رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل السابع والعشرون 27 بقلم ولاء رفعت علي


 رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل السابع والعشرون


تظن الفراشة كل ما هو مضئ نور، تقترب دون حذر وتحوم، لا تعلم إن ذلك الضوء مجرد ألسنة لهب تتراقص لأنها وجدت ضالتها، تقترب الفراشة أكثر ويتعالي صوت معزوفة الموت في الخلفية. 

تنهض من جواره وتتثائب، تمسك بالمعطف الحريري وترتديه فوق المنامة القصيرة، تعقد حزام المأزر وكادت تذهب إلي الحمام فأوقفها اهتزاز هاتفها فوق الكمود، لاحظت إنه تنبيه لرسالة تذكير تحتوي علي تلك الكلمات التي قامت بتسجيلها سابقاً
«ميعاد الـ interview مع الـ Designers» 
قامت بوضع كفها علي جبهتها وتزفر بقوة فقالت: 
"إزاي كنت هانسي الموضوع دة؟!" 

"صاحية بدري وعمالة تكلمي نفسك ليه يا حبيبتي؟"
انتفضت بفزع عندما أتي صوت زوجها من خلف ظهرها، فألتفت إليه ترمقه بابتسامة: 
"النهاردة المفروض هعمل interview مع الـ Designers اللي هايشتغلوا في الشركة وأختار منهم المناسب" 

"يعني المفروض خلاص هتبدأي الشغل من النهاردة؟" 
كان سؤاله يبدو عادياً، لكن في عينيه الكثير من الكلمات أدركتها هي بالطبع، دنت منه ووضعت كفها الرقيق علي وجنته تلمس لحيته المشذبة: 
"عايزاك تعرف إن و لا شغلي و لا أي حاجة تانية في الدنيا تقدر تشغلني عنك، هاتفضل رقم واحد في حياتي" 

أمسك بكفها وقام بطبع قبلة في راحة يدها ثم أخبرها وعيناه تنضح بعشقه إليها: 
"سعادتك هي من سعادتي و أنا هافضل واقف جمبك وهادعمك، لكن عايزك قبل ما تفكري فيا أنا حتي، ولادنا قبل أي حاجة، إياكي تهملي فيهم في يوم من الأيام وتيجي عليهم عشان شغلك" 

أزاحت خصلات شعرها المبعثرة علي وجهها إلي الخلف، ملقية إياها علي ظهرها قائلة: 
"حبايب قلب مامي أهم من الشغل وأهم من أي حاجة في الدنيا" 

نهض بجذعه وجلس فجذبها بين ذراعيه: 
"و بابي يبقي إيه؟" 

ضغطت علي وجنته بإصبعيها السبابة والإبهام: 
"بابي يبقي دنيتي كلها" 

"طيب ياريت تكلمي بابي أول لما تخلصي النهاردة عشان يعدي عليكي و تروحو ليخت مامي نقضي الـ week end هناك" 
لمع بريق عينيه وكاد يُقبلها لكنه توقف حين طُرق الباب فسأل قصى الطارق: 
"مين؟"

و مَنْ غيرها هادمة الملذات التي تُبدد تلك اللحظات، تجيب بصوتها ذو النبرة التي لا تمت للطفولة بشئ: 
"أنا زوزو يا قيصو، أنت صاحي يا حبيبي؟" 

نظر إلي صبا بابتسامة استفزازية جعلتها نهضت من بين ذراعيه تعض علي شفتها السفلية غيظاً، وقفت أمامه ترمقه بحنق: 
"والله ما حد هيشلني غيرك أنت وبنتك" 

"بعد الشر عليكي يا حبيبتي" 
قال لها تلك الجملة بصدق لكن القهقهة التي تنبثق من بين كلماته جعلتها أكثر غيظاً، تناولت وسادة وألقتها في وجهه ثم ذهبت إلي الحمام، بينما هو نهض وأخذ مأزره ليرتديه ثم ذهب ليفتح الباب لصغيرته فوجدها تنتظر عاقدة ما بين حاجبيها بضيق وغضب: 
"كل ده بتفتح الباب؟" 

دنا منها وحملها قائلاً: 
"مش نقول صباح الخير لبابي الأول"  

ذهب الامتعاض من وجهها وحلت ابتسامة مشرقة مع تورد خديها المكتنزة: 
"Bonjour بابي" 

