رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل الرابع و العشرون
لو أن حبك كان في القلب عادياً لمللته من كثرة التكرار لكن أجمل ما رأيت بحبنا هذا الجنون وكثرة الأخطار، حينا يغرد في وداعة طفلة حينا نراه كمارد جبار.
~نزار قباني~
تتقلب علي الفراش وتمد يدها بجوارها فما قابل يدها سوي الفراغ وملمس الفراش الذي فقد دفء جسده عندما استيقظ من الصباح الباكر وتركها تنعم بنومٍ هادئ لتستعيد نشاطها وقوتها التي أُنهكت طوال الليل.
نهضت بجذعها الذي يدثره منامة حريرية لونها كالون النبيذ الأحمر، تقتصر علي قطعتين الأولي كنزة بحمالات رفيعة و الأخري سروال يصل إلي منتصف فخذيها، وضعت يديها علي خصلاتها المشعثة، تجمعها في يدها و تبحث عن مشبك الشعر فوجدته علي طاولة مرآة الزينة.
نهضت وأخذته ثم قامت برفع خصلاتها المجمعة وقيدتها بالمشبك، لفت انتباهها تلك البثور الصغيرة التي بدأت تظهر علي خديها و ذقنها، ظلت تحدق بهم عاقدة ما بين حاجبيها، أطلقت زفرة بضيق بعد أن تذكرت سبب ظهورها مثل كل شهر.
أنفتح الباب فجأةً، فكان هو يدفع العربة الخشبية التي يعلوها أطباق من الطعام و إبريق المشروبات الساخنة والفناجين، و عندما رآها قد استيقظت وتقف أمام المرآة قال:
"يا خسارة كان نفسي أنا اللي أصحيكي"
ألتفت إليه وابتسمت عندما رأته يدفع عربة الفطور:
"أنا اللي صحاني لما كنت بتقلب و ما لقتكش جمبي، بس أنا نفسي أعرف أنت لحقت تنام أمتي و تصحي بدري و كمان محضر لي الفطار؟!"
ترك العربة أمام السرير وذهب إليها يحاوط خصرها بيديه مجيباً:
"يعني بذمتك عايزاني يجي لي نوم إزاي و أنا معايا القمر أبو عيون سحراني من يوم ما شوفتهم؟!"
تعلقت بيديها علي منكبيه العاريين حيث لا يرتدي سوي سروال الخاص بالبحر، فقالت له:
"أنا بقي كدة من حقي أصرخ وأقول أنا أسعد واحدة في العالم؛ لأن ربنا رزقني بيك"
أخذ يحدق صوب عينيها بنظرة مبهمة قبل أن يسألها:
"يعني مش ندمانة علي حبك ليا، أو هتيجي في يوم من الأيام و تقولي لي طلقني؟"
أدركت ما يرمي إليه لاسيما المشادات التي حدثت بينهما في الأيام السابقة، أجابت وهي تشعر بالندم من إندفاعها المتهور:
"أنا كنت معذورة وقت ما طلبت منك الطلاق، بلاش بقي نفتح في مواضيع بحاول أنساها بالعافية"
"خدي بالك إحنا أتطلقنا قبل كدة مرة و لا ناسية؟"
تهربت من النظر إليه، فأمسك بطرف ذقنها ليرفع وجهها وينظر إليها بقليل من اللوم والعتاب مُردفاً:
"أنا مش بفتح في اللي بنحاول نقفله، بس حبيت ألفت نظرك لنقطة ضايقتني جداً، و هي لما أتجوزت كنت منتظر أشوف ردة فعل تانية، زي مثلاً غيرتك عليا، قولت أنك هتحاربي عشان أرجع لك، لكن لاقيت عكس كدة خالص، أستقبلتي الموضوع ببرود، مش قادر أوصف لك أنا وقتها حسيت بإيه، قولت لنفسي وقتها هو أنا للدرجدي مش فارق معاها كدة؟!"
رفعت بصرها نحوه فأجابت بجدية:
"لأن مكنش جرحك ليا جرح عادي، ده كان إهانة لكرامتي قبل مني، و كان أضعف الإيمان أحسسك إن اللي عملته ده و لا يهز شعرة من صبا الرفاعي، و مش أنا اللي أقعد أبكي و أنوح علي جرحي، بالعكس أنا أدوس بكل قوتي عليه وأستحمل الألم و لا أبين لحظة إنكسار للي قدامي"
كان يستمع إليها بصمت وعيناه تنضح بنظرة غامضة، وفي عقله يتعجب منها فهي تشبهه في هذا الطبع كثيراً، مهما كان شعوره من الألم من المستحيل أن يظهر لأي أحد ألمه عدا هي، فأمامها قد أسقط قناعه.
بدد داخله أي شعور يعكر صفو تلك اللحظات الرائعة، أغمض عينيه وهبط بشفتيه ليُقبل جبينها ثم ابتسم إليها وأخبرها:
"أنسي أي حاجة قولتها، جوزك واقع من الجوع، يلا بينا نفطر الأول عشان لما نخلص هاخدك جولة علي اليخت بتاعك تتفرجي عليه"
ظهرت إبتسامة علي ثغرها فقالت له:
"خمس دقايق هاروح التويليت أغسل وشي وراجعة لك"
قامت بخطف قبلة فوق خده ثم ذهبت سريعاً وكأنها تخبره بأن يمحو تلك الذكريات المقيتة و يترك نفسه ليحيا معها لحظات السعادة الحالية.
※※※
صدح رنين جرس المنزل و تبعه صوت الجدة:
"حاضر ياللي بترن الجرس، ده مين ده اللي جاي علي الصبح بدري كدة"
فتحت الباب فوجدت الزائر حفيدتها المبتسمة إليها:
"يعني مين هايعبرك غيري يا تيتا؟!"
صاحت الأخري بحفاوة وترحاب مهللة:
"أهلاً، أهلاً بالغالية بنت الغالي"
تبادلا العناق القوي، فأردفت الجدة:
"أخص عليكي، بقي كدة بقي لك يومين ما بتسأليش عني؟!، و لا علي رأي المثل من لقي أحبابه نسي أصحابه؟!"
