رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل الواحد و الثلاثون
ليس كل ما نتمناه مُتاح، وليس كل ما نريد قوله مُباح، وإذا صدقت الحياة و حققت لك ما تريده فعليك تُعد نفسك لطعنة غدر سوف تصيبك باجتياح.
قد مرت أيام لا نعلم كم عددها، فكان الهدوء والسكون عنوانها، و ربما هدنة تحمل في طياتها استعداداً للقادم، و ما أدراك ما القادم!
ضوء ينبعث من المصابيح الدائرية التي تحيط إطار المرآة، يتسلط نورها علي ملامح وجهها المزين بالقليل من مساحيق التجميل، فهي ليست بالحاجة إليها حتي لو أصبح عمرها علي مشارف الثلاثون عاماً، فمنذ أن أصبحت مراهقة و طرق الحب باب فؤادها، حينها لم ترَ سواه، كم جفا النوم عينيها وتركها أسيرة أفكارها التي تنحصر في جملة واحدة
-كيف أجعله يُحبُني؟- ، لكن تلاشت الأجوبة عندما تردد أمامها مغامراته مع الفتيات، كانت كل قصة له بمثابة سهم مارق اخترق قلبها الذي يحبه، تكاثرت الجروح و نزفت الكثير، و عند علمها بإنه اكتفي عن دور كازانوفا و ربما زهد العلاقات العابرة، تجدد لديها الأمل، هيهات وعلمت بخبر زواجه الغريب والعجيب في آن واحد، تزوج من ابنة عامل الحديقة، تعلم التواضع من شيمه لكن ليس إلي هذا الحد!
لكن ما سُرد إليها من قِبلّ صديقتها أنه تزوج ابنة عامل الحديقة لأنه يحبها بل و يعشقها، و كيف قام بتحدي والده الذي رفض حينها ذلك الزواج لأنه دون مستوي العائلة كما هو في عُرف عزيز البحيري، سمعت عن محاولة إنتحار تم الزواج بعدها من غير حفل زفاف، رحيله مع زوجته من منزل العائلة، كل هذا و ذاك جعلها تضع يدها علي جراحها و توصد فؤادها علي حب قد بعثرته الرياح هباءً.
محاولات عدة من رجال من محيط الأقرباء والمعارف و داخل مجالها، كلما اقترب احدهم منها حاقت نفسها بألف حصن وحصن، أسوار صعبة الاختراق، حاصرت نفسها بين الدراسة والأوراق يليها عمل انخرطت بين طياته، حتي علمت خلال حوار بينها و بين صديقتها بما حدث لزوجة شقيقها، و كم هو أمر مفجع قد أصابهم بالحزن الشديد، صدي صوت قلبها تردد داخلها، يخبرها عليها المحاولة الأخيرة، كفي استسلام لسنوات من المُحال أن تُعوض مرة أخري، فهي كالمحارب الذي أعد كل ما لديه من عتاد وقوة، عليها بالظفر بحبه حتي لو كان عاشق لماضي قد فارقه، عزمت علي إحياء فؤاده للعشق من جديد، ستخترق حصونه وتهدم قراميدها لتولج إلي محرابه و تتربع علي عرش قلبه.
طرق علي الباب تعلم مَنْ هي صاحبته، عادت من شرودها تعطي الإذن
"أتفضلي يا مامي"
فتحت والدتها الباب، فهي إمرأة في منتصف الخمسينات، ذات ملامح صارمة، سيدة استقراطية، صعبة المراس، لن تهدأ سوي أن تنفذ رغبتها هي حتي لو تعارضت مع رغبة زوجها أو ابنتها.
كانت تنظر إلي ابنتها في صمت، و ملامح وجهها التي تخبر الأخرى عن رفض تام لتلك الزيجة، و ما أكثر ما تخفيه الصدور فتأتي العيون و تبوح به.
"برضو مصممة تتجوزيه؟"
نهضت من المقعد المخملي واقتربت من والدتها لتخبرها بإصرار وثقة يشوبها التحدي لهذا الرفض في عينين الأخرى.
"أيوه يا ماما هتجوزه، و وفري علي حضرتك أي محاولة أنك تخليني أغير رأيي، خلاص دي فرصتي الأخيرة و جت لحد عندي، مضيعهاش زي ضيعت سنين قبلها"
ابتسامة ساخرة علي فم والدتها المرفوع جانباً بزاوية يتبعها نبرة هازئة
"أنتي لما كلمتينا إننا نرجع مصر ضروري قولت حصلت مصيبة، و لما وصلنا إمبارح و عرفت من أبوكي اللي بتحكيله أسرارك كالعادة و بتخبيها عليا، حمدت ربنا إنك بخير، بس فعلاً فيه مصيبة، والمصيبة إنك ضيعتي سنين من عمرك ورا سراب وأخرتها عايزة تتجوزيه بعد ما بقي راجل متجوز و عنده كمان بنت"
ولت ظهرها إلي والدتها تتهرب من مواجهة النظر مباشرة إليها
"كان متجوز، و اللي كان متجوزها توفت، و مش شايفة إنها حاجة تعيبه، و بالنسبة لبنته ربنا يعلم أنا بحبها قد إيه، و هي كمان بتحبني جداً لدرجة ساعات بتناديني ماما رودي"
"أنتي بتضحكي عليا و لا علي نفسك يا رودينا؟!، أنتي عارفة و متأكدة إنه هيتجوزك عشان بنته و عشان الجواز نفسه، و يا عالم يمكن أهله قالوا له كفاية عليك سنتين حداد علي مراتك، و هو زيه زي أي راجل ليه احتياجات، يعني أنتي هتبقي بالنسبة له واحدة جميلة فيها كل مواصفات أي راجل يتمناها، لاء و كمان واثق إنك عايشة علي حبك ليه واللي من طرف واحد"
كلمات بمثابة ترددات تيار كهربائي يصعقها كل حين و آخر، تحصنت بدفعة من الأمل الذي تتشبث به، استدارت وحدقت بثقة تنبع من عزيمة تأبى الرجوع والاستسلام
"حضرتك ما تعرفيش ياسين زي ما أنا عارفاه، و لو كان عايزني عشان بنته كان جابلها ناني أحسن، إما بالنسبة لموضوع إنه هيتجوزني عشان احتياجه، اعتقاد غلط من حضرتك، اللي خلاه سنتين من غير جواز عايش علي ذكري أم بنته، يخليه ممكن يفضل كدة علي طول، مش يمكن قلبه بدأ يحس بيا وجوازنا يبقي بداية قصة حبنا؟!"
احتمالات من نتاج تفكير ضاري طوال الليالي المنصرمة أفقدها النوم، مازالت تتشبث بالأمل مهما قيل لها من حقائق يرفضها قلبها بشدة.
"قصة حبكم!، طول عمرك عنيدة و عمرك ما بتسمعي كلامك، باباكي دلعك و بينفذلك كل طلباتك لأنه ما بيحبش يشوفك زعلانة، ما يعرفش إنه كدة بيضرك و بيساعدك تدمري نفسك بنفسك"
تعجُب والدتها و تصريحها بحقائق لا يشوبها الكذب جعل الأخرى ترفع درع الدفاع أمام كل ما يطفئ بارقة الأمل لديها
"بابي عمره ما ضرني، بالعكس هو بيحبني و بيخاف علي مشاعري، بحكي له أسراري لأنه فاهمني، غير حضرتك خالص، دايماً عايزه كلامك يتنفذ من غير جدال، عمرك ما سألتيني مالك أو أتكلمتي معايا زي أي أم بتتكلم مع بنتها، و العجيبة كل نفس ليا بيكون عندك علم بيه"
صمتت للحظات تلتقط أنفاسها لتتابع صد الهجوم بالدفاع
"أنا عارفة سبب رفضك لجوازي من ياسين مش عشان كل اللي قولتيه، السبب الرئيسي و اللي كتير حاولتي تقنعيني بيه باللين أو بالشدة، هو رفضي لرحيم ابن أختك، و علي طول مشيلاني ذنبه كأني ضربته علي إيديه و قولتله حبني!"
