رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل التاسع والعشرون
إذا ما بكيت أراك ابتسامة... وإن ضاق دربي أراك السلامة... وإن لاح في الأفق ليل طويل
... تضيء عيونك خلف الغمامة
أحمد شوقي
نزلت علا من السيارة وقلبها كاد يتوقف وهي تخمن ما يحدث
"أنا طالعة مع ابنـ...
قبض علي ذراعها ومازال يحدق إليها بتلك النظرة المرعبة:
"اللي أقول عليه هو اللي يتنفذ، وأنتي شكلك لسه ماتعرفيش مين هو أحمد الشريف، قدامي "
أنهي حديثه ودفعها أمامه بقسوة ليريها الوجه الآخر له، استندت علي المنضدة حتي لا يختل توازنها وتقع فاستدارت إليه وقد وصل غضبها إلي الحلقوم فانفجرت في الحديث:
"بقولك إيه، أنا فضلت ماسكة نفسي لما كنا في الشارع والعربية عشان خاطر الولد ونفسيته، لكن لحد هنا وأقف عندك، بتشخط وتزعق وتزقني ليه كل ده؟!، كنت مع ابني بياخد الجلسة"
بينما وهي تصيح كالعاصفة الهوجاء لاحظت حماتها تقف علي مقربة تحدق إليها بكبر وابتسامة تعلو ثغرها بسبب ما يفعله ابنها لذا ظنت إنها من وسوس إليه، سرعان عاد انتباهها إلي أحمد الذي اقترب منها خطوة بنظرة قاتلة يسألها:
"و مش أنا قايلك قبل ما رجلك تخطي الأوضة تتصلي عليا؟"
"أتصلت عليك كتير، و كل مرة ما بيجمعش و بعدين أنا مش خارجة أتفسح، دي جلسة علاج للولد"
"اللي أنا أعرفه المفروض لما حصل كدة تستني لحد ما أجي أخدك وأوديكي زي كل مرة بنروح فيها، مش تروحي من ورايا وكمان ألاقيكي واقفة في الشارع مع الدكتور عاملين تتكلموا"
"الراجل كان بيتكلم معايا بكل أدب وإحترام وواقفين في الشارع، يعني في مكان عام"
"عام ولاخاص، الموضوع من أوله غلط، خروجك من غير إذن في حد ذاته أكبر غلط، حياتك قبل ما تبقي علي ذمتي دي تنسيها"
مازالت نظرة والدته المثيرة للحنق صوبها، فارادت علا أن تشفي ولو القليل من غليلها فحدقت إلي زوجها بلا مبالاة ثم أطلقت من بين شفتيها ما يجعل دمائه تفور:
"وأنت ياريت ماتنساش أنك أتجوزتني بعد ما أنت والست هانم أمك أجبرتوني علي كدة، ورضخت في النهاية عشان ابني، يعني كل اللي ما بيني وبينك عقد جواز وبس"
تلقي كلماتها كالصاعقة فوق رأسه، كان أثرها يكفي لجعل دمائه تثور كبركان أنفجر لتوه، و ما زاد الطين بلاءً تعقيب والدته التي تحدثت بتعجرف وعنجهية:
"أومال أنتي كنتِ فاكرة إيه اللي هيبقي ما بينك وبينه أكتر من كدة؟!، و لا تكوني فاكراه زي أخوه الله يرحمه اللي ضحكتي عليه ودبستيه في عيل، أنا اللي خليته يتجوزك عشان حفيدي يتربي في جو مناسب يليق بعيلة الشريف أحسن ما يطلع تربية خدامين"
صاح أحمد محذراً:
"ماما"
لم تكن علا قادرة علي التحمل أكثر من ذلك فاندفعت بصوت جهوري:
"ما تسيب شيري هانم تطلع اللي جواها"
ثم وجهت بصرها إلي والدة زوجها وأكملت:
"ابنك حازم الله يرحمه مكنش متربي ولا كان عارف معني التربية، بالنسبة بقي لموضوع جوازي من ابنك التاني أنا عارفة أسبابه كويس، وخصوصاً بعد ما اكتشفتي إن يسري بيه الله يرحمه كتب كل أملاكه لابني، خوفتي طبعاً علي الفلوس والأملاك تضيع منك مش علي حفيدك"
وبالرغم من غضب السيدة شيريهان الذي وصل لذروته لكنها تتظاهر عكس ذلك بالقوة والثبات.
لحظات صمت قاطعها صوت أحمد الذي أمر علا بحدة:
"أطلعي فوق"
وقبل أن تتفوه بكلمة فسبقتها شيريهان:
"أطلعي فوق!، بدل ما تعرفها مقامها وتخليها تعرف تتكلم مع أسيادها إزاي"
أغمض عينيه وبرزت عظام فكه وكذلك عروق عنقه النافرة، لم تهتم علا لرؤيته المثيرة للرعب ويجب عليها الفرار من أمامه الآن، لكنها أصرت ألا تلتزم الصمت ويجب عليها أن تثأر لإهانة والدته المتعمدة لها في حديثها ونظراتها.
"أنا مش شغالة و لاجارية عندك عشان تتكلمي معايا أو مع ابنك عليا كدة، ولولا أنك جدة ابني وست كبيرة في السن كان هيبقي ليا رد عليكي يعرفك حدودك معايا كويس"
اتسعت عينان الأخري بصدمة ونظرت إلي ابنها بغضب لأنه لم يثأر لها من علا ثم غادرت المكان واتجهت نحو الدرج، بينما أحمد أمر زوجته من بين أسنانه وكأنه يصارع شيطانه حتي لا يرتكب كارثة:
"لأخر مرة بقولك أطلعي علي فوق يا علا"
صاحت بإصرار:
"أنا هطلع هاخد ابني وهامشي من هنا وياريت تطلقني أحسن"
هنا استيقظ الوحش من سباته، وفي لمح البصر قبض علي يدها جاذباً إياها بعنف خلفه، أخذت تتعثر مع كل خطوة محاولة الفرار من قبضته:
"أوعي سيبني"
وتشبثت بـ داربزون الدرج وتردد:
" أوعي مش طالعة معاك"
توقف ليمسك بيدها الأخري يجذبها بقوة لتترك الداربزون ثم حملها علي كتفه، فشهقت بخوف وأخذت تركل ساقيها وتضرب ظهره بيديها وهو كالجبل الصامد لا يتأثر قط.
