![]() |
رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل الثامن والعشرون
فتحت باب السيارة وقبل أن تترجل ألقت عليه تلك الكلمات، قد ظنت إنها تحطم أمله وقلبه معاً حتي لا يقترب منها مرة أخري
"و أنا بقولك خلاص مفيش أمل للرجوع، مش عشان اللي أنت فيه"
ابتلعت ريقها قبل أن تردف:
"عشان أنا في حكم المخطوبة ومقري فاتحتي"
قالتها وغادرت السيارة سريعاً قبل أن يمسك بها، لكن كيف للغزالة أن تسبق فهداً ضارياً!، قبض علي يدها وسألها بصوت دب الخوف والرجيف في فؤادها:
"الكلام اللي أنتي لسه قايلاه ده لو طلع بجد، عندي موتك أهون من إنه يحصل"
صاحت من بين أسنانها:
"أوعي سيب إيدي، فاكرني هخاف و لا إيه؟، أنا ممكن أطلع علي أي قسم بوليس وأقولهم أنك بتهددني وعايز تموتني وأظن الأمن وزمايلنا في الجامعة يشهدوا علي جنانك"
تقدم أحد أفراد الأمن عندما وصل إليه صوتها:
"فيه حاجة يا آنسة؟"
كانت تنظر بتحدي إلي باسم ثم ألتفت إلي حارس الأمن وأخبرته:
"مفيش"
كان ذلك علي مرأي من خديجة التي وصلت تواً، وكادت تنادي علي فجر لكن كانت قد عبرت البوابة بخطوات أشبه بالركض، فتلاقت عيناها بأعين باسم الذي حدق إليها بعداء جلي فنظرت إليه وكأنها تخبره بعينيها _يهديك ربي_ ثم عبرت البوابة لتلحق بفجر.
༺※※※༻
تتقلب دنيا علي جانبها الأيسر فداهمتها رائحة الطعام المنبعثة من المطبخ، استيقظت فجأة ألقت نظرة في الهاتف فوجدت إنها اقتربت علي الواحدة ظهراً، نهضت قائلة:
"ده أنا نمت كتير أوي"
تذكرت أمر الرائحة وخشيت أن صغارها هما من في المطبخ ويلعبون في الموقد، نهضت وركضت نحو المطبخ غير مكترثة إلي شعرها الأشعث، وقفت لدي الباب وتنفست الصعداء عندما أطمأنت إنه زوجها هو من في المطبخ، شعر بها فقال دون أن يلتفت إليها:
"واضح إن يزيد وسيف كانوا مسهرينك للفجر عشان كدة نمتي لحد دلوقت"
لاحظت صورتها المنعكسة علي مرآة الطاولة المجاورة للمطبخ، وانتبهت إلي شعرها فأخذت تلملم خصلاتها بيديها وخلعت مشبك الشعر ثم وضعته مرة أخري بعد أن ضبطت من مظهرها بشكل مهندم.
ولجت إلي المطبخ وسألته دون التعقيب علي حديثه:
"الولاد فين؟"
أدار مقبض الموقد ليهدأ النيران قليلاً فألتفت إليها وأخبرها مبتسماً:
"الولاد صحيوا من بدري فطرتهم و لبستهم ووديتهم النادي ومعاهم الناني، وسيف وديته عند جدتك"
انتابها التوتر والقلق فسألته مرة الأخري:
"ليه؟"
اقترب منها فتراجعت حتي اصبحت محاصرة بينه و بين حافة القطعة الرخامية الملساء، استند بيديه علي الحافة وهي محاصرة بين ذراعيه، دنا من عنقها يخبرها بهمس:
"حابب نكون أنا وأنتي لوحدينا النهاردة"
ارتجف جسدها من قربه المُهلك، فبرغم القوة التي تتظاهر بها دائماً لكن في حقيقة الأمر في حضرته هي أضعف مما تكون، ردت دون النظر في عينيه:
"وأنت مش عندك شغل النهاردة، دي لسه الأجازة بكرة"
أجاب وبسمة ماكرة تعلو شفتيه:
"أنا صاحب الشركة، يعني أقعد و أشتغل وقت ما أنا عايز، و لا أنتي عندك رأي تاني؟"
مع كل حرف يخرج من مواطن كلماته يصاحبها أنفاسه المحرقة لبشرة عنقها صعوداً إلي وجنتها
"رأيي في إيه؟"
سألته ومازال التوتر ينضح في نبرة صوتها، حاوط بيديه جانبي خصرها مجيباً:
"أقعد و لا أروح الشغل؟"