و علي نقيض ما كانت تتوقع من سخط و غضب من والدتها سمعت ضحكة هازئة بالطبع يتبعها قولها الجاد وكأنها لم تكن تضحك تواً
"الحاجة الوحيدة اللي خدتيها مني، لما تلاقي الحوار هيدينك تقومي قالبه الطربيزة و تخلي اللي قدامك هو الغلطان مش أنتي"
سارت نحو كرسي طاولة الزينة وجلست بزهو واضعة ساق فوق أخري، تسطرد
"مش ده رحيم اللي كل ما كنتي بتزعلي أو بتضايقي تروحي تحكي له عن مشاكلك و هو يقف جمبك!، مش ده برضو يوم ما قررتي تسافري و تدرسي بره و أنا رفضت عشان عارفة إنك بتهربي، خلتيه يكلمني و يقنعني أوافق، دلوقتي بقي ابن أختي وبس؟!"
عقدت ساعديها أمام صدرها لتخبرها
"هو أنا عشان بعتبره أخويا وكنت بلجأ له يبقي خلاص لازم احبه و اتجوزه؟!، رحيم راجل محترم و لما اتكلم معايا وقالي علي مشاعره من ناحيتي قولتله أنا طول عمري بعتبرك زي أخويا، أحترم ردي و أختار يبعد عشان عارف أنه بعد ما اعترفلي باللي جواه ما ينفعش نقرب تاني من بعض"
عقدت الأخرى ما بين حاجبيها
"و للأسف زي ما أنتي عايشة علي أمل حب ياسين ليكي، رحيم كمان عايش علي أمل إنك تحبيه زي ما بيحبك، لكن جوازك من أخو صاحبتك هيخليكي تخسريه ده غير ما هتخسري كل حاجة تانية"
قد شعرت بالضجر أو قاربت طاقتها علي الانتهاء، صفحات قامت بطيها فتعود والدتها لفتحها من جديد، لذا ألتزمت الصمت لثوانٍ حتي جاء صوت الخادمة من الخارج.
"مدام شاهيناز، الضيوف وصلوا و قعدوا في الصالون مع مهاب بيه"
و كأن ما أخبرتهما به الخادمة طوق النجاة لرودينا التي أسرعت في المغادرة و كادت تخرج من باب الغرفة، أوقفتها والدتها بنبرة لا تحمل المزاح
"لو أتجوزتي ياسين البحيري، أنسي إن هقف جمبك زي أي أم في فرح بنتها"
رفعت جانب فمها بسخرية
"و من أمتي و حضرتك بتقفي جمبي؟!، كفاية بابي اللي هايكون جمبي في يوم زي ده"
و دون أن تلتفت إلي الأخرى مضت إلي الخارج، لا تعلم أن ما ألقته من ردٍ مجحفاً جعل والدتها أكثر إصراراً و تحدياً لما عزمت عليه بصوت لا يسمعه أحد سواها
"ما بقاش أنا شاهيناز لو الجوازة دي تمت، و لو تمت هتخليني اضطر استخدم لآخر أسلوب مكنتش حابة ألجأ له، بس أنتي اللي جبتيه لنفسك يا رودينا"
༺※※※༻
"الفيلا نورت بيكم يا قصي بيه"
كان قول والد رودينا و في نفس اللحظات كانت الخادمة تقدم إلي كل من قصي و آدم وياسين العصائر والحلوى.
رد الأخر بابتسامة ود
"تسلم يا مهاب بيه، البيت منور بأهله"
عقب آدم الذي علي معرفة سابقة بوالد رودينا وذلك من خلال صداقتها بشقيقته و الأمر الأخر ما سيخبر به أخيه للتو
"مهاب بيه غني عن التعريف، كان هو وبابا الله يرحمه دايماً كانوا مع بعض في كل مزاد للمناقصات، و قبل المزاد كانوا بيتفقوا مع بعض إن مرة ترسي عليه و مرة ترسي علي بابا من غير ما حد يحس من أصحاب الشركات المنافسة إن ما بينهم إتفاق"
ضحك مهاب معقباً
"و كان عابد الرفاعي من أشد المنافسين ليه، كل ما كان يحضر مزاد و ترسي علي والدك كان هايتجنن، بصراحة عابد كان منفسن منه برغم علي حد علمي إنهم قرايب"
حمحم آدم بحرج، تبادل النظر بينه و بين قصي ثم أخبر مهاب
"عابد بيه يبقي حما قصي"
و أكمل ياسين الذي كان يلتزم الصمت
"و يبقي جوز ماما"
احتقن وجه مهاب بالدماء حرجاً وخجلاً، حمحم فقال
"بعتذر يا جماعة لو أتكلمت بحسن نية"
ابتسم قصي وأخبره دون عتاب
"و لا يهمك يا مهاب بيه"
ترك كأس العصير علي المنضدة وجلس معتدلاً مردفاً
"بما أن حضرتك كنت علي معرفة قريبة بالعيلة، فأنا و أخواتي جايين نطلب إيد الآنسة رودينا علي سنة الله و رسوله لياسين"
ابتسم مهاب وبدت السعادة علي وجهه، فهو يعلم طباع ابناء البحيري من خلال وسط سوق الأعمال، لا غبار عليهم و من أقوي الشركات محلياً و علي مستوي الشرق الأوسط.
"شرف ليا و يسعدني طبعاً إننا نبقي نسايب، و رودينا قبل ما نرجع أنا و مامتها من كندا كلمتنا و أدتنا خلفية عن الوضع و ظروف أستاذ ياسين"
و ما أن بدء الرجل يأتي بذكر الظرف الخاص بياسين، شعر الآخر بالضيق و الضجر، لا يريد الخوض في حديث ليس من شأن أحد التحدث فيه، بينما رودينا كانت تختبئ علي مقربة منهم ريثما يناديها والدها.
تدخل قصي ليطمأنه
"ما تقلقش يا مهاب بيه، ياسين بالتأكيد هيحط بنت حضرتك في عينيه"
أضاف ياسين علي حديث شقيقه قائلاً
"أطمن يا مهاب بيه، كل اللي هيبقي ما بيني و بينها ود و إحترام، أنا ما بحبش المشاكل و عايز أعيش في سلام و هدوء"
حمحم مهاب ثم أخبره
"و أنا واثق هتعاملها بما يرضي الله، لكن معلش اعذرني أنا راجل ابن سوق، بدأت البيزنس بتاعي من الصفر يعني بالبلدي الدنيا علمتني حاجات من أهمها مفيش شىء مضمون مية في المية، يعني لو نسبة الضمان 90٪ يبقي الـ 10٪ الباقين مفيش ضمان، و بصراحة عايز أضمن لبنتي حقوقها و هي معاك أو لا قدر الله لو أنفصلتوا"
عقب ياسين بجدية
"اللي هتطلبه حضرتك أنا تحت أمرك فيه، مهر مؤخر، مش هنختلف إن شاء الله"
عاد الأخر بظهره إلي ظهر المقعد بأريحية
"أنا آخر همي الفلوس يا ياسين، زي ما أنت عارف رودينا بنتي الوحيدة اللي مليش غيرها، كل أملاكي و فلوسي و شركاتي بتاعتها، يعني مش محتاجة أي حاجة، أنا كلامي عن أنه يكون جوازك منها مش مجرد وجود ست في حياتك عشان تلبي احتياجاتك، أنا عايزك تعاملها بمودة و رحمة و ما تظلمهاش، يعني لو جتلي في يوم بتعيط منك مش هقولك إيه اللي هعمله وقتها"
أخبره قصي قبل أن ينفذ صبر أخيه
"إحنا طبعاً فاهمين قصدك، و بقولها لحضرتك للمرة التانية، ياسين هيحطها في عينيه، و مع العِشرة والأيام هيجي الحب"
تبدلت ملامح الأخر من الجدية إلي ابتسامة خلفها اطمئنان علي ابنته فقال لهم بسعادة
"حيث بقي كدة مافضلش غير إننا نقرأ الفاتحة، بس ننادي علي العروسة الأول"
قام بالنداء علي احدى الخادمات ليخبرها بالذهاب إلي ابنته التي ظهرت علي الفور، تسير نحوهم علي استحياء، ألقت تحية السلام و ردد جميعهم التحية، جلست علي المقعد المجاور لوالدها، قلبها يخفق بشدة، انتبهت إلي والدها يسألها
"ها يا رودي، ليكي أي طلبات قبل ما نقرأ الفاتحة؟"
رفعت وجهها تنظر إلي ياسين الذي تهرب من النظر إليها و تظاهر بشرب العصير، داهم سمعها الداخلي كلمات والدتها التي تركت أثرها بالفعل داخلها، و ها هي تري فراره من النظر إليها و يجلس كمن يقوم بمهمة ليست بالأمر الهام!