ولجت دنيا إلي الداخل وأغلقت الباب قائلة ومسحة من الحزن تلوح علي ملامحها التي أصبحت بائسة:
"و الله أبداً يا تيتا، الموضوع و ما فيه كنت مشغولة مع مذاكرة قصى، ده غير يزيد و سيف اللي متعلقين بيا و مش بيبطلوا خناق، و طول النهار زي اللي دايرة في ساقية"
ظلت الأخري تنظر في وجهها الشاحب بتمعن لا سيما إلي الهالات التي بدأت في الظهور أسفل عينيها، فسألتها بصرامة:
"هو المنيل علي عينه جوزك لسه مزعلك؟"
هزت رأسها بنفي، فواصلت بسؤال أخر:
"أوعي بيكون بيمد إيده عليكي، أحسن و رب الكعبة لأروح لحد عنده و بعكازي أنزل فوق نفوخه و لا يهمني"
أطلقت دنيا زفرة علها تخفف عبئ ما تكنه بداخلها فأجابت:
"مفيش حاجة مين اللي قولتيها حصلت، بالعكس أنا اللي بتعامل معاه بجفاء و ببرود وكل ما يقرب مني بطين عيشته، هو غصبني علي الرجوع ليه فيستحمل بقي"
رفعت الجدة إحدى حاجبيها بتعجب وعقبت علي حديث حفيدتها كما برمت الأمور جيداً:
"هو اللي يستحمل و لا أنتِ اللي مش قادرة تستحملي؟!، ده وشك بقي شبه الكركم و تحت عينك منفوخ من كتر العياط و لا السواد من قلة النوم، ليه بتعملي كدة في نفسك يا ضنايا؟، كل ده عشان هددك بطردي، أنا عندي أعيش في الشارع وأرض ربنا واسعة، لكن ما أشوفكيش بالمنظر ده، لو ملناش راجل أنا هخلي رجالة الحارة يوقفوا له لحد ما تطلقي منه و العيال ملزومين منه، هو أبوهم و يصرف عليهم ويوفر لهم سكن لو مش بمزاجه ده غصب عنه"
لم تتحمل أن تمنع دموعها أكثر من ذلك فأطلقتها تنهمر علي خديها كما أطلقت لسانها ليبوح عن ضعفها وقلة حيلتها:
"أنا اللي راجعني ليه ده يا تيتا"
أشارت إلي موضع قلبها، و أكملت حديثها الذي يبكي له الفؤاد بدلاً من الدموع دماء:
"حاولت أكرهه معرفتش، و يوم ما روحت لحد عنده كنت فاكرة هفضل علي موقفي لكن لاقيت قلبي أعلن عصيانه عليا و عملت العكس، أنا جوايا حرب يا تيتا، عقلي اللي بدأ ينتقم منه وقلبي اللي بيقولي أديله فرصة تانية، و لما بفتكر إن كان متجوزني عشان ينسي بيا مراته اللي بيحبها وكان مغفلني السنين اللي فاتت دي كلها، ببقي هاين عليا أولع في نفسي وأرتاح و أريحه مني"
ربتت عليها جدتها:
"أستغفري الله يا حبيبتي، ألف بعد الشر عليكي ربنا يبارك في عمرك ليكي و لولادك"
أخذت تمسح دموعها بالمحرمة الورقية، رفعت رأسها لتخبر الأخري:
"المصيبة بقيت أشوف في عينيه الندم و بقي يحاول يرضيني عشان أسامحه، و أنا مش قادرة أعمل كدة، خلاني بسببه أتغيرت كتير، ما بقتش دنيا اللي يعرفها، بتظاهر قدامه بقوة مخبية وراها ضعفي اللي قواه عليا"
عقبت الأخري بحزن علي ما وصلت إليه حفيدتها:
"لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا ياما يا بنتي قولت لك أعملي حساب للزمن و أعملي لك قرش خاص بيكي علي جمب، مفيش راجل مضمون في الزمن ده إلا من رحم ربي، و جوزك بسم الله ماشاء الله معاه بزيادة و كان بيديكي فلوس كتير مصاريف البيت ومصاريفك، أو كنتِ تشتغلي، مش كان زمانك يبقي ليكي حاجة تقويكي وتتسندي عليها بدل ما أنتِ محوجة ليه"
"مكنتش أتصور إن كل ده يحصل، و مبدأ الشغل هو كان رفضه و أنا شيلته من دماغي خصوصاً بعد ما خلفت"
و كأنها تذكرت شيئاً، ظهرت علي شفتيها ابتسامة ساخرة من بين دموعها:
"لاء و البيه فاكرني هارجع له الجارية بتاعت زمان، ينسي اللي كنت بعمله عشانه، ياريت ينسي إني مراته أحسن"
عقدت الجدة ما بين حاجبيها فسألتها بعدم فهم:
"لا مؤاخذة في السؤال، يعني إيه ينسي إنك مراته، أومال عايشة معاه بصفتك إيه؟"
نظرت إليها في صمت حتي أدركت الجدة ماذا تقصد حفيدتها، فقالت:
"أوعي يكون اللي في بالي!"
هزت رأسها بنعم وأجابت:
"يعني يا تيتا بعد ده كله أخليه يلمسني تاني إزاي؟!"
