساعدها حتي جلست علي الأريكة وهي تدعي له:
_ إن شاء الله يخليك ويكرمك ويباركلك يابني.
أجاب مبتسماً:
_ تسلمي يا أمي... ربنا يديكي الصحة.
نظرت له وأخذت تتأمل في ملامحه فقالت:
_ لا حول ولاقوة إلا بالله مين الي عمل فيك كده؟.
أجاب بإحراج:
_ دي كانت حادثة بسيطة كده والحمدلله ربنا ستر وبقيت كويس.
نظرت نحو غرفة حفيدتها التي ترمقها بتحذير من الداخل، حيث تعلم ما سوف تتفوه به من سخرية و تنمر
_ معلش يابني هي بنت إبني بومة أم.....
قاطعتها دنيا وهي تشير إليها بتوعد:
_ ماتهدي يا تيتا شويه... الراجل شكله تعبان ومش في حمل رغي و صداع.
أستطردت الجدة بلا مبالاه:
_ سيبك منها وخليك معايا.. أمها ماتت وهي بتولدها وأبوها مستحملش راح مات وراها... أنا الي ربتها لحد ما كبرت وخدت الدبلوم من هنا والثورة قامت في البلد... وكل ما تشتغل متعمرش في شغلانه ويطردوها... حتي العرسان كل ما يتقدملها واحد ينزل من عندنا يا يحصله حادثه ويموت أو يتشل أو يعيش بعاهة مستديمة.
قهقه كنان من حديث الجدة الساخر، حك فروة رأسه وقال بصوت غير مسموع:
_ ماشاء الله وأنا أول ما شوفتها كنت هاخبط فيها بالعربية وبعدها كنت هاتسلخ في سينا.. وراجع وأنا وشي زي الخريطة.
_ بتقول حاجة يابني؟.
قالتها الجدة وهي تضع يدها علي أذنها اليمني لتتأكد من وجود سماعة الأذن التي تساعدها علي السمع.
كاد يجيب، لكنه صمت محدقاً بهذه الحورية التي خرجت للتو وهي تقول:
_ ماشي يا تيتا عماله بتشرد لي أدام الراجل... أوعي تصدقها يا كنان بيه كل ده علشان ما أخدتهاش الترب معايا إمبارح وأنا بزور بابا وماما وجدي الله يرحمهم.
نظرت إلي جدتها بتوعد:
_ صح ولا لاء يا حليمة؟.
_ آه... ولا مقومتيش تعمليلي أم علي دلوقت هافضحك أدام البيه وأقوله علي الواد حمو الي غزتيه بالمطو......
أسرعت دنيا بوضع كفها علي فم جدتها، ضحكت وقالت من بين أسنانها بمزاح:
_ ما تاخدش في بالك تيتا بتحب تهزر كتير... صح ياتيتا؟.
لكزتها بخفة في زراعها، لتجيب الجدة بعد إزاحة يدها من علي فمها:
_ ولو مش عايزاني أتكلم روحي أعملي الي قولتلك عليه.
زفرت بحنق وقالت:
_ حاضر أمري لله.
أوقفها كنان قبل أن تنهض قائلاً:
_ أستني يا آنسه دنيا... أنا جاي عايزك وعايز جدتك في كلمتين.
قالت الجدة بإصرار:
_ لما تعملي أم علي الأول.
أجاب كنان برجاء:
_ أنا هاخدك لأجمد محل حلويات بيعمل أم علي و علي نفسه وباقي العيلة كلها.
إبتسمت الجدة بسعادة وقالت:
_ إن كان كدهون أتكلم براحتك... خير؟.
إعتدل في جلسته، و تحمحم مبتسماً ناظراً إلي دنيا ، فقال:
_ أنا جاي أطلب إيد الآنسه دنيا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

- ترك يدها ليشرع في فك أزرار قميصه الأسود زراً تلو الآخر، وعندما رأته يخلعه بصعوبة من زراعه التي أعلاها الكتف المُصابة المضمدة قالت:
_أستني.
قامت بمساعدته، و ما أن خلعت عنه قميصه ولي إليها ظهره، فوقعت عينيها علي آثار السياط لتشهق بذعر وهي تضع كفها علي فمها... لم تتحمل رؤية تلك الجروح فأنخرطت في البكاء وقالت:
_هم عملو فيك كده؟.
زفر بسأم حيث كان لايريد أن تري هذا، فألتفت إليها قائلاً:
_ عشان كده مكنتش عايزك تشوفيني بالمنظر ده... بالله عليكي بطلي عياط... أنا بقيت أحسن أدامك أهو.
أرتمت علي صدره ولفت زراعيها حول خصره قائلة:
_ غصب عني يا حبيبي... أنا مبستحملش عليك حاجة... ومكنتش أعرف إنهم عذبو فيك كده... السفله المجرمين.
أبتعدت عنه وهي تنظر له بترقب:
_ أوعي يكون خالو الي عمل فيك كده؟.
أومأ لها بالنفي وأجاب:
_ بالعكس ده حماني وخد الرصاصة بدالي لما سويلم ضرب عليا نار.
تنهد وأستطرد وهو يحاوط وجهها بين كفيه:
_ عارفه ياصبا... أنا لما كنت بتضرب علي ضهري بالكرباج مكنتش بحس بالوجع علي أد ما أنا كان كل خوفي إن مش هاشوفك تاني... نفسي لما أموت تبقي أنتي آخر حاجة عينيا تشوفها.
وضعت كفيها علي يديه قائلة:
_ بعد الشر عليك يا حبيبي.
وأزاحت يديه لتقوم بتقبيل كفه ثم الآخر:
_ ربنا ما يحرمني منك أبداً.
تفاجئ بها وهي تقف خلفه... وضعت يديها علي عضديه تتلمس عضلاته البارزه، شعر بأنفاسها الدافئةوهي تقترب بشفتيها نحو ظهره... تساءل بنبرة تُعبر عما يشعر به من شوق مُهلك لكل خلايا جسده:
_ بتعملي أي ياصبا؟.
أجابت عليه بقبلة رقيقة علي أعلي ظهره... تتفوه بحنانٍ وعشق:
_ بحاول أعالج جروحك.
في البداية شعر بوخزٍ طفيف لكنه أختفي وكأن ظهره لم يصيبه خدشاً واحداً... أستمرت بتلثيم كل إنش في جروحه... لم يستطع الإحتمال أكثر من ذلك فأستدار إليها وجذبها من خصرها، ليجلسها أعلي المكتب وأنهال علي حبات الكرز خاصتها بنهم، ٍ يقول بنبرة جعلتها تثمل من خمر شفاه:
_ بتخافي عليا وبتحبيني أوي كده؟.
أجابت بتيه و ثمالة... غارقة في محيط عشقه:
_ أنا كانت روحي غايبة عني وأنت بعيد ولما أطمنت عليك وشوفتك ردت فيا الروح من تاني.
_ أنا بعشقك أوي ياصبا.
قالها و زراعيه تضمها إلي صدره بقوة حتي شعرت بطقطقة فقرات ظهرها و ما زال متعمقاً في أكل تلك الفاكهة التي كلما تريد الإجابة علي كلماته... يتذوقها ليجد في كل مرة طعم آخر يفقده عقله ويسلب روحه، ليأخذ الحورية التي سحرته بعشقها الفاتن إلي مملكته و يُسكنها عرش قلبه... فمن سواها أستطاعت إمتلاك قلب الملك!.
______________________________________