وأعطته قبلة علي خده فأجاب: 
"Bonjour علي روح وعقل وقلب بابي" 
وقام بتقبيل وجنتها، فأشارت إليه نحو خدها الأخر و بمكر تخبره: 
"و بوسة هنا كمان عشان الخدة دي متزعلش"

"بس كدة، خدي واحدة في الخد ده و الخد التاني"  
أخذ ينثر قبلاته الحانية علي خديها وهي تتعلق بيديها حول عنقه

"بحبك أوي يا بابي" 

"و أنا بموت فيكي أنتي وأخوكي يا حبيبة قلب بابي" 

عانقها بحنان زاخر وأخبرها: 
"يلا تعالي نغسل وشنا ونغير هدومنا عشان نفطر، أنا النهاردة أجازة وهقعد ألعب معاكي أنتي ومالك" 

و بفطنة تبهر بها والدها دائماً سألته: 
"و مامي مش هتلعب معانا؟"  

"مامي عندها شغل النهاردة وأنا هافضل معاكم لحد ما تخلص" 

"wow، yes, yes" 
غمرتها السعادة فجعلت الابتسامة علي ثغرها تصل من الأذن إلي الأذن الأخري، وهذا البريق اللامع في عينيها نتيجة ما يدور في عقلها من مخطط تتمني أن تنفذه، وها قد جاءت إليها الفرصة علي طبق من ذهب. 

                    ༺※※※༻
يقف أمام المرآة الطويلة يضبط ربطة العنق جيداً، وبخطوات معدودة أتجه نحو طاولة الزينة الرخامية، أخذ منها قارورة العطر الخاص به ثم قام بالضغط علي المكبس ونثره بغزارة محركاً يده بشكل دائري، وصلت الرائحة القوية إلي تلك النائمة أو بالأحري لنقل تحاول الغرق في النوم لكن تحركات زوجها منذ أن استيقظ جعلت النوم يغادرها وخاصة بعد أن سألها زوجها وهو يراها عبر المرآة تتململ و تتقلب يميناً ويساراً
"ديجا، أنتي مش رايحة الكلية النهاردة أوصلك في طريقي؟" 

وضعت ساعدها علي عينيها المغلقة وتجيب والقنوط جلي في نبرة صوتها: 
"مش رايحة النهاردة" 

استدار وذهب إليها فجلس بجوارها يسألها بإهتمام: 
"مالك يا حبيبتي، أنتي كويسة؟" 

ابعدت ذراعها ووضعته جانباً مزامنة مع فتح عينيها وعندما وجدته قريباً منها للغاية وينظر إليها، تهربت من التحديق إليه مباشرة فقالت: 
"اه بخير الحمدلله" 

أمسك بيدها وأخبرها بإصرار: 
"مادام مش عايزة تبصي لي يبقي فيه حاجة حصلت ومش عايزاني أعرفها، حد ضايقك في الكلية من زمايلك أو الدكاترة؟" 

ترددت أن تخبره لكن تريد أن تزيح ما يثور بداخلها وخاصة أن اليوم هو موعد محاضرة هذا الدكتور العلماني كما أدركت أفكاره، نهضت بجذعها وجلست في صمت، رفع آدم يدها إلي شفتيه وقام بتقبيلها قائلاً: 
"شاور لي بس علي اللي ضايقك وأنا هاتصرف معاه" 

تنهدت فأخبرته: 
"الموضوع مش مستاهل تدخل منك، و أنا الحمدلله كفيلة أرد علي أي حد من غير أي غلط" 

ابتسم وعقب وقال مازحاً: 
"أنتي هتقوليلي عليكي، ما أنا عارفك أستاذة و رئيسة قسم في فنون الرد و عندك قدرة إقناع و لا سقراط بجلالة قدره" 

رفعت إحدي حاجبيها تسأله: 
"أنت بتتريئ عليا؟" 

أخذ يضحك ثم أجاب: 
"أنا بضحك معاكي، ما تبقيش قفوشة كدة" 

قام بالضغط علي وجنتها بإصبعيه مداعباً إياها، بادلته الابتسامة وقررت أن تحكي له وتستشيره في هذا الأمر

"الموضوع و ما فيه إن فيه دكتور اسمه هاني....
أخذت تسرد له ما دار في المحاضرة بينها و بين هذا الدكتور ذو الأفكار التي تنفر منها لأنها تخالف ما جاء في دينها، كما أخبرته عن تأثير هذا الدكتور علي طلابه وخاصة « باسم» الذي يلحق دائماً بزميلتها «فجر» و الذي تبدل حاله من شاب ملتزم بأمور دينه إلي آخر ملحد وهذا منذ أن تقرب من المدعو دكتور هاني. 

