رواية فوق جبال الهوان الفصل السابع والعشرون 27 بقلم منال سالم


 رواية فوق جبال الهوان الفصل السابع والعشرون

دمعة متأثرة نفرت من طرفها وهي تعيد فرز ثياب زوجها الراحل الموجودة في دولابه لاختيار الأفضل منها تمهيدًا للتصدق بها لإحدى الجمعيات الخيرية. طالت نظرات "عيشة" الحزينة على إحدى ستراته الداكنة، قربتها من أنفها لتشم رائحة بقايا عطره العالقة به، ثم أبعدتها عنه لتخاطب ابنتها البكرية بعفويةٍ:
-أبوكي كان بيحب الجاكيت ده أوي.
تطلعت إليها، وردت باسمة، وهي تحاول التغلب على شعور الألم الذي راح يحز في قلبها:
-كان ذوقه حلو وشيك.
تبسمت والدتها هي الأخرى، وأضافت، كأنما تستعيد لمحات مشوقة من ماضيها مع شريك العمر:
-أيام ما كان لسه شباب البنات كانت حاطة عينيها عليه، منين ما يروح تلاقيهم وراه...
اتسعت ابتسامتها وامتزجت بدمعات لا تعرف إن كانت حزنًا عليه أم اشتياقًا له، لتردد في صوتٍ أقرب للشجن:
-لسانه حلو وكلامه يخش القلب على طول.
دنت "إيمان" منها، وضمتها من كتفيها قائلة بخفوتٍ:
-الله يرحمه ويحسن إليه.
سرعان ما كفكفت أمها دمعها المسال، وأخبرتها بعزمٍ حيث بدت نبرتها جادة إلى حدٍ ما:
-عايزين بكرة لما نزوره في تُربته، نبقى نفوت على شقتك، نرتبها وننضفها، فرصة وجوزك مش موجود.
أومأت برأسها معلقة:
-حاضر يا ماما، وهبقى أنادي على مرات البواب تساعدنا.
جاء تعقيبها معبرًا عن انزعاجها من اقتراحها:
-أنا مابحبش دخلة الغُرب عليكي، العين حق، وإنتي مش ناقصة، خلينا أنا وأختك نساعدك.
لم تجادلها كثيرًا، وردت في إذعانٍ:
-ماشي يا ماما اللي تشوفيه.
واظبت كلتاهما على العمل معًا لطي الثياب ورصها بشكلٍ منمق بداخل الحقيبة في وقتٍ وجيز.
................................
في تلك الأثناء، وقف أحدهم في منتصف الشارع تحديدًا، أمام البناية القديمة، منتصبًا بكتفيه، ويطوف بعينين حائرتين على الشرفات بشكلٍ متتابع، وكأنه يحاول تخمين مكان تواجد شيءٍ بعينه في هذه المنطقة. بدا على وجهه الرجولي الإصرار، اشتدت عضلاته، وتأهب للسير تجاه إحدى السيدات التي اكتشف أنها تتابعه باهتمامٍ وتطفل. 
وقف أمام شرفتها، وألقى عليها التحية:
-سلام عليكم.
جالت "إعتدال" بعينين فضوليتين على كل تفصيلة فيه، من رأسه لأخمص قدميه، كأنها تضعه تحت عدسة المجهر لفحصه. كان فاره الطول، عريض المنكبين، قمحي البشرة، لديه شارب وذقن نابتة، شعره رأسه قصير، يبدو للوهلة الأولى شخصًا رياضيًا يهتم بإبراز مدى انتفاخ عضلاته، أدركت أنها أطالت النظر إليه، فابتسمت بلزاجةٍ وهي ترد متسائلة:
-وعليكم السلام يا خويا، خير بتدور على حد؟
تساءل مباشرةً وهو يقطب جبينه:
-هو بيت الحاج "فهيم حجاب" فين؟
رفعت يدها للأعلى مجيبة إياه:
-العمارة دي، الدور الأخير.
