رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل السادس والعشرون بقلم ولاء رفعت علي
الحب كالبذرة الصغيرة تنمو وتترعرع داخل
قلوب منيرة بالخير الذي إذا لم يكن موجوداً تُفسد تلك البذرة قبل أن تنمو فتصبح الأفئدة آنذاك مليئة بالحقد والشر.
عادت من الذاكرة علي هزة قوية نتيجة توقف السيارة فجأة، سألت بقلق وخوف:
"هو إيه اللي حصل؟"
لم يلحق أن يجيب علي سؤالها ويخبرها أن هناك سيارة مجهولة أجبرته علي التوقف فجأة، نزل منها ثلاثة شباب، فتح أحدهم باب السيارة، صرخت لوجي بخوف:
"أبعد بدل ما أتصل علي البوليس"
جذبها الشاب عنوة قائلاً بسخرية:
"تعالي و إحنا هنتصلك عليه"
أطلقت صرخة لطلب الإستغاثة، لكن نجح الشاب الملثم بجذبها عنوة خارج السيارة يأمرها بصوت غليظ:
"قدامي يا حلوة"
و قبل أن يدفعها داخل سيارتهم أوقفته سيارة توقفت أمامهما وترجل منها عمر، صاحت لوجي:
"ألحقني يا عمر"
أشهر الملثم سكينه قائلاً:
"لو قربت منها هشقك نصين"
ركض الشابان الأخريان نحو عمر لكنه تصدي لهما ببراعة بحركات قتالية، سدد لهما اللكمات والركلات فأصبح كل منهما طريحاً في الأرض.
بدأ الذي يمسك بلوچي يتراجع إلي الخلف واضعاً سكينه علي نحرها:
"لو راجل قرب مني و أنا هدبحهالك زي الفرخة دلوقتـ...
لم يكمل جملته فقام عمر بركله في ساقه مما جعله يشعر بخلل في توازنه، استغلت لوجي ذلك فدفعته وابتعدت عنه، بينما عمر أخذ يضرب الملثم
صرخت لوچي:
"حاسب يا عمر"
في محاولة فاشلة لهذا الملثم منه استطاع أن يخدش ذراع الأخر بالسكين، لكن تمكن عمر برغم إصابته تسديد له عدة لكمات متتالية و قبل اللكمة الأخيرة، رفع الشاب يديه ودفعه هارباً إلي سيارته ولحق به الشابان، انطلقت السيارة في الحال تحت خوف و هلع لوچي التي تبكي، اقترب منها ليطمئن عليها:
"أنتي كويسة؟"
أومأت رأسها بنعم فأخبرته مشيرة له بيدها نحو جرح ذراعه:
"دراعك بينزف، أنت لازم تروح علي المستشفي"
جذبت الوشاح الملتف حول عنقها وضعته علي الجرح لوقف النزيف، كان يشعر بالألم لكنه تظاهر بعكس ذلك قائلاً:
"متخافيش، الجرح مش مستاهل نروح لمستشفي، ممكن نروح لأقرب صيدلية من هنا"
وبداخل الصيدلية يجلس علي الكرسي، يقوم الصيدلي بتطهير جرحه أولاً مخبراً إياه:
"الحمدلله الجرح مش محتاج غرز، إحنا نحط لك لزق طبي بديل الغرز وإن شاء الله هاتبقي كويس"
ألتفت إليه عمر وقال له:
"شكراً يا دكتور"
لوي الأخر شفتيه جانباً:
"العفو يا...
قاطعه الأخر ويضغط علي حروف اسمه للتأكيد علي الآخر:
"عمر، اسمي عمر المصري يا دكتور"
"عمر علشان خاطري تعالي نروح للمستشفي عند بابي، بابي جراح شاطر جداً وعشان يقدم لك بلاغ في البلطجية اللي اتهجموا علينا"
أخبرها الصيدلي:
"مفيش داعي يا آنسة إنه يروح لمستشفي، الجرح مش عميق، يعني الحكاية مش مستاهلة"
"خلاص يبقي كدة نروح نقدم بلاغ، المشكلة كانوا ملثمين"
وعقب عمر بعد حديثها:
"و لوحة العربية بتاعتهم معليهاش ولا رقم"
حدق الصيدلي إلي عمر أولاً بنظرة مبهمة ثم إلي لوچي يخبرها:
"بالتأكيد فيه كاميرات في مكان الحادث ممكن نخلي أصحابها يفرغوها و تقدموا بالتسجيل في المحضر"
نهض عمر وقال لها:
"يلا عشان أوصلك، و أنا هارجع لأصحاب الكاميرات وهعمل المحضر بنفسي"
"لاء أنا جاية معاك عشان أحكي لهم اللي حصل قبل ما أنت تظهر و...
توقفت عندما تذكرت أمراً ما للتو فسألته:
"ألا قولي صح، أنت ظهرت فجأة كدة وقتها إزاي؟، هو أنت...
بدي علي ملامحه التوتر والقلق وعندما تابعت سؤالها:
"هو أنت كنت بتراقبني؟"
تنفس الصعداء فقال معاتباً:
"و لنفرض إن براقبك، المفروض تشكريني لأن أنقذتك من إيد العيال اللي الله أعلم كانوا خدوكي عملوا فيكي إيه"
ابتسمت إليه وقالت:
"thank you"
بادلها الابتسامة قائلاً:
"أنا بهزر معاكي مش عايز شكر، كل اللي عايزه تاخدي بالك من نفسك، و يلا عشان أوصلك"
وبعد قطع مسافة قصيرة أخبرته أن يوصلها إلي مسكن والدتها، و عندما صف السيارة أمام البناء
"بجد مش عارفة أشكرك إزاي"
ابتسم وقال:
"لو تقبلي أعزمك بكرة في النادي هابقي أنا اللي شاكر ليكي جداً"
أومأت بالموافقة:
"أوك"
رفع هاتفه قائلاً:
"ممكن تسجلي نمرتك عشان هكلمك لما أنزل هعدي عليكي أخدك من هنا"
ترددت قليلاً ثم أخذت منه الهاتف و قامت بتسجيل رقم هاتفها وقالت:
"هاستناك بكرة، باي"
فتحت باب السيارة وكادت تنزل فألتفت إليه تسأله:
"هو أنت بتلعب چودو أو كارتيه؟"
أجاب مبتسماً:
"كنت بلعب كونج فو وكنت واخد بطولة الجمهورية كمان"
هزت رأسها دلالة علي إقتناعها لما رأته فتابع:
"بكرة هانقعد نتكلم مع بعض و كل واحد هيحكي عن نفسه، و لو مش عايزة خلاص"
ابتسامة ساخرة بدت علي ثغرها:
"ما تقلقش هحكي لك، لأن محدش تقريباً هيسمعني غيرك، أشوفك بكرة باي"
لوحت له بيدها ونزلت، تابعها حتي اختفت عن نظره ثم أنطلق بسيارته.