عقبت الأخري:
"يا خايبة هو اللي زي جوزك هتربيه بأنك مش هتدي له حقوقه!، تبقي خايبة وهبلة، قرشه في جيبه وهتلاقيه داخل عليكي بضرة عشان يقهرك ويقولك مش أنا اللي يتلوي دراعي"
بمجرد التخيل تأججت النيران وأكلت قلبها فصاحت:
"نعم!، ده أنا كنت قتلته و أنتحرت"
رفعت الأخري حاجبيها وأخبرتها:
"الله يخربيت الحب وسنينه، أي نعم أنا ما بطقش جوزك بس كلمة حق هو ما يعملهاش، بس بإيدك بقي تخليه زي الخاتم في صباعك وتسويه علي نار هادية، و في نفس الوقت تأمني نفسك و لو مش عشانك عشان عيالك، و خدي بالك طالما أنتِ لسه علي ذمته حرام تمنعيه إنه يقرب منك"
نظرت نحو الفراغ بشرود كالتي تتحدث مع نفسها:
"أنا خلاص أتغيرت فعلاً و كل حاجة هقدمها بعد كدة هيبقي قصادها تمن"
※※※
الطقس معتدل والشمس ساطعة، ينعكس شعاعها علي النظارة الشمسية الداكنة، تخبئ خلفها عينيها الرمادية التي تنظر إلي زوجها وهو يعوم في المسبح أعلي اليخت، يبدو علي وجهها علامات التعب والألم، تضع يدها علي بطنها، انتبهت إليه وهو يتجه إلي درج المسبح فأخذت المنشفة من فوق المقعد ووقفت لدي الحافة، صعد الدرج الصغير فوضعت علي ظهره المنشفة، سألها:
"مش ناوية تنزلي برضو؟، الميه تجنن"
ابتسمت علي مضض حتي لا تقلقه عليها فأجابت:
"مش دلوقتي"
أخذت تجفف جسده من المياه مُردفة:
"ناوي تتغدي إيه النهاردة؟"
أنتقلت إلي رأسه لتجفف له شعره المبتل وكأنه طفلها الصغير، أمسك بكلا يديها بعد أن أنتهت وأخبرها:
"الإيدين الحلويين دول ما يعملوش أي حاجة خالص، لما هيجي وقت الغدا هنرجع للمرفأ وهنروح لمطعم أسماك حلو أوي، وبعدها نرجع علي هنا نسهر مع بعض وعايز أشوف باقي الأطقم شكلهم إيه عليكي"
غمز لها بعينه فابتسمت وقالت بدلال:
"أنت وحظك بقي"
عقد ما بين حاجبيه فسألها:
"تقصدي إيه؟"
أشارت إليه نحو البثور المنتشرة علي أنحاء وجهها، فأدرك حينها إنه توقيت كل شهر لديها، ظل ينظر إليها في صمت ثم تمتم بصوت خافت مازحاً:
"إذا فهي الحرب، هيا إلي ساحة المعركة"
وإذ فجأةً حملها علي ذراعيه مما سبب لها الفزع فصرخت بضحك:
"هتعمل إيه يا مجنون؟"
حدق إليها بمكرٍ وأجاب:
"هتغدي بيكي قبل ما الحظ يتعشا بيا"
و علي الجانب الآخر في القصر، تقف زينات أمام باب غرفة الصغيرين
"أفتحي بقي ما توجعيش قلبي معاكي"
أتاها صوت الصغيرة من الداخل برفضٍ تام:
"لاء مش فاتحة، و مش هاكل و لا هشرب لحد ما أموت و خلي الست مامي تنفعه لما يبقي مفيش زوزا تاني"
"طيب لو قولت لك عشان خاطري و أنا هاتصل ببابي و هخليه يجي لك حالاً"
صاحت بغضب مرة أخري:
"قولت لك يا داده مش هفتح و أنا أصلاً مش عايزة أشوفه، زعلانة منه و مش هكلمه خالص"
ابتعدت قليلاً من أمام الباب و أخرجت هاتفها من جيب ثوبها:
"كدة لازم أكلم أبوها، ده بنت دماغها أصعب من أمها"
بالعودة إلي الملك وزوجته بعد أن أخذها إلي ساحة المعركة حيث الغرفة، و ذلك لخوض ملحمة جديدة علي وشك أن تبدأ.
صدح رنين هاتفه فكان غير منتبه إليه و ربما تجاهله عن عمد، حاولت أن تتملص من قبلته لها حتي تخبره وهي تلتقط أنفاسها:
"فونك عمال يرن"
أومأ لها قائلاً:
"سمعه، بس أنا مركز معاكي، سيبك منه دلوقتي وخليكي معايا"
و هبط علي عنقها يلثم بشرتها بين شفتيه، تكرر الرنين مرة أخري:
"يا قصى بالله عليك رد يمكن داده زينات و فيه حاجة عايزة تبلغنا بيها"
تذكر أمر صغيرته التي تسبب في حزنها و غضبها منه، نهض من أعلي زوجته سريعاً وألتقط هاتفه من فوق الكمود ثم أجاب:
"ألو يا داده"
"تعالي يا بني شوف حل مع بنتك، من إمبارح لا عايزة تاكل و لا تشرب و قافلة علي نفسها و مبهدلة نفسها عياط"
أطبق شفتيه بضيق من نفسه، أطلق زفرة ثم أخبر زينات:
"خلاص يا داده سيبيها و أنا و صبا جايين، ما تقوليلهاش لحد ما أجي"
"حاضر، معلش حقكم عليا، قطعت عليكم راحتكم، بس أنت عارف محدش بيقدر عليها غيرك والوحيد اللي بتسمع كلامه"
ابتسم وقال:
"و لا يهمك أي حاجة تتعوض، كويس إنك كلمتيني، و لو في أي حاجة جديدة أتصلي عليا فوراً"
"حاضر يا بني، ترجعوا بالسلامة"
"الله يسلمك، سلام"
أنهي المكالمة فسألته صبا بقلق:
"مالها زوزا؟ هي كويسة؟"
ترك هاتفه علي الكمود و أجاب:
"قالبة الدنيا من إمبارح عشان جيت الحفلة و خدتك و سيبتها، و مش عايزة تاكل و لا تشرب "
غرت الأخري فاها بتعجب فعقبت:
"أدي أخرة دلعك ليها"
ذهب إلي الخزانة ليأخذ ثيابه وقال:
"ده مش دلع، البنت بتحبني و متعلقة بيا جداً"
عقدت ساعديها أمام صدرها تعقب بسخرية:
"طبعاً علي قلبك زي العسل، ما أنت بابي حبيب قلبها و أنا الكاتعة اللي بتعذب فيها طول الليل والنهار"
ضحك رغماً عنه وسرعان رسم الجدية علي ملامحه فألتفت إليها:
"نتكلم بجد بعيد عن الهزار، ياريت تقربي منها وتصاحبيها و تبطلي تتخانقي معاها و تحطيها في دماغك كأنها واحدة قدك، دي بنتك و كمان طفلة عندها خمس سنين"
نهضت من فوق الفراش واقتربت منه لتخبره بدفاع:
"أنا ما بتخانقش معاها غير لما بلاقيها تتكلم بأسلوب مش كويس سواء معايا أو مع أي حد، و بعدين دي بنتي مش معقول هحطها في دماغي زي ما أنت فاهم، أنا كل اللي بيضايقني إنك بدل ما تعاقبها علي الغلط، بلاقيك تاخدها في حضنك و تطبطب عليها ناقص تقولها برافو عليكي حبيبة بابي"
أرتدي القميص وشرع في غلق أزراره و يحدثها في آن واحد:
"عشان أنا فاهمها كويس و عارف سلوكها الغلط ده بتعمله عشان تلفت الأنظار ليها و تلاقي إهتمام، هي شايفاكي بعيدة عنها و مهتمة بمالك أكتر، دي في مرة سألتني سؤال عمري ما كنت أتوقعه، بتسألني ليه يا بابي مامي بتكرهني وبتحب مالك أكتر مني"
"أنا!"