هز رأسه متمتمًا:
-شكرًا.
همَّ بالتحرك نحو المدخل؛ لكنها استوقفته بسؤالها:
-إنت مين ياخويا متأخذنيش يعني؟ أصل احنا مش متعودين على حد غريب يجي يزور الجماعة وخصوصًا بعد وفاة عم "فهيم".
لم يستسغ طريقتها السمجة في افتراض الأمور، وقال وهو يلوي ثغره بتأففٍ:
-واحد قريبهم.
أسرع في خطاه، وتجاهلها عن عمدٍ، لتظل عيناها عليه حتى اختفى بالداخل، وذلك السؤال الحائر قد راح يتردد في رأسها:
-طب أعمل إيه؟ أقول للريس "زهير" ولا أطنش؟!!
حسمت أمرها في التو، وقالت وهي تبتسم بخبثٍ:
-خليني أعرفه أحسن، وأهي تبقى بجميلة عنده لما أتزنق في مصلحة.
أخرجت هاتفها المحمول من جيب صدرها، لتضعه على أذنها والحماس يملأها كعادتها حينما تقوم بمثل هذه الأمور المزعجة.
................................
بدا الأمر عسيرًا عليها وهي تتخلى عما يذكرها بزوجها، ومع ذلك أرادت أن تجعل غيره يستفيد بما امتلك في الدنيا، لعل صنيعها الطيب تجاهه يشفع له في الآخرة. أغلقت "عيشة" ضلفة الدولاب حينما سمعت قرع الجرس على الباب، لتقول وهي تشير إلى ابنتها:
-أنا هروح أفتح، تلاقيها "إعتدال"، ما إنتي عارفة ده ميعاد زيارتها الرزلة، كملي إنتي رص الهدوم في الشنطة.
اكتفت بهز رأسها بإيماءةٍ صغيرة وهي ترد:
-حاضر يا ماما.
مشت بتعجلٍ قليلًا لتتمكن من فتح الباب، لتتفاجأ بأحدهم يلقي عليها التحية وهو يبتسم بتهذيبٍ:
-سلام عليكم، إزيك يا مرات عمي؟
نظرت له بتحيرٍ، وهي تستشعر الحرج من جهلها بهويته، لتجده يسترسل في التوضيح لها من تلقاء نفسه:
-معقولة مش عارفاني، أنا "فارس حجاب"، ابن المرحوم "حجاب" أخو عمي "فهيم" الكبير الله يرحمه.
ما إن انتهى من الكلام حتى انفلتت منها شهقة سعيدة، وهتفت مرحبة به بوديةٍ وحرارة:
-"فارس"، ده إنت فعلًا، يا أهلًا وسهلًا بيك....
ثم حمحمت بشيءٍ من الخجل وهي تتم جملتها:
-أعذرني يا ابني إني معرفتكش في الأول.
قال في تفهمٍ، وهو يلصق بشفتيه ابتسامة لطيفة:
-ما أنا برضوه كنت غايب بقالي ياما.
تنحت للجانب لتفسح له بالمرور قائلة وهي تشير بيدها:
-تعالى اتفضل.
ولج إلى الداخل بعدما حمحم بخشونةٍ، كأنما ينبه من في البيت لوجوده، فيتخذوا حيطتهم، ليستطرد في جديةٍ:
-البقاء لله يا مرات عمي، أنا كنت عند عمتي وهي اللي قالتلي، فمكدبتش خبر وجيت على طول.
أشارت بيدها ليجلس على الأريكة وهي ترد:
-الدوام لله وحده...
أخرجت تنهيدة مهمومة من صدرها لتتابع:
-أهو ارتاح من الدنيا وهمها.
قال في تبجيلٍ:
-كل من عليها فان.
ليتساءل بعدها مهتمًا:
-وإنتو عاملين إيه؟ إزي بنات عمي؟ كله تمام معاكو؟
قالت بوجهٍ يشوبه القليل من الحزن:
-الحمدلله في نعمة.
