رواية راما الفصل الثلاثون بقلم اسماعيل موسي
كانت الأضواء فوقها بيضاء، باردة، كأنها شمسٌ صناعية لا تمنح أي دفء. أصوات الأجهزة الطبية تملأ الغرفة بإيقاع ثابت، والوجوه حولها مطموسة بالكمامات والقبعات الجراحية.
سمعت صوت الطبيب الذي تحدث معها سابقًا، صوته كان هادئًا لكنه يحمل نبرة قاطعة:
"جين، نحن مستعدون. سنبدأ الآن."
أرادت أن تقول شيئًا، أن تسأل إن كان هذا الألم سينتهي، لكنها كانت مرهقة جدًا. الجسد لا يقاوم كما اعتاد.
شعرت بوخزة في ذراعها، ثم بدأ العالم يبتعد.
ظلام.
ثم، لا شيء.
—
الضوء يعود ببطء.
شعرت بجسدها كما لو أنه ليس لها، كأنه قطعة ثقيلة موضوعة على السرير. حاولت أن تفتح عينيها، لكن الجفن كان أثقل مما تتذكر.
أصوات خافتة حولها، خطوات تقترب، ثم صوت مألوف، الطبيب.
"جين؟ هل تسمعينني؟"
حاولت الرد، لكن صوتها لم يخرج. اكتفت بإيماءة ضعيفة، بالكاد واضحة.
"لقد انتهت العملية بنجاح."
كلماته عبرت إليها ببطء، كما لو كانت تأتي من بُعد آخر.
"الورم الذي كان يسبب لكِ الألم… تم استئصاله بالكامل."
أرادت أن تسأله ماذا يعني هذا. أرادت أن تفهم.الفصل
عندما استيقظت جين بعد الجراحة، لم يخبرها أحد سوى بالحقيقة المجردة: الورم أُزيل، العملية نجحت، والآن عليها أن تركز على التعافي.
لا أحد ذكر أي شيء عن المستقبل.
لا أحد أشار، ولو بكلمة واحدة، إلى شيء آخر.
حتى الطبيب الذي تابع حالتها كان حذرًا في كلماته. لم يقل سوى أن الأمور تحسنت، لكن دون وعود، دون احتمالات، دون ترك أي مجال للأمل.
وربما هذا ما جعلها تتقبل الأمر بسهولة.
لم تتوقع شيئًا.
لم تفكر فيما بعد.
استمرت في عيش أيامها كما هي، تتعافى ببطء، تعيد بناء حياتها من جديد، دون أن تفكر في أي شيء آخر سوى أن تكون بخير.
بعد أسابيع من الجراحة، في موعد الفحص الدوري، جلست جين أمام الطبيب، يديها متشابكتان فوق حجرها، تستمع إليه وهو يتحدث عن نتائج الفحوصات الأخيرة.
كل شيء بدا طبيعيًا. صحتها تتحسن، جسدها يتعافى كما هو متوقع.
لكن عندما قلب الطبيب الصفحة الأخيرة في ملفها، صمت للحظة.
كأنه رأى شيئًا لم يكن في الحسبان.
"هناك شيء آخر…" قال أخيرًا، نبرته تغيرت قليلاً.
رفعت جين عينيها نحوه، انتظرته ليتابع، لكنها لم تتوقع ما سمعته بعد ذلك.
"جين، لقد أظهرت الفحوصات الأخيرة أن جسدكِ بدأ في استعادة وظائفه الطبيعية… بشكل لم نكن نتوقعه."
"ماذا تقصد؟"
"إزالة الورم لم تكن مجرد حل لمشكلتكِ الصحية… بل كان لها تأثير غير متوقع على قدرتكِ الإنجابية."
مرت لحظات من الصمت، كأن الزمن توقف للحظة.
ثم…
"جين، بناءً على هذه النتائج… لم تعدي عقيمة."