وصل أمام غرفتهما وفتح الباب بعنف ثم قام بركله لإغلاقه، أنزلها لتجد جسدها ملتصق بالحائط جوار الباب
"كنتِ بتقولي ياريت إيه بقي؟"
لم تجرؤ علي النظر في عينيه يكفي يديها المثبتة علي الحائط، أجابت ودقات قلبها يسمعها واضحة عن صوتها الخافت:
"تـ.. طـ.. لـ.. ـقـ..ـني"
و في لحظة أخري أصبحت ذراعيها خلف ظهرها يمسكها بيد واحدة والأخري يرفع لها وجهها عنوة، يضغط علي وجنتيها ويحدق في عينيها عن كثب فتظهر بسمة مخيفة علي شفتيه قائلاً:
"كلمة طلقني لو طلعت من شفايفك تاني، لا هاتشوفي الشارع و لا هاتخرجي من الأوضة و لا حتي هاتشوفي ابنك نهائي"
كلماته ونظراته المرعبة كفيلة لجعل عينيها تذرف دموعها فتنساب علي خديها، غير قادرة علي الرد بسبب ضغط يده علي فكها ووجنتيها، لان قلبه لرؤيتها في هذه الحالة، فأرخي قبضته وأبعد يده عن وجهها لكنه مازال يقبض علي يديها خلف ظهرها
"مفيش حاجة هاتقدر تبعدك عني غير موتي"
لا تعرف ما تراه في عينيه الآن هل هو عشق أم امتلاك؟، تعبير وجهه المرعب لم يستطع إخفاء ما يحمله فؤاده لها، ودون أن تشعر تلفظ لسانها بسؤال اهتز إليه كيانه:
"و إيه السبب اللي مخليك متمسك بيا أوي كدة؟"
تبدلت معالم الغضب علي وجهه إلي التوتر وتحول الإعصار إلي هدوء تام، يخشي أن تكون قد كشفت خبايا قلبه فيقع أسيراً للهوێ مرة أخري.
اختار الجمود تعبيراً لوجهه عندما أنكر ما تنضح به عينيه وبوح أسير خلف شفتيه:
"السبب أنتي قولتيه بنفسك تحت لشيري هانم"
عادت الدموع من جديد تتحد سوياً داخل عينيها، ابتلعت ريقها وسألته وفي قلبها غصة:
"يعني أنت أتجوزتني عشان الورث مايروحش منكم؟"
أومأ لها وبنبرة أتقن أن تكون باردة كثلوج القطبين:
"أومال هاتجوزك ليه يعني؟!، فاكراني مثلاً حبيتك؟"
رجفة أصابت خلايا جسدها ولسانها قد فقد القدرة علي الكلام، أين ذلك البريق الذي تراه كلما تتلاقي عينيها بخاصته؟
هل الشعور بالخذل الذي يصول ويجول بداخلها نابع عن حب وأدَ قبل أن يولد!
اقترب منها ليخبرها ويفعل ما قطع الخيط بينهما، وضع يديه علي كتفيها ويحدق صوب عينيها ببراعة أطفأت نور الأمل لديها
"مش آن الآوان بقي نتمم جوازنا"
رفع يده وكاد يلمس وجنتها، دفعت يده بازدراء والأخري عن كتفها وابتعدت فرمقته بنظرة مقيتة قائلة:
"عمره ما هيحصل"
رفع جانب فمه بابتسامة ساخرة:
"بلاش تتحديني عشان هخليه يحصل ولو غصب عنك"
ركضت نحو الشرفة وبتهديد تخبره:
"أقسم بالله لو قربت مني هارمي نفسي"
شعر بخوف لوهلة أن تنفذ ما تفوهت به، فسألها:
"هاتنتحري عشان عايز حقي؟!"
استعادت رباطة جأشها ووقفت بقوة لتثأر منه:
"الإنتحار أهون من إن واحد زيك يلمسني"
تصاعدت أنفاسه وقبل أن يسيطر عليه غضبه الكاسر، ذهب من أمامها وغادر الغرفة علي الفور.
ركضت نحو الباب وقامت بوصده بالمفتاح، تشعر بالبرد فاستندت بظهرها تحتضن جسدها بذراعيها، أطلقت آهه نابعة من قلبها يتبعها بكاءٌ مرير بطعم الألم.
༺※※※༻
داخل مجمع تجاري شهير، فبعد أن حصلت علي مبلغ مالي ممتاز مكافآة نظير مجهوداتها الأخيرة في الشركة، حصلت علي المبلغ نقداً من الماكينة فقررت أن تأتي هنا وتتسوق وتشتري هدايا لوالدتها ولشقيقها الذي لا يرضيه شيئاً.
لفت انتباهها ثوب زفاف يشبه ما كانت ترتديه في الحفل الزائف، وقفت تتأمل الثوب وتبتسم، صدح رنين هاتفها في حقيبتها فأخذت الهاتف من داخلها لتجد المتصل والدتها، أجابت:
"ألو يا ماما؟"
"أتأخرتي ليه يا منار، مش قولتي هاتقبضي وهاتطلعي علي طول عشان نتغدا مع بعض؟"
أخذت تسير بخطي وئيدة في الرواق الكبير بين واجهات المتاجر
"لاء أتغدي أنتي وأخويا عشان هتأخر شوية، بشتري شوية حاجات وجاية"
"طبعاً هتطيري فلوسك كالعادة علي اللبس والمكياچ والبرفانات"
"أنا مش بشتري حاجة ليا، والحمدلله المكافآة مبلغ حلو جداً فقولت أشتريلكم شوية حاجات وأجيب لكم اللي ناقصكم وناقص البيت"
"يا حبيبتي تعالي و ما تجبيش حاجة، خير ربنا كتير ومش ناقصنا شئ"
"حاضر يا ماما، بقولك بس قبل ما أقفل هو مقاس حمادة في التيشرتات medium و لا large؟"
زفرت والدتها بسأم ثم أجابت:
"برضو مصممة تشتري؟"
"أنا أصلاً في المول، قوليلي بقي عشان أنا واقفة قدام المحل"
"هاتيهوله مقاس xlarge"
"أوك، هقفل معاكي بقي عشان أعرف أنقي له حاجة يارب تعجبه"
"خدي بالك من نفسك"
"حاضر، سلام"
أنهت المكالمة وألقت هاتفها داخل الحقيبة فولجت داخل المتجر، تقف حائرة أمام القمصان ذات نصف الأكمام وماركات عالمية متنوعة، تقدم منها إحدي البائعين يسألها بلباقة:
"عاجبتك حاجة يافندم؟"
كادت تجيب فتوقف لسانها حينما سمعت صوت ينادي علي بائع آخر:
"لو سمحت عايز المقاس الأصغر وياريت يبقي نفس اللون"
أغلقت عينيها لثوان تدعو بداخلها أن لا يكون هو، تخشي أن تلتفت ورائها وتجده، أصبحت تخشي مقابلته أو مواجهته فهو غريب الأطوار، وتذكرت فعلته الجنونية عندما قام بتقبيلها في غرفة الإجتماع.