وضعت كفيها علي صدره العريض ودفعته برفق لتتمكن من الابتعاد عنه، لا ترغب أن يظهر ضعفها السابق أمامه، اتجهت إلي باب المطبخ لتغادر قائلة وكأنها لا تكترث لأمره:
"براحتك أنت حر"
لحق بها ووقف أمامها، يمسك بذقنها ليرفع وجهها وينظر صوب عينيها، فشعرت وكأنه يخترق روحها، فأخبرها:
"إحنا هانفطر وبعدها تجهزي عشان هاخدك مشوار قريب من هنا ونعدي علي جدتك ناخد سيف وبعدها نعدي ناخد الأولاد من النادي ونشوف نفسهم يتفسحوا فين"
كان ينتظر منها نظرة رضا لكن أبدت له النقيض وقالت:
"أحسن برضو، أهو تغير جو للأولاد"
رمقها بغموض وسألها:
"حاسس إنك مش مبسوطة؟"
أجابت بابتسامة رسمتها بإتقان علي ثغرها:
"انبساطي من انبساط ولادي"
زفر بقوة وكان يضغط علي فكه، مد يده إليها بطريقة مسرحية نحو طريقها
"روحي يا دنيا جهزي نفسك عشان نلحق نفطر ونروح مشوارنا"
وبعد قليل... تقف أمام المرآة ترتدي وشاحها المزركش، تضبطه جيداً ثم ألقت علي هيئتها ذات الزوق الرفيع باستحسان، تستدير يميناً ويساراً، سمعت صفيراً يأتي منه، يقف لدي باب الغرفة وعلي كتفه منشفة خاصة بالمطبخ
"شكلك حلو أوي، و كل يوم بتحلوي أكتر من اللي قبله"
ألقي هذه الكلمات التي تأسر قلوب الحسناوات، وأنتظر أيضاً ولو نظرة قبول أو شبح ابتسامة لكن وجدها تأخذ حقيبة اليد خاصتها من أعلي طاولة الزينة ثم أتجهت نحوه وقالت بثقة وغرور تتقنه أمامه فقط:
"عارفة"
رفع جانب شفتيه وهز رأسه بسأم فسألها عندما رآها متجهة نحو باب المنزل، فتعجب:
"أنتي مش هاتفطري؟!"
أخذت تنظر إلي شاشة هاتفها وكأنها منشغلة بأمر ما فأجابت:
"مليش نفس"
فتحت باب الشقة وسابقته بخطوة مما أثارت وحش غضبه داخله، فكان صبوراً إلي أبعد الحدود، زفر بحنق وجذب المنشفة من فوق كتفه ثم ألقاها بعنف علي المائدة، فقال ببقايا كبرياء:
"تمام، يلا نمشي"
خرجت و علي شفتيها ابتسامة انتصار رغماً من لوم وعتاب قلبها إليها، لكن عقلها يخبرها أنها تسير علي الدرب الصحيح وعليها أن تذيقه و لو بضع جرعات الويل والعذاب التي تجرعتها علي يديه منذ سنوات.
༺※※※༻
يصدح صوت الفنانة فيروز بأغنية(سألتك حبيبي) من مشغل الأغاني داخل السيارة، بينما هي كانت تستند برأسها علي زجاج نافذة السيارة شاردة فيما يحدث من حولها، تشعر بالضياع وكأنها شريدة داخل غابة معتمة، ودت لو تبتعد وتعيش بعيداً عن والدها بعدم إهتمامه بها و بعيداً عن والدتها بمؤامرتها وأفكارها الشيطانية التي لا تمل منها من أجل العودة إلي طليقها الذي يمقتها بشدة.
أخذت الأفكار تدور وتتأجج داخل رأسها كبركان علي وشك الإنفجار، وكان عمر يراقبها في صمت يتأمل ملامحها المليئة بالشجن، ودموع عينيها تأبي السقوط، سألها و لا يعلم لما يشعر بضيق في قلبه عندما رآها في تلك الحالة، ربما يشعر بالذنب فهو ليس سوي محتال ينصب شباكه حول ضحياه من الفتيات من عائلات الطبقة المخملية.
"لوجي، إحنا من ساعة ما خرجنا من المطعم بنلف بالعربية، تحبي نروح أي حتة تانية؟"
ألتفت إليه وظلت تحدق إليه في صمت مطبق لدقائق معدودة ثم أرتمت علي صدره تبكي بألم وداخلها يحترق حزناً، تردد بعض الكلمات:
"أنا خلاص مابقتش قادرة أستحمل، أنا تعبت"
اصابته رجفة تنبع من فؤاده وترددت في سائر جسده، فهي تقبع بين ذراعيه في حالة من الضعف، تردد قبل أن يحتويها بذراعيه، شعر بملمس دافئ من عبراتها المتساقطة والتي قد بللت قميصه القطني.
