رواية الفتاة التى حلمت ان تكون ذئبه الفصل السادس و العشرون بقلم اسماعيل موسى
وصلوا إلى أرضٍ تختلف عن كل ما عرفوه؛ كانت وكأنها لوحة فنية سُطرت بأنامل أساطير قديمة.
كانت الأرض مفروشة بطبقة رقيقة من الطين الناعم الذي ينبعث منه وهج خافت، وكأنها تحتفظ بذكريات الزمن الماضي.
الأشجار هنا لم تكن مجرد نباتات، بل كانت كائنات حية تنطق بأسرار الطبيعة؛ أوراقها تلمع بألوان فسفورية تتغير مع حركة النسيم، وجذوعها محفورة بنقوش غامضة تروي قصص أزمانٍ لم تُنسى.
تحت هذه الأشجار، تناثرت أزهار نادرة ينبض لونها بالحياة، تتفتح في هدوء كأنها تتمايل مع لحنٍ خفي.
في السماء، لم يكن القمر وحده نجم السهرة، بل إن رقص النجوم مع ضوء شفقٍ غريب خلقا لوحة سماوية لا تُصدق؛ طيور بأجنحة شفافة تظهر وتختفي وسط السحب كما لو كانت رسائل من عالم آخر، تغرد بألحانٍ فريدة تحاكي همسات الرياح وتنبض بإيقاع قلب الأرض.
أما الحيوانات، فكانت تختلف تمامًا عما اعتادوا رؤيته؛ فرأوا مخلوقات صغيرة تشبه الأرانب بألوان قزحية لا مثيل لها، تتحرك بخفة فوق العشب وكأنها تهمس بأسرار الطبيعة.
كما كانت هناك حيوانات غامضة بعيون لامعة تحرس طرق الوادي، تتنقل بظلالها بين الصخور والأشجار، وكأنها تجسد روح المكان ذاتها.
كل شيء في هذه الأرض كان ينبض بالسحر والغموض؛ حتى الهواء كان مختلفًا، يحمل رائحة عطرية مختلطة برائحة التراب المبلل ورحيق الزهور البرية، وكان النسيم ينثر حولهم حبات ضوء صغيرة كأنها نجوم نازلة من السماء، تضيء الطريق وتهمس لهم بأسرار لا يدركها إلا من يجرؤ على الاستماع.
في هذا العالم العجيب، شعرت ليلى أن الطبيعة تحكي قصةً قديمة، قصةً عن وحدانية الكون وتداخل الأرواح، وعن عهود لم تعد كما كانت.
كان المكان بمثابة بوابة إلى عالمٍ لا يُمكن للبشر فهمه بسهولة، عالم تمتزج فيه الأسطورة بالواقع، وتحتضن فيه الأرواح الجريحة لحن الحياة من جديد.
كانت ليلى تشعر بأنفاس المكان تراقبها. منذ أن وطأت أقدامهم هذه الأرض، لم تهدأ الرياح، ولم تتوقف الأشجار عن الهمس بلغة لا يفهمونها. حتى الحيوانات، رغم غرابتها، بدت وكأنها تحمل وعيًا خفيًا، وكأنها لم تكن مجرد كائنات، بل عيونًا وآذانًا للجن الذين يملكون هذه الأرض.
توقفت عند مدخل كهف يلوح كفم مفتوح في قلب الجبل، بدا كملجأ آمن وسط هذا العالم المجهول. نظرت إلى رعد، ثم إلى الآخرين، وقالت بصوت خافت لكنه حازم:
"علينا أن ننتظر حتى طلوع الشمس. لا نعرف كيف سيستقبلنا الجن، ولا أريد أن ندخل في مواجهة غير محسوبة."
نظر إليها رعد للحظة، ثم ألقى نظرة سريعة حوله. كان كل شيء يبعث على القلق؛ الهواء كان ثقيلاً، والظلال كانت تتحرك كأنها كائنات مستقلة. لم يكن هذا عالمهم، وكان يعلم أن الدخول في مواجهة هنا سيكون خطأً فادحًا.