فتحت عينيها وعلي شفتيها ابتسامة سرعان تلاشت عندما شعرت إنه علي مقربة شديدة منها وهذا من سماع صوته مرة أخري يقول للبائع:
"معلش ممكن تجيبلي الأسود السادة"
ابتلعت لعابها بتوتر وحاولت التسلل قبل أن يرى وجهها، ودون أن تنتبه تعثرت في مجسم بلاستيكي فوقع علي الأرض ولفت الأنظار إليها، شهقت بـ فزع فرفعت وجهها إلي مسئول البيع:
"معلش ما أخدتش بالي"
"و لا يهمك حصل خير"
قالها وأعاد المجسم لوضعه السابق، بينما هي همت بالمغادرة وتراجعت خطوتين إلي الوراء و من ثم تتجه إلي الباب الزجاجي سريعاً حتي أصبحت خارج المتجر، توقفت بعيداً تلتقط أنفاسها وظلت تردد:
"يارب ما يكونش أدهم المجنون ويطلع واحد تاني نفس صوته"
ألتفت يميناً ثم يساراً للتأكد إنه لا يتبعها أو قد يكون رآها، أخذت تبحث عن المصعد فسألت إحدى العاملين فأشار إلي آخر الرواق، ذهبت بخطوات سريعة وكأنها تهرب خوفاً من الشبح، وصلت أمام الباب المعدني وضغطت علي الزر، توقف المصعد وفُتح بابه علي مصراعيه أتوماتيكياً فولجت إلي الداخل، ضغطت علي رقم الطابق ويليه زراً أخر، أُغلق الباب وتواً فُتحَ مرة أخري فدخل مَنْ كانت تهرب منه، يبتسم إليها قائلاً:
"رب صدفة خير من ألف ميعاد"
صاحت في وجهه بغضبٍ زائف:
"ممكن تطلع برة"
اقترب منها فتراجعت حتي أصبحت محاصرة في زاوية كالقطة الخائفة
"هاطلع إزاي والإسانسير خلاص أتحرك"
وجدت ما قاله صحيحاً فكيف لم تنتبه إلي تحرك المصعد!
رفعت اصبعها السبابة في وجهه قائلة بتحذير:
"أقف مكانك وبطل حركاتك المجنونة دي لإما..
أمسك باصبعها والبسمة مازالت علي شفتيه يسألها بهدوء يشعلها حنقاً:
"و لو ما بعدتش يا قطتي هاتعملي إيه؟"
جذبت اصبعها ووبخته:
"أولاً أنا مش قطتك، أنا اسمي آنسة منار، ثانياً بلاش جنان ولأخر مرة بحذرك لو ما بعدتش هتندم"
اقترب أكثر وقال إليها ببرود مبتسماً:
"أنا نفسي أندم وأتوب علي إيديكي"
ضيقت عينيها بوعيد:
"أفتكر إن حذرتك"
أطلق تأوهاً مدوياً سببه الركلة التي سددتها إليه بين ساقيه، فُتح باب المصعد وقبل أن تغادر، ابتسمت إليه تراه يضم ساقيه وعلامات الألم علي وجهه ونواذجه شديدة الحمرة.
"أفتكر إن قولتلك بلاش"
أخرجت لسانها بحركة طفولية واطلقت ساقيها للريح قبل أن يلحق بها ويقتص منها علي ما اقترفته للتو.
༺※※※༻
كان يُذيل الأوراق التي أمامه بتوقيعه «آدم البحيري»، كثيراً من الأوراق لا يعلم عدد التوقيعات، و بعد الإنتهاء من آخر ورقة ألقي القلم فوق المكتب فاطلق زفرة تخرج من أعماقه، نظر في ساعة يده وجدها الخامسة مساءً، أخذ هاتفه وأجري إتصالاً ليطمئن علي زوجته، فجاء ردها في الحال، ابتسم مُعقباً:
"شكلك كنتِ مستنية أتصل عليكي"
"لسه خارجة من آخر محاضرة ويادوب خرجت الفون من الشنطة عشان أبص في الساعة لاقيتك بترن"
"و أنا كمان يعتبر خلصت شغل النهاردة، هاقوم أجهز وهاعدي عليكي"
"تمام و أنا هستناك قدام الـ...
طرق علي الباب اختطف سمعه فقاطع حديثها:
"ثواني يا حبيبتي"
قال للطارق بصوت جهوري:
"أتفضل"
ولجت مساعدته لتخبره:
"مستر آدم فيه ضيفة عايزة تقابل حضرتك اسمها مدام رو...
دفعتها الضيفة من أمامها وولجت بابتسامة هادئة:
"هاي آدم"
أصابه التوتر فأكمل حديثه مع زوجته سريعاً:
"معلش يا قلبي هاكلمك بعدين، سلام"
وكأنه قد نسي اتفاقه معها بأن يذهب ليأخذها من أمام الجامعة، و لما لا ينسي، وهذه الصهباء قامت بزيارته دون سابق تحديد موعد أو إتصالاً يعلم من خلاله مجيئها.
نظر إلي مساعدته وأخبرها بأمر:
"روحي أنتي دلوقتي"
تقدمت روڤان من مكتبه وجلست قبل أن يأذن لها، الوجوم يعتلي ملامح وجهه، فبدي علي ملامحها الأسف والحزن قائلة:
"معلش، So Sorry عشان جيت من غير ميعاد، والمفروض كنت علي الأقل كلمتك قبل ما أجي"
حدجها بامتعاض فسألها:
"و ياتري إيه سبب الزيارة المفاجئة؟"
حدقت إليه بصدمة وسريعاً ابتلعت سؤاله وكأنها لم تسمعه، زادت من نظرة الحزن في عينيها التي بدأت بالبكاء:
"أنا محتاجة لك جمبي يا آدم"
تناولت محرمة من فوق مكتبه وأخذت تمسح في عبراتها، وبطرف عينها لاحظت جسده المتصلب وعيناه المترقبة ومسامعه المنتظرة أن تكمل حديثها
"كنت عاملة توكيل عام لمحامي جوزي الله يرحمه، تقريباً من سنة، مكنتش عارفة أدير شركة بابي الله يرحمه وأدير شركة المرحوم في نفس الوقت"
ضغط الأخر علي زر الهاتف وأبلغ المساعدة:
"واحد عصير ليمون وفنجان قهوة"
أخذت تمسح دموعها واستطردت:
"جيت أخر تلات شهور تعبت وما بقتش قادرة أروح الشركة ووكلته بمهمة إنه يدير الشركة أو يشوف حد مناسب وأمين يقوم بالمهمة دي"
التقطت أنفاسها وأكملت:
"أتفاجئ لما رجعت من الأجازة، إن الباشا بالتوكيل العام خلي الشركتين باسمه، و لما روحت له عشان أواجهه عرفت إنه سافر وكان موصي الـ security يطردوني برة وفعلاً ده حصل"
سكب مياه معدنية في الكوب وأعطاه لها، تناولت فارتشفت القليل من الماء
"إهدي يا روڤان، العياط ملهوش فايدة دلوقت"
نظرت إليه بعينين باكيتين:
"آدم أنا مليش حد، بابي كان وحيد ملهوش أخوات، وأنا كمان مليش أخوات، معنديش حد يقف معايا ويرجعلي حقي، أنا...