"لاء يا بابي"
ابتسم إليها والدها ثم نظر إلي ياسين و شقيقيه
"علي خيرالله، نقرأ الفاتحة"
"لسه الإتفاق ماخلصش"
كاد يقرأون الفاتحة وأوقفهم صوت والدة رودينا، حدق إليها زوجها بتحذير، نهض كلا من قصي وآدم وياسين احتراماً إليها
"شاهيناز هانم، المدام"
قالها مهاب ويدعو في سره أن لا تخرب سعادة ابنتها التي ترتجف من رد فعل والدتها
"أهلاً وسهلاً بحضرتك"
قالها الثلاثة أشقاء، اكتفت بإيماءه و نظرة قام بتحليلها قصي وأدرك أن السلام والهدوء الذي يتمني شقيقه أن ينعم به في تلك الزيجة سينقلب جحيماً مع هذه المرأة.
"زي ما قالك مهاب آخر حاجة نفكر فيها الفلوس، بنتي أصلاً عندها اللي يعيش أحفاد أحفادها في نعيم، لكن فيه طلب أتمني أستاذ ياسين يتقبله بصدر رحب"
لم يعقب ياسين وأنتظر أن تلقي طلبها، يكفي نظراتها إليه، علم إنها لا تحبه بل و ترفض تلك الزيجة، يبدو إن ابنتها قد ارغمتها علي الموافقة
"أتفضلي يا مدام شاهيناز وإحنا تحت أمرك"
نظرت إلي ياسين بقوة وتحدي لتلقي عليهم ما تثق إنه سيقابله الآخر بالرفض وتتمني حدوث مشكلة تنتهي بإنهاء هذا الزواج قبل أن يبدأ
"العصمة تبقي في إيد بنتي"
استقبل قصي طلبها بابتسامة هادئة وبنظرة من عينيه يخبرها إنه علي دراية بهدفها من وراء هذا المطلب الذي رفضه ياسين قطعاً
"لاء، قصدي مفيش راجل يقبل علي نفسه العصمة تبقي في إيد مراته"
عقب آدم لاحتواء الموقف
"أنا شايف موضوع العصمة ملهوش لازمة إنه يبقي في إيدين الآنسة رودينا، لأن لو حصل عدم توافق لا قدر الله ما بينهم أول ما هتطلب الانفصال بالتأكيد مش هيرفض، و إن شاء الله ربنا مايجيبش زعل و لا مشاكل"
ابتسامة دهاء تضوي علي شفتيها وتسأل الذي لزم الصمت
"ها يا ياسين اخواتك ردوا، و أنا عايزة اسمع ردك أنت"
كان الأخر أكثر دهاء و مكراً منها فقال
"لو دي رغبة رودينا أنا معنديش مانع"
تبادلت رودينا النظرات مع والدتها حتي أدلت بتصريحها الذي يحمل تحدياً جلي لها
"مفيش نص في الدين بيقول إن العصمة بتبقي في إيد الزوجة، ده بيبقي مجرد إتفاق وبرضو بيبقي برضا الزوج مش شرط إجباري، و علي العموم أنا مش موافقة علي الشرط ده"
نظرت إلي والدتها بانتصار، و قبل أن يحدث صدام ما بين الأطراف لحق آدم الموقف قائلاً
"كدة خلاص نقرأ الفاتحة"
قام جميعهم بقراءة الفاتحة ما عدا شاهيناز التي تشتعل غيظاً من داخلها حتي انتهوا من التلاوة، نظر ياسين إلي والدة رودينا ثم إلي زوجها يخبرهم
"حاجة أخيرة يا مهاب بيه، إحنا مش هنعمل فترة خطوبة لأن ملهاش داعي زي ما حضرتك عارف، ياريت يبقي كتب الكتاب والفرح يبقوا مع بعض"
تظاهرت شاهيناز بعدم اللامبالاة عكس البركان الثائر داخلها، بينما زوجها أومأ إلي ياسين بالموافقة وتابع
"رودينا قالتلي، و شايف طلبك مناسب وياريت يبقي في أقرب وقت عشان أنا مضطر أرجع علي كندا علي آخر الشهر"
"هيبقي الفرح إن شاء الله الخميس اللي بعد الجاي"
قول ياسين وعينيه صوب رودينا التي عندما سمعت أن سيكون حفل زفافها بعد مرور عشرة أيام فقط، ارتفعت نبضات قلبها بخليط من المشاعر، مزيج من الفرح و التوتر والقلق، يكفي نظرته الغامضة التي لم تدرك منها ما يجول داخل عقله.
༺※※※༻
في اليوم التالي داخل الشركة، يقف خلف الواجهة الزجاجية في مكتبه، يحتسي القهوة، ينظر في ساعة يده ليجدها العاشرة صباحاً، سار نحو المكتب وأخذ من فوقه الهاتف ليجري إتصالاً ليطمئن عليها...
"ألو؟"
أجابت عليه بسعادة تنضح من نبرة صوتها
"قيصو حبيبي، سبحان الله كنت لسه مطلعة الفون من شنطتي عشان أكلمك لاقيتك سبقتني"
ترك القدح بعد أن انهي القهوة مبتسماً
"عشان تعرفي أنا بحبك أكتر"
"لاء أنا اللي بحبك أكتر، و مش بحبك و بس، ده أنا بعشقك"
ابتسم بمكر يخبرها
"طب ما تيجي بعد ما نخلص شغلنا أعدي عليكي ونروح علي اليخت، و نشوف مين فينا بيحب التاني أكتر"
ضحكة بدلال طاغي خرجت من بين شفتيها
"وأنا هستناك بس ما تتأخرش عليا"
"ما هو بعد الضحكة والدلع ده شكلي هاسيب كل اللي ورايا وهجيلك حالاً"
"مجنون وتعملها، استني بس إيديني ساعة بخلص شوية حاجات عشان بنجهز للإفتتاح، والمفروض في خلال أسبوع الـ designers يكونوا خلصوا الـ collection اللي هنعرضه يوم الإفتتاح"
"براحتك يا حبيبتي، خلصي شغلك علي مهلك، أنا كدة كدة برضو ورايا شوية حاجات هخلصهم و أكلمك قبل ما أخرج من الشركة"
"تمام يا قلبي"
"أهم حاجة خدي بالك من نفسك، و لو في أي حاجة وقفت معاكي كلميني علي طول"
"ما تقلقش عليا، أنا تليمذتك يا كينج بعرف أتصرف"
"والكينج مبسوط منك أوي"
عقب جملته بإرسال قُبلة وصل صوتها إلي الأخرى، و قبل أن تبادله أو تتحدث بكلمة قاطعها صوت طرق علي باب مكتب زوجها وصل إلي سمعها
"مضطر أقفل معاكي يا حبيبتي، سلام"
"باي"
أنهي المكالمة وترك هاتفه علي المكتب ثم صاح للطارق
"أتفضل"
فُتح الباب وظهر صديقه الذي ولج في عرض مسرحي، يفتح ذراعيه مبتسماً ويقول بالإيطالية
" Buongiorno mio caro amico "
«صباح الخير صديقي الغالي»
أجاب الأخر بابتسامة علي أسلوب صديقه الفكاهي
" Buongiorno, mio pazzo amico "
«صباح الخير صديقي المجنون»
تلاشت الابتسامة من وجه أدهم والذي حدق إلي قصي بتجهم زائف
"أنا مجنون!، الله يسامحك، أنا ماشي"
و سار نحو المكتب وجلس علي الكرسي تحت نظرات قصي الذي أخذ يضحك، جلس علي الكرسي المقابل للآخر
"شوفت بقي عندي حق لما أقولك يا مجنون"
"أنا فعلاً مجنون، و جايلك عشان تلحقني قبل ما أتجنن أكتر"
أشار إليه قصي
"ثواني"
رفع سماعة الهاتف الخاص بالمكتب
"اتنين إسبريسو إيطالي"
أعاد السماعة في مكانها ونظر إلي صديقه
"يا تري عملت مصيبة إيه المرة دي؟"
ضحك الآخر وأخبره
"أطمن أنا الحمدلله ربنا هداني عن جنان زمان، و أخيراً قررت أعقل وأتوب وأستقر"
عقب قصي بسخرية مازحاً
"لتكون جايلي أدور لك علي عروسة؟!"