༺※※※༻
في غرفة الإجتماعات داخل شركة البحيري ستيل، يترأس الطاولة و يجلس بعض من موظفين الشركة علي يمينه، يراجع كل منهم الملف الورقي الذي أمامه، بينما علي شماله يجلس رجال يبدو علي ملامحهم إنهم من سكان جنوب القارة الأوروبية.
لاحظ قصى كرسي نظيره الأجنبي شاغراً، فسأل أحد أعضاء الوفد بالإيطالية:
"أين هو رئيسكم؟"
أجاب الشاب:
"نحن نعتذر لك عن التأخير، لكنه أخبرنا منذ قليل في الهاتف إنه قادم، فهناك أزمة مرور في الطريق المؤدي إلي هنا"
"حسناً، فلننتظر"
تنهد وألقي نظرة علي ساعة يده، عقد ما بين حاجبيه بضيق وضجر، أمسك هاتفه وقام بالإتصال عليها، بالرغم إنها تركت العمل في الشركة لكنه يحتاج إليها اليوم، فقد جاء إليه الكثيرات مَنْ يرغبن في العمل بمجال التسويق لديه لكن كلما يتم توظيف احداهن تفشل في إدارة التسويق وتسبب الخسائر، لذا لم يكن أمامه سوي أن يلجأ من هي جديرة في تلك المكانة ريثما يجد مثيلتها.
لنذهب في مكان قريب من الشركة، فهناك ازدحام مروري قد وصل لذروته، يصدح ضجيج أصوات أبواق السيارات، وهنا داخل سيارة أجرة تجلس منار خلف السائق تزفر بضيق، تسأله:
"هانفضل في الزحمة دي كتير يا سطا؟، بقي لنا ساعة واقفين وأنا ورايا شغل أتأخرت عليه"
أخبرها السائق بعد أن نفذ صبره من الإنتظار:
"جرى إيه يا ست؟!، عينيكي الحلويين دول مش شايفين الزحمة اللي إحنا فيها و لا إيه؟"
صاحت بحنق:
"أنت بتزعق و لا بتعاكس؟!، و بعدين إيه ست ديه؟"
نظر إليها عبر المرآة يجيب بتهكم:
"أومال عايزاني أقولك إيه يا مزة؟"
كانت نظراته إليها كفيلة بأن تجعلها تشعر بالحذر منه والغضب في آن واحد:
"لاء أنت كدة زودتها أوي، لولا إن أنا مستعجلة كنت وريتك، و لا أقولك أنا هانزل أحسن و أخدها مشي بلا هم"
فتحت باب السيارة ونزلت ثم صفقت الباب بقوة، أخرج الأخر لها رأسه من النافذة يصيح بغضب:
"الله يخربيتك هتكسري الباب، العربية عليها أقساط"
و كأن تذكر أمر قد نسيه:
"الأجرة يا ست، طيب يا مودمزيل"
أشاحت له بيدها دون أن تلتفت إليه، تحاول العبور من بين السيارات لتصل إلي الجهة الأخري من الطريق، و عندما أصبح أمامها العبور من أخر صف لم تجد منفذ للعبور منه، سوي هذه الدراجة النارية، يرتدي قائدها حلة رسمية وخوذة الحماية للرأس، لمعت عينيها بفكرة، نظرت إلي ساقيها فهي ترتدي بنطال من القماش مناسب لهذا الموقف.
اقتربت من الدراجة فقالت لقائدها:
"معلش ممكن أعدي من فوق الموتسيكل، أصلي متأخرة علي الشغل جداً"
نظر إليها من خلف الغطاء البلاستيكي الشفاف لثوان ثم أومأ لها بالسماح، ابتسمت إليه بإمتنان:
"متشكرة جداً"
و ما أن رفعت ساقها أعلي الدراجة تحركت السيارات إلي الأمام مما أفسح مجالاً للإنطلاق، لم يمهلها بأن تنزل من فوق دراجته فأنطلق بها، صرخت بخوف وتمسك به خشية من السقوط:
"أنت يا اسمك إيه، بتعمل إيه نزلني، و ربنا لأصوت و ألم عليك الناس"
لم يهتم لتهديدها ذاك لكنه يسألها بهدوء:
"عايزة تروحي فين؟"
كان سؤاله الهادئ بل والبارد جعلها تثور وتصيح:
"أنت ما بتسمعش؟!، بقولك نزلني"
توقف فجأة مما جعلها تتشبث به أكثر حتي لا تقع، نزلت سريعاً وتزفر بغضب:
"بني آدم مستفز"
"العفو يا...
قالها بسخرية مازحاً، بينما هي أسرعت من خطواتها ولم تنتبه إلي ما سقط من حقيبتها، نزل من فوق دراجته ودنا من حامل البطاقات الجلدي خاصتها، أخذه وكاد ينادي عليها فلم يجدها؛ لأنها اختفت بين المارة.
أنطلق بدراجته إلي الشركة، فوصل أمام البوابة الزجاجية، نزل من أعلاها فتقدم منه المسئول عن ساحة الإنتظار الخاصة بالسيارات، أعطاه الأخر المفتاح بعد أن خلع الخوذة وتركها لديه أيضاً، ضبط ترتيب خصلات شعره التي تبعثرت ثم ولج إلي الداخل.
نعود إلي قصى الذي مل من طول الإنتظار فقال إلي الوفد الإيطالي:
"يكفي تأخيراً، فلنبدأ الإجتماع"
انتبه الجميع إلي صوت فتح الباب علي مصراعيه تزامناً مع ولوج هذا ذو الطول الفارع والجسد الرياضي وهو يقول بالإيطالية:
"ها أنا جئت"
حدق إليه قصى بتمعن وسرعان تحولت ملامحه من الضيق إلي التعجب والسعادة معاً، نهض قائلاً:
"أدهم الشافعي؟!"
تقدم أدهم إليه بسعادة مماثلة:
"قصى العزازي"
تعانق كليهما بقوة، ربت قصى علي ظهر الأخر:
"كنت مختفي فين السنين اللي فاتت؟"
أجاب أدهم بعدما أنتهي العناق:
"دي قصة طويلة هابقي أحكيهالك بعدين"
"ده أنا مش هاسيبك النهاردة، هنخلص الـ meeting و هاخدك نتغدي برة"
و قبل أن يجلس كليهما تابع قصى الحديث بسؤال:
"اه صح، مش المفروض المسئول عن الوفد كان سنيور ماثيو إيفانز"
نظر إلي الوفد ثم إلي قصى فأخبره بصوت خافت:
"سنيور ماثيو مراته مسكته متلبس وهو بيخونها مع السكرتيرة، سلطت عليه الجاردس بتوعها، ضربوه علقة لما أدغدغ يا ولداه، طلب مني أنزل مصر وأكون مكانه، أهو ما يبقاش موت وخراب ديار، بس تعرف هو ابن حلال ويستاهل محدش قاله يخون مراته مع السكرتيرة، جو قديم أوي"
برغم من تعابير وجه أدهم المازحة وهو يخبره بما سبق، لكن كان قصى يستمع إليه بصمت حتي أنتبه إلي دخول منار التي تلهث
"آسفة جداً جداً علي التأخير يا مستر قصى، الطريق كان واقف بقي له ساعة وأنا أخر ما زهقت نزلت من العربية وخدتها جري لحد هنا"
كان قد ألتفت إليها أدهم ونظر إليها يتأملها، فهي الفتاة التي صعدت علي دراجته النارية، ابتسم بمكر ثم انتبه علي صوت قصى وهو يشير إليها:
"أتفضلي أقعدي وخدي نفسك الأول عشان هنبدأ دلوقت"
فعلت ما قاله لها لكن لاحظت نظرات أدهم الذي لم تعرفه بسبب خوذة الأمان التي كان يرتديها، بينما نظراته لها وكأنه يعرفها، فدار داخل عقلها هذا الحديث:
"و ده مين القمر أبو عيون خضرة ده كمان؟، عمال يضحك لي و يبص لي كدة ليه؟، ما تبطل تبص لي بقي أنا ما أنفعكش خالص أنت إيطالي وأنا...