ضم ذراعيه وأخذ يربت عليها هامساً بحنان:
"عيطي، طلعي كل اللي جواكي"
رفعت رأسها عن صدره فنظرت إليه من بين دموعها تسأله بقلبٍ ملتاع:
"هو أنا وحشة يا عمر؟"
كان قربها منه كالجحيم، ابتلع ريقه وأخبرها بصوت خافت:
"أنتي أجمل وأرق بنت عرفتها، ليه بتقولي كدة؟"
"بابا وماما محدش فيهم بيحبني، كل واحد فيهم بيدور علي مصلحته وبس، حتي علياء كانت بتحبني لحد ما خلفت عزالدين وبقي كل حياتها وأتحطيت علي الهامش"
"أنا جمبك وهافضل معاكي"
ألقي عليها بتلك الكلمات وأخذ ينظر إلي شفتيها التي ترتجف من البكاء، فأراد أن يسكنها، بطرفي إبهاميه يزيح دموعها فدنا منها ببطئ وكاد يُقبلها، دق الناقوس في مسامعها، انتفضت فجأة وابتعدت عنه، تمسح عبراتها بأناملها قائلة:
"أنا عايزة أروح"
كان يرمقها بحذر وحرج في آن واحد، سألها:
"أوصلك عند مامتك؟"
قامت بضم تلابيب مأزرها وكأنها تحمي نفسها، أجابت بجمود:
"هروح علي القصر"
༺※※※༻
وصل كليهما للتو أمام بناء مكون من طابقين يحيطه سور مرتفع، نظرت دنيا إليه و لم تفهم سبب وجودهما هنا:
"إحنا بنعمل إيه هنا؟"
أمسك يدها وأخبرها:
"تعالي وهاتعرفي كل حاجة جوة"
أخرج سلسلة مفاتيح من جيبه وقام بفتح البوابة، ولج كليهما ثم فعل المثل مع بوابة المبني، توقف أمام لوحة معدنية كبيرة، قام بفتحها وأنزل عدة مفاتيح، أضاء كل المصابيح شديدة الإضاءة، ظهر لها مساحة شاسعة تتراص فيها أربع صفوف أحدث ماكينات غزل خيوط الصوف وأخري للحياكة، تصطف جميعها بالتوازي، لم تصدق عينيها، سألته بسعادة عارمة:
"أوعي تقول إنك أنت اشتريت وعملت كل ده؟!"
ألتفت إليه فوجدته يقف واضعاً يديه في جيبي بنطاله، أجاب بزهو وفخر:
"و كل الخامات اللي محتجها المشغل في المخازن، من أنضف وأعلي الخامات، تقريباً كل حاجة جاهزة و واقفة بس علي العمالة، وهيكونوا عندك إن شاء الله في خلال أسبوع"
هي الآن في مأزق فتلك المفاجأة جعلتها لا تعلم ماذا عليها أن تفعل له، شعر بما يدور في خُلدها فقال:
"دي أقل حاجة ممكن أقدمها لك، كل سنة وأنتي طيبة ومنورة حياتنا"
قد تذكرت للتو أن اليوم هو عيد مولدها التاسع والعشرون، لم تكن تهتم به من قبل وهو أيضاً قلما كان يتذكره ويكتفي بشراء هدية من الحلي يهديها إياها دون إلقاء عبارة المعايدة وكأنه يؤدي واجب عليه فقط، لكن الأن أختلف الأمر كثيراً، فهل ما يفعله حب أم طلب مغفرة؟
طيف ابتسامة يعلو شفتيها ثم قالت باقتضاب:
"شكراً"
لجأت إلي الفرار من النظر إليه، استدارت وأعطته ظهرها فاقترب منها قائلاً:
"كل ده هدية مني ليكي، بعيد عن المبلغ اللي طلبتيه"
وقف خلفها مباشرةً، وضع كلا يديه علي عضديها وأخبرها:
"لما تعوزي أي حاجة أطلبيها علي طول، و ياريت موضوع المساومة ده ما يتكررش تاني، أنا جوزك وأنتي مراتي، و زي ما ليكي حقوق عندي أنا برضو ليا حقوق عليكي"
استدارت إليه ولم تكن في حاجة أن تعقب بالرد، يكفي نظراتها وكأنها تخبره ما شعرته من إهانة للحظة فأنا قد عشته لسنوات، كنت أشعر بالغربة بين يديك، أفيض عليك بحناني ولم ألق منك سوي الجفاء، عقلك حاضر وفؤادك غائب، جعلت مني بديلاً يعوضك عن المرأة التي تعشقها بكل حواسك وتركت قلبي يُناجي لياليه وحيداً ويشحذ منك قطرة ماء يروي بها ظمآه، حتي نال منه الجفاف فأصبح قلباً خاوياً لا يعرف سوي القسوة.