صاحت باستنكار فقال لها:
"البنت مش هتألف من دماغها، دي لسة طفلة و اللي بتحسه بتقوله، ياريت تقربي منها و تهتمي بيها"
أطلقت زفرة تنفث بها عن الضيق الذي تشعر به تواً ثم قالت باقتضاب من بين أسنانها:
"حاضر"
لم يكن يعجبه إجابتها لأنه رأي إن حديثه لا يروق لها، تغاضي عن هذا الأمر مؤقتاً فأمرها بعجالة ويرتدي ربطة العنق أمام المرآة:
"يلا أجهزي و أنا هستناكي فوق"
وفي تلك الأثناء مازالت تمكث الصغيرة في غرفتها، يطرق شقيقها باب الغرفة:
"أفتحي يا زوزو أنا مالك"
"يوه بقي أنا قولت مش فاتحة، زهقتوني في عيشتي"
أخذ يلتفت من حوله ليطمئن أن لا يسمعه أو يراه أحد خاصة زينات، فأخبر شقيقته بصوت خافت:
"ما تخافيش أنا لوحدي"
نزلت من فوق الفراش و ذهبت لفتح الباب فسألته بهمس:
"جيبت اللي قولت لك عليه؟"
أجاب ويخرج لها من أسفل قميصه كيساً بلاستيكياً ممتلئ:
"عملت لك ساندوتشات نوتيلا و حطيت لك تفاح و موز و معرفتش أجيب لك عصير أو لبن عشان مكنتش هعرف أخبيه في الشنطة"
تناولت الكيس منه بلهفة:
"مش مشكلة أهم حاجة الساندوتشات، يلا روح أقعد مع داده زينات و لو سألتك عليا قولها زوزو نامت بعد ما عيطت كتير"
ابتسم وقال:
"ماشي يا مجنونة"
و قبل أن تغلق الباب أوقفته:
"شكراً يا لوكا يا حبيبي"
و وقفت علي أطراف أنامل قدميها وقامت بتقبيله علي خده ثم عادت إلي الداخل وأغلقت الباب دون أن تصدر صوتاً، جلست علي الأرجوحة الصغيرة الخاصة بها، أخرجت شطيرة الشكولاتة الذائبة، تنظر إليها بشهية قائلة:
"أنا زعلانة من بابي اه بس ساندوتشات النوتيلا لاء"
نظرت علي يمينها وجدت الهامستر ينظر إليها من خلف القفص
"يا حبيبي يا شرنوبي أنت ما أكلتش من إمبارح، خد حتة أهي علي قدك و لما تخلصها هديك تاني"
مدت إليه من بين الفتحات الرفيعة قطعة من الشطيرة فقام الهامستر بأكلها
أقتربت منه وببراءة همست إليه:
"أوعي تقول لبابي إن أنا باكل، عشان مش أرميك للقطة اللي في الجنينة"
※※※
يتجمع كل من آدم وخديجة ويوسف وعلياء حول المائدة، وكذلك ابنائهم و ابنتي ملك، تمد علياء يدها إلي صغيرها عزالدين تقدم له ملعقة من مقرمشات الذرة المخلوطة بالحليب فيأكلها، تخبره بهمس وتحذير:
"أنا مارضتش أقول لبابي علي اللي أنت عملته عند نناه، بس والله يا عز لو لاقيتك بتتكلم مع اللي أكبر منك بأسلوب مش حلو هحرمك من كل حاجة أنت بتحبها ده غير هخليك محبوس في أوضتك"
ضيق عينيه وأجاب باستنكار:
"أنا معملتش حاجة و نناه بتكذب عليكي، هي اللي علي طول بتزعق لي"
حدقت إليه بنظرة تحذيرية:
"عز، أنا قولت إيه؟"
طأطأ رأسه إلي الأسفل متمتماً:
"sorry مامي"
بينما كانت لوجي تتصفح حسابها علي موقع التواصل في هاتفها ولم تمد يدها إلي الطعام فهذا لفت انتباه والدها الذي يغزو الغضب ملامحه من أمر ما، ترك ما بيده وقام بنهرها أمامهم جميعاً:
"جري إيه يا لوچي هانم؟، مش قادرة تسيبي الفون خمس دقايق عشان تفطري؟"
رفعت وجهها عن شاشة هاتفها و حركت عينيها في نظرة سريعة فوجدتهم ينظرون إليها، عادت ببصرها تحدق نحو والدها بتمرد:
"مش جعانة"
صاح والدها بغضب:
"ما تقومي تديني قلمين أحسن"
تدخلت علياء لتخمد تلك النيران التي نشبت بين زوجها وابنته:
"فيه إيه يوسف هي معملتش و لا قالت حاجة"
فتدخل آدم أيضاً:
"مالك يا يوسف بتزعق فيها كدة ليه؟"
نهضت لوجي و تمنع بكائها بشق الأنفس:
"عن أذنكم"
كادت تذهب، أوقفتها خديجة تمسك يدها:
"استني رايحة فين؟"
وقف والدها و لم يكترث لحديث زوجته و شقيقه:
"تعالي هنا رايحة فين؟"
ألتفت إليه بوجه محتقن بالدماء:
"هستني الـ Bus "
ضيق عينيه ثم قرر أن يفصح لها عن سبب غضبه:
"أنا كم مرة نبهت عليكي مفيش بيات عند مامتك و أخرك زيارة ليها كل أسبوع، و أستغليتي سفري و إن مش موجود و قعدتي معاها يومين، و لا كأن فيه حاجة إسمها هستأذن بابا"
اتسعت عيناها بصدمة كيف يناقشها في ذلك الأمر أمام الأخرين، ابتلعت ريقها وقالت:
"ممكن نتكلم بعدين؟"
أطلق زفرة و لم يأبه لحرجها بل زاد منه أكثر بقوله لها:
"أنا بكلمك قدام عمك ومراته و مامتك"
أشار لها نحو علياء وأردف:
"يعني مفيش حد غريب"
تريد الصراخ في وجهه لكن هناك غصة عالقة في حلقها تمنعها عن ذلك، أرادت التنفيث و لو بمقدار ضئيل عن ما تشعر به قبل أن تنسحب:
"أنا مليش غير أم واحدة، و هي مامي أنچي"
و في لحظة أطلقت ساقيها للريح تجاه البوابة، كاد يوسف يذهب خلفها ليلحق بها فأوقفته علياء تمسك بذراعه:
"سيبها هي هتهدي و لم ترجع أنا هقعد معاها"
عقبت خديجة:
"معلش يا يوسف متزعلش مني، مكنش ينفع تعاتبها و تزعق لها قدامنا، لوجي ما بقتش طفلة صغيرة و في سن حرج و محتاجة اللي يطبطب عليها و يحتويها"
نظرت إليها علياء بقلة حيلة تخبرها:
"و الله قولت له كدة أكتر من مرة و برضو مفيش فايدة"
نهض آدم ووضع يده علي كتف شقيقه قائلاً:
"علياء و خديجة عندهم حق، و بعدين أنت كنت طول عمرك قريب منها، مالك قلبت عليها ليه دلوقت؟"
تريث في التفكير قليلاً وجد إنهم علي حق مما زاد غضبه لكن تجاه نفسه، أخذ متعلقاته من فوق المائدة و ذهب دون الإجابة بحرف واحد علي سؤال شقيقه.