"أعرفك يا منار بسنيور أدهم الشافعي"
ثم ألتفت إلي أدهم وأخبره:
"آنسة منار مسئولة التسويق و صاحبة فكرة المشروع المشترك ما بين الشركتين"
مد أدهم يده ليصافحها:
"أهلاً وسهلاً سنيورتا"
بينما هي شاردة تكمل الحديث داخل عقلها
"إيه ده!، طلع عربي الحمدلله"
اقترب قصى منها وهمس إليها:
"الراجل بيكلمك و أنتي سرحانة؟!"
غرت فاها ببلاهة:
"ها؟"
نظرت إلي أدهم وبادلته المصافحة بابتسامة أظهرت جمالها الساحر أكثر:
"أهلاً بحضرتك يا فندم"
ظل أدهم يمسك بيدها و كل من يجلس من الوفد الإيطالي و الموظفين التابعين للشركة يتابع كليهما، حمحم قصى ثم قال:
"مش هانشتغل و لا إيه؟"
تركت منار يد أدهم علي الفور فقالت بخجل و حرج:
"حالاً يا مستر قصى"
نهضت وبدأت تشرح بالإيطالية ملخص أفكار المشروع بكل سهولة يشوبها الجدية، فهي تتجنب النظر إلي أدهم حتي لا تتشتت، لكن الأخر كان ينجح في لفت نظرها إليه عبر إفتعال تعابير مضحكة، بينما هي تتظاهر بعدم الإهتمام رغم كبت سيل من الضحك بداخلها.
وأخيراً ها هي انتهت من الحديث الذي نال إعجاب الجميع فصفقوا لها بحرارة.
عقب أدهم بعد أن تحلي بالجدية بالتحدث عن رأيه في تلك الأفكار التي طرحتها منار، كما أضاف عليها حلول مبتكرة، كانت تتابعه ولم تنكر إعجابها بذكائه وهذا غير وسامته التي تنضح بالرجولة والجذابية، سرعان ما نفضت عن رأسها تلك الأفكار.
و بعد انتهائه من الحديث أخذ هو وقصى كليهما يزيل توقيعه أسفل العقود.
"مبارك يا صديقي"
قالها أدهم بالإيطالية فأجاب قصى:
"مبروك علينا و علي سنيور ماثيو"
نهض الجميع فتابع قصى يخبرهم:
"و من أجل هذه المناسبة السعيدة، أدعوكم إلي تناول الغداء"
فقالت منار ويداهمها الحرج:
"معلش يا مستر قصى، مش هقدر أجي معاكم"
سألها بصوت خافت:
"ليه فيه حاجة؟"
"مفيش، أصل بس...
"طالما مفيش حاجة تمنع، يلا معانا"
وجدت أن لا مفر من ذلك، ابتسمت وقالت:
"تمام، هاجي معاكم"
بدأ الجميع مغادرة الغرفة، كانت تقف تفتش في حقيبتها و يخالج القلق ملامحها
"راحت فين دي ياربي؟"
"بتدوري علي حاجة؟"
رفعت رأسها فوجدت أدهم يقف أمامها ويمد يده إليها بالمحفظة
"شكراً يا...
كادت تأخذها لكنه رفع يده لكي لا تأخذها و علي وجهه إبتسامة أثارت حنقها
"مش هتاخديها غير لما تعتذري الأول"
تعجبت ورفعت احد حاجبيها:
"أعتذر!، عن إيه إن شاء الله؟"
دنا منها لفرق الطول بينهما ليخبرها بهدوء لا يخلو من ابتسامة تجعلها تستشيط غيظاً أكثر:
"أحب أعرفك بنفسي أنا البني آدم المستفز اللي كنتي راكبة الموتوسيكل بتاعه"
و بعد أن أخبرها بهذا أخذ يراقص حاجبيه، و دون سابق إنذار صاحت بغضب:
"قولتلي بقي أنت...
كمم فمها بكفه:
"هوس، إحنا مش في الشارع عشان تزعقي، عايزة مديرك اللي هو صاحبي يقول علينا إيه"
نظر خلفه ليطمئن إنه لم يجد أحد سواهما ثم ألتفت إليها وقال:
"ما تقلقيش أنا هديلك محفظتك حالاً بس بشرط"
أزاحت كفه بعنف:
"و كمان بتتشرط!، عايز إيه يا سنيور أدهم؟"
"أتفضلي"
أخذت من يده المحفظة، فتابع حديثه:
"هعتبر إنك اعتذرتي وأنا قبلت الإعتذار، و الإثبات هو حاجة كان نفسي أعملها أول ما شوفتك في الإشارة"
لم يمهلها التفكير فقام بخطف قبلة من جانب شفتيها، و بتلقائية منها قامت بصفعه:
"يا مجنون يا قليل الأدب"
ركضت إلي الخارج وتركته يضع أصابعه علي خده يلمس أثر صفعتها له مبتسماً، يقول بوعيد:
"بقي أنا مجنون و قليل الأدب!، هتخليني أرجع لأيام الشقاوة يا، يا سنيورتا"
༺※※※༻
"بس أقف هنا علي جمب"
قالتها وألقت نظرة في المرآة ثم كادت تغادر السيارة فامسكها زوجها من يدها سائلاً:
"نازلة كدة من غير بوسة و لا حضن أو حتي هتوحشني يا يونس يا حبيبي!"
ابتسمت كارين وقالت:
"اللي يسمعك يقول إني مسافرة، دي كلها كام ساعة يا حبيبي وهاروح البيت تكون خلصت اللي وراك في الجاليري وترجع تلاقيني محضرة لك العشا ومنيمة جولي ورسلان عشان نعرف نسهر براحتنا"
غمزت بعينها فاتسع ثغره بسعادة و تلألأت عيناه بنظرة تدركها هي قائلاً:
"أيوه بقي، ده إحنا سهرتنا هتبقي للصبح"
و بادلها بغمزة
"ممكن بقي تسيبني أروح أشوف شغلي"
اقترب بشفتيه من خاصتها هامساً:
"مفيش نزول من العربية غير لما أخد تصبيرة لحد ما أرجع لك بالليل"
ختم كلماته بإلتقاط شفتيها في قبلة يراها هذا الذي يراقبهما من خلف نافذة غرفة المكتب، يحتسي مشروباً في كأس زجاجية، أخذت قبضة يده حول الكأس تضغط بقوة حتي انكسرت في يده.