- ألقي جملته علي السيدة العجوز و حفيدتها التي غرت فاها
_ بتقول أي يابني؟.
سألته الجدة لتتأكد من سمعها وبداخلها تتراقص من فرط السعادة، ليجيب عليها بصوت جهوري و مازال ينظر لدنياه الذي إشتد إحمرار وجنتيها المياستان:
_ بقولك أنا عايز أتجوز دنيا علي سنة الله ورسوله.
ردت بإبتسامة عارمة:
_ عليه أفضل الصلاةوالسلام.
نظرت لحفيدتها وأكملت:
_ رأيك أي يا بنتي؟.
نظرت لكليهما بخجل و أجابت بحياء ناظرة لأسفل :
_ الي تشوفيه يا تيتا.
ألتفتت الجدة إلي كنان المتراقص قلبه بفرح وسعادة غمرت كل حواسه، قالت بنبرة جادة:
_ قرب مني يابني.
أشارت له ليجلس جوارها، نهض من مقعده و أراح مكان ما أشارت له، أقتربت الأخري منه وأستطردت حديثها:
_ بص يابني... زي ما أنت شايفني كده ست كبيرة فايته الدنيا... أنا و لا هقولك سبني أفكر ولا أستني نسأل عليك الأول... أنا قلبي أرتاحلك من قبل ما أشوفك يكفي جدعنتك مع دنيا و وقفتك معاها لحد ما كشفت وأطمنت عليها و وصلتها لحد البيت.
نظر كنان لدنيا، فأكملت الجدة:
_ هي حكت لي علي كل حاجه حتي كمان لما وقفت وضربت الولاه الي أرفها في الرايحة والجاية... دنيا مش حفيدتي وبس... دنيا بنتي و قلبي الي عايشة بيه وليه... يعني كل الي بطلبه منك تحطها في عينيك وتراعي ربنا فيها... أنا حاولت علي أد ما أقدر أكون أبوها وأمها الي أتحرمت منهم وهي لسه حتة لحمة حمره... عيزاك بقي تكون ليها كل حاجة الزوج والحبيب والأهل والسند... ولو في يوم حسيت إنك مش عايزها سيبها من غير ما تجرحها أو تخونها أو تهينها.
أومأ لها كنان بإمتنان قائلاً:
_ من غير ما تقولي... أنا بوعدك طول ما أنا عايش وفيا نفس هخليها ملكة و هاكون كل أهلها وناسها... وربنا يقدرني وأعوضها عن أي حاجه كانت نقصاها وهخليها علي طول سعيدة إن شاء الله.
ربتت عليه وقالت:
_ ربنا يباركلك يابني ويباركلك فيها ويتمملكو علي خير.
رمقت دنيا بحده مصتنعه قائلة:
_ بت يا دنيا قومي فزي وأندهي علي أي عيل من الشارع يجبلنا أزازة شربات.
قالتها وأطلقت زغرودة
قهقه كنان وقال:
_ ينفع شربات قبل قراية الفاتحة!.
ردت الجدة وهي تضرب بكفها علي صدرها:
_ يوه يقطعني.
_ طيب نقرأ الفاتحة وأخدكو بره نشرب الشربات وناكل الحلو في أحسن محل حلويات في مصر.
قالها كنان
ردت الجدة:
_ عيب يابني... ده واجب علينا وأنت أول مرة تدخل في بيتنا.
_ وأنا بعتبر نفسي من أهل البيت... وبالمناسبة أنا مش هاخد منك دنيا وبس... أنا هاخدك تعيشي معانا وكل طلباتك أوامر يا ست الكل.
وهنا لم تتحمل دنيا أكثر من ذلك فأطلقت زغرودة وصلت إلي كل أذان أهل الحارة.
_____________________________________