"هي العروسة موجودة من غير ما تدور عليها"
ظل يتصنع التفكير قليلاً حتي نظر إلي أدهم وأخبره
"و اسمها منار صح؟"
تنفس الصعداء و أجاب
"الله ينور عليك، طول عمرك ذكي و لماح، هي فعلاً منار، اللي مجنناني و مطيرة عقلي، و ممكن يجرالي حاجة لو طلعت مرتبطة أو متجوزة"
عاد الآخر بظهره إلي الوراء يخبره
"هي حالياً single"
مال أدهم بجذعه إلي الأمام ويقول برجاء كطفل صغير يريد ما يطلبه بشدة
"بالله عليك تكلمهالي وتقولها إن أنا بحبها من أول مرة شوفتها و عايز أتجوزها"
"يا بني الموضوع بسيط خالص مش محتاج وسيط، أتصل عليها و أقولها إنك عايز تقابلها و روحوا في أي مكان عام وأقولها اللي قولته دلوقت"
عاد الأخر أيضاً بظهره إلي الوراء يشعر بالحرج قائلاً
"هي للأسف كل ما بتشوفني تطلع تجري"
قطب قصي ما بين حاجبيه وسأله
"ليه؟، أنت عملت معاها إيه؟"
ظهر الغضب علي ملامحه مما زاد توتر الآخر الذي حك ذقنه
"أصل... "
قاطعه طرق علي الباب يتبعه دخول المساعدة تقدم إليهما الإسبريسو الساخن، و قبل أن تغادر أخبرت قصي
"أستاذة منار جت و مستنية حضرتك برة يا فندم"
خفق قلب أدهم و في آن واحد يخشى رد فعل منار عندما ستراه
"خليها تدخل"
أومأت المساعدة إلي رب عملها
"أمرك يا فندم"
بعد ثواني ولجت منار مبتسمة
"صباح الـ... "
تلاشت بسمتها عندما رأت أدهم فتراجعت
"آسفة يا مستر قصي، أنا جيت في وقت مش مناسب"
كادت تغادر فأوقفها قصي مشيراً لها
"تعالي يا منار، مفيش حد غريب، سنيور أدهم الشافعي أنتي عرفاه"
نهض وأشار إليهما نحو المقاعد التي تقع في ركن جانبي بالغرفة
"تعالوا نقعد هناك أحسن"
ذهبت ويتبعها أدهم فسألها قصي
"تشربي إيه يا منار؟"
"شكراً يا مستر، أنا شربت قبل ما أدخل لحضرتك"
سار نحوهما وجلس، ينظر إلي أدهم الذي ألتزم الصمت وكأنه يخشى شيئاً ما
"عاملة إيه؟"
كان سؤال قصي فأجابت الأخرى بشبه ابتسامة
"الحمدلله بخير، أنا كنت جاية لحضرتك بخصوص الشغل و... "
أشار لها بيده يقاطعها
"سيبك من الشغل دلوقتي، أنا كنت هكلمك و أنتي جيتي في الوقت المناسب"
نظر إلي أدهم يحثه علي التحدث
"نقدر نقول إن أدهم هو اللي عايز يتكلم معاكي"
نهض وتابع
"هستني برة عشان تتكلموا براحتكم"
صاحت منار بحسم
"لاء، قصدي خلي حضرتك قاعد معانا، أنا مش هقعد مع الأستاذ ده في مكان لوحدنا أبداً"
حديثها المُعارض بشدة جعله يتأكد أن هناك خطب ما، حدق إلي أدهم بغضب ينتظر تفسيراً، ابتسم الأخر ليخفي توتره قائلاً
"مالك بتبصي لي كدة ليه، ما أنا قاعد محترم في مكاني وبعيد عنها أهو"
كانت قد عقدت النية بمكر خلف نظرة وعيد إلي أدهم، نهضت وقالت
"يا مستر قصي، الباشا صديق حضرتك بعد ما خلصنا الـ meeting مع الوفد الإيطالي باسني بالعافية، و بعدها كان هيكررها في النادي، و تالت مرة أتقابلنا في المول صدفة جه ورايا في الأسانسير و كان برضو عايز يبوسني"
اتسعت عينين أدهم و هو ينظر إلي قصي الذي يرمقه بغضبٍ جم، يسأله هاكماً
"متأكد إنك بطلت جنان؟"
كان يقترب منه الهوينة، نهض أدهم رافعاً يديه بدفاع
"استني بس هافهمـ...
نال لكمة قوية في وجهه من قبضة قصي
"دي عشان اللي عملته فيها هنا"
و سدد له لكمة أخري
"و دي عشان اللي كنت هاتعمله في النادي"
كاد يسدد له لكمة ثالثة صاحت منار برجاء
"خلاص يا قصي بالله عليك"
ترك تلابيب قميص أدهم وصاح به
"فاكر نفسك لسه في إيطاليا؟!، ما أنا قولتلك قبل كدة منار مكنتش مجرد موظفة هنا، هي في مقام كارين وملك أخواتي"
أمسك أدهم كلا خديه بيديه، يجيب بصعوبة
"والله كان و مازال نيتي خير، و للأسف أنا مندفع و متهور وبدل ما اعترفلها عن حبي بالكلام لاقتني بختصر الكلام بالفعل"
شهقت منار من تصريحه المفاجئ لها و جرأته في آن واحد، وجدته ينظر إليها ليكمل
"أيوة بحبك، و لما لاقيت رد فعلك معايا عنيف كل ما أقرب منك، حبيتك أكتر وجيت النهاردة لقصي عشان يقولك إن أنا عايز أتجوزك"
صدمة أخرى غير متوقعة لديها لكن هناك الذي يخفق خلف ضلوعها، لا تنكر أن أفعاله المتهورة و جنونه جذبها إليه، لكن كانت تخشى أنه يريد منها مرافقة أو علاقة محرمة فقط، فبالرغم يبدو من مظهرها إنها فتاة متحررة تحب الحرية دون قيود، لكنها تسير علي قواعد تربت عليها منذ صغرها وتضع الحدود بينها و بين الآخرين من الرجال حتي لا تصبح مطمع لأهوائهم ونواياهم الدنيئة.
نظرت إلي قصي ثم إلي أدهم ونهضت بحرج و خجل، همت بالذهاب فأوقفها قصي
"أستني يا منار"
ثم عاد ببصره إلي أدهم وأخبره
"أنت عارفني ما بحبش أعيد كلامي مرتين، أقسم بالله لو كررت أي حركة طايشة من حركاتك دي معاها تاني، مش هقولك أنا ممكن اعمل فيك إيه"
نظر أدهم إلي أسفل يشعر بالندم ثم رفع وجهه و قال لها
"أنا آسف، مش هكررها تاني غير لما تبقي مراتي، موافقة؟"
كانت في حيرة، بل في مأزق، هل عندما يعلم بأمر زواجها السابق من قصي سيظل علي موقف طلبه أم سيتراجع؟!
"قبل إجابتي علي طلبك، لازم تعرف حاجة"
ابتلعت غصة فمن الممكن أن علم أدهم بالأمر سيغير رأيه ويعزف عن أمر زواجه بها، تابعت
"قصي هيقولك كل حاجة"
و بدون تردد ذهبت سريعاً من أمامهما، توجه نظر أدهم إلي صديقه منتظراً أن يخبره.
بالقرب من البوابة في الداخل تنتظر صديقتها التي تأخرت و لم تأتِ باكراً اليوم، ألقت نظرة علي الساعة وأطلقت زفرة بضجر
"أومال لو مكنتش مأكدة عليكي يا فجر إنك تيجي بدري كنتِ هتيجي الساعة كام؟!"