أضاف "فارس" في ندمٍ:
-والله كان نفسي أشوف عمي الله يرحمه أوي، بس اللي مانعني الشديد القوي.
ظلت تومئ برأسها معلقة:
-أنا عارفة ومقدرة.
استمر يوضح موقفه:
-والله لسه خارج من السجن من كام يوم، يدوب قولت أفوت أسلم على الحبايب فعرفت باللي حصل، يا ريتني كنت برا، مكونتش سيبتكم لواحدكم في ظرف زي ده.
تنهدت قائلة بتعاطفٍ:
-هو كان بيحبك.
راح يقول هو الآخر، كأنما يشاركها إحياء ذكراه بالحديث عما اعتاد فعله قبل أن يلقى ربه:
-وكان بيزورني دايمًا، لولا إني طلبت منه معدتش يتعب نفسه ويجي.
خرج صوت "عيشة" معاتبًا بعض الشيء وهي تشير بسبابتها إليه:
-ما إنت برضوه يا "فارس" غاوي مشاكل ووجع قلب، وأمك الله يرحمها غلبت معاك، وإنت مكونتش بتسمع الكلام نهائي.
رد عليها مدافعًا عن طيشه آنذاك:
-مابعرفش أسيب حقي، ولا أرد حد استقصدني في حاجة.
أتى تعقيبها لائمًا:
-وحصل إيه بعدها؟ أديك وديت نفسك في داهية بسبب شقاوتك دي، وشبابك وعمرك ضاعوا في السجن.
في شيء من التفاخر رد:
-السجن للجدعــان يا مرات عمي.
مصمصت شفتيها هاتفة باحتجاجٍ:
-كلام خايب.
عمد إلى تغيير مجرى الحديث عنه، وقال مبتسمًا:
-سيبك مني دلوقت، المهم البنات اتجوزوا ولا لسه؟
أجابته، ولمحة من الحزن قد ملأت ناظريها:
-"إيمان" الحمدلله ربنا كرمها، ولسه "دليلة" هتتجوز على أول الشهر.
لم ينتبه لما أصاب قسماتها من تعبيرٍ واجم، وعلق بتلقائيةٍ:
-ياه البنات كبروا، السنين عدت أوام.
على مرمى بصرها ظهرت "إيمان" أمام والدتها لترميها بنظرة متسائلة في صمتٍ عن هوية الضيف، لتتفاجأ بها تناديها عاليًا:
-تعالي يا "إيمان"، مافيش حد غريب، ده "فارس" ابن عمك "حجاب".
استغرقها الأمر عدة لحظاتٍ لتتذكره، فقالت وهي تعقد طرفي حجابها المنزلي المطروح على رأسها معًا بيدها لئلا ينفلت منها قائلة بترحيبٍ ودود:
-معقولة، بقالي زمن ما شوفتكش.
نهض لتحيتها قائلًا في سرور:
-إزيك يا بنت عمي؟ أخبارك إيه؟
ابتسمت في رقة وهي ترد:
-بخير والحمدلله.
نهضت "عيشة" قائمة، وأشارت لابنتها بيدها هاتفة:
-خليكي مع ابن عمك عقبال ما أعملكم حاجة سخنة تشربها.
في لطافةٍ وألفة علق "فارس":
-أنا مش ضيف يا مرات عمي!
التفتت ناظرة إليه قائلة:
-ما أنا عارفة، وشوية ويكون الأكل خلص ناكل سوا.
ضحك بعفويةٍ وقال في تحمسٍ:
-إن كان كده ماشي.
....................................
نفخ، وزفر، ودمدم مع نفسه بسبــاب لاذع، لكونها لا تتوقف عن الاتصــال به، كان يعلم جيدًا أن وراء مكالماتها السقيمة مطلبًا بعينه، أو رغبة شخصية تطمح في تحقيقها، في مقابل إبلاغه بالمستجد من الأخبار، ولكون الأمور مستتبة هذه الأيام، بدا إلى حدٍ كبير واثقًا أن وراء اتصالها غرضًا يخصها، لذا تجاهلها على قدر المستطاع، إلا أن إلحاحها المتواصل دفعه للرد أخيرًا، فاستطرد في تبرمٍ:
-في إيه؟ كل ده زن!!!