تخلت أخيراً عن الصمت وقالت بنبرة خالية من المشاعر:
"ما تقلقش أنا عارفة حقوقك عليا، مالكش غير اللي ربنا أمرني بيه لكن قلبي ومشاعري ما أوعدكش يرجعوا زي زمان، اللي أنكسر بينا محتاج وقت كبير أوي عشان يتصلح، و لو أتصلح هيبقي مليان شروخ صعب تداوي"
هنا قد تحمل ما يكفي اليوم، كبريائه يهزم ويغلب مشاعر الندم الثائرة في قلبه، وكأنه لم يستمع إلي ما أخبرته به فقال لها:
"مبروك عليكي، و صح قبل ما أنسي"
حدق في عينيها عن كثب وأردف:
"بيتك والولاد أول اهتمامتك وبعديهم البيزنس، وأنا كدة كدة جيبتلك الناني عشان تساعدك في تربيتهم"
أدركت هروبه من الإعتراف بالذنب، فرفعت زاوية فمها بسأم وأخبرته كلمات تحمل رسالة مبطنة:
"أطمن، طول عمر عيالي أول إهتماماتي"
"كدة تمام، تحبي تتفرجي علي باقي المكان و لا نروح نجيب الأولاد ونخرج؟"
"كفاية، تعالي نروح لهم عشان وحشوني أوي"
ترقبت إلي أي تعقيب أو نظرة منه، فاردفت وتهم بالمغادرة:
"هطلع استناك في العربية عقبال ما تقفل المكان"
لم تنتظر رده وتابعت السير إلي الخارج، لا تعلم إنه وقف يتابعها بعينيه إلي أن أختفت عن مرمي بصره.
༺※※※༻
تقلب بالملعقة الخشبية لحم العصاج، تنثر فوقه مسحوق الفلفل والبهارات ذات الرائحة الذكية، تسللت يد من جوارها تحمل ملعقة صغيرة يغترف بها القليل من اللحم، صاح صوتها محذراً إياه:
"مصعب، بطل حركات عيالك، اللحمة أصلاً لسه ما أستويتش كويس"
رمقها بنظرات طفل صغير وبصوت لا تعلم من أين جاء به قال:
"آسف يا ماما ملوكة مش هعمل كدة تاني"
أطلقت ضحكة وصلت إلي ابنتيها، فخرجت كلتيهما، فسألت مليكة:
"أنتم بتضحكوا علي إيه يا مامي"
وسألت توأمها نور:
"ما تضحكونا معاكم"
نظرت ملك إلي مصعب فأخبرها بصوت خافت:
"إياكِ، هتبوظي برستيچي قدام البنات"
"إيه يا مامي هو سر و لا إيه؟"
قالت إلي زوجها بهمس:
"هطلع جدعة ومش هقول، بس بعد العزومة دي تنزل تشتريلي اتنين قنبلة وصينية مدلعة"
"طب والدايت؟"
"النهاردة يوم الـ free"
"أنا خايف بس الخمس كيلو اللي خسيتهم في شهرين ترجعي تزيديهم تاني"
نضح من عينيها نظرة نارية ثم نظرت إلي حامل السكاكين الخشبي، ذهب ببصره حيثما تنظر، ابتلع ريقه بشكل مضحك، تراجع رافعاً يديه في وضع الدفاع:
"ناوية علي إيه يا ملوكة، أنا كنت بهزر يا حبيبتي، أسألي حتي مليكة ونور كنت لسه بقولهم امبارح إن مامي خست وبقت زي القمر "
نظرت نور إلي شقيقتها شاغرة فاها فغمزت لها الأخري وقالت:
"أيوة يا مامي حتي بالأمارة قال بقيتي شبه زومبا اللي مسلسل في بيتنا روبوت"
شهقت ملك والشرر يتطاير من عينيها، عقبت نور:
"لاء يا مليكة قال شبه ويزو اللي في مسرح مصر"
رمقهما والدهما بوعيد ثم صاح مدافعاً عن حاله:
"أنا قولت عليها كدة؟"