انتبهت إلي ولوج سيارة سوداء فارهة من البوابة المخصصة لعبور السيارات، وقفت السيارة أمام الرصيف التي تقف عليه هي، انفتح الباب وترجلت فجر تبتسم إليها من خلف النظارة الشمسية
"هاي ديجا، معلش أتأخرت عليكي"
انتبهت إلي باسم يقف مع أصدقائه علي مقربة منهم، عينيه لا تبرح الشاب الذي ينزل من سيارته ووقف بجوار فجر التي تابعت بصوت يصل إلي هذا الذي يتأجج كماء المهل من فرط الغضب و الغيرة
"أعرفك بمازن خطيبي"
و رفعت يدها تبرز اصبعها البنصر في يدها اليمني، يلمع بريق خاتم خطبة تتوسطه قطعة ألماس صغيرة.
نظرت إليها الأخرى بعدم فهم و حينما أشارت فجر لها بعينيها إلي باسم ورفاقه أدركت ما تفعله من تمثيل زائف لتجعل باسم يتراجع عن ملاحقتها كل يوم.
عقبت خديجة بهمس
"و الله أنتي مجنونة، و جنانك هيوديكي في داهية"
اقتربت فجر منها لترد بصوت خافت
"مازن يبقي جارنا ومحامي في نفس الوقت، و الخاتم اللي في إيدي من محل اكسسوارات، كنتِ عايزاني أخليه يبعد عني إزاي و هو عمال يطاردني في الراحة والجاية، ده حتي مخلي واحد بيراقبني من أول ما أخرج من باب البيت، شوفي وصلت لأيه؟!"
"خلاص بسيطة ممكن نروح نعمل محضر بعدم تعرض"
تدخل مازن يخبرها
"إحنا عملنا كدة فعلاً"
ضحكت فجر بسخرية
"أنتي طيبة أوي يا خديجة، باسم من عيلة نفوذها واصلة لوزير الداخلية، عملنا محضر و بعد ما خرجنا من القسم أترمي في الزبالة و مش بعيد اتصلوا بلغوه واعتذروا له كمان، أومال دكتور هاني مقرب منه ليه وبقوا أصحاب، طبعاً بيستفاد منه، أي مصلحة باسم بينفذها له بمكالمة تليفون"
"فجر عايزة حاجة قبل ما أمشي؟"
كان سؤال مازن، فاستدارت فجر إليه تحت نظر باسم قائلة
"لاء يا بيبي، thank you، روح أنت علي شغلك و أنا هستناك"
أمسك يدها وقام بتقبيل ظهر كفها علي مرأي الآخرين، انزعجت خديجة لما تتمادى فيه فجر، فهي تخشى عليها من شر باسم، لا تأمن مكر هذا الشيطان إلي أين سيصل؟!
لوح المدعو مازن بيده إلي فجر من نافذة السيارة ثم انطلق.
"مالك يا ديجا متضايقة ليه؟!"
أجابت الأخرى
"أنا خايفة عليكي من شر باسم، و تاني حاجة إزاي تسمحي لراجل غريب حتي لو بتمثلوا يمسك إيدك و يبوسها؟"
شعرت بالحرج فصديقتها لديها حق في هذا العتاب
"بالتأكيد ما اقصدش، أو يمكن ما خدتش بالي"
"خلاص اللي حصل حصل، إنهي الحوار ده أحسن، وتعالي بعد ما نخلص محاضرات النهاردة نقعد نشوف اللي مفروض نذاكره، الأيام بتجري والإمتحانات قربت"
ذهبت كلتيهما من أمام باسم و كانت فجر تحدق نحوه بازدراء لتجد نظراته تنضح بوعيد من جهنم لن يتراجع عنه.
༺※※※༻
عاد من الخارج ينادي علي صغاره
"قصي؟، يزيد؟، سيف؟"
لم يجد رداً، ذهب إلي غرفتهم وفتح الباب، لا يوجد أحد منهم، ذهب إلي غرفة النوم فوجد زوجته تغط في نوم عميق، تنام في وضع الجنين يبدو أنها تشعر بالبرد من هواء المكيف البارد، أمسك بالغطاء الخفيف و دثرها جيداً ثم أخذ جهاز التحكم وقام بتزويد درجة الحرارة ليصبح الهواء أقل برودة.
خلع سترته ووضعها علي طرف نهاية السرير، جلس بجوار دنيا يتأمل ملامحها التي أصبح يعشقها، فكل يوم مر من الأيام السابقة يكتشف كم هو كان أحمق، لديه زوجة تجمع صفات مميزة عديدة يتمناها كل رجل في زوجته، زوجة و أم حنون، تحبه بل وتعشقه، تقوم بتلبية طلبه قبل أن يتفوه به، تتميز بروح الدعابة كلما تراه مهموماً تخفف عنه بإلقاء النكات المضحكة أو تقوم بالمزاح معه كما تفعل مع صغارها لتزيل عنهم الحزن و تترك البسمة علي شفاههم، تجمع كل صفات ابنة الأصول.
دنا من وجهها وقام بتقبيل وجنتها ثم بدأ يخبرها
"أنا اكتشفت أن ما أقدرش أعيش من غيرك و بحبك أوي، عارف أذيتك كتير بالتجاهل، كان غباء مني و دلوقتي عرفت قيمتك، تعرفي في كل صلاة بدعي ربنا إنه يحنن قلبك عليا و تسامحيني"
خلع حذائه وجوربه ليتمدد جوارها، احتضنها بين ذراعيه فأستيقظت
"كنان! "
انسحبت من بين ذراعيه ونهضت بجذعها جالسة
"أنت جيت امتي؟"
وضع يده علي ظهرها يمسده بحنان
"لسه جاي، الأولاد فين؟"
ابتعدت قليلاً حتي تبتعد عن يده التي سببت لها القشعريرة وتخبره
"عند جدتي و هعدي عليها بكرة الصبح هاخدهم معايا علي المشغل"
كانت علي وشك أن تنهض من الفراش، فأمسك بيدها ينظر إليها بإشتياق و تيه في بحور عينيها الناعستين، يرجوها بنبرة تجعل الحديد ينصهر فما بال حال فؤادها العاشق له!
"وحشاني أوي"
عادت لتجلس علي طرف السرير تحدق إليه في صمت ثم تخلت عن هذا السكون تشير له نحو فخذيها، أدرك مقصدها فذهب كالطفل الصغير ونام برأسه عليهما، أخذ ينظر إليها ويمسك بيدها، و يدها الأخرى تداعب خصلات شعره بأناملها، سألته و تتحري صدق قوله أن كان بالنفي أم بالإيجاب خلال ما تنضح به عينيه
"بتحبني؟"
تظاهرت بعدم سماعها لما ألقاه علي سمعها وهي نائمة، لكن تريد أن تسمع ذاك الاعتراف وجهاً إلي وجه، فقام بتقبيل راحة يدها التي يمسك بها ثم قال لها
"أنا تخطيت مرحلة الحب معاكي"
"و حبك ليا نابع من قلبك و لا شفقة بعد اللي حصل؟"
ابعد رأسه عن فخذيها ونهض ليجلس بجوارها ويمسك بكلا يديها
"أنا عارف أنه مش من السهل تنسي اللي حصل، بس أنا معايا دليل بسيط يثبتلك أن قفلت صفحة الماضي وفوقت لنفسي وعرفت أن معايا أجمل وأحن ست في الدنيا و في عينيا"
أخرج محفظته الجلدية من جيب البنطال وأخذ من طياتها ورقة مطوية، مد يده بها إليها
"أفتحي أقرأي"
قامت بفتح الورقة وأخذت تتجول بعينيها علي محتواها فوجدتها قسيمة طلاق تم توثيقها منذ أسبوع، واسم غريمتها مدون بالإنجليزية، نظرت إليه و ألقت عليه سؤالها الذي يخفي خلفه عدة تساؤلات
"طلقتها ليه؟"
اقترب منها للغاية وحاوط وجهها بين كفيه مبتسماً
"كان لازم أعمل كدة من أول مرة شوفتك"
لا تنكر أن قلبها يرقص من السعادة، لكن مازال صوت كبريائها يهمس لها بأنه لن يحن بعد وقت الغفران الكبير، عليها أن تتمهل حتي تتأكد من صدق حديثه و أفعاله، فما شعرت به من عذاب نفسي طوال الثمانية سنوات ليس بالهين نسيانه في غضون أيام أو شهر!