صاح آدم:
"ماشي رايح فين؟، مش بكلمك؟"
فقالت خديجة:
"سيب أخوك على راحته"
أمسكت بيد حقيبة اليد خاصتها وأردفت:
"أنا مضطرة أسيبكم عشان ما أتأخرش علي أول section "
عقب آدم:
"إستني هاجي أوصلك"
※※※
ترجلت من السيارة و تبعها هو أيضاً، رآهما الصغير فركض منادياً:
"مامي؟، بابي؟"
فتحت كلا ذراعيها في إستقبال عناقه الحنون:
"مالك حبيب مامي واحشني أوي"
"و حضرتك كمان وحشاني أوي يا مامي"
جاء من خلفه صوت والده يسأله:
"و بالنسبة لبابي إيه النظام؟"
انسحب من حضن والداته وألتفت إلي والده فقام بمعانقته:
"حمدالله علي السلامة يا بابي، وحشتنا أوي"
ربت علي ظهر صغيره:
"و أنتم واحشيني أكتر"
أنسحب من العناق ليخبره ببراءة:
"بليز يا بابي ما تغيبش عننا تاني، البيت من غيرك وحش"
وضع الأخر كلا يديه علي كتفين صغيره قائلاً:
"أطمن يا حبيبي أنا مش هابعد عنكم تاني، و من هنا و رايح هخصص لكم يوم كل أسبوع يبقي بتاعكم نخرج و نتفسح فيه"
دنا من أذن ابنه و أخبره بصوت خافت:
"ده غير خروجاتنا أنا وأنت يا صاحبي، بس أوعي تفتن لزوزا بدل ما تشرحنا أنا وأنت، اتفقنا؟"
هز الصغير رأسه مبتسماً وقال:
"إتفقنا يا صاحبي"
وضع يده علي رأس صغيره وداعب خصلاته:
"معلش بقي هاسيبك دلوقت و هاطلع أشوفها أصلها زعلانة مني أوي"
بدي علي ملامح مالك إنه يريد يخبر والده بشىء، تلفت من حوله حتي لا يسمعه أحد ثم أشار إليه بأن يقترب:
"هقولك علي سر بس أوعي تقول لحد بالذات زوزو"
عقد ما بين حاجبيه و رسم علي ملامحه الجدية:
"قول سرك في آمان"
أقترب من أُذن والده وأخذ يهمس له ببضع كلمات.
و في الأعلي تطرق الباب:
"زوزو حبيبتي أفتحي أنا مامي"
كانت الأخري في الداخل تستمع إلي صوت والدتها فأدركت أن خطتها قد نجحت بجدارة، فصاحت بغضبٍ زائف:
"ملكيش دعوة بيا و روحي عند جوزك"
أعتلت الصدمة وجه صبا و رددت مع نفسها:
"جوزك!، دي طلعت فعلاً غيرانة بجد"
أخبرتها بصوت مرتفع:
"طيب أفتحي عشان خاطري، أنا جايبة لك الشوكيلت اللي بتحبيها"
"مش عايزة منك حاجة و لا أقولك روحي أديها للوكا ابنك حبيبك"
عقدت الأخري ما بين حاجبيها تتذكر ما أخبرها به زوجها عن ملاحظة ابنتهما التفرقة في المعاملة.
"ما أنتِ برضو زوزو بنتي حبيبتي، أنا بحبك أنتِ و مالك"
وقفت الصغيرة خلف الباب لتعقب علي حديث والدتها:
"لاء مش واحد، بتحبيه أكتر مني و بابي كمان بيحبك أكتر مني، و أنا بنت البطة السودة"
كادت تنفلت منها ضحكة لكن خشيت أن هذا يثير غضب ابنتها فقالت لها:
"لاء يا زوزو أنتِ بنتي حبيبتي أنا، و بابي كمان بيحبك أوي، حتي لوكا كمان، كلنا بنحبك، ممكن تفتحي بقي عشان أنتِ وحشاني أوي"
جاء قصى للتو بعد أن صعد الدرج، أقترب منها و همس لها:
"روحي أنتِ و سيبها لي، أنا بعرف أتعامل معاها"
أخبرته قبل أن تذهب:
"أستلقي وعدك بقي عشان شكلها أعلنت غضبها عليك، ربنا معاك"
ابتسم ثم وضع يده علي مقبض الباب، حمحم أولاً فقال بنبرة يشوبها الحنان:
"زوزو حبيبتي أنا جيت عشانك، حقك عليا ما تزعليش مني علي اللي حصل إمبارح، أنا أخدت مامي عشان أصالحها لإنها كانت زعلانة مني، ممكن بقي تفتحي عشان أصالحك أنتِ كمان؟"
كانت تضع طرف إصبعها بين أسنانها و الإبتسامة تشق ثغرها وتكاد تصل إلي كلا أذنيها، فقالت بحزن زائف من أجل أن تجعله يشعر بالذنب نحوها:
"لاء أنت مش بتحبني، بتحب مامي أكتر، أنا زعلانة منك أوي أوي ومش هكلمك تاني"
"لاء أنا بحبك أنتِ، و لو فتحتي هاخدك النهاردة الملاهي اللي أنتِ بتحبيها و نشتري ألعاب كتير"
ترددت في أن تفتح قفل الباب، ابتسم بمكر فقرر إستخدام نفس الحيل التي تستخدمها هي فأردف:
"خلاص يا زينب خليكي قافلة الباب و أنا هاسيب لك البيت ومش هارجع، و مش هيبقي فيه قصى تاني"
اتسعت رماديتيها الصغيرتان وسرعان وضعت المفتاح في القفل و فتحت الباب، و حدث عكس ما كان يتوقع، بعدما فتحت ركضت إلي الكرسي فجلست بزاوية حيث ولت ظهرها إليه وعقدت ساعديها أمام صدرها.