ولجت المساعدة الخاصة به في هذا الحين، شهقت وسألته بقلق وخوف حياله:
"حضرتك كويس يا مهند بيه؟"
ألتفت إليها والوجوم يعتلي ملامحه يخبرها:
"أطلعي برة و أقفلي الباب وراكي، و لما تيجي مدام كارين خليها تستني برة لحد ما أقولك تدخليها"
هزت رأسها بطاعة قائلة:
"أمرك يافندم"
وفي الخارج كانت قد نزلت من السيارة و قبل أن تدخل إلي مبني الشركة، لوحت بيدها مودعة زوجها بابتسامة نابعة من فؤادها الذي يهيم في عشقه.
صوت كعب حذائها يدوي في أرجاء ردهة الإستقبال حيث مكتب المساعدة، توقفت لتسألها:
"أستاذ مهند جوة؟"
ترددت الأخري قليلاً وهي تجيب بما أمرها مديرها حتي أجابت في النهاية:
"معلش يافندم ممكن تتفضلي تستنيه هنا لأنه مشغول دلوقت"
عقدت ما بين حاجبيها بتعجب فقالت:
"إزاي و هو بنفسه مكلمني أجي له في الميعاد ده"
"معرفش والله يا فندم، بس هو بنفسه لسه قايلي إنه مشغول و ممنوع حد يدخل غير لما يكلمني"
هزت كارين رأسها وضغطت علي شفتها السفلي بحنق، جلست علي أقرب مقعد و تزفر بغضب:
"و ماله أستني"
ثم أردفت بصوت خافت:
"شكله سماوي و بيرد لي تأخير الشغل عليه، ماشي يا أستاذ مهند"
༺※※※༻
حول مائدة طعام مليئة بكل ما لذ وطاب من أصناف الطعام والمشروبات، يرأسها صاحب الدعوة الذي يتناول طعامه و يمضغ في صمت، يراقب ما يحدث دون أن يلفت الانتباه، لاحظ نظرات أدهم نحو منار مطأطأة رأسها وخديها يكسيهما حمرة الخجل، يبدو عليها شعور التوتر والقلق، لذا مال إليها قصى يسألها بصوت خافت:
"مالك قاعدة مش علي بعضك كدة ليه؟، فيه حاجة حصلت عندكم؟"
رفعت رأسها واعتدلت، نظرت إلي أدهم بتجهم ثم حدقت إلي قصى بشبه ابتسامة فأجابت:
"لاء مفيش حاجة"
"متأكدة؟"
سؤاله يصاحبه نظرة يشوبها ابتسامة جعلتها تشعر بالتوتر أكثر، أدركت إنه لاحظ ما يدور علي المائدة مما زاد علي التوتر لديها الشعور بالحرج والخجل، تظاهرت بالتماسك وأجابت:
"أطمن حضرتك مفيش حاجة"
نهضت وأردفت:
"عن إذنك خمس دقايق وراجعة"
"أتفضلي"
ذهبت و عينان أدهم تتبعها كظلها حتي انتبه إلي قصى وهو يخبره:
"واضح إنها مش رحلة عمل وبس"
"دي شكلها هتبقي أحلي وأجمل وأشيك رحلة شوفتها في حياتي"
ضحك قصى وقال:
"زي ما أنت لسه ما أتغيرتش"
نظر الأخر إليه وسأله:
"هو باين عليا أوي كدة؟"
"أيوة طبعاً، ده حتي البنت من كتر إحراجها أتكسفت وقامت عشان عينيك اللي ما نزلتش من عليها من وقت ما قعدنا"
ترك الشوك والسكين جانباً ثم زحزح مقعده بالقرب من صاحبه ومازال جالساً ليخبره قائلاً:
"ممكن ما تصدقنيش أو تقول عليا مجنون، بصراحة البنت عجباني أوي ويارب ما تطلعش مخطوبة و لا مرتبطة"
"أدهم، منار بنت محترمة و مالهاش في الحوارات اللي كنت بتعملها زمان مع البنات"
أسرع الأخر مدافعاً عن نفسه:
"أبداً والله، أنت فاهمني غلط، القصة و ما فيها قبل ما أنزل مصر قررت أستقر و أتجوز وأعيش قريب من أهلي"
"أفهم من كدة إنك معجب بيها بجد و عايز تتجوزها؟"
"مش علي طول طبعاً، قصدي يعني مش لازم نتعرف علي بعض الأول و تعرف عني كل حاجة والعكس، واضح إنها ما أتجوزتش قبل كدة و ده اللي بتمناه، أنت عارفني بقي بحب أكون الأول حتي في حياة البنت اللي هاتجوزها"
ابتلع قصى لعابه وهو يتذكر أمر زواجه من منار برغم إنه مجرد زواج علي ورق فقط، يخشي ما فعله يصبح عائق أمامها أو مشكلة تسبب إليها المتاعب.
"لو الحكاية جد زي ما أنت بتقول، هاكون أول واحد فرحان ليك"
"ياريت بقي تكمل جميلك مع صاحبك و تلمح لها أو تعرفي لي منها إن فيه حد في حياتها و لا لاء"
أومأ إليه:
"حاضر، أنا هتكلم معاها بس حكاية حد في حياتها دي أنت تعرفها بنفسك منها"
"و طلب تاني، معلش هتقل عليك شوية، سنيور ماثيو قرر يفتح فرع هنا وأنا هادخل معاه كشريك فكل اللي طلبه منك تشوفي لي موظفين زي اللي عندك خصوصاً في الـ marketing"
هز الأخر رأسه بالموافقة قائلاً:
"اعتبره حصل"
صدح رنين هاتف أدهم، أخرج هاتفه من جيب سترته الداخلي، نهض يخبر الأخر:
"عن إذنك هارد علي التليفون ده و راجع لك نكمل كلامنا"
ذهب علي بُعد أمتار يجيب علي المكالمة، أخذ يسير حتي رآها تقف لدي حافة السياج البلاستيكي المطل علي النهر مباشرة، كأنها تقف لتتنفس الهواء وسرعان ما توقف لديها التنفس عندما سمعت صوته خلفها:
"أنا آسف من اللي حصل بعد الـ meeting"
ألتفت إليه علي الفور، تحدق إليه بغضب زائف:
"بص يا اسمك إيه أنت"
ابتسم ببرود قائلاً:
"اسمي أدهم و بيدلعوني أدهومي، وياسلام لما أبقي أدهومك هابقي سعيد أكتر"
"سعيد و لا حزين و...