رفعت رأسها ببطء، حدقت فيه وكأنها لم تفهم ما قاله للتو.
"ما الذي تقوله…؟" همست، بالكاد تسمع صوتها.
"لم نكن نعلم ذلك قبل الجراحة، لكن يبدو أن الورم كان يعيق عمل أعضائكِ بشكل أكبر مما كنا نعتقد. الآن، بعد إزالته، جسدكِ بدأ في استعادة توازنه الطبيعي… وهذا يعني أن لديكِ فرصة للحمل."
لم تستطع جين النطق بكلمة.
عقلها لم يكن مستعدًا لهذا.
لم يكن هذا واردًا، لم يكن حتى احتمالًا، والآن فجأة…
شيء ما تحطم بداخلها.
كانت سنوات طويلة من التصديق أن هذا مستحيل. سنوات من بناء جدران حول نفسها، من إقناع ذاتها أن هذا الباب مغلق، أن هذه الفكرة يجب أن تُدفن.
لكن الآن، وبدون سابق إنذار، فُتح الباب الذي لم تكن تجرؤ حتى على لمسه.
"أنا…" تلعثمت، لكن الكلمات خانتها.
لم تكن تعرف إن كانت سعيدة أم مرعوبة.
لكنها كانت تعرف شيئًا واحدًا:
لم يكن أحد يعلم أن هذا سيحدث.
ولا حتى الأطباء أنفسهم.
لقد كانت معجزة لم يتوقعها أحد.
عندما خرجت جين من عيادة الطبيب، كان الهواء باردًا، لكنه لم يكن يضاهي البرودة التي اجتاحت صدرها.
لم تستطع استيعاب الأمر بعد.
ظلت تسير في الشارع دون هدف، خطواتها بطيئة، عقلها مزدحم، والمشاعر تتدافع داخلها بعنف لم تعهده من قبل.
فرح؟
خوف؟
صدمة؟
كل شيء كان مختلطًا، كأنها سقطت فجأة في دوامة لا تعرف كيف تخرج منها.
كيف يمكن لشيء كانت تظنه مستحيلًا أن يصبح فجأة حقيقة؟ كيف يمكن للحياة أن تغير قواعدها بهذه السهولة؟
الفرحة المربكة
في أعماقها، هناك جزء منها أراد أن يبتسم. أن يشعر بشيء يشبه السعادة، أو على الأقل، الارتياح.
لطالما كانت فكرة العقم مثل ظل ثقيل فوق حياتها. شيء لم تختَره، لكنه فُرض عليها.
كانت قد تعلمت أن تتعايش معه، أن تقنع نفسها بأنه لا يهم، أنه مجرد جزء من قصتها، لكنه لم يكن كل شيء.
لكن الآن؟
الآن، تغيرت القصة.
والجزء الذي كانت قد اعتقدت أنه مفقود للأبد… عاد إليها.
هل كان عليها أن تكون سعيدة؟
أرادت أن تكون.
لكنها لم تستطع.
الخوف الذي يخنقها
لأن الفرح لم يكن الشيء الوحيد الذي اجتاحها.
كان هناك خوف… خوف أعمق مما توقعت.
لأن هذه الفرصة لم تأتِ معها ضمانات.
لا أحد أخبرها أنها ستكون قادرة على الحمل بسهولة. لا أحد قال إن الأمر مضمون.
كان مجرد احتمال.
واحتمال يعني أنه يمكن أن يتحقق… أو لا.
وهي لم تكن متأكدة إن كان بإمكانها تحمل خيبة أمل أخرى.
ماذا لو تعلقت بهذه الفكرة؟ ماذا لو سمحت لنفسها أن تحلم، ثم اكتشفت لاحقًا أن الحلم مجرد وهم آخر؟
لقد اعتادت أن تعيش مع فكرة أنها لن تصبح أمًا.
لكنها لم تعتد بعد على فكرة أن تكون هناك فرصة… ثم تُسلب منها مجددًا.