"مش بالسهل أنسي بسرعة، كل ما افتكر اللي فات بحس أن بتحرق، إحساس صعب أي حد يستحمله"
دمعة فرت من عينها دون أن تدري فهبطت علي خدها
"هتنسي يا دنيا، حبي وعشقي ليكي هيخلوكي تنسي أي عذاب حستيه، أنا مستعد أصبر وأتحمل العمر كله لحد ما أنول الغفران"
و قبل أن تصل دمعتها إلي يده اقترب بشفتيه و ألتقط الدمعة في قبلة هادئة، يغمض عينيه يستمتع بملمس خدها المياس لملمس شفاه، وضعت يديها علي يديه تبعدهم علي مهل عن وجهها، لكنه لن يستسلم، ابعد يديه بالفعل ثم حاوط خصرها، ويريح جبهته علي خاصتها، أنفاسه تتصاعد رويداً رويداً
"هقولك علي حاجة نفسي أعملها معاكي"
ابتعدت ونظرت إليه و ظنت الأمر المعتاد كلما يقترب منها بشوق عارم، لكنه يفاجئها تلك المرة حينما نهض وقام بتوصيل هاتفه بسماعة ذات تردد مرتفع، قام بالضغط علي أغنية ذات نمط غربي مفضلة لديه، بدأت الموسيقي، و مد يده إليها
"نفسي نرقص slow مع بعض"
ابتسمت رغماً عنها، وداخلها يشعر بالتحليق كالطير، فها هو بدأ يكشف لها عن جانبه الرومانسي.
نهضت و استجابت لدعوته، اتخذ وضع الرقص الكلاسيكي بوضع يدها علي كتفه و الأخري يمسكها بيده، بينما يده الأخرى يمسك جانب خصرها، بدأت كلمات الأغنية بصوت المغني والذي يخبر حبيبته عن حبه وجنونه بها، ردد كنان معه الأغنية بصوته.
تخلي عن وضعية الرقص تلك فقام بمعانقتها و مازال يتحرك معها علي إيقاع الموسيقي بتناغم، كانت تريح رأسها علي صدره تسمع نبضات قلبه يخبرها بصدق ما يردده من كلمات الأغنية الإنجليزية، التي تعبر عن مشاعره.
" لقد سحرتيني بعيونك... بطريقتك الخاصة
... أتسائل متعجباً كيف عرفتِ الأشياء التي لم أقلها؟... لا أستطيع تصور الحياة من غير أن تكوني بجانبي... قوة حبك هو كل ما أحتاج إليه هذه الليلة.. أعرف أنني بعض الأوقات
سببت لك بعض الألم... لكني سأرميها وراء ظهري... أذا استطعت البدء من جديد
يجب أن أقول شيئاً... وأعلم انه تأخر
أحلى الأشياء عرفتها... أو كل ما أردته..
يبدأ وينتهي معكِ... كم أحبك.. كم أحبك
نعومة شفتاكِ... لون شعرك... ذكرى لمساتك
باقية حتى بغيابك... صدى ضحكاتك عندما اشعر بالكآبة... كل معنى حياتي يبدأ معك
لذا تعالي بأحضاني وأستلقي بجانبي... فالقمر دائماً هناك... ليبقى حبنا مشرقاً.. وصلت إلى الذروة كل شيء يعني أنك في القمة أنتِ... اريدك كل الأوقات... وحلمي إلى الأبد هو أنتِ
كم أحبك... كم أحبك"
هنا ينتهي الغناء و تبدأ معزوفة جديدة، معزوفة تبدأ بلحن قبلات وتناغم كليهما في عناق قوي، يتشبث بها وكأنها ستهرب منه، يلقي علي سمعها أعذب و أجمل الكلمات، يسمع إلي أنفاسها التي يشوبها أنين، همسات يتبعها لمسات، جسدها يدنو إلي الخلف رويداً رويداً حتي أصبحت ممددة علي الفراش، لم يبتعد عنها و أنامل كل يد له تتخلل أنامل كل يد لها علي حده، ينظر إلي ملامحها المستلمة،
نظرات عينيها تخبره أن يكمل مشواره إلي درب فؤادها، و هنا أنطلق بها في رحلة تتلاحم داخلها الأنفاس كما تتلاحم الشفاه و الأجساد وصوت غناء العشق يصدح بأعذب الألحان.
مر وقت غير معلوم لكليهما، كان يتمدد جوارها يلتقط أنفاسه بينما هي ولت ظهرها إليه و الدثار يكسو جسدها ما عدا رأسها و ذراعيها، تضم يديها أسفل خدها، لا يبدو علي ملامحها أي تعبير وكأنها تمثال صامت، و قررت أن تتخلي عن صمتها فاخبرته دون مقدمات
"مبروك، هتبقي بابا للمرة الرابعة"
༺※※※༻
توقفت السيارة لدي المكان المخصص للسيارات في المرفأ، ترجل منها وذهب ليفتح لها الباب الآخر، و بمجرد أن نزلت حملها علي ذراعيه فضحكت
"نزلني، هتطلع لليخت إزاي و أنت شايلني، هنقع أنا وأنت في الميه"
تقدم بها نحو اليخت الخاص بهما
"أنتي مش واثقة في قدرات جوزك و لا إيه؟!"
تعلقت ذراعيها حول عنقه
"واثقة طبعاً، بس أوقات ممكن تحصل فلتات غصب عننا، و علي رأي المثل لا يقع إلا الشاطر"
رفع احدى حاجبيه إليها قائلاً
"ما تخافيش هنقع فعلاً بس مش في المية"
سألته بدلال وتحرك ساقيها في الهواء
"أومال هنقع فين يا حبيبي؟"
ابتسم بمكر ويخبرها
"هقولك جوه اليخت"
قفز وهو يحملها بنجاح فصاحت بمرح وأخذت تردد عبارات التشييد بقوته حتي وصل إلي داخل اليخت وخطت قدمه الرواق المتفرع منه الغرفة، لم ينتبه إلي الدرجة فانزلق ووقع علي ظهره، شهقت صبا بخوف وهبطت علي ركبتيها
"حبيبي، أنت كويس؟"
أمسك ظهره و حاول أن ينهض و يخفي ألمه
"قعدتي تغنيلي عليك قوة تهد جبال و عملالي فيها شادية، أهو رشدي أباظة قصدي جوزك وقع علي ضهره"
اقتربت منه ووضعت يدها علي ظهره بقلق
"تعالي نروح لدكتور نطمن علي ضهرك"
نظر إليها و رأي الخوف والقلق عليه في عينيها، نهض مبتسماً وجذبها من يدها لتقع بين ذراعيه
"ما تخافيش أنا بخير، الوقعة مكنتش جامدة، حتي تعالي أوريكي"
فقام بحملها مرة أخري، صرخت به
"يا قيصو يا مجنون"
فتح باب الغرفة ومازال يحملها حتي أنزلها برفق علي الفراش
"أنا فعلاً مجنون، و هوريكي الجنان، بس أدخل أخد shower و راجعلك"
غمز بعينه وذهب إلي الحمام، نهضت وسارت نحو الخزانة لتبحث عن شىء جديد ترتديه.
أنتهي من الاستحمام، أغلق الصنبور وذهب ليأخذ المنشفة ويجفف جسده بها ثم أخذ منشفة أخري، يلفها حول خصره بإحكام، خرج يبحث عنها غير منتبه للأشياء التي تركتها له، خرج من الغرفة يناديها
"صبا؟، أنتي فين؟"
أجابت من داخل الغرفة المقابلة والتي اغلقت بابها جيداً من الداخل
"هخلص لبس و جاية لك، شوف أنت بس الحاجات اللي عندك عقبال ما أجايلك"
عاد إلي الغرفة وانتبه في تلك اللحظة إلي الأرجيلة الموضوعة أعلي الكمود و هناك جلباب صعيدي رجالي فوق الفراش وبجواره عصا خشبية ذات مسند اليد المعكوف، ضحك وهو يمسك بالجلباب والعصا
"شكلها اتفرجت علي فيلم تمر حنة و لا إيه؟!"
بعد قليل...