"هو ده كل اللي حصل، والنهاردة المفروض ميعاد محاضرته و مش هقدر أسكت وهو عمال يبث لينا أفكاره المسمومة"

انتظرت رداً إيجابياً من زوجها يهدأ من روعها أو يخبرها بحل مناسب لكن حدث النقيض تماماً، ذلك بدي بوضوح الشمس عندما حدق بامتعاض سرعان تحول إلي وجوم فعقب علي ما أخبرته إياه: 
"بصي يا خديجة، لما طلبتي مني تكملي تعليمك كنت مرحب جداً وقولت أهو تسلي وقتك و منها تستفيدي وعشان لو حبيتي يبقي ليكي career خاص و سايبك براحتك لأن واثق في تفكيرك واختياراتك، بس لو موضوع كليتك ده هيجيب لنا المشاكل أصل ده افكاره عاملة إزاي و ده بقي كافر و الحوارات اللي مالهاش أي لازمة هقولك stop و ارجعي لحياتك العادية" 

تعقيبه لديها أقل وصف له -أحمق- بل إضافة إلي هذا ثورة من الحنق والغضب معاً ولدت لتوها بداخلها، ولأن الصبر من شيمها حاولت أن تهدأ بأخذ نفساً عميقاً و أطلقته رويداً رويداً، و عندما قامت بالرد خانها لسانها: 
"تصدق إن أنا غلطانة أصلاً عشان حكيتلك، أنت أخرك شغل الشركة و صفقات ومكسب، الدنيا بالنسبة لك بيزنس وبس، لكن إيه اللي بيحصل و القرف اللي بقينا وصلنا ليه من أشكال الدكتور ده وأمثاله مش مهم بالنسبة لك، هاتفضل تفكر بأنانية" 

كان يستمع والصدمة تعلو ملامح وجهه
"هو أنا عشان خايف عليكي و علي مصلحتك أبقي أناني؟!، و لا عايزاني أسقف لك وأقولك روحي أمسكي الدكتور وأقيمي عليه الحد عشان ترتاحي!" 

كان صوته مرتفعاً للغاية مما جعلها انتفضت من مضجعها وابتعدت عن مرماه قائلة: 
"أنا لا عايزاك تسقف لي و لا تطبلي، أنا كنت منتظرة تقولي رد أحسن من كدة" 

كان يضع يديه علي جانبي خصره و يجز علي أسنانه حتي لا يفلت لجام غضبه فأخبرها بحدة: 
"لاء أنا هقولك رد أحسن من اللي كنتي منتظراه، عايزة تروحي الكلية أو ما تروحيش براحتك لكن أقسم بالله يا خديجة لو حصلت مشكلة هقولك مفيش كليات و لا جامعات نهائي" 

اقتربت منه غير عابئة ودون خوف لتخبره بتحدي: 
"إيه رأيك بقي أنا هاروح و هاكمل و الحمدلله عمري ما كنت بتاعت مشاكل، و لو حصل أي أمر لا قدر الله هاعرف كويس أخد حقي بنفسي من غير ما ألجأ لك" 

أمسكها من رسغها بقوة وهدر من بين أسنانه: 
"ليه ما لكيش راجل يا هانم!" 

بدي علي وجهها الألم من قبضته وأنامله التي تضغط علي جلدها وتنغرز به، حرر رسغها علي الفور، ولي إليها ظهره وأطلق زفرة لعلها ينفث من خلالها غضبه، عادت أنفاسه بانتظام ثم استدار إليها وقال لها بهدوء: 
"أرجوكِ يا خديجة بطلي تطلعيني عن شعوري، أنتي عارفة كويس جداً أنا بحبك وعمري ما هقبل حد يبص أو يقولك كلمة تجرحك" 

انتبه إلي دمعة سقطت من بين أهداب عينها فاقترب منها وعانقها مقبلاً رأسها: 
"أنا آسف وحقك عليا، مكنتش أقصد أوجعك"

انسحبت من عناقه لها بهدوء قائلة: 
"خلاص يا آدم، اعتبر ما حصلش حاجة" 