أنقذه من بين يدي زوجته رنين جرس الفيلا، صاحت الفتاتان بتهليل:
"هيه خالو ياسو جه، خالو ياسو جه"
تسلل مصعب، زمجرت ملك فأخبرها:
"أنا رايح أستقبل أخوكي"
أشارت له بيدها نحو ذقنها بوعيد قائلة:
"ماشي، أعمل حسابك بعد الغدا أنت اللي هاتغسل المواعين"
لم يعلق وذهب فوجد ابنتيه قاما بفتح الباب واستقبال خالهما الذي كان يحمل صندوق هدايا كبير الحجم
استقبله مصعب بترحاب:
"أهلاً أهلاً، الفيلا نورت"
ترك ياسين الصندوق علي المنضدة الرخامية وصافح زوج شقيقته فعانقه الأخر عناقاً أخوياً، قال ياسين:
"منورة بأصحابها، ألف مبروك"
"الله يبارك فيك"
ثم نظر إلي ياسمين الصغيرة ومد إليها يده:
"أهلاً وسهلاً بالكتكوتة الجميلة"
ابتسمت بخجل ولم تمد يدها فقال والدها:
"سلمي علي عمو مصعب يا ياسمينا"
أذعنت لأمر والدها ثم قالت لها مليكة:
"تعالي نلعب في أوضة الألعاب"
نظرت إلي والدها فأومأ لها وقال:
"روحي يا حبيبتي معاهم"
ونظر إلي مصعب وعقب:
"هي لما بتدخل مكان جديد بتبقي مكسوفة"
"ما أنت مابقتش تجيبها تقعد مع البنات"
حمل ياسين الصندوق وسار كليهما إلي الداخل
"الكمبوند هنا بعيد عني كتير، شقتكم القديمة كانت في طريقي، فبضطر أخدها معايا الشركة"
"ربنا يعينك، و بعدين ليه يا بني مكلف نفسك وجايب بوكس هدايا، إحنا مش أغراب"
تركه ياسين علي الطاولة وجلس علي الأريكة ذات الملمس الوبري:
"دي حاجة بسيطة بمناسبة الفيلا"
"أخويا حبيبي الندل اللي ما بيسألش"
صاحت بها ملك مازحة وقامت بمعانقة شقيقها الذي قال:
"حبيبي و ندل إزاي في جملة واحدة!، ما أنتي عارفة إن كان عندنا تسليم وحدة خد مننا وقت ومجهود"
لكزته في كتفه بمزاح:
"عارفة أنك مشغول، بس برضو أسأل عليا إفرض مصعب عمل فيا حاجة ما تطمنش عليا؟"
ضحك الأخر فعقب مصعب:
"شوفت أختك، علي طول ظلماني ومطلعاني أنا الشرير"
قهقه ياسين قائلاً:
"نفس اللي كانت بتعمله فيا قبل ما أتجوز، كنت باخد كمية تهزيئ من بابا الله يرحمه بسببها"
عقبت ملك:
"واضح أنكم ما صدقتوا تتفقوا عليا، إيه رأيكم أنتم الأتنين هتنوروا المطبخ النهاردة غسيل مواعين وترويق"
اقترب مصعب وهمس إلي ياسين مازحاً:
"قولها حاضر، دي عندها طقم سكاكين وسواطير جوة في المطبخ، تعمل مننا أنا وأنت بفتيك"
نهض الأخر وقال:
"أنا مضطر أمشي أصلهم بعتولي رسالة عايزينك حالاً"
عقبت مالك بمزاح أيضاً:
"علي فين يا هدهد الجناين، أقعد ده العزومة معمولة ليك مخصوص"
نظر شقيقها إلي مصعب برعب مضحك:
"هي قالت العزومة معمولة ليا و لا عليا؟"
رفع مصعب كتفيه وزمت شفتيه ثم أجاب بنبرة فكاهية:
"أنت وحظك"
"لاء أنا هنفد بجلدي أحسن، العمر مش بعزقة"
دفعته ملك من كتفه وهي تضحك:
"أقعد ما تخافش"
انتبهت إلي ابنتها تركض نحوها تحمل هاتف والدتها:
"مامي، مامي رو...