أومأ بصمت، فتبعه الآخرون إلى الداخل.
عند دخولهم الكهف، شعروا فورًا بالفرق—كان الهواء أكثر برودة، والجدران كانت ناعمة على غير العادة، كأنها نُحِتت بعناية لتكون ممرًا طبيعيًا. أضواء غامضة تومض بين الشقوق، وكأن الجدران نفسها تتنفس بنبض خافت.
اتخذوا أماكنهم على الصخور المنتشرة في الداخل، بينما جلست ليلى بالقرب من المدخل، تراقب الخارج بعينين حادتين.
"سننتظر حتى الفجر." قالت بصوت منخفض، لكن الحزم فيه لم يترك مجالًا للنقاش.
كانوا يعرفون أن الليل هنا ليس كأي ليل، وأن انتظار الشمس قد يكون الفرق بين النجاة… والفقدان.
داخل الكهف، وسط الظلال المتراقصة على الجدران، جلسوا بصمت ثقيل.
كان اللهب الخافت المنبعث من الصخور الغريبة يضفي ضوءًا شاحبًا على ملامحهم المتعبة. ليلى، التي جلست عند المدخل، كانت أكثرهم يقظة. عيناها تراقبان الخارج، لكن عقلها كان مشغولًا بشيء آخر—كيف سيجدون الغضريف؟
"علينا أن نحدد خطوتنا القادمة." قال رعد أخيرًا، صوته هادئ لكنه مشحون بالتوتر.
نظرت ليلى إليه ثم إلى الآخرين. "الساحرة قالت إن العظمة ستقودنا، لكنها لم تقل كيف."
أخذت العظمة الصغيرة من جيبها وتأملتها، كانت منحوتة بعناية، تحمل نقوشًا غامضة. لم يكن فيها شيء يوحي بأنها دليل واضح، لكن ليلى شعرت أن هناك سرًا فيها لم تكتشفه بعد.
"ربما تحتاج إلى تفعيل بطريقة ما." قالت ماجي وهي تمعن النظر فيها.
هزّت ليلى رأسها. "أعتقد أنني سأعرف عندما يحين الوقت."
نظر إليها رعد طويلًا قبل أن يقول: "كيف أنتِ واثقة من ذلك؟"
تنفست بعمق، ثم رفعت عينيها إليه. "لأنني كنت هنا من قبل."
ساد صمت ثقيل.
"ماذا تعنين؟" سألت جود، وعيناها تحملان قلقًا خفيًا.
أعرف هذه الأرض بطريقة لا يفترض أن أعرفها. وأعتقد أن هذا يجعلني القائدة في هذه الرحلة."
رعد لم يُجب فورًا، لكنه كان يدرسها بعينيه الذئبيتين. ثم أخيرًا، أومأ. "سنثق بك."
قبل أن ترد، قاطعهم صوت غريب—حفيف خافت، أشبه بملامسة رياح غير طبيعية للحجارة. التفت الجميع، وأمسكوا بأسلحتهم، لكن ليلى شعرت به قبل أن تراه.
لم يكونوا وحدهم.
من عمق الكهف، خرج شيء لم يكن يفترض أن يكون هناك.
كائن طويل القامة، جسده أسود كأنه مصنوع من الظلال، عيناه تتوهجان بلون أزرق غريب. لم يكن يتحرك على أقدام، بل كأنه ينساب على الأرض، يقترب ببطء... وبصمت قاتل.
عندما تكلم، لم يكن صوته عاديًا. كان أشبه بصوت آلاف الهمسات المتداخلة، كأن الأرواح المفقودة تتحدث من خلاله.
"أنتم… لستم… مرحبًا بكم هنا."
ثم، وقبل أن يتمكنوا من الرد، انقضّ المخلوق!