أقترب منها و وقف أمامها أمسك بذقنها:
"القمر بتاعي هيفضل زعلان مني لحد إمتي؟"
نظرت إليه في تلك اللحظة بحدة وغضب في آن واحد، ألقت يده عن ذقنها في الهواء قائلة:
"ملكش دعوة بيا و روح أقعد مع حبيبتك"
ابتسم رغماً عنه، مد يديه إلي خصرها حملها ثم جلس علي الكرسى فوضعها أعلي فخذيه، وضع كفه علي خدها يخبرها:
"ما أنا قاعد فعلاً مع حبيبتي، اللي هي أنتِ طبعاً"
نظرت إلي أسفل وتهز ساقيها في الهواء:
"عشان كدة ضحكت عليا و أخدت مامي إمبارح و مشيت، أنا قعدت أعيط كتير و عمتو كارين فضلت تضحك عليا"
"هتلاقيها كانت بتهزر معاكي، و بعدين أنا قولت لك السبب ليه أنا أخدت مامي، يا زوزو أنا بحبك و بحب لوكا، و زي ما بحبكم بحب مامي"
قالت بدفاع و إصرار:
"لاء أنا اللي حبيبتك و بس، و أنت حبيبي و my hero"
نزلت من علي فخذيه و ذهبت لتحضر له شيئاً، تابعها بعينيه فرآها تخرج من حقيبة المدرسة دفتر الرسم، عادت إليه تفتح له الدفتر وتعطيه إياه، أخذه و نظر إلي رسوماتها، أول صفحة كانت رسمة عشوائية لرجل يرتدي حُلة و بجواره طفلة صغيرة ترتدي ثوب مثل العروس و تاج يعلو رأسها، و الصفحة التالية صورة لنفس الرجل يرتدي زي الرجل الخارق(superman)، و أخر صورة كانت لها و له تتشابك يديهما معاً و صورة إمرأة و ولد يقفان بمسافة، كم أسعد قلبه مدي حبها له، لكن لا يريدها أن تظل علي موقفها نحو والدتها.
"حلوة أوي يا زوزو، بس ليه مش بترسمي صورة ليكي مع مامي؟"
أجابت بتلقائية:
"لأن الميس قالت لنا أرسموا أكتر حاجة بتحبوها، فأنا رسمتك"
هبط علي ركبتيه ليصبح في مستوي قامتها وعانقها بحنان، يربت علي ظهرها:
"أنا كمان بحبك أوي يا قلب قصى"
لفت انتباهه جزء من كيس بلاستيكي يخرج من درج الكمود و تذكر ما أخبره به مالك، فقال لها:
"أنا هاقول لدادة زينات تحضر لك الفطار و أنا هاروح أغير و هاجي أفطر معاكي"
هزت رأسها بالرفض وأخبرته:
"أنا مش جعانة، بس لو هاتفطر هاكل معاك"
حدق إليها بابتسامة:
"بس أنا عايز أفطر سندوتشات نوتيلا و دادة زينات قالت لي النوتيلا خلصت"
و دون تفكير لديها ركضت إلي الكمود وفتحت الدرج أخرجت منه كيس الشطائر، عادت له تمد يدها بالكيس إليه:
"خد يا حبيبي"
ضيق عينيه يسألها بمكر:
"إيه ده يا زوزو، مش أنتِ من إمبارح مش بتاكلي و لا بتشربي، جيبتي الساندويتشات دي منين؟"
غرت فاها و اتسعت عيناها، ضربت الحمرة خديها من الحرج، وضعت كفيها تخبأ وجهها لتتهرب من نظراته، أمسك بيديها وأخبرها:
"ما تتكسفيش، أنا كنت هزعل بجد لو أنتِ ما كلتيش، و هابقي مبسوط لو جيتي معايا دلوقت نفطر تحت في الجنينة، و بعدها مامي هتغير لك عشان هنخرج أنا و أنتِ زي ما قولت لك، إتفقنا؟"
هزت رأسها بالموافقة:
"إتفقنا يا حبيبي"
※※※
و في السيارة صدر من هاتفها تنبيه لرسالة واردة، قامت بفتحها وقرأت بعينيها في صمت
«أوعي تفتكري إنك تقدري تبعديه عني زي زمان، يبقي واضح لسه أنتِ ما تعرفنيش كويس»
توقف آدم بسيارته أمام بوابة الجامعة، أخبرها قبل أن تهم بالنزول:
"ديجا، كلميني أول ما تخلصي"
انتبهت إليه و حاولت أن تداري ضيقها من الرسالة و قررت أن لا تخبره لأمر ما في داخلها.
"معقول هاتسيب شغلك عشان تيجي تاخدني؟!"
أمسك بيدها وبنظرة يملؤها الحب يحدقها:
"ده أنا أسيب الدنيا كلها، و لا عندك شك في حبي و خوفي عليكي؟"
هزت رأسها بالنفي وقالت:
"ربنا يبارك لي فيك و تفضل علي طول كدة و ما تتغيرش"
قطب ما بين حاجبيه فسألها:
"و إيه اللي هايغيرني؟"
اقتربت بوجهها لتصبح علي مقربة من وجهه فأجابت:
"الشيطان يا حبيبي بيدخل ما بين أي زوجين مش بيسيبهم غير لما بيخرب عليهم، عشان كدة عايزاك طول ما أنت فاضي أدعي و قول اللهم أعوذ بك من شياطين الجن و الإنس و خصوصاً الإنس، أصل شرهم بعيد عنك بيبقي ألعن"
أدرك من بين سطور حديثها ماذا تقصد لذا سألها:
"هو فيه حاجة حصلت؟"
نظرت في شاشة هاتفها و أختارت الهروب من الإجابة، لا تريد أن تلجأ للكذب.
"يا نهار أبيض أنا أتأخرت خالص، خد بالك من نفسك و أول ما هخلص هكلمك، في حفظ الله يا حبيبي"
قامت بتقبيل خده ثم ترجلت من السيارة بخطي سريعة تاركة إياه في حيرة، يدعو أن لا يكون هناك أمراً يحدث من دون علمه، لا يريد ما يعكر صفو حياته مع زوجته، لكن كيف و تلك الصهباء تحوم كالأفعى من حوله!