_ يصدح رنين الهاتف المُلقي علي الأرض أسفل المكتب الذي أصبح سطحه شاغراً... حيث كل ما كان عليه من أشياء أصبحت في كل أرجاء الغرفة... التي يكشفها ضوء شمس الظهيرة المتسللة من بين فتحات ستائر الباب الزجاجي المُطل علي حديقة القصر.
و ها هي قد بدأت تستيقظ من النوم، فتحت رماديتيها بإنزعاج من ضوء الشمس... لتجد إنها مازالت في غرفة المكتب منذ الأمس... وما أن مالت رأسها جانباً وجدته يغط في نومٍ عميق يحاوطها بين زراعيه وساقيه... يقيدها بقوة.. حاولت التملص منه فلن تستطع... همست له وهي تحاول فك زراعيه عنها:
_ حبيبي تليفونك عمال يرن من بدري.
_لم يجيب
أخذت تداعب خصلات شعره بأناملها وتفوهت بدلال:
_ قيصو يا روحي... ممكن تسيبني أقوم.
وهنا أجاب بنبرة يغلبها النعاس:
_ لاء.
زفرت بحنق وقالت:
_ طيب سيبني أقوم أشوف مين الي عمال يرن ده.
أجاب وهو يشتد من معانقتها وكأنها سوف تهرب:
_ سبيه يرن... لما أصحي هابقي أرد.
_ طيب أنا عايزه أقوم أطلع أطمن علي مالك ده أنا سيباه مع داده زينات من إمبارح.
أجاب بدون فتح عينيه وبذات الصوت الناعس:
_ ما هو كان في حضنك لوحده بقاله ليالي... إشمعنا أنا! .
قهقهت من تذمره كطفل صغير فقالت:
_ بقي كده... قول بقي إنك غيران من مالوكي حبيبي.
أقترب بشفتيه من أذنها وقال بنبرة رجولية أختطفت قلبها:
_ أنا بغير عليكي من نفسي.
وطبع قبلة علي كتفها العاري، فأنتفضت:
_قصي.. خلاص بقي عايزة أقوم... إحنا بقينا الضهر.
_ توء توء.
إبتسمت بمكرٍ ثم أخذت تقبل وجنته نزولاً إلي عنقه حتي وصلت إلي عظمة الترقوة لتتحول قبلتها الناعمة إلي عضة أفزعته بألم:
_ ااااه.
أستغلت فك زراعيه وساقيه عنها لتنهض مسرعة وأنحنت لتلتقط قميصه الأسود وقامت بإرتدائه... تقهقه قائلة:
_ ده أنا أديتلك عضة خفيفة أومال لو غرزت جامد زي مابتعمل معايا كنت عملت أي؟ .
أجاب بحنق وتوعد:
_ دي كده عضة خفيفة! .
أشار نحو أثر أسنانها الواضح وأستطرد:
_ أفتكري إنك الي بدأتي.
و غمز إليها بعينه... كادت تتفوه ليقاطعها رنين الهاتف للمرة العاشرة... ركضت تبحث عنه حتي وجدته... فأنحنت بوضع الجثو علي ركبتيها ومدت يدها لتلتقطه من أسفل المكتب... وجدت رقم غير مسجل و أسفله مربع لتطبيق يخبرها بصاحب الرقم ( Dr. Yousef Elbhery)
أجابت ولم تشعر بمن يقترب منها بدون إصدار صوت بعد أن أرتدي بنطاله :
_ألو.
_ صبا.. أنا يوسف إبن خالك.
_ ما أنا عرفت من التروكوللر.. إزيك يا يوسف.
_الحمدلله.
_ خالو بقي عامل أي دلوقت؟ .
_ ما أنا كنت برن علي قصي من بدري عشان كده.. بابا فاء وطلب مني أقولكو إنه عايز يشوفكو دلوقتي.
_ حمدالله علي سلامته... حاضر هاقول لقصي وهنيجي علي ط......
لم تستطع أن تكمل جملتها بعد أن تفاجأت بقصي وهو يقوم بعضها أسفل ظهرها ولم يمهلها بأن تتأوه من الألم... قام بتكميم فمها حتي لايسمعها إبن خالها.
_ كده نبقي خالصين.
قالها بصوت منخفض، وأخذ منها الهاتف قائلاً بنبرة جدية:
_ أزيك يا دكتور يوسف... عزيز بيه بقي كويس؟
_ بابا فاء وعايز يشوفك أنت وصبا دلوقتي.
_ حاضر إن شاء الله هنجهز وجايين علي طول.... سلام.
وبعد إنهاء المكالمة وجدها ترمقه بحنق، فضحك رغماً عنه وأنغمرت غمازتيه الساحرتان.
_ مالك بتبص لي كده ليه؟.
أقترب منها وجذبها من خصرها.. لكزته في صدره وتفوهت بغضبٍ طفولي:
_ أوعي أنت رخم.
حدق في عينيها ليفاجئها بنبرة لم تعهدها من قبل:
_ أحضنيني يا صبا.
أخذت ترمقه بدهشة وبدون أن يجيش بما يدور في صدره قد أدركت الحالة النفسية التي تسيطر عليه تواً... فقالت له وهي تعانقه بحنان عارم :
_ أنا عارفة الموضوع صعب بالنسبة لك... وجواك صراع ما بين عايز تسامحه ومش قادر تعمل كده... فكل الي أقدر أقوله لك شوف قلبك هيرتاح فين أكتر وأعمله...كفاية تفكير بالعقل الي وصلك للمرحلة دي... وأنت قلبك أبيض وحنون أوي... ومتأكدة إنه رحيم و هيسامح.

أطلق زفرة عميقة وقال:
_ ولو أنا سامحت في حقي... بالنسبة لحق أمي الي داقت الظلم والمُر علي إيديه... كانت خايفة عليا ليحرموها مني... ماتت وأنا الي أتحرمت منها... ولو سامحته هي مش هاتسمحني ولا هترتاح في المكان الي هي فيه.
وضعت كفها بحنان علي وجنته:
_ ومين قالك مش هتسامحك!... بالعكس هي لو عايشة دلوقت هتطلب منك تسامحه وتديله فرصة يعوضك عن كل السنين الي فاتت.
دفن وجهه في عنقها و أحتضنها بقوة كطفل صغير يريد الإختباء خوفاً من المجهول.
_ تفتكري أقدر أسامحه؟.
و كان سؤاله موجهاً إليه قبل أن يكون إليها، أجابت وهي تمسد له آثار جروح ظهره بحذر:
_ أنا متأكدة إن قلب الملك الي بيحب وعاشق بكل جوارحه عمره ما هيبقي قاسي تاني و يقدر يسامح.
تنهد مبتعداً برأسه وأنزل يديه ليحاوط خصرها، أخذ يحدق بها من أعلي إلي أسفل بتفحص أدهشها و جعلها تبتسم وتساءلت بخجل:
_ مالك بتبص لي كده ليه؟.
أجاب عليها بنظراته التي تحولت من نظرات مليئة بالحب والهيام إلي نظرات رغبة عاشق متيم... قال لها بنبرة أذابت قلبها في براكين عشقه المندلعة:
_ بعد كده مش عايز أشوفك غير وأنتي لابسه قمصاني... أتفقنا؟.
ودنا نحو عنقها ولثمها بقبلة جعلت ساقيها لم تتحمل الوقوف، فجلست فوق المكتب.
_ مبترديش ليه؟.
قالها ثم أكمل قبلته، فأجابت كالتائهة في عالم آخر:
_كنت بتقول حاجه؟.
إبتسم بمكر و رفع يديه نحو تلابيب القميص، فقال:
_ لاء.. كنت عايز أعرف القميص مقاسه لارچ ولا إكس لارچ!!.
لكزته بخفه في صدره:
_ بس بقي كده هنتأخر علي خالو.
_ خليه يستني.
قالها ليكمل ما عزم عليه و يحلق بها فوق مملكته كالنسر وأنثاه عندما يحلقان في السماء.

