رواية الفتاة التى حلمت ان تكون ذئبه الفصل السابع و العشرون بقلم اسماعيل موسى
ارتفع الظلام في أرجاء الكهف كأنه كائن حي، يتلوى ويتحرك، يضيق المساحة حولهم شيئًا فشيئًا.
تراجع الجميع، وأيديهم تمسك بالأسلحة، لكن لم يكن هناك شيء يمكن توجيه الضربة إليه.
الكائن لم يكن مجرد جسد، بل كان جزءًا من العتمة نفسها، كأن الكهف يلفظ روحه الغاضبة أمامهم.
"أنتم… لستم… مرحبًا بكم هنا."
كان الصوت أشبه بصدى يتردد بين الصخور، يزرع قشعريرة بطيئة في العظام. لم يكن مجرد تهديد، بل كان تحذيرًا محملًا بشيء أعمق—كره خالص، لا يحتمل وجودهم.
ثم، بدون إنذار، تحرك.
لم يكن له خطوات، لم يكن هناك صوت يدل على اقترابه، لكنه كان فجأة أمامهم، كأن المسافة لم تكن تعني له شيئًا. امتدت يد—أو ما يشبه اليد—نحو ليلى، بسرعة غير طبيعية.
تراجعت، لكن شيئًا ما شدّها من الداخل، كأن الهواء من حولها تجمد فجأة، وكأن روحها نفسها أصبحت ثقيلة. شعرت بجسدها يتباطأ، كأنها تُجر إلى أعماق بئر لا قاع له.
"ليلى!" صرخت ماجي وهي تحاول التقدم، لكن رعد كان أسرع.
اندفع، مخالب يده تنغرس في الفراغ الذي يشكّل هذا الكائن، لكن الضربة لم تصب شيئًا ملموسًا. مرت من خلاله كأنه دخان، ولم يبدُ أنه تأثر أبدًا.
بدلًا من ذلك، التفت إليه المخلوق، وعيناه المشعتان اتسعتا كأنهما بوابتان إلى عالم آخر.
"أنتم… تفسدون التوازن."
لم يكن في صوته غضب، بل يقين هادئ يجعل التهديد أكثر رعبًا.
شعرت ليلى بأن قبضته غير المرئية تزداد إحكامًا، أنفاسها أصبحت ثقيلة، ورأسها يدور. لم تكن تفهم كيف يحاصرها، لكن جزءًا منها كان يعرف أنه إذا لم تتحرر الآن… فلن تتحرر أبدًا.
ضغطت أصابعها حول العظمة الصغيرة التي أعطتها الساحرة. حرارة غريبة سرت في راحة يدها، كأنها نبض بطيء يأتي من شيء حي.
تذكرت كلمات الساحرة: "عندما تجدين التاكي… سيقودك إلى طريق لا يعود منه أحد بسهولة."
لم تكن تفهم وقتها، لكنها الآن فهمت.
أغمضت عينيها، وتركت العظمة تسقط من يدها إلى الأرض.
لحظة صمت… ثم اهتز الكهف.
تقلّص المخلوق للحظة، كأن شيئًا دفعه للوراء، وعيناه انطفأتا للحظة واحدة، لكنها كانت كافية. الهواء عاد للحركة، والقبضة التي شعرت بها حول جسدها اختفت.
رعد لم يفوت الفرصة. هجم بكل سرعته، وبقية المجموعة تحركت معه. السيوف، المخالب، حتى الحجارة التي ألقتها جود—كلها اخترقت الظلام الذي يشكّل هذا الكائن. لم يصرخ، لم يصدر صوت ألم، لكنه تراجع… ثم تلاشى، كأن شيئًا ما استدعاه بعيدًا عنهم.
عاد الكهف إلى صمته الأول، لكن الصمت لم يكن مطمئنًا.
التفتت ليلى إلى العظمة على الأرض، كانت تتحرك ببطء، كأنها تتحرك وفق نمط غير مرئي، ثم توقفت فجأة، مشيرة باتجاه نفق ضيق في الجدار الصخري.
"هذا هو الطريق." همست ليلى، وعيناها لا تفارقان الممر المظلم.
رعد أخذ نفسًا عميقًا، ثم قال: "إذن، فلنبدأ."
وبدون تردد، دخلوا النفق، تاركين وراءهم الكهف… وظله الذي لم يختفِ تمامًا.
عندما خرجوا من النفق، كان العالم مختلفًا.