اهتزت نبرتها وهي تخبره:
-أنا قولت بس يا ريسنا أعرفك بالجديد.
بلا صبرٍ صاح بها:
-انجزي.
في لؤمٍ مدروس أجابته لتثير فضوله:
-في واحد طول بعرض جه سأل على بيت عم "فهيم".
أصابت هدفها في مقــــتل، واسترعى الأمر انتباهه، حيث اشتدت قسمات وجهه متسائلًا:
-مين ده؟
أجابته على الفور، وبما يزيد من فضوله:
-بيقول إنه قريبهم، بس دي أول مرة أشوفه فيها نواحينا.
لم يرغب في إشعارها بأهمية مكالمتها، لئلا تتمادى معه،، فزعق فيها بغير صبرٍ:
-حكاية مش مستاهلة مليون اتصال.
ردت مبررة تصرفها:
-أنا بعمل اللي عليا يا كبيرنا، ده إنت أفضالك علينا كلنا، وآ...
لم يمهلها الفرصة للثرثرة الفارغة، فقطع المكالمة معها دون أن يقول شيئًا، ليبقى على حيرته سائلًا نفسه:
-يا ترى مين ده؟!
انتشله من سرحانه الذي غاص فيه صياح شقيقه:
-قدامك كتير يا "زهير"؟
قال وهو يعيد وضع الهاتف في جيبه:
-أنا خلصت.
طوح بيده في الهواء قائلًا بهمةٍ ونشاط:
-طب يالا، ورانا طالعة!
قال باسمًا:
-وأنا جاهز.
....................................
لجأت مؤخرًا لاستخدام الأقراص المنومة لتتمكن من النوم، بعدما تعذر عليها ذلك بصورة طبيعية، حيث أرهقها التفكير الشديد في محاولة إجبار عقلها على استعادة الجزء المفقود من ذاكرتها؛ لكنها رغم هذا كانت تغرق في سلسلة من الأحلام المزعجة والكوابيس غير المفهومة، هذه المرة شعرت "دليلة" خلال استغراقها في النوم وكأنها مطاردة من قِبل مجهول مخيف، أحدٌ لا تظهر ملامحه، يبدو أقرب للظل، وهي تجاهد للركض بعيدًا عنه، لئلا يقبض عليها، أحست بثقل أنفاسها، بعدم قدرتها على الهروب، بأن خطواتها تثقل كلما حاولت التقدم للأمام، ليتبدل المشهد لوالدها وهو يبكي بقهرٍ وعجز، تردد في فضاءات عقلها صوته الحزين حينما خاطبها:
-سامحيني يا بنتي.
لتتطلع إليه بتحيرٍ وعدم فهم، قبل أن يغدو المشهد مغايرًا تمامًا، تقف قبالته، ونظرتها مصوبة نحوه فقط، فتجده يرفع يده عاليًا ليصفعها بقســاوةٍ غير معهودة منه على وجنتها، ليتبع ذلك توبيخًا لاذعًا منه، قبل أن يزداد شعورها بالاختناق، وتستحوذ عليها رغبة عارمة في الصراخ والبكاء. 
...................................
أعطاه أحد العاملين بمكتبته صندوقًا كرتونيًا وضعت فيه بعض المتعلقات الشخصية لزميلهم الكبير الراحل بعدما تم تفريغ خزانته، ليظل يتطلع إليه مليًا حتى انتبه إلى مجيء والده الذي بادر بسؤاله مستفهمًا: 
-إيه دول يا "عادل"؟
أجابه بعد تنهيدة سريعة وهو يزيح الصندوق ناحية حافة مكتبه، لئلا تشغل حيزًا كبيرًا من سطحه:
-حاجة عم "فهيم" الله يرحمه.