"لاء مش خلاص، و مش ماشي غير لما أشوف ضحكتك و تقومي تغيري هدومك عشان ننزل نفطر و أخدك أوصلك، و لاناوية تهربي من ضريبة التوصيل؟"
غمز بعينه ماكراً، فتذكرت كلما يوصلها إلي الجامعة يقتنص منها قبلة قبل النزول من السيارة، ابتسمت رغماً عنها فهلل بسعادة: 
"أيوة بقي، هي دي أجمل ضحكة بصتبح بيها كل يوم" 
                    ༺※※※༻
تراقب سيارة والدتها وهي تغادر القصر عبر البوابة، و قد غمرتها السعادة مرة أخري لاسيما عندما عادت إلي داخل الغرفة، توقفت أمام باب الحمام لتنصت إلي صوت هدير الماء التي تنهمر علي والدها فتأكدت إنه مازال يستحم، ركضت سريعاً بقدميها الصغيرتين متجهة نحو غرفة الثياب. 

بينما داخل الحمام، أنتهي لتوه من الإستحمام فأغلق الصنبور وتناول المنشفة وقام بوضعها حول خصره، توقف أمام مرآة الحوض وأخذ ينظر إلي ملامح وجهه التي لا تعترف بسنوات عمره رغم تجاوزه الأربعة والأربعون عاماً ببضعة أشهر، فمازال هذا الرجل الوسيم ذو الملامح الرجولية، حافظ علي مظهر لحيته التي تعطيه وقاراً أكثر، تناول فرشاة الأسنان خاصته وأنبوب المعجون لكنه انتبه للتو إلي صوت موسيقي في الخارج، ترك ما بيده علي الرخام المحيط بالحوض وذهب ليري ما الأمر! 

فتح الباب فتفاجئ بمشهد جعله يتسمر من الصدمة وانتابته موجة من الضحك الهستيري، و لما لا و صغيرته ترقص في منتصف الغرفة علي موسيقي للرقص الشرقي تصدر من اللوح الألكتروني خاصتها، قد تركته علي الكمود بالأمس. 
مهلاً إنها ترتدي ثياب الرقص الخاصة بوالدتها، و تضع الحمرة علي شفتيها كما تركت خصلات شعرها المسترسل بحرية علي ظهرها وكتفيها. 

لم يكن قادراً علي تمالك نفسه أكثر من ذلك فأطلق ضحكاته و دوي صداها بين حوائط الغرفة، نوبة ضحك هستيرية جعلته يهبط علي ركبتيه، مما جعلها تتوقف فجأة عن الرقص وإغلاق الموسيقي ثم ألتفت إليه بوجه عبوس: 
"بقي كدة يا بابي، عمال تضحك عليا!!" 

عقدت ساعديها وأكملت: 
"زعلانة منك يا قيصو" 
قوست شفتيها بحزن فتوقف عن الضحك ونهض ثم أتجه نحوها، حملها وجلس علي الأريكة قائلاً: 
"مكنتش بضحك عليكي يا قلب بابي، أنا بس مكنتش مصدق المفاجأة، و بعدين إيه اللي أنتي لابساه ده، مش دي حاجات مامي؟" 

غرت فاها ونظرت ببلاهة زائفة ثم أخبرته بدلال طفولي وهي تتعلق بذراعيها حول عنقه لتتجاوز الإجابة علي سؤاله: 
"شوفتني وأنا برقص أحسن من مامي، أنا حبيبتك، هي سابتك لوحدك ومشيت راحت الشغل، أنا قاعدة معاك و هعملك أكل كمان و نتفرج علي الكارتون مع بعض وهخلي ناني زينات تعملنا فيشار و هوت شوكيلت" 

يعلم مدي تعلق ابنته به، و تعجب من أفعالها التي تتناقض مع كونها طفلة صغيرة ذات الخمس أعوام، فهي تتميز بذكاء وفطنة ورثتها من أبويها، لكنه لم يريد هذا التعلق يصير فيما بعد تعلقاً مرضياً، لذا رد بنبرة ينبع منها الحنان والحب: 
"حبيبتي يا زوزو و أنا كمان بحبك أوي، أنتي و مالك و مامي، أنتم التلاتة عندي أهم حاجة في حياتي، و مامي كمان بتحبك، مش هي لسه إمبارح كانت بتحكي لك حكاية وقبلها قعدت تلعب معاكي؟" 

فكت ذراعيها وأومأت إليه ثم نكست رأسها إلي أسفل، أمسكها من ذقنها وحدق إلي عينيها مبتسماً فسألها بإكتراث: 
"طيب أنتي ليه زعلانة دلوقت؟، أنا قولت حاجة ضايقتك؟" 