"اه دي كارين، شكلها عايزيني في حاجة"
قاطعتها ملك وهي تحدق إليها بتحذير، ثم أردفت:
"روحي ألعبي مع أختك وبنت خالك عقبال ما خلص الأكل"
فعلت ابنتها ما أُمرت به، بينما ملك قالت إلي شقيقها:
"أنا رايحة أطفي علي الأكل وأغرف"
قالتها ولم تنتظر أن يقول شقيقها كلمة، ذهبت إلي المطبخ وقامت بمهاتفة صديقتها:
"ألو يا رودي أنتي فين؟"
"ما هي دي أخرة اللي يمشي ورا الـ GPS وخصوصاً في مصر، بقالي ساعة بلف بالعربية عشان أوصل للـ location اللي أنتي بعتهولي وكأني بلف في صحرا ملهاش نهاية"
"خلاص أبعتي لي مكانك وهخلي مصعب يجي يروحلك"
"خلاص أنا تقريباً وصلت، دقيقتين وهاكون عندك، يلا سلام"
خرجت من المطبخ وأشارت إلي زوجها ليأتي إليها، نهض بعد أن أستأذن من ياسين، وعندما ولج برفقتها داخل المطبخ سألها:
"هي وصلت؟"
"دقيقة وهتلاقيها هنا، المهم عايزاك تمهد له الموضوع وتفهمه إن راحته وراحة ياسمينا هيلاقيها مع رودي وإنها كمان بتحبه من زمان"
"ما ينفعش أقوله إنها بتحبك من زمان عشان ما يفتكرش إن بستعطفه، هو بالتأكيد حاسس أنا هلفت نظره بطريقة غير مباشرة وبعد ما نتغدي، نسيبهم يقعدوا مع بعض في الجنينة"
صدح رنين الجرس فقالت ملك:
"أوك، أنا هاروح أفتح لها"
ذهبت وقامت باستقبال صديقتها، فكانت رودي تحمل حقيبة هدايا فاخرة:
"حمدالله علي السلامة"
تصافحا ثم تعانقا وقالت رودينا:
"الله يسلمك، إيه يا بنتي قاعدين في أخر الدنيا!"
"معلش بقي كانت مفاجأة ليا، وإيه اللي جايباه ده، هو فيه ما بينا جو الهدايا، إحنا أخوات"
قدمتها الأخري إليها قائلة:
"دي بمناسبة الفيلا الجديدة، ربنا يبارك لكم فيها وتملوها أخوات لمليكة ونور"
عقبت ملك:
"يارب، تعالي بقي عشان تسلمي"
أمسكتها من يدها فتوقفت صديقتها وسألتها:
"إيه ده أنتم عندكم ضيوف؟"
نظرت إليها بابتسامة ماكرة وأخبرتها:
"هو مش ضيف ده حبيب ولقلبك قريب"
فطنت الأخري هوية الضيف، ضربت حمرة الخجل وجنتيها فقالت:
"أنتي بتهزري، ليه ما تقوليليش إنك عازمة ياسين، أهو أول ما يشوفني يفتكر إنك قولتيلي إنه عندك وأنا ما صدقت وجيتلك"
"إيه الأوڤر ده يا رودي، ياسين ما بيفكرش في كدة، أنتي وهو محدش فيكم يعرف إن عزمة التاني، بصراحة حبيت أجمعكم وأخليكم تقعدوا تتكلموا مع بعض"
"مش أنا قايلة لك أخر مرة إن أنا خلاص صرفت نظر وخصوصاً بعد ما لمح لي إنه عايش علي ذكري مراته وما يقدرش يخونها حتي لو هي ميتة"
"سيبك منه هو بس عايز يبينلك إنه مخلص، أنتي بس أقعدي معاه وأتكلموا مع بعض، أنتي إخصائية نفسية وتقدري تفتحي قلبه وتخليه يفضفض لك، هو أنا اللي هقولك تعملي إيه"
"ماشي يا ملك، بس لو أحرجني والله ما هجيلك تاني ولو عايزة تشوفيني نبقي نتقابل في أي مطعم أو نادي"
"أطمني، أخويا أنا حفظاه كويس، هو محتاج دفعة وتشجيع ومش بعيد يقولك تتجوزيني وإحنا قاعدين"
༺※※※༻
يجلس الجميع حول المائدة وياسمين تجلس بجوار رودينا التي تطعمها قطعة الدجاج في فمها، لاحظت أن ياسين يقتنص كل فرصة غير منتبهة وينظر إليها.