قاطعها مردداً الأغنية:
"و لا"
ازدادت ابتسامته فأخبرها:
"علي فكرة بهاء سلطان كان بيقول حزين و لا سعيد مش العكس"
أطلقت زفرة نارية وقالت:
"اسمع يا أستاذ أدهم، عيب اللي حضرتك عملته في المكتب، و كان بإمكاني أشتكيك لمستر قصى و...
توقفت حينما اقترب منها وكاد يلتصق بها، خلفها السياج و لا مفر من الابتعاد أو الهروب من أمامه
"ها كملي؟، كنتي عايزة تشتكيني لمستر قصى كنتي هتقوليله إيه بالظبط؟"
دنا برأسه و بهمس من شفتيه جعل أنفاسه تضرب بشرتها التي توهجت من فرط الخجل وأردف قائلاً:
"هاتقولي له إن أنا بوستك كده"
و قبل أن تلمس شفتاه خاصتها رفعت يدها لتصفعه لكنها انتفضت حين أمسك رسغها بقبضة قوية، و في برهة تحولت نظراته المبتسمة إلي أخري مرعبة دبت الخوف في صدرها، يحدق إليها بنظرة مخيفة محذراً إياها:
"لو أتكررت الحركة دي تاني مش هتبقي بوسة وبس"
كانت عيناها تتسع من الصدمة وكادت تخرج من محجريهما عندما أردف:
"هتبقي كل الخطوات اللي بتيجي بعد البوسة"
شهقت ودفعته بكل قوتها جاذبة رسغها من قبضته ثم صاحت:
"أنت مش قليل الأدب و بس، أنت وقح كمان"
ركضت قبل أن يلحق بها و يفعل بها أمر أحمق، إنها قد أيقنت كانت أمام شخص مجنون يفعل ما يحلو له، بينما هو كان يقف في مكانه يضحك علي ردة فعلها وكيف استطاع أن يجعلها تصدق مزاحه
༺※※※༻
تطلق زفرة بين كل الفينة والأخري بعد أن نال منها الضجر والملل، تنظر في ساعة هاتفها فتجد قد مر أكثر من نصف ساعة ومازال هذا المهند مشغولاً كما أخبرتها المساعدة التي تتحدث في الهاتف بهمس:
"أيوه يا مهند بيه، لسه منتظرة و شكلها متضايقة من الإنتظار علي الأخر"
نهضت كارين بغضب وتقدمت من مكتب الأخري:
"روحي بلغي مديرك إن ملهوش شغل عندي و أي إتفاق ما بينا يعتبر لاغي"
"يا مدام كارين ثواني بس"
أخبرها مهند في الهاتف:
"قوليلها تدخل"
"أتفضلي يافندم، مهند بيه مستني حضرتك"
أشارت المساعدة إليها نحو باب مكتب مديرها، ألقت كارين عليها بنظرة ازدراء ثم ذهبت بخطوات سريعة، طرقت الباب أولاً ثم قامت بفتحه قائلة بسخرية:
"أتفضل أدخل و لا حضرتك لسه مشغول؟!"
حدق إليها بطيف ابتسامة ثم أشار إليها نحو الكرسي أمام المكتب:
"أتفضلي يا مدام كارين"
جلست علي مضض و عيناها تتجول بالنظر من حولها، اللون الأسود منتشر في الأثاث والحوائط جعلها تشعر بعدم الراحة، انتبهت إلي لوحة زيتية تتوسط الجدار المقابل للمكتب، اللوحة لجندي روماني يضع سن سيفه المدبب نحو نحر سيدة عارية تجثو أمامه وتتوسل إليه.
قاطع تأملها للوحة صوت مهند يخبرها:
"ده مشهد لواحد من المحاربين الرومان رجع من حرب كان منتصر فيها عشان يلاقي مراته بتهزمه وهي بتخونه مع أعز أصدقائه، و زي ما أنتي شايفة راكعة قدامه بتتوسل ليه إنه ما يقتلهاش"
انتابها شعور غريب فاقشعر بدنها لما أخبرها به مع رؤية تلك اللوحة المرعبة إليها، ألتفت إليه و بفضول سألته:
"القصة دي حقيقة و لا أسطورة؟"
أجاب بهدوء وشبح ابتسامة ظهر علي شفتيه، رفع أصبعيه السبابة والوسطي:
"الأتنين، ما بتسمعيش عن قصص الخيانة سواء في الأخبار أو الميديا و لا مش متابعة؟"
لحظات صمت معدودة حتي أجابت:
"بحاول ما أتابعش لأن المواضيع دي بتتعبني نفسياً"
رفع سماعة الهاتف وتحدث:
"فنجان قهوة بلاك و عصير ليمون"
وضع السماعة ثم نهض في خطوات وئيدة سببت لها التوتر من هذا الرجل الغامض، جلس في الكرسي المقابل لها
"بالمناسبة، أنا عرفت إنك كنتي متضايقة من الإنتظار برة، أنا فعلاً كنت مشغول في حاجة مهمة"
عاد بظهره إلي المسند الخلفي للمقعد بأريحية مردفاً:
"الانتظار برضو إحساس وحش ولازم يجي معاه الشعور بالضجر والملل والغضب كمان، عشان كدة لازم نحترم الوقت والمواعيد، صح يا فنانة؟"
همهمت داخل رأسها:
"كان عندي حق لما قولت عليك سماوي و زي العقرب، بتردها لي عشان أتأخرت عليك في طلبية الشغل، اه يا خوفي لتكون اللوحة السايكو دي بتعبر عنك وتطلع مجرم في الأخر، لا لا ده أول وأخر تعامل معاك عشان بس أديتلك كلمة و رحمة بابي مش هاتشوف وشي تاني"
كان آنذاك المساعدة قد ولجت ووضعت علي المنضدة بينهما كأس العصير وفنجان القهوة، انتبهت كارين إلي مهند:
"مدام كارين، العصير"
نظرت إليه بابتسامة زائفة ثم تناولت الكأس وارتشفت القليل وتركته
"ندخل في الشغل عشان ما نضيعش وقتك، أولاً بعتذر عن تأخير الطلبية اللي لسه وصله لحضرتك امبارح ثانياً يارب تكون اللوحات عاجبتك وتزين بيها جدران الشركة وألف مبروك عليك"
"الله يبارك فيكي"
تناول دفتر صغير وقلم من الوعاء الإسطواني الممتلئ بالأقلام، فتح الدفتر وأخذ يكتب
"طبعاً أي لوحة ليكي بتعجبني لأنها قيمة و ما تتقدرش بتمن زي الفنانة اللي رسماها"
ذيل توقيعه في نهاية الشيك ثم أنتزعه من الدفتر ليعطيها إياه، وجدها تنظر إليه والضيق يغزو ملامحها، ربما تعمد تكرار الغزل بأسلوب مراوغ
"علي فكرة أنا مكنتش جاية عشان الشيك، أنا جيت عشان أعتذر لك و أشكرك علي تقدير انتظارك"
"أي كانت الأسباب، الشيك حقك يا فنانة وإن شاء الله مش هيبقي التعامل الأخير"
"إن شاء الله"
أدرك من ردها المقتضب إنها سوف تغادر فأوقفها بسحب بطاقة دعوة من فوق المكتب قدمها إليها، و بفطنة وذكاء يخبرها:
"دي دعوة افتتاح المعرض اللي هاعرض فيه لوحاتك، ياريت تشرفيني أنتي والأستاذ يونس"
أخذت البطاقة وقالت:
"شكراً"
نهضت وتنظر في ساعة هاتفها:
"أستأذن حضرتك"
أمسك يدها فجأةً ثم رفع يده الأخري إليها:
"الشيك يا مدام كارين"
حدقت إليه بنظرة تحذيرية ثم جذبت يدها من قبضته، اختطفت الشيك ثم ألقته داخل حقيبة يدها دون أن تقرأ قيمة المبلغ المدون به فغادرت مسرعة من أمام غريب الأطوار هذا معلقة بصوتٍ خافت:
"مجنون"
༺※※※༻
هناك من تمكث في غرفتها منذ خمسة أيام بعدما علمت بسفر مالك القلعة في مهمة لم تعلم عنها شىء، حاولت الإتصال به مراراً وتكراراً لكن دون جدوي، فهاتفه مغلق و ربما أغلقه عن عمد حتي لا تتصل به، و من قبل سفره كان يتجاهلها، يظن بما يفعله سيجعلها تتعلق به مثل قلبه المتعلق بها منذ أن رآها أول مرة، العائق الوحيد كان شقيقه و ها قد رحل لكن حدسه يخبره هناك عائق آخر يقف في دربه إليها، فكلما يقترب منها تبتعد لذا عندما جاءت إليه مهمة عمل خارج البلاد لم يتردد و ذهب.