تصدح موسيقي للرقص الشرقي من حقبة الخمسينات في القرن الماضي، تتراقص عليها بخصرها الذي عاد منحوتاً كما ذي قبل وذلك لإتباعها في الآونة الأخيرة لنظام غذائي مع ممارسة التمارين، كانت ترتدي جلباب نسائي ضيق يظهر منحنيات جسدها، ينتهي من الجانبين بفتحتين تصل كل منهما إلي الركبة، يعلو رأسها وشاح مثلث صغير مزدانة أطرافه بكرات صغيرة من الصوف (منديل بأويه) ويزين أذنيها أقراط دائرية الشكل، وعينيها يرسمها الكحل الأسود وشفتيها تكسوها الحمرة وعلي ذقنها شامة صغيرة قامت برسمها بقلم الكحل، أصبحت إمرأة شعبية من حقبة أفلام الأبيض والأسود.
كان يجلس علي الأريكة ينفث دخان الأرجيلة، اقتربت منه و تعطي له العصا
"قوم يا قيصو عشان خاطري أرقص معايا زي ما حسن كان بيرقص مع تمر حنة"
ترك عصا الأرجيلة علي المنضدة ونهض مبتسماً يتناول منها العصا
"ماشي يا تمر حنة قصدي يا صبا"
أخذ يرقص معها بالعصا فيحاصرها بها حتي تصبح بينه و بين العصا و تتراقص، وصل إلي الفراش، ترك العصا وجذبها لتقع بين يديه، حاوطت عنقه ذراعيها و تسأله بدلال
"قيصو، الورد أحلي و لا الفل؟"
ضحك وقال
"التمر حنة، قصدي أنتي يا حبيبتي"
"طب الفل أحلي و لا الياسمين؟"
"أنتي يا روح قلبي"
"طيب الياسمين أحلي و لا القرنفل؟"
"ما قولتلك أنتي أحلي، حتي تعالي لما أثبتلك كلامي"
ألتقط شفتيها في قبلة جعلتها تغوص في عمق محيطه، تترك نفسها إليه يغوص معها كما يشاء هو، كلما تعود من رحلة الغوص تأسرها عيناه داخل مملكة أشجار الزيتون، تتعمد لمس حروف اسمها الموشومة علي صدره، بأطراف أناملها تارة و بشفتيها تارة أخرى، ظل كليهما داخل عالمهما حتي وصلا إلي الشاطىء، فكان صدره هو المرسي الذي تتوسده برأسها و خصلات شعرها مبعثرة عليه، تضع يدها علي الوشم فتسأله
"قيصو؟"
"نعم؟"
"هو أنت ممكن في يوم من الأيام تشيل الوشم؟ "
قطب ما بين حاجبيه
"و إيه اللي يخليني أشيله؟"
"أصل حسن في الفيلم شال صورة تمر حنة الموشوم بيها صدره"
"هو عمل كدة لما باعته و جريت ورا واحد تاني"
اعتدلت واستندت علي مرفقها علي جانبها
"بصراحة تمر حنة غبية لما تسيب واحد بيحبها الحب ده كله و بيغير عليها"
تمدد هو أيضاً علي جانبه يخبرها
"و الغباء مش بيشمل الخيانة وبس، مثلاً لما الواحدة ما تقدرش جوزها، تخليه آخر إهتمامتها، عدم الطاعة كلها مسببات تدفع الزوج إنه يجيب أخره منها"
"هو أنا مش بهتم بيك قبل ما اهتم حتي بالولاد؟"
"و أنتي اخدتي الكلام عليكي ليه؟!، أنا بقولك الأسباب بشكل عام"
لوحت بيدها بعدم اكتراث
"لا عام و لا خاص، أنا اللي غلطانة عشان بسأل أسئلة غريبة وهنكد علي نفسنا في الآخر"
مد ذراعه يدعها لتلقي بنفسها علي صدره، لبت دعوته وفعلت ذلك، يمسك ذقنها
"بصراحة النهاردة بعد شغل و تعب اليوم نهايته جميلة أوي، كفاية إننا مع بعض، و عايز افهمك حاجة سؤالك أنا فاهم معناه كويس، عايزك تطمني عمري ما هشيلك من قلبي مهما حصل، أنتي زي ما اسمك موشوم بالظبط، صبا القلب و الروح، و مفيش انسان يقدر يعيش من غير القلب و الروح"
"بحبك أوي يا قصي، نفسي أصرخ و مش خايفة ليقولوا عليا مجنونة، بحبك، بحبك، بحبك"
كانت تصرخ بتلك الكلمة التي ترددها فعانقها بقوة و دفن وجهه ما بين كتفها وعنقها قائلاً
"و أنا مش لاقي كلمة توصف اللي جوايا ليكي، إحساس أكبر من العشق والتيم أو الوله، أنا بحاول اخترع مفرد أو مصطلح يوصف مشاعري، بس للأسف مش لاقي"
رفعت رأسه لتنظر إليه وتخبره
"أنت مش محتاج توصف بالكلام، أفعالك أبلغ في توصيل المعني"
"بالنسبة لدروس البلاغة والنحو اللي وقعنا فيها دي، تعالي أحكيلك عن الفعل و الفاعل والمفعول به"
و رفع الدثار عليهما فصاحت ضاحكة
"كفاية بقي يا قيصو"
أطلق ضحك وقال لها
"كفاية إيه، إحنا مش هانروح غير لما أشرحلك منهج النحو كله"
انتهي الحديث بالضحك الذي بدء يخبو وحل مكانه صوت أنفاسهما وكلمات يطرحها العشق علي سمعهما.
༺※※※༻
في اليوم التالي...
بعد إنتهاء المحاضرة انتظرت خديجة صديقتها خارج القاعة، بينما فجر تلاحظ مراقبة باسم لها والشر يتطاير من عينيه وذلك بسبب ما حدث بالأمس، أرادت أن تثبت إليه تحديها بالدليل الدامغ إنها قامت بمحوه من حياتها وحل مكانه شخص آخر.
فكلما تنتبه إلي نظراته النارية لها تتعمد أن ترفع يدها وإظهار إصبعها البنصر حيث مازالت ترتدي خاتم الخطبة الزائف.
"أنا جعانة جداً، تعالي ناكل حاجة وهعزمك كمان"
تسير خديجة بمحاذاة فجر التي عقبت
"لاء العزومة المرة دي عليا، بس أستنيني هنا دقيقتين هاروح التويليت وهارجعلك"
كادت تذهب فأوقفتها الأخري
"أستني التويليت القريب من هنا الصيانة شغالين فيه"
زفرت بضيق
"كدة هاضطر أروح للتويليت اللي جمب مبني المكتبة"
"أنا جاية معاكي وهستناكي برة"
خلعت حقيبتها ومدت يدها بها و الأخري بالهاتف
"لاء خليكي هنا في الضلة وخلي شنطتي والفون معاكي وأنا هاروح وهاجي علي طول"
ذهبت فجر بخطوات سريعة وهناك زوج من العيون تتبعها فذهب صاحبها ليخبر صديقه!
وصلت أمام المرحاض فرأت العاملة تجلس علي الكرسي في الجهة المقابلة وتتناول شطيرة وعندما رأت فجر ابتلعت ما بفمها وأخبرتها
"أدخلي الحمام التاني عشان الأول الحنفيات فيه بايظة لسه هاتتصلح"
اومأت إليها الأخري وقبل أن تدخل إلي المرحاض أخرجت من جيب بنطالها ورقة نقدية، تقدمت من العاملة وامسكت بيدها
ووضعت في كفها الورقة، أخذت السيدة تدعو لها فابتسمت فجر وولجت إلي المرحاض و وجدته شاغراً.
وبعد مرور دقيقتين انتهت من قضاء حاجتها خرجت تغسل يديها وتلقي بالماء علي وجهها وتغمض عينيها، سمعت بصوت فتح الباب ولم تكترث، ذلك مرحاض عام داخل الحرم الجامعي.
تقوم بتجفيف يديها بالمحرمة الورقية وتنظر إلي يديها، يخترق أذنيها صوت خطوات تقترب منها، رفعت وجهها أمام المرآة، اتسعت حدقتيها عندما رأته يقف خلفها، شيطان عائد من الجحيم وأقسم علي الانتقام.
استدارت في لحظة وابتعدت بضع خطوات حتي ألتصق ظهرها في حافة الطاولة الرخامية للحوض
"أنت إزاي دخلت هنا؟"
صاحت بقوة زائفة نقيض الرعب الذي تشعر به وهي تنظر إلي عينيه وتري داخلهما وعيد وجاء ليقوم بتنفيذه.