"أنا مش زعلانة، بس أنت بتحب مامي أكتر، بتنام جمبها و في أوضة لوحدكم و مش بتنام جمبي، تقعد تتكلم معاها كتير و أنا لاء" 

أخبرها بذكاء: 
"بحبها أكتر إزاي، مش أنا بجيبلك ألعاب وحلويات كتير، وباخدك نتفسح ساعات لوحدنا؟" 

"اه" 

"يبقي أنا بحبك أنتي أكتر" 

وضع يده علي رأسها يداعب خصلات شعرها
"قومي أقلعي هدوم مامي دي و أغسلي وشك عشان نروح نصحي مالك وننزل نفطر، و بعدها هنقعد نلعب مع بعض و نخلي داده زينات تعملنا فيشار و كيك وعصير" 

ابتسمت إليه ثم قامت بتقبيله علي وجنته فنزلت من علي فخذيه قائلة: 
"حاضر يا بابي" 
و غادرت راكضة إلي غرفتها لتفعل ما أمرها به والدها. 

و بالأسفل تجمع الأب وصغيريه في الحديقة يتناولون وجبة الفطور بمرح ثم أخذوا يلعبون ثلاثتهم في الأرجاء، فكان والدهما يلهو معهما مطلقاً روح الطفل التي لديه، يحمل ابنته فوق كتفيه ويلعب بالكرة مع نجله تارة، و تارة أخري يلعبون الغميضة والكثير من الألعاب المرحة. 

أدرك معني السعادة وهي وجوده و مشاركته ابنائه أوقات اللعب والمرح، كم كان أغلب الوقت غارقاً في عمله، لذا تعهد بينه وبين نفسه أن يكرس وقتاً من كل أسبوع خاصاً لصغاره فقط. 

                   ༺※※※༻
تتمدد علي مضجعها في غرفتها داخل منزل والدتها، وهناك ضوء منبعث من شاشة هاتفها يكشف عن ملامحها وهي تبتسم وتقرأ كلماته المرسلة إليها في الدردشة الخاصة بينهما عبر التطبيق الشهير، فكانت كالتالي: 
«أنا نازل رايح النادي، إيه رأيك أعدي عليكي وأخدك من تحت البيت؟» 

أخذت تضغط علي الحروف لكتابة تلك الكلمات: 
«ممكن تديني نص ساعة أكون جهزت، أصلي بصراحة لسه صاحية من نص ساعة حتي لسه نايمة علي السرير» 
وأختتمت رسالتها برمز تعبيري خجول

«يا بخت السرير، نايمة عليه أجمل بنت شافتها عينيا» 

شعرت بحرارة تغزو وجهها عندما قرأت الرسالة فأرسلت إليه
«بليز عمر، أنا ما بحبش الكلام ده حتي لو بالهزار، اللي ما بينا صداقة مش أكتر» 

«أنا ما أقصدش حاجة وبعتذر منك لو ضايقتك» 

أطلقت زفرة وقالت بصوت لا يسمعه أحد سواها: 
"إيه قلة الذوق اللي عملتها دي، بس هو بجد اللي أستفزني، خلاص هاصلحه من غير ما أحسسه بحاجة" 

فقامت بكتابة ما يلي
«عمر ممكن نروح مكان غير النادي، بصراحة أنا جعانة ونفسي أفطر في أي مطعم بيتزا أو برجر» 

أرسل رمز تعبيري مبتسماً و أعقب مرسلاً
«عيوني يا لوچي، اعتبريه حصل، قومي أنتي بس أجهزي وأنا هستناكي تحت» 

«ok» 

أغلقت شاشة الهاتف ونهضت، تفتح الخزانة تبحث في الثياب التي تركتها فيها من قبل، وقع اختيارها علي ثوب زهري بدون أكمام، ألقت به علي السرير وأتجهت إلي الحمام. 

وفي الخارج أمام التلفاز حيث يعرض مشهد من مسلسل تركي، تستجدي البطلة فيه البطل بأن لا يتركها، و أثناء هذا المشهد تجلس هي خلف المنضدة جالسة علي ركبتيها، تمسك ببطاقة بلاستيكية تشكل بها خطين رفيعين من المسحوق الأبيض المدمر، والذي أهدر حياة آلاف من الشباب وفي المقابل تعافي الكثير منه قبل فوات الآوان، بينما هي لاتريد التعافي فهذا يجعلها تعيش داخل بوتقة من الأوهام حيث يسبح بها خيالها داخل أجواء عائلية بينها وبين طليقها وابنتها.