رد "رجائي" بعبوسٍ:
-الله يرحمه.
تابع ابنه قائلًا:
-أنا محتار نعمل فيهم إيه.
نصحه الأخير حاسمًا الأمر بشكلٍ سريع وفعال:
-بيتهيألي نوديهم لأهله، وهما أحرار يرموها أو يخلوها عندهم.
استحسن اقتراحه مرددًا:
-معاك حق يا بابا، نخلص شغلنا ونبقى نفوت عليهم، وبالمرة نعزي جماعته.
وكأنه فعل شيئًا يدفعه للشعور بالخزي من نفسه، فقال "رجائي" في أسفٍ:
-الواحد وشه منهم للأرض، محضرتش لا العزا ولا الدفنة.
برر له "عادل" ببساطةٍ:
-ما احنا كنا مسافرين لما ده حصل، مكانش في إيدنا حاجة نعملها.
حرر والده زفرة كبيرة من رئتيه، وأضاف:
-عمومًا هي ملحوئة، الراجل كان شايل الشغل هنا، رغم إن مكانش بقاله كتير معانا.
رد عليه وهو يشبك كفي يده معًا:
-ما بيفضلش من الواحد غير السيرة الطيبة، ربنا يحسن ختامنا جميعًا.
فيما يشبه الوعد، تحدث "رجائي" بجديةٍ:
-المرة الجاية لو ربنا كتبلي زيارة بيته الحـــرام، هبقى أعمله عمرة.
مجددًا استحسن قراره ودعمه:
-إن شاء الله يا بابا.
........................................
كم افتقد لمذاق حلواها الشهية! فقد اعتاد على تناول ما كانت تعده باشتهاءٍ وهو طفل صغير، ليصبح أكثر تلهفًا على زيارة بيت عمه كلما سنحت له الفرصة لفعل ذلك، إلا أن شقاوته، ورعونته حرمته من الكثير من متع الدنيا البسيطة، فبات أكثر تقديرًا لما يُعيد إليه لحظات الماضي الثمينة. انتهى "فارس" من شرب كوب الشاي، والتف متطلعًا إلى زوجة عمه يشكرها في امتنانٍ: 
-من يد ما نعدمها.
ردت قائلة بعد ضحكة سعيدة:
-طول عمرك مجامل ولسانك زي السكر، زي "فهيم" الله يرحمه.
قال وهو يخفض رأسه:
-الله يخليكي يا مرات عمي.
دون تحرجٍ سألته، كأنما تستعلم عن نواياه المستقبلية فيما يخص أحواله:
-وناوي على إيه يا ابني؟
أجابها بعد زفرة سريعة:
-أبويا الله يرحمه سايبلي اللي يكفيني، هحاول أشوفلي تجارة أظبط بيها حالي.
دعت له بصدقٍ:
-ربنا يكرمك بكل خير.
وزع نظراته بينها وبين "إيمان" متسائلًا في نبرة مهتمة:
-عملتوا إيه في مسألة المعاش بتاع عمي؟
غامت ملامح ابنتها بشكلٍ ملحوظ، وتولت الإجابة عن أمها قائلة:
-لسه إجراءات الحكومة بتاخد وقت.
لوح بيده في الهواء قائلًا في عزم:
-ما تشلوش هم حاجة، أنا موجود وخير ربنا كتير.
حينها ردت عليه "عيشة" مجاملة:
-تسلم وتعيش يا ابني.
توجه بعدها "فارس" بحديثه إلى ابنة عمه، فأردف:
-عايز أتعرف على جوزك يا "إيمان".
قالت متصنعة الابتسام المهذب:
-إن شاء الله تشوفه قريب، يرجع بس من مأمورية البنك وتتقابل معاه.
هز رأسه مرددًا:
-بإذن الله.
أضافت "عيشة" هي الأخرى:
-طبعًا إنت مش محتاج عزومة على فرح "دليلة".