تناولت الكوب وارتشفت القليل فتابعت الحديث:
"أنا جيتلك لأن بعتبرك زي أخويا، عارفة إن وقتك ضيق ربنا يعينك، بس أنا بجد مليش حد ألجأ له غيرك"
تنهد الآخر ويفكر في الأمر ملياً، أول أمر طرق في ذهنه زوجته إذا علمت بأمر تواصله مع هذه الصهباء مرة أخري ستقيم الدنيا حرباً فوق رأسه، أطلق زفرة فامسك بدفتر ورقي صغير نزع منه ورقة بيضاء وتناول قلم من الإسطوانة المعدنية، مد يده إليها بالقلم والورقة قائلاً:
"اكتبيلي كل حاجة تعرفيها عن المحامي بياناته، مكان مكتبه، عنوان سكنه، وعنوان الشركة"
أخذت الورقة والقلم وقبل أن تدون ما أمرها به سألته:
"أنت لو وصلت له هاتعمل معاه إيه؟"
أشار إليها نحو الورقة وأخبرها:
"اكتبي بس وأنا إن شاء الله هاعرف أجيبه لحد عندك وهخليه يرجعلك كل اللي خده منك، ماتقلقيش"
قامت بكتابة كل البيانات ومدت يدها إليه بالورقة، تبتسم بسعادة وعينيها تلمع ببريق أمل قائلة:
"مش عارفة أشكرك إزاي، ربنا يخليك ليا thank you very much "
أكتفي بابتسامة تخفي قلقه والتوتر الذي داهمه منذ رؤيتها، يتمني أن ينتهي من هذا الأمر بسرعة دون حدوث عواقب ليس علي استعداداً لها.
نهضت وتخرج من حقيبتها بطاقة ورقية:
"أتفضل ده الكارت بتاعي فيه أرقامي الجديدة عشان لو فيه أي جديد تكلمني"
أومأ برأسه وقال:
"اطمني، هابلغك بكل حاجة"
"هاسيبك بقي عشان معطلكش أكتر من كدة"
أخبرها بشبه ابتسامة:
"و لا يهمك"
غادرت المكتب وتركته حائراً، يمسك بالورقة والبطاقة يتأمل كل منهما مردداً:
"ربنا يستر"
༺※※※༻
تقف لدي ساحة الإنتظار بالقرب من البوابة في الخارج، تضع هاتفها علي أذنها تستمع إلي الجرس للمرة العاشرة ولا إجابة منه، نظرت إلي شاشة الهاتف:
"ماشي يا آدم، هي دي النص ساعة وأكون عندك!، و كمان ما بتردش"
قامت بالبحث عن رقم مسجل باسم «عم شكري»، ضغطت علي رمز الإتصال
وفي مكان قريب داخل الحرم الجامعي، تغادر فجر البوابة الزجاجية لمبني المكتبة المركزية، تنظر في شاشة الهاتف فوجدت يجب عليها العودة إلي المنزل، سارت نحو البوابة والتقت عيناها بعينين باسم الذي يقف مع أصدقائه اللذين علي نفس شاكلته، حدقت إليه بازدراء ومضت في دربها دون أن تري النظرة النارية التي رمقها بها، نظرة تنضح بوعيد آثم.
عبرت البوابة وانتبهت إلي خديجة المنتظرة، ذهبت إليها:
"أنتي لسه ماروحتيش؟"
كان الضيق يغزو ملامحها، لكنها أخفته خلف ابتسامة، فأجابت:
"أنا مستنية عم شكري السواق هيجي ياخدني، أنتي اللي روحتي فين بعد المحاضرة ما خلصت؟"
فتحت حقيبتها وأخرجت مجموعة من الكتب:
"كنت بستعير كتب ومراجع عشان البحث اللي طلباه دكتور سوزان، المفروض أنتي كمان تحضري المراجع اللي هاتعملي منها بحثك"
أخبرتها الأخري بفخر:
"أنا عندي مكتبة مليانة كتب ومراجع في كل المجالات"
"ده كدة بقي أنا اللي هاجي عندك، أصلي هوايتي المفضلة القراءة، عندي كمان روايات كتير رومانسي واجتماعي وفنتازيا علي رعب، عندي كل روايات العراب دكتور أحمد خالد توفيق الله يرحمه"
رددت خديجة:
"الله يرحمه، بما أن بقي طلع فيه حاجة مشتركة ما بينا، أنا بعزمك تيجي تقضي معايا يوم "
"بإذن الله، هابقي أستأذن من ماما ويارب توافق، أصلها ما بترضاش تخليني أروح عند أي حد أو أروح حتي رحلات، بتخاف عليا أنا وأخويا الصغير"
ابتسمت إليها وعقبت:
"ربنا يباركلك فيها، هي بتحبك وبتخاف عليكي"
رأت السيارة تقترب ووقفت بالقرب منهما فقالت:
"أهو عم شكري وصل، تعالي معايا نوصلك في طريقنا"
"مفيش داعي أنا كدة كدة هطلب أوبر"
وضعت الأخري يدها علي كتف فجر وقالت بإصرار:
"اسمعي الكلام و يلا عشان نلحق نوصلك قبل ما الجو يليل"
أذعنت إليها فجر بابتسامة قائلة:
"أوك، يلا بينا"
ولجت إلي داخل السيارة بجوار خديجة تحت أنظار باسم الذي يتبعها اينما ذهبت، مُعلقاً:
"ماشي يا فجر، إما خليتك بكرة تيجيلي لحد عندي راكعة ما بقاش أنا باسم"
༺※※※༻
طاولات متراصة بشكل منتظم ورائحة عطرية تفوح في الأرجاء وموسيقى هادئة تصدر من السماعات الصغيرة.
يجذب المقعد قائلاً بنبرة رجل ذو ذوق رفيع:
"أتفضلي"
جلست ورائحة عطره تخترق أنفها، جلس في المقعد المقابل، لاحظ نظرات عينيها يشوبها القلق والتوتر فسألها باهتمام:
"المكان مش عاجبك؟"
طيف ابتسامة زين محياها فاجابت:
"أبداً، بالعكس المكان حلو جداً وشيك، أنا بس قلقانة علي الأولاد، يزيد وسيف أشقية جداً"
"أطمني يا دنيا، الـ kids aria هنا أمان وفيها staff بياخدوا بالهم من الأطفال خصوصاً اللي في سن يزيد وسيف و قصى أخوهم هياخد باله منهم"
عقبت بعفوية:
"قصى ابنك ده بالذات طالعلك بالظبط، مع نفسه في عالم موازي"
أخذ يضحك ولأول مرة تراه يضحك هكذا، و كما يقولون الضحك عدوي، فأخذت تضحك هي أيضاً وسألته:
"هو أنا قولت إيه يضحكك أوي كدة؟"
"و أنتي بتضحكي ليه؟"
توقفت عن الضحك وأجابت:
"ضحكت علي ضحكك عادي، أصل أول مرة أشوف فشتك عايمة كدة"
ضحك من جديد مُعلقاً:
"فشتك عايمة!، إيه يا دنيا التشبيهات العجيبة دي؟"
ابتسمت بحرج ثم أخبرته:
"تيتا كانت بتقولهالي لما بتلاقيني بضحك جامد"
توقف عن الضحك بالتدريج فسألها:
"هي عاملة إيه؟"
"الحمدلله بخير، لما طلعت أجيب الولاد من عندها سألتني عليك مطلعتش ليه"
حمحم وبدي علي وجهه الحرج فعقبت:
"لو مكسوف منها عشان اللي حصل قبل كدة، أحب أطمنك تيتا قلبها أبيض وعمرها ما بتشيل من حد، هي مسمحاك"
استند علي الطاولة بمرفقيه ومد ساعديه ليمسك بيدها ويسألها:
"طب وأنتي؟"
نظرت إلي أنامله المتشابكة بأنامل يدها ثم رفعت وجهها فحدقت إليه وسألته بتوتر:
"أنا؟، أنا إيه؟"
نهض وجلس فوق المقعد المجاور وقام بإزاحته حتي أصبح ملتصقاً بها قائلاً:
"سامحتيني؟، أو أسألك بصيغة أحسن، لسه بتحبيني؟"
أخذت تتلفت من حولها ثم أخبرته بعينين تفر من النظر إليه وشفتين تهرب من الإجابة علي السؤال
"أبعد شوية، الناس عمالة تبص علينا"
وضع كفه علي وجنتها لتنظر إليه:
"سيبك من الناس وبطلي تتهربي، عايز إجابة علي سؤالي"
نظرت إليه وأجابت بسؤال جعل الزمن قد توقف لديه:
"راجع ذكرياتنا من أول يوم ما أتجوزنا وأنت هاتعرف الإجابة، أنت بقي حبتني؟ و لا اللي جواك من ناحيتي دلوقتي إحساس بالذنب؟"
لحظة سكون لايعلم كليهما كم مر من الوقت، حتي جاء مدير المطعم وبرفقته النادل، فقال الأول بترحيب وحبور:
"أهلاً وسهلاً يا كنان بيه، المطعم نّور بحضرتك، أول لما قالولي إن أتصلت تحجز مكان ما صدقتش، أخر مرة شوفناك هنا من 8 سنين"
انتبهت مسامعها بل جميع حواسها لما ذكره هذا الرجل، نظرت إلي زوجها بملامح يعلوها الصدمة، أدرك ما يدور في عقلها الآن.