صوت استنشاق تكرر مرة ثانية وتأوه بأريحية وهمية ورحلة جديدة من الأمنيات ظلت بداخلها لدقائق، تُزين شفتيها ابتسامة بلهاء، تلاشت بمغادرة ابنتها الغرفة ورأت والدتها في تلك الحالة المزرية، وعند وقوع بصرها علي الورقة النقدية الملفوفة علي شكل إسطوانة رفيعة و بطاقة بلاستيكية علي حافتها آثار مسحوق أبيض، فكثير رأت مثل تلك الأشياء في الأفلام والمسلسلات، و يكفي حالة الانتشاء التي بها والدتها تؤكد لها ظنونها، اقتربت ووقفت أمامها تصيح متسائلة:
"إيه ده يا مامي؟!، أنتي مدمنة كوك؟!"  

عادت أنجي من رحلتها علي صوت ابنتها وملامحها التي تجمع ما بين الصدمة والغضب معاً، أجابت بلا مبالاة وببرود: 
"أيوه، وأوعي من قدامي عايزة أتفرج علي المسلسل" 

ألتفت الأخري إلي التلفاز وذهبت نحو المقبس وضغطت علي الزر فأغلقت الشاشة، نهضت والدتها وصاحت بغضب: 
"إيه يا غبية اللي عملتيه ده؟!، شغلي البتاعة وغوري من وشي، كتك القرف طالعة زي أبوكي" 

اقتربت منها ابنتها وبغضب جم أجابت: 
"الحمدلله إن أنا طلعت زيه مش زيك، خاينة وكدابة وأخرتها شمامة" 

"أخرسي بنت قليلة الأدب" 
صاحت بها وهوت علي وجهها بصفعة قوية، أخبرتها ابنتها بصوت وشيك علي البكاء: 
"الوحيدة اللي حسيت بجد إنها مامي هي علياء، و بابي كان عنده حق لما حذرني منك" 
ألقت عليها تلك الكلمات وركضت مغادرة المنزل، أخذت الأخري تصرخ ولم تستطع التحرك من مكانها
"لوجي، لوجي" 

وكأن ما حولها يتحرك بجنون، وضغط دمائها يرتفع ويتدفق كأنه الماء المغلي داخل مرجل، تصيح بوعيد: 
"خليت بنتك تكرهني يا يوسف أنت والحرباية اللي متجوزها، و رحمة بابي لأنتقم منكم وهخلي حياتكم جحيم" 
أمسكت بمزهرية من الكريستال وقذفتها بكل قوتها علي الشاشة فتدمرت. 
                    ༺※※※༻
يشرب آخر رشفة من قدح القهوة عاقداً ما بين حاجبيه، شارداً في نقطة وهمية، فكانت زوجته تطعم صغيرها في فمه وانتبهت إلي حالة هذا الشارد فقالت له: 
"ما تقلقش علي لوجي، هما يومين وهاترجع، أنت عارفها كل ما أنت بتتخانق معاها أو بتشد عليها تسيب القصر وتروح لمامتها وترجع بعد يومين" 

شيعها بنظرة امتعاض: 
"يعني عاجبك يا علياء حالها اللي بيتقلب بعد كل مرة تيجي من عند مامتها؟" 

مسحت فم صغيرها و دنت منه قائلة: 
"عز حبيبي روح ألعب مع يوسف" 

أذعن ابنها لأمرها: 
"حاضر مامي" 
و بعد أن ذهب قالت لزوجها: 
"طبعاً مش عاجبني، بس أنا أكتر واحدة عارفة لوچي، و البنت في سن مراهقة محتاجة الإحتواء والإهتمام، و أنت للأسف يا يوسف معندكش صبر و لا طول بال لما بتتناقش معاها، حاول أكسبها وقرب منها ومتخليهاش خايفة منك و تبعد تروح لمامتها اللي الله أعلم بتقولها إيه بالظبط" 

أطلق زفرة ثم ترك القدح أمامه علي المائدة، نهض قائلاً: 
"أنا هاروح لها هناك و هاتكلم معاها" 

"بلاش تروح لها النهاردة، سيبها تقضي اليوم ده معاها و في نفس الوقت تهدي، و أنا بنفسي هاروح لها وأتكلم معاها وهاجيبها كمان معايا" 