مالت نحوه شقيقته وهمست إليه:
"بذمتك هتلاقي حد حنين علي ياسمين زي رودي؟!، ما بالك بقي هتبقي معاك إيه، هاتشوف دلع وحنية عمرك ما عشتهم قبل كدة"
حدق إليها بامتعاض وضيق فأخبرها بتحذير:
"ملك، ياريت بلاش تلميحات سخيفة عشان ما أزعلش منك"
شهقت بصدمة عندما أدركت ما قد تفهمه شقيقها فقالت:
"أنت اللي فاهم غلط، الموضوع و ما فيه عايزة مصلحتك مع اللي بتحبك، أنا عمري ما أسيئ لياسمين الله يرحمها وأفتكر أخر خناقة كانت ما بينكم أنا وقفت معاها ضدك، لكن دلوقتي هي في مكان أحسن وهتبقي فرحانة لما تلاقي بنتها وأنت مبسوطين"
لم يكن يريد الجدال فحسم أمره وسألها:
"من الأخر أنتي عايزاني أقعد معاها و نتكلم مع بعض ونعرف بعض أكتر وأجي بعدها بيومين أطلب إيدها، صح؟"
"مش بالسرعة دي، علي الأقل أعملوا فترة خطوبة تعرفوا وتتعودوا علي طباع بعض"
"تمام يا ملك، هاعمل اللي نفسكم فيه أنتي وأخواتك بس أنا راجل معنديش وقت للخطوبة والجو ده"
داهم قلبها القلق فسألته:
"أومال ناوي تعمل إيه؟"
بشبه ابتسامة ساخرة أجاب:
"أبقي أسألي صاحبتك وهي هتقولك"
تناول محرمة ورقية ومسح فمه ثم نهض قائلاً:
"الحمدلله، سفرة دايمة"
أشار مصعب إليه نحو صحنه الممتلئ:
"إيه ده يا ياسين، ده طبقك يعتبر زي ما هو، أقعد كمل أكلك"
تلاقت عينيه بعينين رودينا والتي تصنعت إنشغالها بللعب مع ابنته
"لاء أكلت الحمدلله، مش محتاج عزومة أنا في بيت أخويا"
فقالت ملك وبداخلها تدعو الله أن يمر اليوم علي خير ولا يرتكب شقيقها أي موقف أحمق:
"خلاص روح أغسل إيديك، وروح أقعد في الجنينة برة"
أنتهي الجميع من تناول الطعام وذهبت الصغيرات يلعبن لدي الأرجوحة و علي بُعد أمتار يجلس كلا من مصعب وملك و رودينا وياسين
"مصعب بقولك صحيح، قصى أتصل عليك وأنت كنت بتغسل إيديك من شوية"
صدق حديثها ونهض قائلاً:
"و مقولتيش ليه من وقتها، بالتأكيد عايزني عايزني في حاجة مهمة، عن إذنكم"
ذهب فنهضت وقالت:
"و أنا هاروح أحضر المولتن كيك بسرعة عشان ياسمينا بتحبها"
رمقتها رودينا بتحذير حتي لا تتركها بمفردها، لكن الأخري قد ذهبت سريعاً
ساد الصمت للحظات حتي بادر ياسين في التحدث
"إيه أخبار دراستك وشغلك؟"
أجابت ببراءة وابتسامة جعلتها كالملاك:
"الحمدلله كل حاجة تمام، وبإذن الله هبدأ شغل من بكرة وفي نفس الوقت شغلي هيبقي مع حالة هاتبقي رسالة الدكتوراة"
"ربنا يوفقك"
"mercie"
قلبها ينبض بقوة، فنظراته تخترقها وهي جالسة أمامه، عينيه تحكي الكثير من الأسئلة، تحمحمت ثم سألته لتهدأ من إيقاع تلك الأجواء المتوترة:
"و إيه أخبار الشغل معاك؟"
تناول علبة السجائر وكاد يأخذ سيجاراً فأوقفته:
"ممكن بلاش سجاير"
ترك العلبة فأردفت:
"معلش لو ضايقتك، بس أنا قولتلك بلاش عشان صحتك، و غلط عشان صحة ياسمينا"
ظهرت علي وجهه ابتسامة دبت القلق بداخلها
"ما تقلقيش أنا بشرب واحدة أو أتنين في اليوم وبرة البيت"
"واحدة أو خمسة، الضرر واحد"
باغتها بسؤال جعل القشعريرة تسري علي طول عمودها الفقري:
"خايفة عليا؟"
أجابت بذكاء:
"أنا كنت عضو نشط في مبادرة مكافحة المخدرات والإدمان، و عارفة مدي ضرر السجاير علي صحة الإنسان إزاي سواء التدخين الإيجابي أو السلبي"
ابتسم مرة أخري بعد أن أدرك مراوغتها في الإجابة، فحاصرها بين حصونه من جديد وأخبرها:
"خلاص، هابطلها عشانك"
اعتلت الدهشة ملامحها، وألجمت الصدمة لسانها لاسيما عندما ظل ينظر إليها في ترقب فألقي عليها دون أي مقدمات:
"تتجوزيني يا رودينا؟"
༺※※※༻
وصل للتو من الخارج يحمل حقيبة في يده، يتغني بصوت خافت والبسمة تعلو شفتيه، وجد والدته تجلس أمام التلفاز تشاهد فيلماً عربياً قديماً.