※※※
ترتدي وشاحاً زمردياً أمام مرآة الزينة و حين أنتهت من ضبطه جيداً حول رأسها، أمسكت هاتفها تلقي نظرة علي الساعة، ألتفت إلي صغيرها الجالس علي حافة الفراش:
"جاهز يا حمزة؟"
نظر إليها و هز رأسه:
"أيوه يا ماما"
أمسكت بيد حقيبتها و إرتدتها علي كتفها، مدت يدها إليه:
"يلا يا حبيبي عشان ما نتأخرش"
غادر كليهما الغرفة فوجدت الهدوء يعم أرجاء المنزل ما عدا من وجود العاملين فأوقفت الخادمة تسألها:
"هي مدام شيرين فين؟"
أجابت الأخري:
"مدام شيري وأحمد بيه خرجوا من بدري"
تنفست الصعداء و كادت تكمل سيرها أوقفتها الخادمة تسألها:
"هو حضرتك خارجة؟"
حدقتها علا بتعجب:
"ليه بتسألي؟"
ابتلعت الأخري لعابها بحرج ثم أجابت:
"مدام شيري منبهة علينا إن ممنوع حضرتك تخرجي أنتِ أو البيه الصغير"
غرت فاها بصدمة، هل سوف تصبح آسيرة داخل هذا المنزل!، و لما تلك المرأة المتسلطة تعطي الأوامر إلي الخدم لمنعها من الخروج؟!
أخرجت هاتفها من الحقيبة، فقامت بالإتصال علي زوجها، تلقت رسالة مسجلة بأن الهاتف غير متاح، زفرت بغضب و هي تعيد الإتصال مرة أخري، فتلقت الرسالة مرة ثانية.
"يلا يا حمزة عشان ما نتأخرش"
"مدام علا أرجوكِ مش عايزين مشاكل مع مدام شيري"
حاولت الخادمة منعها مما أثار حنق وغضب الأخري فصاحت:
"مالهاش حكم عليا أنا وابني"
"فيه إيه؟"
سؤال هذا الذي حضر للتو أجفلها وجعل قلبها ينتفض خاصة بعد أن تلاقت عيناها بخاصته ونظرته الحادة التي يحدقها بها الآن
أجابت الخادمة علي سؤاله:
"مدام علا عايزة تخرج و مدام شيري قايلة لنا ممنوع"
صاحت علا بغضب:
"هي مامتك بتأمر الخدامين يمنعوني من الخروج بصفتها إيه؟"
حدقها أحمد ببرود ثم حرك عينيه إلي الخادمة وأمرها قائلاً:
"خدي حمزة ونزليه يلعب في الجاردن"
تشبث الصغير بأمه وقال:
"حمزة هيخرج مع ماما"
اقترب منه و دنا منه ثم وضع يده علي رأسه يمسدها بحنان:
"حمزة حبيبي روح مع الناني عشان نلعب أنا وأنت بلايستيشن"
نظر الصغير إلي أمه فأومأت له بأن يفعل ما طلب منه عمه فذهب مع الخادمة، و عندما أختفي عن بصرها أجفلها زوجها بالقبض علي ذراعها و دفعها داخل الغرفة يغلق الباب بقدمه،
صرخت بألم:
"آه، سيب دراعي"
نفض ذراعها في الهواء وقد تخلي عن البرود الذي كان يرسمه علي وجهه في الخارج، يحدقها الآن بنظرة جعلت قلبها يرتجف خوفاً خاصة بعد سؤاله، يقترب منها ببطئ بينما هي تتراجع إلي الوراء:
"واخدة ابنك و رايحة فين؟، و لا حضرتك ناسية إنك متجوزة و المفروض قبل ما تتحركي تستأذني؟!"
ابتلعت لعابها لكن كالعادة تظاهرت بالقوة أمامه قائلة:
"أنا أتصلت عليك و أدالي غير متاح"
كان يجز علي شفته بغضب فسألها من بين أسنانه:
"ما أنا كنت قدامك الصبح و إحنا بنفطر ما كلمتنيش ليه؟، إلا و إذا بقي كنتي فعلاً ناوية تهربي"
وقعت علي الكرسي وتشبثت بالمساند الجانبية فدنا منها واضعاً كلا يديه علي خاصتها و وجهه مقابل وجهها، تضرب أنفاسه بشرتها، أخبرته بثقة:
"لأن مكنتش قررت أخرج لولا الدكتور أتصل بيا و قالي المفروض أجيب حمزة عشان نكمل الجلسات"
أطلق زفرة عن تعمد ثم تراجع مبتعداً بمسافة قليلة واضعاً يديه في جيوب بنطاله:
"عيادة الدكتور دي فين؟"
كانت تمسد كلا يديها من أثر ضغط يديه عليهما بضيق، أجابت و تحدقه بسخط:
"ده مركز مش عيادة، موجود في زهراء المعادي"
"قومي عشان نوديه"
قال لها بأمر فقالت:
"مفيش داعي تتعب نفسك، أنا هخلي عم صابر يودينا و يجيبنا"
"أنا لما أقول كلمة تتسمع، قومي يلا قدامي"
※※※
حل المساء بظلامه الذي يعيش فيه أحدهم، يتجنب التعامل معها حتي لا ينتهي الحوار بينهما مثل المرة السابقة، لا يعلم ماذا عساه أن يفعل، فهو مدرك بأن القادم سئ و عليه أن يتذوق من ما صنعته يداه.
ولج من باب المنزل للتو فقابله الهدوء، لكن هناك روائح داعب أنفه خليط من رائحة طعام شهي يشوبها رائحة عطور زكية تملأ المكان،
انتبه إلي المائدة المليئة بأطباق الطعام يتوسطها شموع مشتعلة تضفي أجواء ساحرة و رومانسية، و علي رأس الطاولة كانت تجلس في انتظاره، لم يصدق عينيه من ما يراه الآن، ترتدي ثوب أسود ملتصق بجسدها ويكشف عن ذراعيها، خصلات شعرها الغجري متروكة بحرية علي كتفيها، فهي في كامل زينتها.