رفع حاجبيه بتعجب وكأنهما قوسين يستعدا لقذف السهام: 
"هاتروحي في بيت أنجي اللي بتعتبرك عدوتها و هاتقعدي مع بنتها عشان تقنعيها ترجع معاكي؟!، ده لو حصل من غير أي مشاكل ليكي عندي هدية وهانخرج كمان في المكان اللي هتقولي عليه" 

نهضت علياء ثم عقدت ساعديها أمام صدرها وحدقت بتحدي إليه وبثقة أخبرته: 
"من غير هدية أو خروج، ربنا يعلم لوچي بالنسبة لي بنتي وزيها زي عزالدين في قلبي، كلها بكرة بإذن الله هاروحلها وهنرجع مع بعض" 

ألتف من خلف المائدة وتقدم منها فعانقها بعشق قائلاً: 
"ربنا ما يحرمني منك أبداً يا أغلي هدية ربنا رزقني بيها" 
                    ༺※※※༻
تتخبط بين الناس لكي تلحق كرسياً داخل سيارة الأجرة الجماعية وكالعادة تمتلئ السيارة فتنسل من بين هذا الزحام بصعوبة ومعاناة، تزفر بضجر لأن عليها أن تنتظر في قيظ شمس الظهيرة حتي تأتي سيارة أخري شاغرة. 
تنظر في ساعة هاتفها وجدت الوقت قد تأخر علي الإنتظار وعليها اللحاق بالمحاضرة، أخذت تسير نحو الطريق المتسع حيث سيارات الأجرة الخاصة، فتحت حقيبتها ونظرت داخلها وجدت لديها مبلغ مالي لا بأس به يكفي للأجرة ذهاباً وإياباً، و ما أن أغلقت الحقيبة رأت سيارة سوداء تقترب منها فكادت تظن أن صاحبها يريد دهسها، شهقت ثم صعدت أعلي الرصيف ودقات قلبها تسابق دقات الناقوس، توقفت السيارة فترجل صاحبها و عندما رأته تحول الذعر علي وجهها إلي غضب جماً، اقترب منها فصاحت فيه كالمعتاد كلما يقاطع دربها إينما ذهبت: 
"هي حصلت تمشي ورايا وتيجي عندي في المنطقة!" 

حاول الحديث معها بهدوء فأخبرها مُفسراً: 
"إهدي يا فجر إحنا في الشارع، مش في الجامعة، أنا أصلاً و لا كنت براقبك و لاحاجة، أنا الطريق اللي بعدي منه كل يوم زحمة فعديت من طريق تاني وكنت بدعي إن أشوفك وأديني شوفتك" 

ابتسمت بسخرية وعقبت بتهكم: 
"و يا تري كنت بتدعي تقولي يارب و لا الطبيعة؟" 

بادلها بابتسامة لم تصل إلي عينيه: 
"مقبولة منك، تعالي يلا عشان نلحق محاضرة دكتور هاني وعايز أتكلم معاكي وإحنا في الطريق" 

رمقته بسخط وبرفض لا نقاش فيه قالت: 
"بص بقي أنت تاخد بعضك زي الشاطر وتركب عربيتك لأن أنا مش هاركب معاك و لا ليك دعوة بيا وإحمد ربنا إن واقفة معاك، و لا أقولك أنا غلطانة أصلاً برُد عليك" 

كادت تبتعد من أمامه فاعترض طريقها وبتهديد قال لها: 
"طب وحياتك عندي يا فجر، لو ما ركبتي معايا بالذوق لأخدك بالعافية و لا يهمني اللي هاتعمليه و لو حد أعترض هقولهم دي مراتي ومتجوزين عرفي" 

اتسعت عيناها بصدمة، ابتلعت لعابها خوفاً فهي علي دراية بأنه ينفذ تهديده دون أن يرف له هدب، عقبت بصوت خافت وصل إليه: 
"أنا كل مدي بكرهك أكتر" 

فتح لها باب السيارة حيث الكرسي المجاور لمقعد القيادة قائلاً: 
"أركبي وبعدين أكرهيني براحتك" 

أطلقت زفرة في وجهه ثم دخلت إلي السيارة، فأغلق الباب ثم ذهب وولج من الجهة الأخري فأنطلق إلي طريق الجامعة. 