صافح كنان المدير وأخذا يتبادلا عبارات الإطراء وأملي النادل طلباته، فانصرف وذهب المدير أيضاً، فالتفت إليها وقبل أن يخرج من فمه حرف وجدها نهضت وهَمّت بالمغادرة قائلة:
"أنا قايمة أخد الولاد وهانروح"
أمسك يدها ليجعلها تجلس ثم أوضح لها:
"اقعدي بس وأنا هافهمك، أنا فعلاً كنت باجي هنا من قبل ما أعرفك أكتر من مرة كلهم مع قصى البحيري لما كنا بنعقد صفقات مع مستثمرين ورجال أعمال، و مرة وحيدة جبت"
كاد ينطق بإسم زوجته الأولي فزجرته دنيا فتفادى هذا بقوله مردفاً:
"جبتها هنا، أقسم لك أنا مش جاي أستعيد الذكريات، أنا جيبتك هنا أنتي والأولاد لأنه من أنضف المطاعم اللي زورتها"
لم يكن حديثه مقنعاً كفاية، وذلك يبدو من تحديقها إليه، فسألته هازئة:
"و ياتري دي كانت نفس الطرابيزة اللي قعدتها عليها؟"
"مش للدرجدي يا دنيا"
زفر ثم قال:
"إحنا هنا عشان نغير جو، نقرب من بعض، ومفاجأة كمان محضرها لك"
"خلاص يا كنان، هصدقك"
رفع يدها إلي فمه وقام بتقبيلها:
"ربنا يخليكي ليا"
سحبت يدها، وكأنها تذكرت شيئاً ما، قامت بفتح حقيبتها وأخرجت ورقة مطوية، قدمتها إليه قائلة:
"أتفضل ده الشيك اللي أنت كتبتهولي لما طلبت منك الفلوس، ملهوش لازمة لأنك عملت كل اللي أنا كنت هاعمله وبزيادة كمان"
ضغط علي يدها بخفة وأبعدها نحوها:
"خليه معاكي، وهاكتبلك شيك بمبلغ أكبر عشان يكون معاكي رأس مال لمشروعك، غير مصاريف كتير هتقابلك"
أعادت الشيك إلي حقيبتها، وشبح ابتسامة يعلو ثغرها قالت:
"شكراً"
اقترب منها أكثر وحدق إليها عن كثب يخبرها بتحذير:
"وللمرة الأخيرة إياكِ ثم إياكِ تكرري اللي عملتيه، أنا عديتها بمزاجي، المرة الجاية هتلاقي رد فعل مش هايعجبك"
ابتلعت لعابها وبنظرة قوة وشموخ تسأله:
"ده تهديد؟"
"لاء تحذير"
أخذ كليهما يتبادلان التحديق، قاطع ذلك التواصل البصري مجئ النادل، قام برص أطباق الطعام من مأكولات البحرية الشهية.
"حضرتك تؤمر بحاجة تانية يا كنان بيه؟"
غمزه الأخر وأجاب:
"أنا هابقي أكلمك"
ذهب النادل، ألتفت كنان إلي زوجته:
"أنا عارف بتحبي أوي الـ seafood، وخليتهم يتوصوا بالجمبري"
نظرت إلي الطعام والرائحة الذكية المنبعثة منه، وإذا بها تشعر بنفور، داهمها شعور بالغثيان، وضعت كفها علي فمها تسأله:
"هو الحمام فين؟"
شعر بالقلق عندما رأي شحوب بشرتها، نهض وأمسك يدها:
"تعالي"
وبداخل الحمام، تقف أمام الحوض بعد أن أفرغت ما في جوفها، فتحت الصنبور وأخذت تغسل يديها ووجهها، بينما هو ينتظرها في الخارج، طرق الباب وسألها باهتمام يشوبه القلق:
"دنيا، أنتي كويسة؟"
أجابت من الداخل بصوت جهوري:
"أنا بخير"
استندت علي حافة الحوض، رفعت وجهها تنظر إلي صورتها في المرآة، تتأمل بشرتها الشاحبة والشك يراوضها، فقررت عليها أن تقطع الشك باليقين في أقرب وقت!
༺※※※༻
تتأمل الصور التي أخذتها لهم في عيد ميلاد ابنته، لاسيما تلك الصورة التي يبتسم بها وهي تنظر إليه، فهذه الصورة الفوتوغرافية التي تتوسط شاشة الحاسوب النقال تؤكد لها حقيقة الأمر التي لا مفر منها، فهي من تحبه، نظرات عينيها داخل الصورة تشع بعشقه، يبدو دربها نحو فؤاده يقطع آلاف الأميال لكي يشعر نحوها بالإعجاب وليس الحب.
تتذكر ما حدث اليوم عندما كانت في منزل صديقتها...
«مشهد سابق»
ألقي عليها سؤاله دون أي مقدمات:
"تتجوزيني يا رودينا؟"
مزيج من الصدمة والدهشة في آن واحد علي وجهها، كم تمنت هذا الطلب منذ سنوات مضت، لكن ليس بهذا الأسلوب والمفاجأة دون تمهيد وكأن الأمر لديه مثل إلقاء تحية الصباح.
أخرج من جيب بنطاله علبة سجائر وقداحة، جذب سيجاراً، أشعل النار بها يسحب نفساً ثم ينفث دخاناً كثيفاً، تعجبت من إقباله علي التدخين فتلك ليست عادته.