______________________________________

_ متقلقيش يا مدام شيماء وعايزك تطمني خالص ، موقف أستاذ طه في القضية جاي لصالحه قتل دفاعاً عن النفس... ده غير إن القتيل كان هربان من السجن والسلاح الي كان معاه يعود ملكيته لأمين الشرطة الي ضربه وهرب منه.
قالها المحامي أشرف الوكيل إلي شيماء الجالسة في حالة يرثي لها... وتمسك خديجة بيدها وتربت عليها بالأخري قائلة:
_ شوفتي بقي مش قولتلك متخافيش... إن شاء الله طه برئ لأنه كان بيدافع عن أهله وبيته.
وقال آدم الذي يجلس أمامهم:
_ و زي ما المتر أشرف قالك كده القانون في صالح طه.
نظرت شيماء إلي ثلاثتهم بتوجس فقالت:
_ طه فعلاً برئ... أنا الي قتلت عبدالله، وقبل ما البوليس يجي خد من إيدي المسدس ومسكه هو عشان يمحي بصماتي من عليه.
عانقتها خديجة وأغمضت عينيها حتي لاتذرف دموعها:
_ طه بيحبك ومستعد يفديكي بروحه... خلي إيمانك بالله قوي.
_ و نعم بالله... أنا كل الي عيزاه إنه ميتأذيش ولا يتحبس ظلم بسببي.
قالتها شيماء.
_ وبإذن الله القاضي هيحكم له بالبراءه... هي مسألة إجراءات وروتين بياخد وقت عقبال ما تتحدد جلسة الحُكم.
قالها أشرف
_ خرج كل من آدم وخديجة وشيماء أمام البناء...
_ شكراً جداً يا باش مهندس آدم علي وقفتك معانا.
قالتها شيماء بإمتنان... فأجاب عليها بإمتعاض:
_ عيب يا أم ريتاج اي الي بتقوليه ده... طه أخويا قبل ما يكون إبن عمي وأنتي في مقام أختي... وأصلاً أول ما عرفت كلمت المحامي وروحنا له القسم... والحمدلله طلع مدحت زميلي مساعد رئيس المباحث هناك وصيته عليه.. قوليلها حاجة يا خديجة.
_ أنا لو أتكلمت هي هتزعل مني.
قالتها خديجة... ردت شيماء بخجل:
_ عارفة والله أنكو بتعتبروني أختكم عشان كده أنتو أول ناس لجأت لكو.
إبتسمت خديجة وقالت:
_ ده غصب عنك مش بمزاجكك ولو كنتي خبيتي عليا زي موضوع جوازكو وأكون آخر من يعلم وأكتشف الموضوع بعد ما يخلص... كنت قلبت عليكي أنتي وطه.
عقب آدم:
_ وبعدين مفيش شكر مابين الأخوات.
ترقرقت العبرات في عينيها:
_ ربنا يخليكو ليا وميحرمنيش منكم أبداً.

_ كفاية دموع بقي وتعالي نعدي ناخد ريتاچ وخالتو نعمات وتيجو تقعدو معانا لحد ما طه يرجع بيتكم بالسلامة.
قالتها خديجة.
_ معلش يا خديجة مش هاينفع... خالتي نعمات مبتحبش تسيب شقتها من وقت وفاة بابا الله يرحمه وأنا مينفعش أسيبها لوحدها.
قالتها شيماء، فتنهد آدم وقال:
_ طيب تعالي نوصلك في طريقنا.
إبتسمت له بإمتنان قائلة:
_ إن كان كده ماشي.
ولج ثلاثتهم إلي داخل السيارة وبدأ آدم بالقيادة... رن هاتف خديجة، أخرجته من حقيبتها لتري من المتصل:
_أي ده يوسف بيتصل.
وقبل أن يجيب آدم ألقي نظرة علي هاتفه ليجده علي وضع الصامت:
_ شكله أتصل بيا كتير والفون سايلنت... ردي عليه يا خديجة.
أجابت خديجة علي الإتصال:
_ الو يا يوسف؟ .
_ أزيك يا خديجة عاملة أي؟ .
_الحمدلله بخير.
_ آدم جمبك؟ .
_ آه كنا في مشوار وراجعين في العربية.
_ معلش ممكن تديهولي؟ .
_ حاضر.
ثم قالت لآدم وهي تناوله الهاتف:
_ يوسف عايزك.
أمسك بالهاتف وأجاب:
_ خير يا يوسف بابا كويس؟ .
_ بابا فاء من الغيبوبة وطلب مني أجمعكو كلكو دلوقتي... ماما وأخواتك ومراتتهم حتي قصي وصبا ومصعب.
______________________________________

_ بداخل غرفة شاسعة المساحة... يقف كل من يوسف وآدم و يونس وياسين و ملك التي مازالت عاجزة عن السير، جالسة فوق كرسي متحرك ... و في زواية أخري تقف كل من چيهان و خديجة وياسمين و علياء التي جاءت بعدما أخبرها يوسف بطلب والده إنه يريد رؤيتها للضرورة...
همس آدم ل يوسف:
_ متأكد إنك كلمته؟ .
أجاب يوسف بهمسٍ أيضاً :
_ والله أتصلت و هو وصبا ردو عليا وقال جايين.