وفي مكان ليس ببعيد داخل سيارة أخري، يتحدث في سماعة الأذن اللاسلكية: 
"يعني لو ما اتصلتش عليك ما سمعش صوتك خالص يا عم ياسين" 

جاء صوت الأخر، يتحدث من خلف زجاج النافذة في منزله: 
"معلش يا آدوم كنت مشغول جداً الأيام اللي فاتت، كان عندنا تسليم وحدة للعملاء والحمدلله خلصت علي خير" 

"ربنا يوفقك، بما أنك بقيت فاضي والنهاردة الـ weekend تعالي وهات ياسمين قضوا معانا يومين الأجازة" 

"خليها بكرة أحسن، عشان أختك ملك عزماني النهاردة وهابقي أقولها نتجمع بكرة كلنا في القصر" 

"وأنا هاكلم يونس وقصى وهايبقي يوم جامد" 

"خلاص ظبط أنت وأبقي كلمني قولي الحوار رسي علي إيه" 

"تمام يا برو، هاضطر أقفل معاك عشان سايق وقربت علي بوابة الجامعة" 

"جامعة!، إيه بتحضر الماچيستير يا باشمهندس" 

نظر آدم إلي خديجة وأجاب بمزاح: 
"ماچيستير إيه يا عم، دي خديجة بتكمل عشان أول ما هتتخرج ناوية تبقي بيزنس ومان وهتنفسنا بعد كدة، موضوع طويل عريض هاتعرفه بكرة" 

لكزته في ذراعه فأخذ يضحك، فقال شقيقه: 
"والله جدعة، و ربنا يعينها علي الدراسة وعليك، سلملي عليها" 

ضحك آدم وقال: 
"الله يسلمك، سلام" 
أنهي المكالمة فهدأ من سرعة السيارة لأنه يقترب من البوابة الرئيسية 

وبالقرب من البوابة يصف باسم سيارته وبداخلها يتعالي صوت فجر: 
"أنت مخك ده فيه إيه بالظبط، قولتلك خلاص كل حاجة ما بينا أنتهت" 

سألها كالمجذوب ويمسك ذراعها بقوة: 
"يعني بعد كل اللي قولتهولك طول الطريق وبرضو مُصره علي رأيك؟!" 

جذبت ذراعها بكل قوة فحررته من قبضته وقالت: 
"أيوة يا باسم، هافضل علي رأيي، وهقولهالك تاني وتالت وعاشر كمان، أنا ما بقتش أحبك، بالعكس بكرهك من وقت ما أتغيرت 180 درجة ومشيت ورا الشيطان اللي اسمه دكتور هاني و أتلميت علي شلة عيال ما يعرفوش لا تربية و لا دين و لا يعرفوا ربنا أصلاً، يا بني بص لنفسك في المراية" 

تلقائياً نظر إلي نفسه في المرآة الجانبية فأردفت: 
"بقت شبه المسخ من كتر الوشوم المقرفة اللي مالية جسمك، و الإستايل بتاعك اللي بقي شبه عبدة الشيطان، بذمتك عمر ما قولت لنفسك مرة إيه اللي أنا بعمله فيا ده؟!" 

نظرة ساخرة وبنبرة هازئة استطردت: 
"اه صح هتسأل نفسك إزاي، و نفسك متسلطة عليك، و ده أكبر عقاب لكل واحد بيبعد عن طريق ربنا ويمشي في طريق الشيطان، ربنا بيسلط عليه نفسه و يا ويلو لو مافقش وتاب قبل ما يموت" 

صرخ بها وكأنه يتحدث بلسان شيطان مارد: 
"كفاية، كفاية بقي، بطلي كل ما تشوفيني تقعدي تقوليلي كلام أصلاً مش مؤمن بيه، أنا كدة وهفضل كدة وعمري ما هتغير، وهتقبليني علي وضعي ده سواء بمزاجك أو غصب عنك" 

فتحت باب السيارة وقبل أن تترجل ألقت عليه تلك الكلمات، قد ظنت إنها تحطم أمله وقلبه معاً حتي لا يقترب منها مرة أخري
"و أنا بقولك خلاص مفيش أمل للرجوع، مش عشان اللي أنت فيه" 

ابتلعت ريقها قبل أن تردف: 
"عشان أنا في حكم المخطوبة ومقري فاتحتي"

قالتها وغادرت السيارة سريعاً قبل أن يمسك بها، لكن كيف للغزالة أن تسبق فهداً ضارياً!، قبض علي يدها وسألها بصوت دب الخوف والرجيف في فؤادها:
"الكلام اللي أنتي لسه قايلاه ده لو طلع بجد، عندي موتك أهون من إنه يحصل"...... 


تعليقات



×