ابتسامة مهرج تلوح علي شفاه وهو يحدق إليها بنظرة سوداء فتحول الخوف لديها إلي هلع، يكاد قلبها يتوقف من فرط سرعة نبضاته.
"المفروض تسأليني السؤال الأهم، أنت دخلت ليه؟"
ابتلعت لعابها لعل تخفف من جفاف حلقها قبل أن تتحدث بصوت هادئ ويبدو عليه الخوف
"مش أنا قولتلك قبل كدة إنه خلاص كل اللي ما بينا انتهي؟!، و بقيت مخطوبة وشوفتني بعينيك إمبارح وأنا نازلة من عربية خطيبي؟!"
اقترب منها وانتفضت عندما استند بيديه علي حافة الرخام، فاصبحت أسيرة بين ذراعيه، رأت نظرة ساخرة يتبعها نبرة هازئة
"خطيبك؟!، تمثيلية عبيطة أوي أي عيل صغير يفهمها، مش الواد برضو صاحب العربية يبقي الواد المحامي اللي ساكن في العمارة اللي قصادك؟"
"ده أنت كمان مش مكفيك تراقبني جوة الجامعة، لاء كمان بتراقبني لحد بيتي؟!"
"و لو جوة بيتك نفسه أعملها، ما أنا قولتهالك يا فجر قبل كدة، أنتي بتاعتي واللي هيقرب منك هانسفه، فبلاش الحوارات الفكسانة دي تعمليها معايا أحسنلك"
ابتسمت بسخرية وسألته
"و لو خليت الحوار جد وأتخطبت هاتعمل إيه؟، هاتقتلني؟"
"أيوة هقتلك وهقتل اللي مخطوبة ليه"
لم تعد أن تتحمل هذا الهراء
"أنت مجنون بقي"
"أيوة مجنون، بس مجنون بيكي وأنتي مش مقدرة حبي، أنا عارف إنك بتبعدي عشان أعرف قيمتك"
رفع يديه واضعاً أحدهما علي خدها والأخري يضعها علي عضدها، أنفاسه تضرب وجهها، يردف قائلاً
"يا فجر، أنا بحبك، لاء أنا بعشقك، أنا عديت حتي المرحلة دي"
أبعدت كلتا يديه عنها بازدراء وصاحت برفض تام
"و أنا مش بحبك، فوق بقي من الوهم والهوس اللي أنت عايش فيه، أنا فعلاً كنت بحبك في يوم من الأيام بس أنت أخترت طريقك وأديتك فرصة والتانية ترجع لعقلك يمكن ربنا يهديك عن السكة اللي أنت ماشي فيها، بس حالك هو هو ما بتتغيرش، بقيت من سئ لأسوأ"
قبض علي عضديها بقوة ينفث غضبه الجامح
"و أنا قولتلك مش هاتغير، لأن مقتنع بأفكاري و ده ملهوش علاقة بحياتي معاكي، أبقي ملحد أبقي الجن الأزرق ده ما يخصكيش، كل اللي يخصك أنا وبس، أنا حر"
لم تشعر بما ينتابها الآن من قبل، خليط من الشفقة والكراهية، النفور والغضب، تريد أن تصفعه لعله يستيقظ من الغفلة أو تنقشع الغيمة من فوق رأسه اليابس، وجدت عليها أن تحسم الأمر وكفي مواجهة لا فائدة منها بتاً.
"و أنا كمان حرة، لا ديني و لا أخلاقي يسمحوا لي أكمل مع واحد زيك"
حدقت نحوه بازدراء وشرعت بالذهاب، و إذا به يمنعها فجأة قابضاً علي رسغها، ينظر صوب عينيها وكأن ألسنة نيران الجحيم تتراقص في عينيه!
مازالت خديجة تنتظرها و صوت رنين الهاتف يصدح للمرة الثانية، رفعت شاشة الهاتف لتري المتصل «Mam»، ألقت نظرة نحو الطريق لعل أن تجد فجر قادمة والحال كما هو منذ أكثر من خمسة عشر دقيقة، فأجابت حتي تُطمئن والدة فجر
"ألو يا طنط أنا خديجة صاحبة فجر"
"هي فجر فين؟، هي كويسة؟"
صاحت السيدة بقلق وخوف علي ابنتها، فأخبرتها الأخري
"ما تقلقيش يا طنط، فجر راحت التويليت و أنا مستنياها بعيد شوية"
"معلش يا خديجة يا بنتي ممكن تروحي لها وتديها التليفون أسألها علي حاجة مهمة، بس بالله عليكي ضروري"
"حاضر، خلي حضرتك معايا علي الخط"
ومضت في طريقها
وبالعودة إلي هذا الموقف العصيب، كان أنينها أسفل كفه أشبه إلي الصراخ، حيث حاصرها بين الحائط وبين جسده
"أنا لما أقولك أنتي بتاعتي، ما بقولش أي كلام و هثبتلك دلوقتي"
ومد يده إلي فتحة الكنزة ليقوم بفك الزر تلو الأخر، تقاوم بكل قوتها لكن جسده الضاغط عليها بقوة لا يسمح إليها بالتحرك إنشاً.
يخبرها بنبرة شيطانية
"وفري صويتك، لأن محدش هايسمعك، الست اللي برة مشيت، الفلوس بتعمل كل حاجة و مفيش حاجة بتقف قدام باسم"
هجم كالضبع الضاري عليها بقبلات عشوائية ويده تعتصر كل مكان يقابله، تصرخ ولم يسمع صراخها أحداً سواهما، جمعت كل قوتها وبشجاعة استطاعت دفعه عنها صارخة
"أنت أوسخ إنسان عرفته في حياتي، والمرة دي مش هاسكت تاني، هاقدم فيك بلاغ تاني وتالت و هافضحك، و الله العظيم هوافق علي أول واحد يتقدملي عشان أقهرك و أحرق دمك، أو تروح تنتحر"
تجمعت كل الشياطين أمام عينيه، لا يرى سوي الثأر لكرامته بل انتقاماً آثماً، قبض علي وشاحها من الخلف بقوة
"و أنا مش هستني لما تعمليها"
ودفعها علي الأرض، جثي فوقها مردفاً
"عشان محدش هيبصلك بعد اللي هاعمله فيكي"
أخرج من جيبه مُدية ليمزق بها ثيابها حتي ينهشها كالذئب الضاري، أمسكت بيده قبل أن يفعل ذلك، تقاوم بكل قوة
"ابعد عني يا.... "
تدفع يده التي تحمل المدية عنها بضراوة فأصابته في كتفه إصابة طفيفة مما زاده جنوناً، رفع المدية إلي أعلي فهبط مزمجراً فأصابها بطعنة، صرخة وصلت إلي خديجة التي فتحت الباب ورأت هذا المشهد المفجع.
فجر كالجثة الهامدة علي الأرض وجزء من السكين يخترق بطنها، لم تكن تصرخ بل كانت في حالة إعياء جعلها تفقد وعيها في الحال، اقتربت منها خديجة تردد اسمها بخوف
"فجر؟، قومي يا فجر"
نهضت لتجد هذا الشيطان يقف في حالة صدمة من ما أقترفه، أخذت تضربه في صدره بيديها صارخة
"عملت فيها كدة ليه؟!، حرام عليك"
جذب صوت صراخها كل من بالخارج، ولج الأمن وخلفه يتجمع الطلبة والعاملين، و عندما رأت العاملة ما حدث لفجر أدركت لما طلب منها باسم أن تبتعد فقررت الفرار قبل أن يلحق بها العقاب لأنها تعد شريكة في الجريمة، كما
تم القبض علي باسم من حراس الأمن ريثما يأتي رجال الشرطة للتحقيق في الوقعة، بينما
جاءت سيارة الإسعاف الخاصة بالجامعة وقام المسعفون بنقل فجر سريعاً إلي أقرب مشفي و برفقتها خديجة التي أبت تركها بمفردها، أبلغت والدتها من بين بكائها بما حدث لابنتها وكان حالها يرثي إليه.
تمسك بيد صديقتها وتخبرها
"بإذن الله هتقومي بالسلامة، أنا جمبك و مش هاسيبك، والله لأخدلك حقك منه و هاسجنه".......