_ وفي الأسفل ب ردهة الأستقبال ولج كل من قصي وصبا... فأعطي بيانته إلي موظفة الإستقبال التي رحبت به بحفاوة ونظرات فطنتها صبا التي رمقتها بنظرة شرسة... و ما إن وصل كليهما إلي المصعد دخلت صبا وجذبت قصي من تلابيب سترته بعنف ثم دفعته في الحائط المعدني للمصعد.
_ أي في أي!! .
قالها قصي ب ذعرٍ و دهشة، فأجابت ونظراتها كأنثي النمر الجامحة وهي تنقض علي فريستها:
_ البت دي ليه عماله تتكلم معاك بمياصه غير نظرات عينيها الي نفسي أفقعهم لها؟.
رد ببراءة مصتنعة كاتماً ضحكاته بصعوبة:
_ أعملها أي يا حبيبتي... أروح أقولها متبصليش تاني عشان مراتي بتغير عليا ومبتحبش حد يبص لي غيرها.
رفعت إحدي حاجبيها بغضب قائلة:
_ ده أنت بتتريئ! .
أقترب منها وقال:
_ أبداً يا....
_ أبعد عني.
قاطعته بلكزه في كتفه وبدون أن تنتبه كان المصاب به... جز علي أسنانه بألم بدون أن يصدر تأوه، شهقت وبصوت مليئ بالقلق والخوف عليه قالت :
_ حبيبي أنا آسفة والله مكنش أصدي أبداً إن أخبطك هنا.
أوصد عينيه يعتصرهما بتصنع، وأشار لها بالصمت ولم تلاحظ مراقبته لملامحها المذعورة نحوه، فباغتها بحركة مفاجاءة سبقها بالضغط علي رقم الطابق ثم جذبها إلي صدره ودفعها بجسده إلي الحائط الجانبي... ليقول بنبرة رجولية جعلتها تحلق كالفراشة:
_ أنا ملاحظ بقالك فترة بقيتي شرسة أوي.
أجابت كالتائهة في دربٍ حلم ٍ وردي:
_ أنا آسفه يا حبي....
_ ششش... مش عايزك تتأسفي... بالعكس أنا بعشقك أكتر وأنتي في حالتك دي.. خصوصاً لما بتغيري عليا... عارفه نفسي أعمل أي وقتها؟ .
قالها و هو يداعب خصلاتها الكستنائية... ويقترب بشفتيه نحو خاصتها للغاية، أجابت عليه وعينيها تهيم عشقاً وقلبها يذوب من كلماته:
_ في أي؟ .
_ في كدة.
وأنهي جملته بقبلةٍ قد أنتهت قبل أن تبدأ بسبب توقف المصعد وإنفتاح بابيه، فوجد مجموعة من الممرضات، يحدقن بهما.. إبتعدت صبا بخجل وهي تهندم من مظهرها، تتفادي نظراتهم... كادت تسبق قصي بالخروج لكنه أوقفها بإمساك يدها و حاوط ظهرها بتملك مغادرين المصعد.
فقالت إحداهن:
_ أي ده يا بنات مش ده قصي بيه؟.
أجابت الأخري بهيام:
_ أيوه هو بعيونه وبجماله وبحلاوته... يا بخت مراته.
_ وبالعودة إلي الغرفة... تعالت تنهيدات بسأم من كثرة الإنتظار... أخرج يونس هاتفه من جيبه قائلاً:
_ هاتصل بيه أشوفه أتأخر كده ليه.
و قبل أن يلمس شاشة الهاتف قاطعته طرقات علي الباب و يليها دخوله تحت أنظار الجميع... طل بهيبته التي لم تفارقه أينما ذهب... ألقي التحية بصوته القوي:
_ سلام عليكم.
رد جميعهم التحية، لاسيما عزيز رد وألتفت برأسه نحوه، ثم قال بصوت يخرج بصعوبة:
_ تعالي يابني أقعد جنبي.
و ما أن تفوه بتلك الكلمة أهتزت كل خلايا جسده و تسارعت خفقات قلبه لتتضارب العديد من المشاعر بداخل صدره ، تجمد في مكانه لثوان حتي أومأ له والده بنظرة حانية ، وبالنهاية أقترب منه و جلس بجواره متحاشياً النظر إليه.
_ طبعاً كلكو عرفتو الي حصل... بس قبل ما تحكمو عليا وأشوف في عينيكو نظرة الإحتقار دي... بقولكو أنا عملت كده عشانكو... و عشان إسم البحيري يفضل عايش، ده غير كنت بأمن ليكو مستقبل ليكو ولعيالكو و...
قاطعته حشرجه في حلقه وأنتابه السعال... أسرع قصي بسكب المياه من الدورق في الكوب واعطاه إياها ليرتشف القليل و حمد ربه بعدما هدأ قليلاً، أستطرد حديثه:
_ أنا جمعتكو النهاردة عشان أقولكو إن أنا ندمان علي كل الي عملتو معاكو من أنانية... ندمان يوم ما غلطت في حق الإنسانة الي حبتني وأمنتني علي نفسها وللأسف خذلتها وأتخليت عنها هي وإبني الي فضلت عايش وفاكره عدوي... ندمان إن مقربتش من كل واحد فيكو وكمان وقفت في طريق سعادتكو بكل جبروت وقسوة، كنت فاكر كده بخاف عليكو وعايز مصلحتكو معرفتش إن بضيعكو وبإيدي... ظلمت وقسيت لحد ما جه اليوم الي لازم أدوق فيه نتيجة أعمالي، أنا كل الي طلبه منكو إنكو تسامحوني... عارف الإعتذار مش كفاية... لكن ده كل الي أملكه في اللحظة دي، فأنا آسف... آسف يا قصي يابني علي كل السنين الي فاتت وآسف علي الي عملته في والدتك الله يرحمها.
أجاب قصي بدون النظر في عينيه:
_ أنا مسامحك في حقي... لكن أمي الله يرحمها مقدرش أسامح في حقها.
حل السكون، فأغم