خرجت من الغرفة أخيراً لتستنشق بعض الهواء في الخارج، و قبل أن تخطو قدمها خارج بوابة القلعة قام بمنعها إحد الحراس ذو جسد ضخم، يقف كالجدار المنيع:
"ممنوع سيدتي"
حدقته بازدراء وصاحت بحنق:
"أنا لم أهرب يا أحمق، أريد التنزه قليلاً في الحديقة فقط"
أخبرها بجدية صارمة:
"أوامر سيد فلاد أن حدودك هنا"
أطلقت زفرة و نظرت بسخط قائلة:
"تباً لك و لسيدك"
كادت تعود إلي الغرفة لكنها توقفت حين سمعت صوت وصول سيارة بالخارج و صياح أحد الرجال:
"ماذا حدث جوستو؟"
أجاب جوستو:
"ظهرت أحد السيارات في طريقنا إلي القلعة و نزل منها مجموعة من الرجال المسلحين، تبادلنا إطلاق النار وعندما اشتد القتال ترجل السيد فلاد من السيارة ليطلق عليهم الرصاص، تسلل أحدهم دون أن ننتبه إليه بسبب الظلام الذي كان يعم المكان هناك، أطلق هذا اللعين رصاصة علي الزعيم و استقرت في كتفه"
رد الأخر علي عجلة من أمره:
"هيا أحمله إلي الداخل سريعاً وأنا سوف أتصل بالطبيب"
"قمت بالإتصال بالطبيب لكنه سيتأخر قليلاً بسبب سوء أحوال الطقس"
ظلت تنتظر ريثما يدخلوا جميعاً، و عندما رآتهم يحملون فلاد من ذراعيه علي أكتافهم ركضت نحوه وأخبرتهم:
"أتركوه أنا سوف أهتم به و أعالج جرحه"
نظر إليها فلاد والعرق يتصبب من جبينه، رفع جانب شفتيه بتهكم قائلاً:
"و كأنك تهتمين لأمري!"
لم تهتم إلي سخريته فأشارت إلي رجاله:
"هيا أسرعوا إلي غرفته"
فتحت باب الغرفة فولج الحارسان يحملونه، تركاه علي الفراش بروية، فأمرت سيلينا أحدهما:
"أجلب لي حقيبة الإسعافات الأولية و إبرة وخيط طبي"
نظر أولاً إلي سيده فأومأ له فلاد بأن يذهب و يفعل ما أمرته به سيلينا، التي بمجرد ذهاب الحارسين قامت بإغلاق الباب ثم عادت إلي هذا الجالس علي الفراش، أقتربت منه ومدت يديها إلي تلابيب سترته:
"أعلم إنك غير قادر علي تحريك ذراعك لدي الجهة المصابة، أرجو منك أن تتحمل ريثما أنتهي من إخراج الرصاصة وتضميد جرحك"
أذعن إليها دون أن يتحدث بكلمة، قامت بخلع سترته ثم شرعت بفك أزرار قميصه قائلة:
"كيف تتحمل هذا البرد القارس بتلك الثياب الخفيفة؟"
رفع وجهه إليها وأخذ ينظر إليها بصمت، فهي حمقاء لا تعلم وجودها بهذا القرب الشديد منه يجعل جسده يتحمل ثلوج سيبيريا دون ثياب، كم يعشقها و لا يريد البوح بكل ما يحمله لها.
شعر بوخز قوي ألمه بشدة عندما حرك ذراعه التي توجد أعلاها الرصاصة، تأوه من بين أسنانه فقالت:
"أعتذر، لم أقصد أن إيلامك"
حدقها بنظرة تحمل الكثير من المشاعر فسألها ساخراً:
"حقاً؟"
هربت من التحديق في عينيه التي حديثها أبلغ من كلمات لسانه، ذهبت إلي البراد فقامت بفتحه، وجدتها مليئة بزجاجات المياه المعدنية و عدة زجاجات متنوعة من الخمر، أخذت زجاجة مياه وأخري نبيذ، جذبت كأساً كان يوجد أعلي البراد، عادت إلي فلاد المراقب لما تفعل، قامت بفتح زجاجة النبيذ وبدأت تسكب منه في الكأس حتي امتلئ للنصف، مدت يدها بالكأس إليه:
"تفضل، النبيذ سيخفف ألمك"
تناول الكأس وأخذ يرتشف منه القليل ثم تركه علي الكمود، في تلك اللحظة ولجت الخادمة تحمل حقيبة الإسعافات، وقفت تنظر إلي فلاد الذي يجلس وجذعه عارياً، فقالت لها سيلينا بسخرية بعدما لاحظت تأمل الأخري لفلاد:
"و متي ستنتهي وصلة التأمل في جذعه العاري؟!"