استدار ناحيتها بوجهه ليخاطبها:
-أكيد طبعًا، بس المهم إنتو سألتوا كويس على اللي هيتجوزها؟
وقتئذ تبادلت "عيشة" مع ابنتها نظرات غريبة، غامضة، عكست ترددًا، وقلقًا، وريبة، لتقول بعد صمتٍ أعجب بشيءٍ من الضيق:
-الكدب خيبة يا ابني، احنا وقعنا ولا حدش سمى علينا.
انعقد حاجباه معًا، وهتف في استغرابٍ:
-مش فاهم!!!
قبل أن تمنحه الجواب، تنبه ثلاثتهم لصوت صرخة عالية آتية من الداخل، لتنتفض "إيمان" قائمة في فزعٍ، وصوت "فارس" يتساءل باندهاشٍ قلق:
-إيه الصويت ده؟!
على الفور أدركت ما يحدث لتقول بتلقائيةٍ شديدة:
-"دلــــيلة"!
لطمت "عيشة" على صدرها صائحة في جزعٍ:
-يا نصيبتي لأحسن يكون البت جرالها حاجة!
كان حائرًا بينهما، لا يدري ما الذي يجب عليه فعله، فتساءل وقد وقف مترددًا في مكانه، وعيناه تشيعان كلتاهما وهما تركضان للداخل على الفور:
-هو في إيه بالظبط؟
.........................
ظلت تئن، وتبكي، وتجز على أسنانها بقوةٍ في نومها، لتحاول "إيمان" جاهدة إفاقتها، إلا أنها فشلت، فاضطر "فارس" للتدخل، واعتذر قبل أن يبدأ في إجبارها على التيقظ، حيث استخدم الماء البارد في رش وجهها به، لتنتفض شاهقة، قبل أن تسكن تمامًا، وتواصل غفوتها وكأن شيئًا لم يكن. 
حملق فيها مدهوشًا للحظاتٍ، لم يتوقع رؤيتها على تلك الحالة المريضة، فأشفق عليها، كان آخر ما يذكره عنها حينما كانت لا تزال طفلة صغيرة، تركض وتختبئ خلف والدتها كلما رأته قادمًا نحوها، وكأنها تخشى أن يتطاول باليد عليها، فقد اعتاد أن يمازحها مزاحًا ثقيلًا، ينتهي ببكائها وركله في ساقه كنوعٍ من الانتقام منه، ليظل يضحك في استمتاعٍ ليزيد من إغاظتها واستفزازها. 
خرج ليجلس بمفرده في الصالة، وانتظر بأعصابٍ مشدودة عودة زوجة عمه إليه، هرع إليها متسائلًا بنبرة لهفة:
-نطلبلها دكتور ولا نعمل إيه يا مرات عمي؟
أجابته في هدوءٍ:
-دلوقت تبقى كويسة، هي بس من قهرتها وزعلها على أبوها حالها اتبدل.
ضرب كفه بالآخر مرددًا:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، كان نفسي أشوفها في ظروف أحسن.
لينتقل إلى سؤاله التالي المتعجب:
-بس صحيح هتتجوز إزاي وهي بالحالة دي؟ مش المفروض الفرح يتأجل شوية لحد ما تبقى أحسن؟!!!
أحنت رأسها على صدرها متمتمة في يأسٍ:
-يا ريت كان بإيدينا، بس احنا مش أد العريس ولا اللي معاه!
جاء تعليقه عليها ساخرًا إلى حدٍ كبير:
-ليه يعني؟ أهله هيعلقولكم حبل المشــــنقة؟!!!
تفاجأ بها تقول في جديةٍ شديدة تناقضت مع لغوه:
-وأكتر من كده كمان.
لحظتها فقط اشتدت عروقه، وأصبحت نظرته قاتمة، لتصير نبرته كذلك شديدة الجدية وهو يسألها مباشرةً:
-هي هتتجوز مين بالظبط .............................؟!!!

تعليقات



×