ض عزيز عينيه وأعتصرهما بندمٍ... مما جعل قصي يكمل حديثه ليعطيه غيض من الأمل:
_ لو حاسس بالذنب وندمان من قلبك.. أدعي ربنا يسامحك ويغفرلك علي كل الي عملته معاها.
أجاب بنبرة مليئة بالصدق والندم، و بصره موجهاً نحو ياسمين و علياء وچيهان:
_ أنا فعلاً ندمان، ونفسي الزمن يرجع بيا، كنت أتجوزت زينب علي سُنة الله ورسوله و محرمتش إبني من حضني، كنت هخلي چيهان تحبني بإرادتها من غير غصب أو إجبار، كنت روحت مع يوسف إبني نطلب إيد البنت الي حبها... كنت عملت فرح كبير لياسين وياسمين وأعتبرها زي بنتي وأكون ليها أبوها التاني... وكارين كمان، وأخيراً آدم وملك بقولكو حقكو عليا يا ولادي... آسف إن قسيت عليكو... أنا بطلب منكو كلكو تسامحوني قبل ما أموت.
ردد الجميع:
_ بعد الشر عليك.
تقدم آدم نحوه وقال:
_ بعد الشر عليك يا بابا... ربنا يقومك بالسلامه لينا... و أنا عن نفسي مش زعلان منك ومسامحك من غير ماتطلب.
_ وأنا كمان مسمحاك يا حبيبي ومش عايزه حاجه تانيه غير تقوملنا بالسلامة وأي شئ تاني يهون.
قالتها ملك و عينيها علي وشك البكاء
نظر مرة أخري إلي قصي وقال:
_ ملك أختك الصغيرة هتكون أنت ولي أمرها من بعدي... خد بالك منها لحد ما تخف وتقف علي رجليها وتسلمها لعريسها مصعب الإنسان الوحيد الي هاطمن عليها وهي معاه.
هنا تفوهت چيهان بصوت وشيك علي البكاء:
_ متقولش كده يا عزيز... أنت هتبقي بخير بإذن الله و...
قاطعها عزيز قائلاً:
_ خلاص يا چيهان... أنا حاسس بنهايتي سواء الموت أو السجن باقي عمري... عايزك تسامحيني علي كل الي عملتو معاكي... وبالنسبة ليمين الطلاق قولتهولك في ساعة غضب و رديتك بعد ما قعدت مع نفسي وعرفت إن غلطت في حقك.
_ أنا مسمحاك يا عزيز... ويعلم ربنا أنا بتمني لك كل خير من قلبي حتي بعد الي حصل مابينا... يكفي إنك أبو ولادي.
تقدمت ياسمين بالقرب منه مضجعه وقالت:
_ وأنا كمان مسمحاك يا....
توقف لسانها لاتعلم بماذا تناديه، فقام ياسين بالوقوف بجانبها ليدعمها محاوطاً ظهرها بزراعه، ألتفت برأسها تنظر له، فأومأ لها مبتسماً... لتستطرد حديثها:
_ سامحتك يا بابا عزيز.
قالتها و دنت نحوه تمسك بيده لتقبلها لكنه جذب يده وقال:
_ حقك عليا يا بنتي.
أمسك برأسها وقام بتقبيل موضع جبهتها حيث ترتدي غطاء الوجه، عادت جوار زوجها ليضمها إلي صدره و فعل مثل والده وهمس لها و الإبتسامة منبلجة علي محياه:
_ ربنا ما يحرمني منك أبداً.
نظر عزيز نحو يوسف الذي وقف بجانب علياء وقال:
_ تعالو يا ولادي.
ترددت علياء و قلبها يخفق بشدة، أومأ لها يوسف بنظرة طمأنينة، ف ذهبت هي وهو إلي عزيز.
_ حقك عليا يا علياء يا بنتي... وآسف علي كسرة قلبك ، ياريت تسامحيني، ويمكن الي هقول ده متأخر... بس يا عالم هفضل عايش ولا لاء، أنا بطلب إيدك لإبني يوسف ... وليا الشرف إنك تكوني زوجة لإبني وأم أولاده.
ردت علياء بخجل:
_ مسمحاك.
أطلق زفرة و كأن جبل عملاق أنزاح من فوق صدره ، أغمض عينيه لثوان، ثم فتحهما ليلقي نظرة أخيرة عليهم في صمت وقال في نفسه حيث لن يستطع النطق :
_ الحمدلله .
بدأ الخدر يتملك من أطرافه و دقات قلبه تزداد كالذي يعدو في سباق... الكل يتبادل نظرات إستفهام ، أقتربت چيهان منه وأمسكت بيده:
_ عزيز أنت كويس؟.
_ لا رد.
_ بابا... حاسس بحاجة؟.
قالها يوسف وهو يعلم بداخله تلك النظرة التي لم تخفي عن طبيب.
_ لا رد.
_ بابا رد علينا أنت كويس؟.
قالها آدم والخوف والقلق يسيطران علي ملامحه وكذلك أيضاً نفس الأمر مع ياسين وياسمين ويونس وملك وصبا و علياء التي تعلم ما حدث ، بينما قصي يحدق به في صمت لكن حديث عينيه أبلغ من مليون كلمة.... نهض وأنزوي في ركن بعيد ليواري عبراته التي أنسدلت تواً.
وإذا بصفيرٍ ينبعث من جهاز قياس نبضات القلب ليعلن عن توقفه... تعالت الشهقات والصرخات من الفتيات و زوجته.
أسرع يوسف بأخذ جهاز الصدمات الكهربية... صاح بصراخ مدوي:
_ ساعديني يا علياء.
قامت بإزاحة الغطاء وإفساح القميص من صدره ليتمكن يوسف من وضع الجهاز علي صدره، أنتفض الجسد بلا فائدة، أعاد الكرة وهو ينظر بجنون إلي الشاشة وإلي جثمان والده.
_ كفاية يا يوسف... خلاص.
صرخت بها علياء، فلم يستمع لها و فعل الصدمة مرة رابعة، لتمسك چيهان بزراعه تبكي:
_ خلاص يا يوسف... باباك مات!.
_____________________________________

_ في مدافن عائلة البحيري، الجميع يتشح بالسواد والكثير منهم تخفي أعينهم نظارات سوداء، يستمعون إلي الشيخ الذي يُردد أدعية المتوفي، رافعين أياديهم مُعقبين خلف كل دعاء بصوت جهوري:
_ آمين.
تستند چيهان علي ساعد آدم تنظر إلي عمال الحفر وهم يساوون التراب و قام إحدهم بنثر المياه فوقه ، تتأمل مثوي زوجها الأخير... لطالما عاش في القصر و من بعده منزل فاخر ، عمل علي جمع الأموال بطرق مشروعة وغير مشروعة حفاظاً علي اسم العائلة ومكانتها... كاد يخسر أعز ما لديه وهم أبنائه لولا لحظاته الأخيرة التي أستطاع أن يراهم ويطلب منهم الغفران... لكن ما الفائدة! ... أضاع سنوات عمره هباءً من أجل سعادة وهمية و ما هو إلا المال.
المال متاع الدنيا الذي يركض خلفه بنو آدم ، لا يعلمون كثرته إبتلاءاً من المولي، حيث تسأل عليه في يوم الحساب... و عن مالك فيما أفنيته؟... خير أم شر! ... للفقراء والمساكين أم ملذاتك و سُبل سعادتك الفانية فقط! .
أنتهت مراسم الدفن و بدأ الأقارب والمعارف في الرحيل واحد تلو الآخر بعد مصافحة قصي وچيهان وأبناءها.
قام قصي بإجراء مكالمة هاتفية لأحد رجاله حتي يتمم علي تجهيزات العزاء... أنهي مكالمته وذهب إلي چيهان قبل أن ترحل مع أبنائها ليخبرها:
_ چيهان هانم.
ألتفت جميعهم إليه، أكمل حديثه:
_ العزا هيكون إن شاء الله في قصر البحيري.
رمقوه بإستفهام، وقال آدم:
_ إزاي؟.
أجاب و هو يخلع نظارته السوداء:
_ أنا الي أشتريت القصر و كتبته بإسم أمي الله يرحمها.
تحمحم ليردف قائلاً:
_ أنا خليت رجالتي يجهزوه للعزا... ده غير كلنا هنتجمع هناك عشان محامي بابا الله يرحمه أتصل بيا أول ما عرف بخبر الوفاة.
كانت چيهان علي قدر كبير من الإرهاق والتعب، فقال آدم:
أنا هاروح ماما عندي في البيت الأول عشان ترتاح وأحنا هنحصلك علي هناك.
_ مينفعش يا آدم لازم أروح عشان الستات الي هتيجي تعزي أنا هستقبلهم.
أكد قصي علي حديثها وقال:
_ چيهان هانم بتتكلم صح وبعدين لازم تكون موجودة بناءً علي طلب المحامي.
نظر لها يوسف يتفقدها... فقال:
_ أنتي كويسه يا ماما ولا نكلم المحامي يأجل الإجتماع ده لبكرة؟.
أجابت وهي تحاول إخفاء ما تشعر به من تعب:
_ أطمن يا حبيبي.. أنا بخير الحمدلله.
أستقل الجميع سيارتهم، حيث سيارة قصي و برفقته صبا التي ألتزمت الصمت حزناً علي فراق خالها و أعاد لها ذكري وفاة والدتها، ولم تنس أن تقف أمام قبرها وتقرأ لها الفاتحة وبعض الأدعية.
كذلك خديجة فعلت المثل أمام قبر والدها الشيخ سالم وأيضاً قبر والدتها ، أستقلت سيارة زوجها وبرفقتهما چيهان وملك و لحق بهم مصعب بسيارته الخاصة.
بينما يونس و كارين كانا مع ياسين وياسمين، و طلب يوسف من علياء و والدتها التي جاءت أن تذهب كلتاهما معه و يلحق به آسر و برفقته هاجر.
________________________________________