انتبهت الأخري إلي سؤال سيلينا فشعرت بالحرج مما راق الأمر لفلاد فابتسم، تركت الخادمة الحقيبة أعلي المنضدة:
"عذراً، هل من خدمة أخري سيدي؟"
"أذهبِ أنتِ آنا"
ذهبت الخادمة وأغلقت الباب خلفها، أسرعت سيلينا بتحضير الأدوات، أخبرها الأخر:
"أنك تحتاجين إلي سكين أو خنجر لإخراج الرصاصة، ستجدينها في درج المكتب هناك"
ذهبت خلف المكتب وفتحت الدرج وجدت كما أخبرها سكيناً صغيراً ولاحظت وجود سلسلة ليست غريبة الشكل، أخذتها أيضاً وعادت إليه وعندما رأت التعب قد تملك من جسده وعرق جبينه يزداد تركت ما بيدها جانباً ولمست جبينه فوجدت حرارة جسده مرتفعة فقالت:
"يجب أن أخرج الرصاصة سريعاً؛ فدرجة حرارة جسدك مرتفعة"
قامت أولاً بسكب القليل من المطهر علي الجرح فألمه بشدة، جز علي فكه حتي استمعت إلي صوت اصتكاك أسنانه.
"آسفة لك"
"هيا أخرجيها بسرعة"
نظرت إليه وأخبرته:
"ضع هذه بين أسنانك"
مدت يدها إلي فمه بلفافة من الضماد الطبي، فوضعتها بين أسنانه، أمسكت السكين قامت بتطهيره ثم بدأت تخرج الرصاصة بحذر حتي لا تصيب ما حولها، كلما تسحب الرصاصة كلما زادت زمجرته التي تشبه زئير الليث حينما يتألم.
"تحمل، قاربت علي الانتهاء فالرصاصة لم تتعمق أكثر من سنتيمترٍ ونصف، تذكرني بالرجل الفولاذي"
ابتسمت له لعلها تخفف عنه الألم، قامت بتنظيف الجرح جيداً ثم أعدت الإبرة والخيط الطبي، وجدته ينظر إليها بقلق فأخبرته بزهو:
"لا تقلق فقد حصلت علي درجة امتياز في التمريض وذلك عندما كنت في دورة الكشافة، كما قمت بخياطة و تضميد جروح شقيقك أكثر من مرة حينما كان يتعرض لهجوم مسلح مثلك"
باغتته بوخزة الإبرة فهنا أطلق أنين مكتوم بسبب اللفافة التي بين أسنانه، يقبض بقوة علي الفراش بيديه، شعر كأن روحه ستغادر جسده بعد هذه المعاناة.
انتهت من ما تفعله وقامت بتضميد الجرح جيداً، كان يغمض عينيه فأخذت اللفافة من فمه قائلة:
"لقد انتهيت"
أخذ يلتقط أنفاسه يخبرها من بينها:
"شكراً لك"
"لم أفعل سوي الواجب، ربما أرد بعض الدين وفضل عائلة رومانوف علي عائلتي"
لاحظت مرة أخري تلك النظرة التي يحدقها بها كلما جاءت ذكري الماضي فأردفت:
"سأجلب قميصاً لك من الخزانة، فالطقس بارد وجسدك محموم، تناول قرص خافض الحرارة والمضاد من أجل إلتئام جرحك حتي يأتي الطبيب ويخبرك بالادوية اللازمة لحالتك"
فعلت ما أخبرته به وقامت بمساعدته علي إرتداء القميص، أمسكت بالوسادة وضعتها لدي موضع رأسه علي مضجعه وقالت:
"هيا أرح جسدك وسأخبرهم يعدون لك حساء اللحم، فيجب أن تأكل جيداً لكي يطيب جرحك أيها القيصر"
كادت تذهب فأمسك رسغها يسألها:
"لما كل هذا الإهتمام؟"
ابتسمت بدهاء فهي علي وشك السيطرة عليه و التلاعب به كما أرادت، تعلم إنه صعب المراس لكن لا مستحيل يستطيع الصمود أمامها، يكفي نظرات عينيه التي تخبرها إنه عاشق لها حتي النخاع.
دنت منه حتي شعرت بأنفاسه علي وجهها، فأجابت بمكر حية خبيثة:
"ربما قلبي من يأمرني بما عليه فعله"
كاد يُقبلها فعادت إلي الوراء عن عمد، تريده أن يحترق شوقاً إليها حتي في حضرتها.
"سأعود بعد قليل"
سارت بدلال و ألقت نظرة إليه قبل أن تغلق الباب، و عندما ذهبت هبط بجسده علي الفراش ينظر في السقف قائلاً بداخل عقله:
"لأن قلبك ملكاً لي أنا فقط"
༺※※※༻
عاد لتوه إلي قصره بعد عناء يوم طويل ولقاء صديق قديم، كان يبتسم كلما يتذكر الأحاديث التي دارت بينهما عن ذكريات الماضي، فبرغم فارق العمر بينه و بين أدهم والذي لا يتجاوز السبع سنوات لكن كل منهما لا يشعر بهذا الفارق لتقارب الأفكار، و ما يميز أدهم فإنه يمتلك روح الدعابة ويحب المزاح حتي في أصعب الأوقات والشدائد.
وصل قصى بعد أن صعد الدرج أمام غرفة النوم، توقف قبل أن يمسك بالمقبض وذهب ليطمئن علي ابنه وابنته، ولج إلي غرفة الصغيرين وجد مالك ينام و الغطاء ملقي علي الأرض، دنا وألتقط الغطاء ودثر به الصغير جيداً ثم قام بتقبيل جبهته.
ألتفت إلي سرير أميرته الصغيرة فلم يجدها، ذهب إلي غرفته ليسأل زوجته فتعجب من ما يراه الآن، وجد كل منهما تحتضن الأخري و بجوارهما كتاب لقصص الأطفال، ابتسم و شعر بالراحة أخيراً، يبدو أن صبا تكلفت جهداً كبيراً حتي تصبح صديقة لابنتها وليست أُماً لها فقط.
خلع سترته وألقاها علي المقعد المخملي أمام السريع ثم جلس ليخلع حذائه، نهض ويخلع ربطة العنق وألقاها فوق القميص متجهاً إلي جانب السرير بجوار زوجته، تمدد وأطلق آهه بصوت خافت، يضع ساعده أسفل رأسه، استيقظت صبا وتقلبت لتقول بصوت يغلب عليه النوم:
"حمدالله علي السلامة يا حبيبي"
تمدد علي جانبه لصبح مقابلاً إليها وابتسم:
"الله يسلمك يا قلب حبيبك"
"هاقوم أقولهم يحضروا لك العشا عقبال ما تغير هدومك"
حاوط خصرها بذراعها وجذبها إلي صدره:
"مش جعان و لا قادر أقوم حتي أغير هدومي"
"للدرجدي كان يوم صعب؟!"