"إيه يا رودينا، ما سمعتش ردك يعني؟"
ابتلعت ريقها فأجابت بعفوية:
"بصراحة سؤالك فاجئني، و في نفس الوقت مش مصدقة نفسي"
نفث دخاناً كثيفاً مرة أخري وعقب:
"مش مصدقة ليه يعني؟!، أنا شايف الموضوع عادي، واحد بيطلب من واحدة إنه يتجوزها"
صدمة أخري كادت توأد سعادتها الواهية، تجاوزت ذلك وقالت:
"أنا كان قصدي المفروض فيه تمهيد للموضوع الأول"
رد بحُجة ربما جعلت قلبها يطمئن قليلاً:
"اللي بتقوليه ده لو إحنا أتنين أغراب وبنتجوز صالونات، لكن أنتي وملك أصحاب من زمان وكلنا نعرفك وأنتي عارفنا كلنا، يعني عِشرة عمر و لا إيه؟"
أومأت إليه وبدي عليها الاقتناع:
"عندك حق"
نفث دخان سيجاره التي علي وشك الإنتهاء، قام بإطفاء ما تبقي منها في المرمدة وسألها مرة أخري:
"نرجع لسؤالنا اللي لسه ما جاوبتيش عليه، تتجوزيني؟"
ألقت كل ما شعرت به من قلق وخوف من المجهول خلفها، عليها بالصمود حتي تحتل فؤاد الرجل الذي تعشقه، ابتسمت وأجابت بحبور:
"موافقة، بس...
ترددت في تكملة حديثها، فادرك ما تريد قوله
"ما تقلقيش أنا لسه هاتكلم مع باباكي، ودي مهمتك، تحددي لي معاه ميعاد، وأعملي حسابك بعد المقابلة باسبوع هنكتب الكتاب وبعدها باسبوع كمان الفرح"
"ليه الإستعجال؟!، مش المفروض نعمل فترة خطوبة نعرف فيها بعض أكتر"
"ما أنا لسه قايل إننا عِشرة عمر، وبعدين اللي أنا شايفه في عينيكي يقول إنك تعرفيني كويس أوي، صح و لا غلط؟"
باغتها بحديثه وقوله إليها صراحةً إنها تحبه، مما جعل خديها شديدي التورد من الخجل لذا أومأت إليه دون أن تنبت شفاها بكلمة، تخشي ما تخفيه لها الأيام، خاصة لغة جسده التي تخبرها إنه ليس فرحاً بطلبه ويبدو إنه يقع تحت ضغط لكي يُقدم علي هذه الخطوة.
«عودة إلي الحاضر»
أغلقت الحاسوب بطي الشاشة علي لوحة المفاتيح ثم نهضت تبحث عن هاتفها، فوجدته يعلن لها عن إتصال وارد برقم مسجل-Dad-
༺※※※༻
يجلس داخل غرفته خلف مكتبه بوجه عابس، ينظر إلي الساعة المعلقة علي الحائط المقابل له كل حين والآخر حتي أصبحت التاسعة مساءً، طرق علي الباب فقال:
"اتفضل"
فُتحَ الباب وظهرت السيدة الحنون تسأله:
"أحضر لك العشا يا قصى بيه؟"
"شكراً يا دادة، مليش نفس، الولاد ناموا؟"
"اتعشوا وقعدوا يلعبوا شوية وناموا في أوضتهم، مفيش لسه أخبار عن صبا؟"
نهض من خلف المكتب قائلاً:
"لاء، تليفونها غير متاح، شكله فصل شحن منها، أتفضلي أنتي روحي يا دادة أرتاحي، أنا قاعد سهران مستنيها"
"ربنا يطمنا عليها وترجع بألف سلامة، تصبح علي خير يا بني"
"وأنتي من أهله يا دادة زينات"
ذهبت وأغلقت الباب خلفها، أمسك بهاتفه ليجري إتصالاً بعد محاولات عديدة فتلقى تلك الرسالة المسجلة التي بات يكرهها، فقام بالإتصال علي هاتف الشركة الخاصة بزوجته فأجاب عليه حارس الأمن وأبلغه أن الجميع رحل منذ نصف ساعة وأكثر، أنتهي من المكالمة ويشعر بالضيق، أمسك بصندوق خشبي من فوق المكتب، أخذ منه سيجاراً فاخراً، وضع طرفها بين شفتيه فاشعلها، أتجه نحو باب الشرفة الزجاجي المطل علي الحديقة، ووقف ينفث الدخان، و ما هي سوي دقائق قد مرت حتي رأي سيارتها قادمة من إتجاه بوابة القصر، عاد إلي الداخل وخرج ليكون في استقبالها.
دخلت تحمل في يديها حذائها واليد الأخري حقيبة يدها، تسير علي أطراف قدميها وتتأوه بألم، وجدته ينتظرها قائلاً:
"حمدالله علي السلامة"
ألقت الحذاء علي الأرض والحقيبة تركتها فوق المنضدة الرخامية ثم قفزت بين ذراعيه:
"وحشتني أوي يا حبيبي"
يبادلها العناق وربت علي ظهرها:
"قلقتيني عليكي، موبايلك غير متاح ليه؟"
رفعت وجهها إليه ومازالت بين ذراعيه:
"فصل شحن وكنت مشغولة في المقابلات مع المصممين، غير مقابلات مندوبين المصانع اللي هنشتري منهم الخامات، كان يوم متعب ومرهق جداً، وفوق كل ده رجلي أتكسرت من الـ hills اللي كنت لابساها"
ألقت برأسها علي صدره تستند بنصف وجهها فاردفت بارهاق يشوبه قليل من الدلال:
"يمكن عشان بقالي كتير ما بلبسش hills، ااه يا قصى أنا جسمي واجعني أوي من التعب ورجلي مش قادرة أمشي عليها"
قام بمناداة إحدى الخادمات فهرولت إليه احداهن:
"أمرك يا قصى بيه؟"
"حضري العشا وطلعيه علي فوق"
أومأت إليه الأخري قائلة بطاعة:
"تحت أمرك يا بيه"
ذهبت سريعاً، أنزل ذراعين صبا التي كانت تتعلق حول جذعه، قام بحملها علي ذراعيه