_ تصطف السيارات بمحاذاة رصيف حديقة القصر... يترجل منها الرجال والنساء متجهين إلي الداخل حيث يقف أبناء البحيري في أستقبالهم.
وهناك شيخ يتوسط مجلس الرجال يرتل آيات الذكر الحكيم بصوت عذب يجعلك تشعر بجمال معاني وعظمة كلمات الرحمن.
توقفت سيارة رمادية اللون أمام المدخل، ف ترجل منها رجلٌ توغل الشيب في خصلاته ليجعل لونها الأقرب إلي الفضة، صافح الأشقاء وأولهم قصي مُعرفاً بنفسه:
_ البقاء لله وربنا يرحمه ويغفر له... أنا نزيه عبدالسلام محامي عزيز بيه الله يرحمه.
ردد الجميع :
_ الدوام لله وحده .
ذهب مصعب ليقول للمُربية سميرة أن تخبر السيدة چيهان والآنسة ملك بوصول المحامي.
وبعد إنتهاء عزاء اليوم...
في غرفة المكتب بالقصر يترأس المحامي الطاولة وعلي يمينه قصي ويليه آدم ثم يوسف ويونس وياسين وعلي شماله چيهان و ملك و خديجة بناءً علي طلب المحامي.
_ قبل أي شئ البقاء والدوام لله و ربنا يرحمه ويغفرله ويسكنه فسيح جناته... عزيز بيه الله يرحمه طلبني يوم وفاته الصبح بدري قبل ما يجمعكو كلكو... خلاني كتبت له وصية و طبعاً مضي هو عليها و طلب أن أفتحها وأبلغكو محتواها بعد و فاته علي طول.
تنهد قصي وقال:
_ الله يرحمه.
أرتدي السيد نزيه نظارته الطبية وأمسك بالوصية و شرع بقراءتها علي مرأي ومسمع الجميع:
_ زوجتي وأبنائي الإعزاء، قصي.. آدم.. يوسف.. يونس.. ياسين.. وملك
كان نفسي يعود بيا الزمن وأكون ليكم الأب الي يحتويكم ويتفهم إحتياجتكم... معلش سامحوني للأسف أنا فوقت متأخر أوي بعد ما خسرت كل حاجة... ياريت تسامحوني وتدعو لي ربنا يرحمني ويغفر لي.
و بوصيك يا قصي أنت وآدم علي أخواتكو و والدتكو... كونو إيد واحدة قلبكو علي قلب بعض... حافظو علي العيلة وإسمها بالحب والمودة... علمو عيالكو إن الحب والحنية ولا مال ولا كنوز الدنيا كلها يقدروهم... علموهم الي هيزرعوه في الصغر هيحصدوه لما يكبرو مهما مرت السنين ولكل واحد حسب ما تكون زرعته، والأهم من كل ده رضا ربنا في المرتبة الأولي.
و في الختام أتمني إنكو تدعولي ديماً وياريت تخصصو جزء من الميراث في عمل مشروع خيري يكون صدقة جارية ليا وليكم.
أستودعكم في حفظ الله
عزيز حكيم البحيري.
أنتهي نزيه من قراءة الوصية، وقال:
_ و دي كانت وصية عزيز بيه الله يرحمه، وبالنسبة للميراث هيتقسم حسب الشرع والقانون، و من ضمن الورثة الي أوصاني بيهم المرحوم مدام خديجة وأخوها الأستاذ طه.
_ و بالنسبة للقصر ده ياريت ترجعو تعيشو فيه كلكو... أنا هاكتب لكم تنازل عنه... بس رجاء وطلب صغير... ياريت إسم أمي الله يرحمها يفضل علي يافطة القصر زي ما هو.
قالها قصي، فأجابت عليه چيهان:
_ لاء يابني... القصر هيفضل ليك وبتاعك .
_ و ليكو أنتو كمان... حضرتك في مقام والدتي وهم أخواتي ولا مش بتعبروني واحد منكو؟.
أجابت بالنفي:
_ لاء طبعاً أنت زي أبني وهم أخواتك.
_ أنت أخونا الكبير وكلنا هانعيش في القصر ده لو أنت هاتعيش معانا.
قالها آدم
_ وأنا رأيي من رأي آدم.
قالها يونس
_ وأنا كمان.
قالها ياسين
_ وأنا زيكم.
قالها يوسف
رمقهم قصي بإبتسامة خافتة و أومأ لهم قائلاً بقليل من الفكاهة :
_ و ده بعد ما هيكون إسمي قصي عزيز حكيم البحيري.
ضحك الجميع رغماً عنهم... ونهض الأخوة وتبادلو معه العناق.
و هكذا تجمع شمل العائلة مرة أخري لكن ب رابط أقوي من السابق، رحل الحقد والكراهية ليحل مكانهما الحب والسلام والخير بين أحفاد البحيري.
______________________________________

مرت عدة شهور علي الجميع مليئة
كالتالي...
ف لدي يوسف أنتظر بعد مرور أربعون يوماً من
وفاة والده وذهب إلي عائلة علياء حيث والدتها وعمها وخالها و كان بصحبته آدم و قصي ، و ذلك من أجل طلب يد مهجة فؤاده بعد سنوات طوال من البُعد والأشتياق و سهر الليالي... و كان جواب العم كبير العائلة:
_ و إحنا يابني بنشتري راجل... و إحنا مش هنلاقي حد نآمن علي بنتنا معاه زيك يا دكتور يوسف... ولا أي يا عروسة؟.
إبتسمت علياء بخجل ونظرت لأسفل قائلة بصوتها الذي يشبه عزف الناي:
_ الي تشوفه يا عمي.
تدخل قصي وهو يربت علي ظهر شقيقه قائلاً:
_ يبقي كده نقرأ الفاتحة.
رُفعت الأيادي وتعالت الهمسات بقراءة آيات سورة الفاتحة حتي قالو بصوت واحد:
_ آمين.
تعالت الزغاريد وبدأت التهنئة والمباركات، ف أخرج يوسف من جيب سترته الداخلي علبة مغلفة بالمخمل الأسود، قام بفتحها ليتجلي منها خاتم ذو ماسة براقة... أقترب من علياءه وقال:
_ الخاتم ده الي كنت هلبسهولك يوم خطوبتنا من سنين... ومن وقت الي حصل ساعتها أحتفظت بيه وحلفت إن لازم هلبسهولك في يوم من الأيام... وأهو جه اليوم الي كنت بحلم بيه.
مد يده إليها لتمد خاصتها أيضاً، فقام بوضع الخاتم في بنصرها الأيمن و أنحني قليلاً ليقبل يدها وقال:
_ بحبك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