لم يكن الظلام الذي ألفوه في الكهف، ولا الغابة التي عبروها للوصول إلى هنا. بل كانت مدينة… مدينة لم تنتمِ إلى عالم البشر.
امتدت المباني أمامهم، ليست كأي عمارة عرفوها من قبل—لم تكن حجارة ملساء ولا طوبًا، بل هياكل متشابكة كأنها نمت من الأرض نفسها. الأبراج كانت ملتفة كجذوع الأشجار العملاقة، والجدران تلتمع تحت ضوء غريب لا يصدر عن الشمس، بل عن الأحجار المتوهجة المدمجة في الأسقف والنوافذ.
في السماء، حلق مخلوقات لم يروها من قبل—أجنحة ضخمة كأجنحة الحشرات، لكنها شفافة، تعكس الضوء بألوان قوس قزح، وأجساد نحيلة تتحرك برشاقة غير بشرية.
"هذه… أرض الجان." همست جود، وكأنها تخشى أن يسمعها المكان نفسه.
في الشوارع، كان الاحتفال في ذروته. أصوات الغناء تتردد بين الأزقة، وآلات موسيقية غريبة تصدر أنغامًا لم يسمعوا مثلها من قبل. كان هناك موكب يتحرك وسط الشارع الرئيسي، وعلى جوانبه، اصطف الجان بأشكالهم المدهشة—بعضهم يشبه البشر إلى حد كبير، لكن بلمسات غريبة: عيون ذهبية أو سوداء بالكامل، بشرة بلون النحاس أو الفضة، شعر يتغير لونه كلما تحركوا.
لكن البعض الآخر لم يكن بشريًا على الإطلاق.
رأت ليلى جنّيين طويلين، أجسادهما نحيلة كأن الرياح تستطيع حملهما، وجلدهم أملس بلون الزبرجد. آخرون كانوا يملكون قرونًا منحنية تلتف حول رؤوسهم مثل التيجان، وأجنحة رقيقة ترفرف خلف ظهورهم.
كانت هناك مخلوقات صغيرة بأعين واسعة وآذان طويلة، تقفز بين الحشود، تعبث بأطراف ثياب الجان الكبار قبل أن تفر ضاحكة. وهناك أيضًا كائنات غامضة تلتف حول نفسها كأنها أجزاء من الظلال، تتحرك دون أن تلامس الأرض.
في وسط الموكب، كانت العربة الملكية. لم تكن مصنوعة من الخشب أو المعدن، بل من مادة شفافة تشبه الكريستال، تعكس الألوان حولها كأنها مصنوعة من الضوء نفسه. وعلى العرش داخلها، جلست الأميرة الجديدة.
وجهها كان جميلاً بطريقة تكاد تكون غير مريحة—عيونها بلون العنبر، وبشرتها تشبه اللؤلؤ، وشعرها الطويل الأسود بدا كأنه امتداد للّيل. كانت ترتدي تاجًا نحيفًا من فروع ملتفة، ينبض بوهج أزرق باهت.
مرّ الموكب بجانبهم، وعندما اقتربت العربة، توقفت لوهلة قصيرة، والتقت عينا الملكة بعيني رعد.
كان في نظرتها شيء ثقيل، شيء لا يمكن تجاهله. لم يكن مجرد فضول ملكة تراقب الغرباء بل شيء أعمق
رعد لم يبتعد بنظره، لم يكن من النوع الذي يخفض رأسه أمام أحد، حتى لو كانت ملكة الجان نفسها،احتدت نظراتهما، كأنهما في صراع صامت، اختبار غير منطوق
قبل أن يصرخ غول حارس من الجان انت اخفض رأسك امام الملكه !!
وقبل ان يعترض رعد ضغطت يد عملاقه فوق جسده اجبرته على الانحناء
كاد رعد ان يقاوم لكن ليلى حذرته التطلع لوجوة ملكات الجان عقابه الموت يا رعد، دع الأمور تمضى إلى حال سبيلها
ثم، بعد لحظة بدت وكأن الزمن توقف فيها، ابتسمت الملكة.
ابتسامة صغيرة، لكنها حملت وعدًا بشيء ما—شيء لم يكن واضحًا بعد، لكنه كان قادمًا.
ثم تحرك الموكب مجددًا، تاركًا خلفه احتفالات الجان، وصدى تلك النظرة التي لم يكن من السهل نسيانها.