"بتعمل إيه؟"
سار بها نحو الدرج:
"هاطلع علي أوضتنا"
ضحكت وتتعلق بيدها حول عنقه:
"أنت مستغني عن ضهرك ولا إيه، نزلني و أنا هاسند علي دراعك"
رفع إحدى حاجبيه قائلاً:
"عندك شك في قدراتي؟"
هزت رأسها نفياً وقالت بدلال:
" you my hero"
فأخذت تتضحك وتغني مقطع من أغنية من أحد أفلام الأبيض والأسود الشهيرة:
"فى إيديك قوة تهد جبال، فى إيديك قوة
وعليك صبر وطولة بال وعينيك حلوة"
أخذت تردد ذلك المقطع حتي ولج إلي داخل الغرفة ومازال يحملها حتي وصل بها إلي السرير ووضعها أعلاه برفق، جلس لدي قدميها وأمسك باحداها، تأوهت صبا بألم:
"اه بتوجعني أوي"
خلع لها الجورب الشفاف وبدأ يُمسد قدمها بعناية
"شوفتي إن الشغل مش حاجة سهلة إزاي، و لسه لما تبدأي شغل بجد وتبقي مسئولة عن موظفين وعمال وحوارات عايزة وقت ومجهود ونشاط فوق الطبيعي"
مالت بظهرها إلي الوراء واستندت علي يديها قائلة:
"قصدك عايز مجهود جبار، بس كله يهون لما يطلع أول Design و مطبوع عليه اسمي ويبقي فيما بعد براند، وقتها يهون أي تعب"
ابتسم إليها ويمسد قدمها الأخري:
"حبيبتي ربنا يوفقك وأشوفك من أنجح الـ business women جوة وبرة مصر، و زي ما وعدتك هافضل جمبك وهادعمك، بس زي ما اتفقنا شغلنا ما يجيش علي حساب ولادنا"
أنزلت قدميها ثم قامت بالزحف علي ركبتيها أعلي السرير، احتضنته بقوة والسعادة تغمرها:
"ربنا ما يحرمني منك أبداً يا حبيبي يا جوزي يا أبو ولادي"
حملها من خصرها ليجعلها تجلس أعلي فخذيه وكأنها طفلته الصغيرة، يحدق إليها بشوقٍ وعشق فاخبرها بصدق نابع من قلبه المتيم بها:
"تعرفي البيت وحش أوي من غيرك، الأكل ملهوش طعم غير وأنتي منورة السفرة، حتي لما قعدنا نلعب أنا والولاد كانت لمتنا ناقصاكي"
"يا حبيب قلبي والله كان غصب عني، انشغلت مع الناس وأوراق وعقود بتتمضي، ما حستش بالوقت، و لما لاقيت الفون فاصل قولت زمانك قلقان ومضايق عشان أتأخرت ومش هانعرف نخرج و لا نروح اليخت"
حاوط وجهها بين كفيه:
"فداكِ يا روحي أي حاجة، أنا كنت فعلاً قلقان عليكي و لما شوفتك قلبي أرتاح"
كاد يلثم شفتيها فأوقفه طرق علي الباب يتبعه صوت الخادمة:
"العشا يا قصى بيه"
رد بصوت جهوري:
"سيبيه عندك"
نهضت صبا وقالت:
"الأكل جه في وقته، أنا فعلاً واقعة من الجوع"
أمسك يدها ورمقها بابتسامة ماكرة:
"الأكل مش هايطير، أنتي روحي غيري هدومك وخدي لك حمام دافي، وبعدين نتعشا"
نظرت إلي ثيابها:
"اه صح أنا ماغيرتش هدومي"
و مع أول خطوة شعرت بألم يسري من قدميها إلي ظهرها وعظامها بالكامل
"اه يا عضمي ياني"
نهض قصى مُتجهاً نحو الباب قائلاً:
"لما تخلصي حمامك هعملك أحلي مساچ سويدي ينسيكي وجع عضمك خالص"
وقفت لدي مدخل غرفة الثياب تنظر نحوه بحبٍ وسعادة:
"بموت فيك يا روحي يا مدلعني"
أرسلت إليه قبلة في الهواء، بينما هو غمز إليها بعينه وقال بمكر:
"ما تتأخريش"
"عينيا"
ولجت داخل غرفة الثياب وشرعت بالغناء من جديد:
"فى إيديك قوة تهد جبال، فى إيديك قوة،
و عليك صبر وطولة بال و عينيك حلوة"
༺※※※༻
يتمدد كليهما علي المضجع لكن كل منهما مولياً ظهره للآخر، فبعد أن خرجت من المرحاض كان يبدو عليها التعب والإعياء الشديد، أصابها دوار جعلها تترنح، وحينما فتحت الباب تلقاها بين يديه والقلق ينهش قلبه، طلب لها كوب من العصير وجلبه النادل إليها فقامت بتجرعه بالكامل بعد أمر صارم من زوجها حتي شعرت بالراحة، غادر كليهما برفقة ابنائهما الثلاثة الصغار وفي طريقهم إلي المنزل أراد أن يذهب بها إلي الطبيب لكنها قابلت طلبه بالرفض التام، وأخبرته إنها قد أصبحت بخير وتريد الراحة علي مضجعها فقط، فهي تعلم سبب ما يحدث لها وتدعو بداخلها أن يصبح ظنها هباءً.
مازالت مستيقظة ولم يغفو لها جفن من القلق، تتحدث مع نفسها بصمت
"أنا عارفة إنك بتحاول ترضيني عشان أسامحك علي كل اللي فات، ما تعرفش كل جرح منك سايب علامة جوايا لحد ما قلبي مابقاش فيه مكان سليم، 8 سنين قلبي أتعذب من جفاك وعايزني أسامحك إزاي في يوم وليلة"
كان علي الطرف الأخر عينيه تلمع من تسلط ضوء القمر المتسلل من الشرفة، لا يعرف النوم درباً إليه إضافة إلي التفكير الزائد وتأنيب ضميره الذي لا يغادره منذ تلك الليلة المشئومة، حينما اكتشفت زوجته سر غرفته المغلقة دائماً وما تحتويه من أسرار زلزلت ما بينه وبينها.