_ و لدي يونس و كارين... تسير حياتهما علي وتيرة متنوعة من عدة حالات من الحب تارة ومن المشاجرة تارة أخري بسبب عدم موافقة يونس علي العيش في القصر مع أشقائه، يريد أن تكون لديه حياته الخاصة هو وزوجته التي تريد المكوث مع عائلة زوجها ، فأحياناً تُصيب حياتهما القليل من الملل حتي ينتبه إحداهما و يكسر تلك الحالة بفعل شئ زهاء الجنون، مثل مايحدث في هذا اليوم والساعة المبكرة عندما أستيقظت كارين بفزعٍ علي صوت طرق يأتي من المطبخ... نهضت و تناولت معطفها لترتديه وقبل أن تترك الغرفة ألقت نظرة لتطمأن علي صغيرتها الغافية كالملاك.
وبالخارج أخذت تتسحب حتي رأت ما جعلها تشهق من هول المنظر ... يونس يمسك بإسطوانة خشبية الخاصة بفرد العجين ويطرق بها فوق كتلة مكورة من عجينة متيبسة.
_ بتعمل أي عندك يا يونس!!.
صاحت بها، فأجاب و ملامح وجهه يعتريها الحيرة:
_ بعمل بيتزا... بس مش عارف أي الدقيق العجيب ده مش عايز يتفرد وكل ما أزوده ميه يشربها بسرعه ويحجر.
ألتفتت لتقف جواره خلف القطعة الرخامية المزدحمة بالأواني و ذرات المادة البيضاء المنثورة.
_ أوعي كده خليني أعملهالك.
أخذت الإسطوانة الخشبية ونظرت له بإمتعاض:
_ و فيه حد ياكل بيتزا علي الصبح كده!.
_ الحق عليا مرضتش أصحيكي وقولت أعمل فطار حلو ونقعد نفطر أنا وأنتي ونشرب الكابتشينو في البلكونة زي زمان.
أنتفخت أودجها و زفرت بقوة، فقالت:
_ يا حبيبي كتر ألف خيرك مقولتش حاجة... بس أنت عمرك ما وقفت في المطبخ ويوم ما تعوز تعمل حاجة تطلعلي كل الحلل والأطباق والمعالق بالمنظر ده... ما أنا الي بتدبس في غسيلهم في الآخر .
وقف خلفها ليحتضنها وأمسك يدها ثم قام بتقبيل كفها قائلاً:
_ حبيبة قلبي وروحي كوكي مش هخليها تعمل حاجة النهاردة خالص وأنا الي هغسل المواعين.
مالت برأسها جانباً تلصق وجنتها بلحيته المشذبة، تبتسم بحب وسعادة:
_ حبيبي يا....
توقفت الكلمات علي لسانها حين وقعت عينيها علي علبة بلاستيكية فوق طاولة الحوض... أستدارت وكأنها لدغها عقرب، فتساءلت وعينيها متسعتين من ما يدور في رأسها من كارثة:
_ أنت جبت الدقيق منين؟ .
رمقها ب دهشة مشيراً نحو العلبة البلاستيكية:
_ من العلبة دي... كنت بدور عليه لاقيتك حطاه فوق المطبخ.
صفعت جبهتها وهي تجز علي أسنانها تتمتم بصوت غير مسموع :
_ الصبر من عندك يارب.
_ كوكي حبيبتي في أي؟.
إبتسمت بسماجة ساخرة:
_ في إن سيادتك كنت بتعمل عجينة البيتزا بالجبس.
غر فاهه متعجباً، يتابعها وهي تنحني وتفتح إحدي الأدراج المطبخ وتخرج منه كيس الحنطة، وضعته في يديه:
_ ده الدقيق يا فنان.
أستشعر بسخرية من جملتها، وقبل أن تلتف فاجئها بقصف حفنة من الحنطة في وجهها... شهقت بصرخة:
_ أي الغباء ده!.
وأخذت تفرك عينيها، فقال بتوعد:
_ و كمان بتشتمي... طب خدي.
و ألقي ب حفنة أخري عليها تناثرت علي خصلاتها المنسدلة.
صاحت بحنق:
_ بترُشني بالدقيق! طب وربنا لهرُشك بالجبس.
وأخذت من العلبه في يدها وألقت عليه
_ يا مجنونة... طب ماشي... خدي دي كمان.
وألقي عليها من الكيس ذاته وركض من أمامها... صرخت بجنون و حملت العلبة و ركضت خلفه تلقي عليه مسحوق الجص... وبعد ركض وصياح كالأطفال أستلقيا بجوار بعضهما ، يلتقط كليهما أنفاسهما بصوت مرتفع ، حدق في عينيها ثم أخذ يقهقه و ضحكت هي أيضاً حتي توقفا عن الضحك، و ظل يتبادل كل منهما النظرات في صمت، يعلم كليهما ما وراء تلك النظرة من حب و عشق لم و لن ينتهي بل يزداد تعمقاً أكثر.
_ ربع ساعة والبيتزا هاتكون جاهزة ومعاها أحلي مج كابتشينو لحبيبي و عمري.
قالتها كارين بنبرة صوتها الناعم و بدلال وإغراء جعل الدماء تدفق كالسيل الجارف في عروقه وقلبه علي وشك كسر ضلوعه من قوة ضرباته... نهض كالوحش الكاسر و وقف أمامها بطوله الفارع:
_ مش عايز أكل بيتزا.
نهضت وهي تتمسك بيديه لتتحدث ب ذات النبرة المُهلكة لخلايا أعصابه:
_ أومال نفسك تاكل أي؟.
حملها بدون مقدمات علي زراعيه وأجاب بإقتضاب:
_ أكلك أنتي.

تعليقات



×