الدهشة التي تربكها
الأمر كله كان غير منطقي.
لماذا الآن؟
لماذا بعد كل هذه السنوات، بعد أن تعلمت كيف تتقبل الواقع، تغيرت القواعد؟
لو أن أحدهم أخبرها بهذا قبل سنوات، لكانت حياتها مختلفة بالكامل.
لكن الآن… بعد كل ما حدث… بعد كل ما فقدته… هل كان لا يزال هناك مكان لهذا النوع من الأمل؟
كانت تدرك أن الحياة لا تعطي إجابات واضحة.
لكنها تمنت، ولو للحظة، أن تعرف ماذا عليها أن تشعر.
هل تبتسم؟
أم تبكي؟
أم تخاف؟
أم تترك الأمر يمر، كما لو أنه لم يكن شيئًا مهمًا على الإطلاق؟
لكنها كانت تعرف الحقيقة.
مهما حاولت أن تتجاهل الأمر…
لن يكون مجرد شيء عابر.
لقد تغيرت حياتها بالفعل.
سواء أدركت ذلك الآن… أو لاحقًا.
في الليالي التالية، كانت جين تستيقظ على صوت أفكارها.
كان عقلها ساحة معركة، بين رغبة دفينة في الإمساك بهاتفها وإخباره، وبين خوف يشلّ أصابعها عن فعل ذلك.
أن تخبره؟
أن تبقي الأمر سرًا؟
كان عليها أن تختار.
لكن كيف تختار بين أمرين كلاهما يبدو خاطئًا؟
لو أخبرته...
ماذا سيحدث؟
هل سيفرح؟ هل سيهتم؟
أم أنه سيقابل الخبر ببرود، كما فعل عندما احتاجت إليه في مرضها؟
هل ستتحمل أن ترى في عينيه اللامبالاة، بعد كل ما مرّت به؟
كان هناك احتمال آخر، احتمال لم تستطع منعه من التسلل إلى عقلها...
ماذا لو اعتقد أن هذا الخبر محاولة منها لاستعادته؟
لم تكن تعرف إن كان آدم لا يزال يحمل لها أي شيء... أي شيء حقيقي.
لكنها كانت متأكدة من شيء واحد:
إن اعتقد أنها تستخدم هذا كوسيلة لإعادته إلى حياتها، فسيرحل مجددًا... وهذه المرة، لن يعود أبدًا.
ولو أخفت الأمر...
هل تستطيع العيش مع ذلك؟
مع حقيقة أنه هناك، في مكان ما، لا يعرف أن الحياة منحته شيئًا لم يكن في الحسبان؟
هل تملك الحق في أن تحجب عنه هذا السر؟
لكن في النهاية، ألم يكن هذا ما فعله هو أيضًا؟
حين تركها دون كلمة، دون سؤال، دون حتى محاولة بسيطة ليفهم كيف كانت تتألم وحدها؟
حينها لم يكن يهتم.
إذن، لماذا قد يهتم الآن؟
الصراع بين القلب والعقل
القلب أراد أن يخبره.
العقل قال لا تفعل.
كانت تمشي في شقتها الصغيرة، جيئة وذهابًا، كأنها تستطيع الهروب من القرار، لكن أينما نظرت، كان السؤال ينتظرها هناك، يلاحقها كظلّها.
في النهاية، لم تكن الإجابة واضحة.
لكنها أدركت شيئًا واحدًا...
لم تكن مستعدة لأن يعرف بعد.
لم تكن مستعدة لرؤية خيبته أو صدمته أو، الأسوأ من ذلك، لا مبالاته.
لذلك، وضعت الهاتف بعيدًا.
وأبقت السر في قلبها.
على الأقل... لبعض الوقت.
وفى يوم امسكت هاتفها وطلبت ادم، كان على لسانها كلمه واحده وقبل ان تنطق صرخ ادم راما ولدت انا شايل ابنى يا جين