"أنت لسه شوفت حاجة، اللي شافته منك كتير وإحمد ربنا إنها لسه باقية عليك، علي الأقل ما باعتكش زي الخاينة سيلينا"
كان صوت ضميره والذي أجاب عليه وكأنه شخصاً أخر:
"هو كان بإيدي؟!، ما أنت عارف كنت متعلق وبحب الأولي قد إيه"
"ده مكنش تعلق، كان جنان وهوس، عميت عينيك عن الحقيقة وإنها كانت وخداك كوبري لصاحب عمرك اللي ملكش أهل ولا أصحاب غيره و بسببها عيشت أم ولادك سنين لا يعلم بها إلا ربنا، و عايزها تسامحك علي طول، يا بجاحتك يا أخي"
"و من إمتي ولينا سلطان علي قلوبنا، أنا كنت بحبها للأسف ومراية الحب عامية، و كنت زي اللي بيجري ورا سراب"
"وإيه اللي يخليك تجري ورا سراب والحقيقة عايشة معاك، ست زي القمر بتحبك و بتتمني لك الرضا، ربنا رزقكم بتلات أولاد زي الملايكة، ربنا أنعم عليك بنعم كتير، قولي أنت بقي قدرت النعم دي و لا أتبطرت عليها لحد ما أخدت علي قفاك وفوقت متأخر، وأتسببت في جرح عميق لأكتر إنسانة حبتك ومخلصة ليك"
"ما أنا بحاول أرضيها وأقدملها اللي نفسها فيه، و هحاول علي قد ما أقدر أعوضها عن اللي فات"
"يبقي تصبر، لأن لسه قدامك المشوار طويل، و يا عالم يمكن قلبها يحن عليك كالعادة و تسامحك وتفتحوا مع بعض صفحة جديدة"
"ياريت، دي بقت أمنيتي الوحيدة"
"يبقي تخلص النية وأعمل اللي عليك لوجه الله وبأمره هيحقق لك أمنيتك، و بعدين تعالي هنا، أنت ليك عين بتطلب من ربنا يقف معاك وأنت مقصر في حقه؟!، قولي ركعتها أخر مرة أمتي؟، طلعت صدقاتك وزكاتك بما يرضي الله و لا كنت بترمي لمراتك الفلوس عشان تقوم بالمهمة دي عنك؟!، و لا أزايز الفودكا والنبيذ اللي شربتها علي مدار حياتك، تخيل لو ملاك الموت قبض روحك وأنت لسه ما توبتش هيبقي إيه وضعك؟"
ساد الصمت بينهما حتي أردف ضميره:
"مش لاقي حاجة تقولها صح، طيب ياريت يا كنان بيه تلتزم باللي ربنا أمرك بيه من صلاة وصوم وزكاة وتبعد عن كل المحرمات عشان ربنا يباركلك ويرضي عليك، و يا بخت اللي ربنا يرضي عليه ويحبه، وقتها ربنا بيحبب فيه خلقه وخصوصاً أقرب الناس ليه، أظن مفتاح تحقيق أمنيتك في إيديك، يلا بقي وريني شطارتك"
رد علي ضميره بخجل:
"إن شاء الله هلتزم في الصلاة وأقرب من ربنا"
"مش بالكلام يا حلو، ده بالفعل يعني تقوم كدة تتوضى وتصلي وتشكر ربنا وتدعي من قلبك باللي نفسك فيه، أنت لسه بتفكر قوم يلا"
نهض علي الفور وكأنه يستعد لأمر هام، شعرت بحركته ورأته عبر المرآة يدلف إلي داخل الحمام، ظلت تراقبه دون أن يراها، وتعجبت لإنه بعدما خرج من المرحاض أخذ يبحث عن شئ ما، نهضت بجذعها وسألته بصوت يغلب عليه النوم:
"فيه حاجة يا كنان؟"
حك رأسه من الخلف بحرج وسألها:
"هي فين سجادة الصلاة؟"
أشارت إليه نحو مكانها وقالت:
"مطبقة ومحطوطة علي الشيزلونج، الساعة يجي لها عشرة بالليل، هاتصلي إيه؟"
قام بفرد السجادة علي الأرض وأخبرها:
"هصلي ركعتين شكر لله"
لم تعلق وأثرت تعجبها بداخلها بل شعرت بالسعادة فها هو يسير في الدرب الصحيح، وتذكرت كم كانت تنصحه كثيراً بأن يصلي ويتقرب من الله لكنه كان لا يهتم علي الإطلاق
، انتبهت إليه وكاد يصلي فأوقفته:
"أستني القبلة مش كدة"
نهضت من علي السرير وذهبت إليه، دنت قليلاً لتأخذ السجادة ثم وضعتها في إتجاه القبلة الصحيح
"كدة القبلة"
و قبل أن تبتعد نظر إليها مبتسماً:
"شكراً"
"الشكر لله"
تركته وذهبت إلي الحمام، عليها أن تقطع دابر ذلك القلق الذي أصابها بالأرق.
و بعد دقائق، تستند علي حافة الحوض وتراقب شريط إختبار الحمل، دقات قلبها كقرع الطبول، و كان علي وشك أن يخترق ضلوعها عندما ظهر كلا الخطين باللون الوردي القاتم، فقطع لها الشك باليقين، تردد بصوت خافت والصدمة تعتلي وجهها:
"حامل!"
༺※※※༻
صفت سيارتها أمام البناء المنشود حيث كانت تقود سيارتها إتجاه الموقع الذي أرسله إليها زوجها عبر تطبيق الدردشة الشهير، كانت تتردد قبل مواجهة طليقته، لكن حبها لابنة زوجها والتي بمثابة ابنتها يجعلها لا تبالي لأي مخاوف.
ترجلت من السيارة وتقوم بالإتصال بـ لوچي، تلقت البريد الصوتي كالمعتاد منذ صباح اليوم، ولجت إلي داخل البناء ولم تجد الحارس، استقلت المصعد وضغطت علي رقم الطابق والذي أخبرها به زوجها حتي وصلت.
و ها هي أمام الباب تضغط علي زر الجرس حتي فتحت إليها مَنْ لا تود رؤيتها يوماً ما، تسألها بثمالة من أثر ما تجرعته من خمر وهذا منذ أن غادرت ابنتها المنزل وتركتها وحيدة مرة أخري:
"أنتي مين؟"
أجابت الأخري بزهو:
"أنا دكتورة علياء"
ضيقت أنجي عينيها وتسألها:
"علياء مين؟"
"مرات الدكتور يوسف البحيري"
ليتها ما تفوهت بهذا التصريح الذي جعل الأخري تحولت إلي شيطان مارد استيقظ لتوه من غفوته، انقضت عليها وقبضت علي تلابيب سُترتها تدفعها إلي داخل المنزل صارخة:
"و ليكي عين تيجيلي لحد البيت بعد ما خطفتي جوزي مني"
حاولت علياء أن تبعد يديها عنها:
"أنا مش هرد عليكي، لأن ليس علي المريض حرج، أنا جاية عشان لوچي"
ودفعتها بعيداً ثم ولجت إلي داخل المنزل تبحث عنها:
"يا لوچي؟، لوچي؟"
صاحت بها أنجي كالمجذوبة:
"بنتي سابتني بسببك أنتي وأبوها بعد ما كرهتوها فيا، عايزة تاخديها مني زي ما أخدتي يوسف"
"برضو مش هارد عليكي"
وظلت تنادي علي لوچي ولم تتلق رداً منها، فتحت أحد الغرف و لا يوجد أثراً لابنة زوجها، استدارت وشهقت بفزع وتري هذه الشيطانة مقبلة عليها تحمل سكيناً في يدها ووجهها شديد القبح مما دب الرعب في قلبها
"أنا هاقتلك وأخلص منك وهارجع لجوزي وبنتي، لازم تموتي، لازم تموتي"
صرخت علياء وهي تتفادي السكين الذي اصطدم سنه في الحائط:
"أبعدي عني يا مجنونة"
ركضت إلي الردهة والأخري خلفها، ترفع السكين واقتربت منها، كادت تصيبها فأمسكت علياء بوسادة من الأريكة لتستقر السكين في منتصف الوسادة، أطلقت صرخة وأمسكت بتحفة خزفية:
"أبعدي عني أحسنلك يا أنچي، أنا لحد دلوقت مراعية حالتك، أنا ممكن أخبطك بالتمثال ده في دماغك"
"أنتي اللي لازم تموتي"
صاحت بها أنجي بجنون وكانت علي وشك أن تطعن علياء التي دنت نحو طرف السجادة وقامت بجذبها بكل ما أوتيت من قوة فانزلقت الأخري وارتطمت رأسها علي زاوية الطاولة الحادة التي تقع خلفها، فوقعت هامدة علي الأرض وسالت دماؤها من خلف رأسها.
دب الخوف في أوصال الأخرى، أخذت تبحث عن حقيبتها، ركضت إليها وأخذت هاتفها وسرعان قامت بالإتصال به في الحال، تخبره بخوف وهلع:
"يوسف، ألحقني"