أقترب و يحك فروة رأسه خلف أذنه، توقف علي مقربة منها يسألها:
"الأولاد فين؟"
نظرت إليه بابتسامة وأجابت:
"مش ترمي السلام الأول يا حبيبي؟، عمتاً الأولاد عند تيتا مسكت فيهم و بيني و بينك أنا قولت أسيبهم الليلة عندها، زي ما أنت شايف كدة مكنتش هاعرف أعملك عشا رومانسي علي ضي الشموع و هما موجودين"
جذب كرسي و وضع بجوارها فجلس عليه يمسك بيدها، قام بتقبيل ظهر كفها يحدقها بسعادة يشوبها نظرة أخري جعلت غصة داهمت قلبها، فهل ما تراه في عينيه للتو هو الحب؟!
"تسلم إيدك"
حاولت التهرب من النظر إليه وجذبت يدها من يده، فأخبرته بجفاء:
"أنا معملتش حاجة، كله دليفري"
ما زال يرمقها تلك النظرة و يخبرها:
"برضو تسلم إيدك"
أخذت من أمامه الصحن الشاغر فأوقفها:
"أنا مش هاتعشي دلوقت"
نهضت وسألته:
"خلاص هشيل الأكل و لما تجوع هسخنه لك في الميكرويف"
نهض و حاوط خصرها بيديها يقربها منه، يتأمل كل إنشاً بها بلهفة.
"سيبي الأكل علي السفرة زي ما هو، هانبقي نرجع له بعدين"
و أنهال علي عنقها يقبلها بنهم، حاولت إبعاده عنها لتخبره:
"قبل أي حاجة، أنا عايزة منك طلب"
"أؤمري"
تحدق إليه بنظرة باردة و لوهلة شعر كأن التي تقف أمامه ليست دنيا التي تزوجها بل هي إمرأة أخري.
"أنا عايزة مليون جنيه سلف"
ضحك فجأة و سألها:
"سلف؟، هو في حاجة اسمها سلف بين الراجل و مراته"
أومأت له وأجابت:
"اه، لأن هارجعهم لك بس بعدين"
"أنا هديهم لك و مش عايزهم، بس ممكن أعرف هاتعملي بيهم إيه؟"
عقدت ساعديها أمام صدرها وقالت بحدة:
"أنت هاتفتح معايا تحقيق!، بقولك عايزاهم"
" ده مجرد سؤال مش تحقيق، عشان لو فيه حاجة أقدر أساعدك، عموماً حاضر هيكونوا عندك بكرة الصبح"
ردت بإصرار و أمر:
"لاء، عايزاهم دلوقت"
تعجب من إصرارها هذا، لكنه خشي أن يضيع تلك الليلة هباءً، كما أسعده رضاها عليه، أومأ له و أخبرها:
"حاضر"
ذهب إلي غرفة المكتب التي أصبح بابها غير موصد منذ يوم إكتشافها لسره الذي حطم قلبها إلي فتات.
عاد إليها يحمل دفتر صغير و قلم:
"أتفضلي ده شيك بالمبلغ تصرفيه في أي وقت"
قام بكتابة الشيك و ذيلهُ بتوقيعه ثم قطعه من الدفتر و مد يده به إليها، أخذته و ألقت نظرة عليه، قامت بطيه وذهبت إلي الغرفة، لحق بها وجدها تضع الشيك داخل حقيبتها، ألتفت فوجدته يقف خلفها مباشرة.
"دنيا أنتي مخبية عليا حاجة؟"
أطبق الصمت لثوان ثم أجابت:
"الموضوع و ما فيه، أنت رافض مبدأ الشغل، قولت هافتح مشروع و أديره من و أنا في البيت"
"هو أنا قصرت معاكي في حاجة؟، إيه لازمتها توجعي دماغك بمشاريع، أنا الحمدلله عندي فلوس و أملاك تخلي ولاد ولادنا يعيشوا ملوك"
"هو رفضك للشغل و لا رفضك أن يكون ليا مالي الخاص، خايف أستقوي عليك أغدر بيك و أطلق منك أو أخلعك"
لم يستطع أن يتمالك نفسه فأخذ يضحك، كما يعهدها فهي ما زالت بريئة و بداخلها نقاء غير قادرة علي الخبث و المكر فهي نقيض سيلينا التي تتخذ إبليس قدوة لها.
توقف عن الضحك و وضع يديه علي ذراعيها، و بنظرة جادة بل و بتحذير واضح يخبرها:
"أنتي غلبانة أوي يا حبيبتي، و شكلك لسه ما تعرفيش جوزك كويس، أنتي مهما وصلتي و لو كان معاكي مال قارون مش هاتعرفي و لا تقدري تغدري بيا أو حتي تعملي حاجة ضد إرادتي، تحبي أكتب لك شيك بمليون تاني؟"
لم تبدي له توترها من ما قاله للتو، تماسكت أمامه فابتسمت له:
"و أنا عمري ما كان في طبعي الغدر"
أقتربت منه أكثر وقامت بمعانقته تخفي دموعها التي تجمعت في عينيها للتو:
"و لأني عشان ما أقدرش أعمل حاجة ضد إرادتك، عندي حل عشان نقدر نكمل مع بعض أو نقول إتفاق يرضي الطرفين"
أبعدها لينظر إلي عينيها يسألها:
"إتفاق؟"
"ممكن نتكلم بعدين، هاقولك بعد ما تخلص سهرتنا"
قامت بمعانقته مرة أخري و قامت بنثر قبلاتها علي ذقنه و عنقه تسأله:
"و لا مش عايز نقضي ليلتنا الجميلة؟"
شعرت بعلو أنفاسه و حرارة جسده التي أشعلتها لمساتها و عناقها المصاحب بسيل من القبلات جعلته كالمغيب بين يديها.
فقال لها بحالة من التيه:
"ياريت كل ليالينا تبقي كدة علي طول"
ختم جملته بإلتقاط شفتيها في قبلة ضارية، و لمساته القوية نابعة من شوقه إليها منذ ليالي مضت، لكن هناك ما لاحظه و لامسه جيداً وهي بين يديه، كانت مستسلمة كالدمية لم يجد منها ردود أفعال مثل السابق، أقرب وصف لما وجده منها ممارسة الحب دون أي مشاعر.
وصل إلي نهاية رحلته معها فكاد يرتمي بين ذراعيها، لكنها نهضت سريعاً من جواره، ألتقطت المأزر القطني فقامت بإرتدائه، ألتفت إليه وجدته يحدقها بتعجب فقالت له بقلب من فولاذ:
"إتفاقنا هو المقابل، و اللي حصل ما بينا دلوقت مقابل الشيك اللي كتبته لي"...