أغمض عينيه من التعب وأجاب:
"كلمة صعب دي قليلة، بس كل التعب راح لما شوفتك أنتي و زوزو في حضن بعض، عملتي إيه يخليها ترضي عنك"
قالها مبتسماً، فأجابت الأخري بزهو:
"يا حبيبي أنت مستهون بيا؟!، أنا دخلت لها من ثغراتها، يعني كل حاجة هي بتحبها أعملها لها أشاركها اهتمامتها وبقيت أتجنب أجيب سيرتك قدامها عشان بتغير عليك كأنك جوزها هي"
ضحك حتي دمعت عيناه، لكزته في كتفه فتأوه:
"و كمان بتضحك، ماشي أنا وهي بقينا أصحاب وهنتفق عليك"
توقف عن الضحك وأخبرها:
"إستحالة زوزو حبيبتي تعمل كدة، لو العكس هتعملها لكن أنا قيصو حبيبها"
لكزته مرة أخري بمرفقها ونهضت بجذعها:
"طيب اشبعوا ببعض يا حبيبها و أنا هاروح أنام جمب ابني حبيبي"
أمسك ذراعها وجذبها فسقطت علي صدره:
"تعالي هنا رايحة فين، ملكيش حبيب غيري أنا وبس"
ضحكت وبدلال عقبت قائلة:
"إيه ده معقول بتغير من ابنك؟!"
"لاء طبعاً، أنا دماغي مش تافهة"
رفعت حاجبها وسألته بغضب طفولي:
"قصدك إن أنا تافهة؟"
"لاء يا حبيبة قلبي أنتي ست العاقلين"
"أيوة كدة، كنت بحسب"
ابتسم بمكر قائلاً:
"علي طول ظلماني"
"ماشي يا عم المظلوم، قوم أدخل خد لك shower عقبال ما أحضر لك هدومك عشان ما ينفعش تنام كدة"
أمسك يدها وحدق إليها بعشق:
"عارفة، حبك عندي كوم و اهتمامك بيا ده كوم تاني، أنا خايف أحسد نفسي عليكي"
قام بتقبيل راحة كفها وأردف:
"ربنا يخليكي ليا يا صبا قلبي وروحي"
"مش خايف للسوسة اللي نايمة جمبنا تسمعك؟"
"ما تقلقيش دي زمانها في سابع نومة"
"طيب يلا قوم بقي واسمع الكلام قبل ما النوم يغلبك أنت كمان"
نهض وجلس علي طرف السرير:
"نسيت أقولك أنا بكرة أجازة، ما تيجي أنا وأنتي نقضي اليوم بكرة علي اليخت"
وقفت أمامه وحاوطت عنقه بين يديها:
"كنت لسه هقولك تعالي نقضي الـ weekend علي اليخت"
ظهرت ابتسامة خبيثة علي وجهها ثم اردفت:
"حتي أفرجك علي باقي الأطقمة"
نهض وأمسك بكلا يديها:
"و يا سلام لو ضيفنا عليهم بدلتين رقص زي بتاعت لما كنا في الفندق، واحشني رقصك"
أطلقت ضحكة مغناج دوي صداها في الغرفة:
"بس كدة، عيوني هتلاقي لورديانا بترقص لك"
حاوط خصرها بيديه واقترب بشفتيه من وجنتها:
"أنتي في عيني أجمل من مليون لورديانا"
باغتها بإلتقاط شفتيها في قبلة ناعمة قاطعها صوت تقلب ابنتهما مما جعل كليهما يبتعد عن الآخر حيث انتفضت صبا واضعة يدها علي صدرها:
"حتي و هي نايمة عاملة لنا قلق"
أشار إليها قصى بالصمت و اقترب من وجه ابنته ليتأكد إنها نائمة ثم عاد إلي زوجته وأمسك يدها قائلاً بصوت خافت:
"تعالي معايا"
"أجي معاك فين أنا رايحة أحضر لك الهدوم"
جذبها خلفه وفتح باب المرحاض:
"هبقي ألبس البورنص بعد ما تحميني"
ولج كليهما وأغلق الباب خلفه، بينما فتحت هذه الصغيرة الماكرة عينيها تنظر نحو باب المرحاض بغضب و بوعيد قالت:
"بقي كدة يا بابي، عايز تاخدها تفسحها و ترقص لك وكمان واخدها تحميك، ماشي أنا بقي مش هخليك تشوف لا صبا و لا بتنجانة (لورديانا)، هوريك زوزو النوزو كونوزو "
༺※※※༻
صف عمر سيارته أمام متجر السيارات ونزل ثم ذهب إلي الداخل، يمسك المفتاح في يده، و عندما رآه صاحب المتجر حدق إليه بسخرية:
"حمدالله علي السلامة يا، نقول سيد ولا عمرو و لا مروان و لا تحب أنادي لك بإيه؟"
ألقي الأخر المفتاح علي المكتب:
"بقولك إيه، أنت ليك عندي حق إيجار العربية و ملكش دعوة بأي حاجة تانية"
حك الرجل ذقنه وقال:
"أنا مليش دعوة، بس المرة الجاية خد بالك الإيجار هيبقي الضعف"
نهض عمر ويرمقه بازدراء:
"حسابك مش معايا أصلاً، ياريت تبلغ اللي قولته لشناوي، وماتنساش تاخد حبوب الشجاعة وأنت بتقوله هات ضعف الإيجار"
ارتبك الأخر وأبتلع لعابه بخوف، ابتسم عمر بانتصار:
"سلام يا عم بيبو"
غادر المتجر وعبر الطريق وولج إلي حارة جانبية متفرعة من شارع متسع، كان بناء قديم، توقف أمام باب شقة قديم، قام بوضع المفتاح فوجد الباب يُفتح وظهرت له فتاة ترتدي ثياباً سوداء و يزين عنقها الوشوم، ترتدي قرط في أنفها و أذنيها مليئة بالأقراط المعدنية.
ابتسمت بترحاب:
"حمدالله علي السلامة يا سوسو و لا نقول دكتور عمر المصري!"
خرج من باب غرفة شاب ذو جسد ضخم أسمر البشرة قائلاً:
"خدي بالك يا ميجو ده بقي دكتور مجانين، صح و لا أنا غلطان يا معلم شناوي؟"
رد رجل يقوم بلف سيجار ويلعق الورقة ثم أخذ يبصق بقايا التبغ العالقة بلسانه:
"لاء صح يا ريكو، هيفضل الدكتور عمر لحد ما يخلص المهمة مع البت بنت الدكتور، لكن لو قل بعقله و لعب من ورانا هخليه يرجع سيد كابو ونسلم الفيديوهات إياها بتاعته للبوليس و هما بقي يتصرفوا معاه"
اقتربت ميجو من عمر وتعلقت بذراعه:
"حرام عليك يا معلم شناوي، سوسو ده أكتر واحد بيسمع كلامك"
وقفت أمام عمر وسألته بمزاح ساخرة:
"ما قولتلناش يا سيسو، لوچي عملت إيه معاك بعد ما أنقذتها من ريكو والمعلم وعبود؟"
أبعد يدها عن ذراعه وحدق إليها بازدراء قائلاً:
"خليكي في حالك أحسن لك يا ميجو بدل ما تزعلي"
ترك ثلاثتهم وولج إلي إحدي الغرف فأوصد الباب، شعر باهتزاز هاتفه في جيبه، أخرجه ونظر في الشاشة فوجد المتصل لوچي، ألقي الهاتف علي مضجعه وخلع قميصه ليبدل ثيابه.