لكن الغول لم يترك رعد فى حاله
بعد مرور موكب الملكه امر حراسه ان يحضرو البشر فى الشوارع لقصر الملكه ليقومو بخدمة أمراء وملوك مقاطعات الجان
كان قصر ملكة الجان مشيدًا من حجر أسود لامع، تزينه نقوش فضية متشابكة، كأنها تروي حكايات قديمة من عصور لم يعرفها البشر. عند دخول القاعة الكبرى، امتدت الطاولات تحت الثريات المتدلية، التي بدت كأنها مصنوعة من ضوء القمر المتحجر. كان المكان يعج بالجان، بمظاهرهم المختلفة—بعضهم نحيلون بأجنحة شفافة كأجنحة الحشرات، وآخرون بجلود خضراء أو قرون متشعبة، بينما وقف بعضهم بعيون سوداء كاملة، لا تعرف إن كانوا ينظرون إليك أم عبرك.
الطعام كان مشهدًا بحد ذاته. على الطاولات الطويلة، تراصت الأطباق بألوان زاهية؛ عنب بحجم التفاح، وتفاح بلون أزرق سماوي، وكعكات تتلألأ كما لو أنها مرصعة بالأحجار الكريمة. كان هناك أطباق من اللحم الوردي تُقطّع بسكاكين فضية، وأكواب من شراب ذهبي لا يعكس الضوء، بل يبتلعه.
في منتصف القاعة، رقص الجان، حركاتهم أشبه بالسحر، أقدامهم تكاد لا تمس الأرض. كانت الموسيقى غير مألوفة، أنغامها كأنها تُعزف من أوتار الهواء نفسه، تثير إحساسًا غريبًا بين الجمال والرهبة.
وعلى العرش المصنوع من خشب داكن، مغطى بنسيج يبدو كأنه حي، جلست الملكة. نظراتها لم تكن تنجرف مع الاحتفالات، بل كانت ثابتة، متيقظة،وكأنها، رغم كل هذا الصخب، كانت تراقب شيئًا—أو شخصًا ما.
في البداية، كان الجان يتحركون بانسيابية، دوائر تتداخل، خطوات متقنة، أصابعهم الطويلة تمتد كأنها تحيك سحرًا في الهواء. لكن سرعان ما تصاعد الإيقاع، ضربات الطبول باتت أعمق، حادة كأنها صدى قلب وحشي. صرخ أحدهم، ثم آخر، وفجأة، تحول الرقص إلى شيء بدائي، أشبه بطقوس قديمة، حيث الأقدام تضرب الأرض بجنون، والضحكات تملأ الأجواء كأنها ليست ضحكات بل صرخات مبتهجة.
كانت الخمر تسكب بلا توقف، ذهبية شفافة، تنساب في كؤوس نحيلة، تحملها أيدٍ بأصابع طويلة وأظافر معقوفة. بعض الجان شربوا بنهم، عيونهم تتوهج مع كل جرعة، والبعض الآخر كانوا يضحكون وهم يلقون بأنفسهم في الدوائر الراقصة، أجسادهم تتلوى كأنها خفيفة أكثر مما ينبغي.
وفي قلب كل هذا، كان رعد.
جسده القوي لم يكن مكسوًا بجلده المعتاد، بل كان يرتدي رداءً بسيطًا خاصًا بالخدم، يحمل صينية فوقها كؤوس تتعرق بندى الشراب المسحور. كان وجهه بلا تعبير، عيناه غير قلقَتَين، غير متحديتين—فقط خضوع تام. كانت التعويذة تحكمه هو ورفاقة جود وليلى وماجى
لكن حين رفع رأسه، دون وعي، دون قصد، التقت عيناه بعيني الملكة.
جلست على عرشها الفاخر، يحيط بها الجان الأقوياء، تاجها البراق يلقي ظلالًا على وجنتيها الحادتين. نظرت إليه كأنها تعرفه. كأنها، وسط كل هذا الجنون، لم ترَ سوى خادم صامت، واقف بطبق ممتلئ.
ثم... ابتسمت.
ابتسامة خفيفة، هادئة، تكاد تكون ناعمة. لكنها لم تكن ابتسامة عادية—كانت ابتسامة تعرف أكثر مما يجب، تخبئ شيئًا لا يستطيع أحد قراءته بسهولة.
ورعد، رغم السحر الذي كبح إرادته، شعر بشيء غريب يتحرك داخله.