ألقي عليها التحية:
"بونسوار شيري"
سألته دون أن تحيد عينيها عن الشاشة:
"كنت فين؟"
جلس علي أقرب مقعد مخملي وأجاب:
"روحت الشركة أتابع شوية شغل هناك وعديت علي المحامي"
أمسكت جهاز التحكم وقامت بكتم الصوت ثم ألتفت إليه باهتمام وسألته:
"و قالك عمل إيه في موضوع الوصاية علي حمزة؟"
لا يريد أن يخبرها هذا الأمر ليتجنب ثورة غضب والدته فقال:
"لسه هايعرف بعد يومين"
لم تصدق أكذوبته لذا رمقته بنظرة غامضة وقالت:
"يومين و لا حتي شهرين، كله هيبان"
نهض قائلاً:
"أنا طالع أطمن علي حمزة حضرتك عايزة حاجة؟"
ابتسمت بتهكم وسألته:
"حمزة برضو و لا علا؟، عموماً هما مش فوق"
انتصب جسده فجأة وسألها غاضباً:
"راحوا فين؟"
ضغطت علي زر تشغيل الصوت لتتابع المشاهدة، فأجابت غير مهتمة لسبر أغواره:
"مش أنت اللي أديت أوامر للشغالين يسيبوها علي راحتها؟!، أنا كنت نايمة وصحيت لاقيت الشغالة بتقولي إنها خدت الولد وخرجت وبلغتها تقولنا إنها راحت للدكتور اللي متابع حالة حمزة"
أخرج هاتفه من جيب بنطاله وقام بالإتصال علي الفور، لم يتلق إجابة بل وكانت تغلق، تذكر عنوان الطبيب حيث قام بإيصالهم إلي هناك قبل ذلك وأنتظر في الأسفل ريثما أنتهت جلسة ابن شقيقه.
و أمام المركز تقف تنتظر سيارة الأجرة التي قامت بطلبها عبر التطبيق الشهير لخدمة التوصيل.
"مدام علا؟"
ألتفت إليه وسألته:
"فيه حاجة يا دكتور أسامة؟"
اقترب منها ووقف يربت علي خصلات شعر صغيرها قائلاً:
"ممكن نروح مكان قريب من هنا نتكلم فيه؟"
أجابت بتوتر:
"بصراحة ما ينفعش، بس ممكن أفهم ليه؟"
"أنا عارف إن طلبي سخيف، بس كنت عايز حضرتك في موضوع شخصي وما ينفعش نتكلم في الشارع، رجاءً تتفضلوا معايا وأوعدك مش هتتأخري"
عقبت بإصرار:
"أنا بعتذر منك، لأن مش هقدر ألبي دعوتك و ده عشان....
"متجوزة، مدام علا تبقي مراتي، و أي كلام يبقي معايا أنا يا دكتور، فاهم و لا أفهمك؟"
مقاطعته لحديثها وتدخله المفاجئ دب الرعب في أوصالها، رأت الشر في عينيه وهو يقوم بتحذير الطبيب.
ألتفت إليها وحدق إليها بنظرة قاتلة قائلاً بأمر صارم:
"قدامي علي العربية"
تخشي الإعتراض أو التلفظ بحرف، فمن الغباء مواجهة وحش في أوج غضبه، صعدت إلي داخل السيارة وجلس صغيرها في الخلف، ألتزمت الصمت حتي توقف أمام باب الفيلا ترجل أولاً ليفتح الباب إلي الصغير وقام بمناداة إحدي الخادمات فتقدمت نحوه
"أمرك يا أحمد بيه"
"خدي حمزة و غيري له وأكليه وخليكي لحد ما ينام"
نزلت علا من السيارة وقلبها كاد يتوقف وهي تخمن ما يحدث
"أنا طالعة مع ابنـ...
قبض علي ذراعها ومازال يحدق إليها بتلك النظرة المرعبة:
"اللي أقول عليه هو اللي يتنفذ، وأنتي شكلك لسه ماتعرفيش مين هو أحمد الشريف، قدامي "
أنهي حديثه ودفعها أمامه بقسوة ليريها الوجه الآخر له...