رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل الثاني و العشرون
ما أجمل لقاء الحبيب بعد طول فراق، و بعد سيل من الأشواق، إنها لحظة ترسم أحداثها في لوحة ربيع العمر، لحظة يزاد فيها نبض القلب، و تتجمد المشاعر من فرح القلوب، لحظة فيها من الوفاء ما يروي الأحاسيس.
في صباح اليوم التالي، ضغط على زر ماكينة عمل القهوة، تناول الكوب وأخذ منه رشفة ألقي نظرة علي الساعة في هاتفه ثم نادى علي ابنته:
"يلا يا ياسمين عشان هتأخر علي شغلي"
لم يجد منها رداً، ترك الكوب وذهب ليتفقدها، وجدها مازالت نائمة والعرق يتصبب علي جبينها، تهمهم بكلمات غير مفهومة، شعر بقبضة في قلبه فوضع يده على جبينها، فتح الدرج وأخرج مقياس الحرارة الرقمي وضعه أسفل لسانها فوجد حرارتها 39، أسرع يبحث عن الدواء المسئول عن خافض الحرارة، وجده وحاول أن يوقظها ليسقيها الدواء في فمها.
ألقي نظرة على الساعة مرة أخرى، فوجد زميله في العمل يهاتفه:
"ألو يا مصطفي، أنا هتأخر وإحتمال مش جاي النهاردة البنت سخنة وهاخدها للدكتور"
أجاب الأخر:
"طيب يا ياسين والعميل اللي مستنيك تسلمه الـ project بنفسك، وخد بالك دي تاني مرة هتأجل الميعاد"
تذكر أمر ملك التي أتصل بها عدة مرات بالأمس ولم تجب وعلم من آدم إنها تمكث في القصر، فالمسافة التي تفصله عن قصر عائلته تقدر بساعتين وأكثر وابنته مريضة الآن.
حضرت في ذهنه فكره وشعر بالحرج الشديد، لكن الظروف الآن هي التي جعلته يلجأ لذلك، أجري الإتصال علي من ستنقذه من هذا المأزق.
وفي الجانب الأخر لديها، كانت تضع أحمر الشفاه أمام المرآة وتستعد للذهاب إلي يومها الأول لها في العمل الجديد، صدر من هاتفها إهتزازاً جعلها تنتبه إليه فرأت اسمه وأجابت على الفور:
"ألو، صباح الخير"
رد الأخر:
"صباح النور، أسف إن صحيتك من النوم"
"أنا صاحية من بدري، ياسمينا عاملة إيه؟"
أجاب بحرج:
"الحمدلله، أنا طالب منك خدمة ومعلش هتقل عليكي شوية، ياسمين تعبانة وأنا عندي تسليم project لعميل عندنا في الشركة ولو ماروحتش سلمت الشغل هيبقي فيها مشكلة كبيرة...
قاطعته رودينا بترحاب قائلة:
"ما تقلقش أنا نازلة دلوقتي وجاية حالاً، مسافة الطريق"
و بعد أن وصلت قام بفتح الباب، ولجت إلي الداخل، شعرت بتوتر فهي المرة الأولي لها للدخول في هذا المنزل، حاولت أن تخفي ذلك التوتر فسألته:
"هي فين؟"
أشار إليها نحو الغرفة فذهبت إلي الصغيرة، فقالت له:
"انزل أنت على شغلك وأنا قاعدة معاها، ما تخافش عليها"
أخبرها على عجلة من أمره:
"لو في أي حاجة كلميني فوراً، أنا هاروح أسلم الشغل وراجع على طول"
ابتسمت وقالت:
"ربنا يوفقك"
وقبل أن يغادر أخبرها بامتنان:
"شكراً يا رودينا"
أومأت له قائلة:
"لا شكر علي واجب، و زي ما قولتها لك قبل كدة، ياسمينا بعتبرها زي بنوتي الصغيرة"
أخذت تعتني بها وتتابع حرارة جسدها بعمل الكمدات الباردة، صنعت لها حساء الخضروات اللذيذ ووضعت لها به قطع دجاج صغيرة.
أطعمتها ثم قرأت لها بعض القصص والحكايات من الكتب التي تقتنيها في مكتبتها الصغيرة التي اعدها إليها والدها.
داهم النوم كلتاهما حتي حان المساء، و عاد ياسين من عمله، يستنشق رائحة الطعام اللذيذة الذي اعدته له رودينا.
رأي المنزل أنيقاً و مرتباً وكأن الحياة عادت إليه من جديد و رائحة عطر ذكية تفوح في الأرجاء، بينما هي بالداخل استيقظت عندما سمعت خطوات داخل المنزل، اعتدلت من مظهرها وخرجت فوجدته داخل المطبخ، وقفت تراقبه وهو يتناول بالملعقة الطعام من الإناء ويتلذذ بسعادة من مذاقه، ابتسمت وأرادت أن تخبره بوجودها قبل أن يلتفت و يشعر بالفزع.
"ما ينفعش تاكل من الحلة لأن كدة الأكل هايحمض والسبب إن المعلقة لما بتاكل منها و ترجع تحطها في الحلة بتكون حاملة من لُعابك و بيسبب البكتريا اللي بتفسد الأكل"
ابتسم بحرج وترك الملعقة جانباً وقال:
"أنا كدة ليه عرفت الأكل بيحمض حتي لو حطيته في التلاجة"
اقتربت من الموقد وضغطت علي زر الإشعال ثم أدارات المقبض المسئول عن العين في الجهة اليمني في الموقد:
"في حل بسيط جداً، ممكن تسخنه لدرجة الغليان اللي بيقتل البكتريا وتطفي عليه، تسيبه لحد ما يبرد و تشيله في التلاجة"
"معلش بقي أنا مش خبير في المسائل دي، ياسمين الله يرحمها هي اللي كانت تعرف بكل ده"
هزت رأسها وأخفت التوتر والضيق الذي داهم قلبها للتو فقالت:
"ياسمينا الحمدلله بقت كويسة أكلت وخدت الدوا ونامت، معلش أنا مضطرة أستأذن و لو في أي حاجة أبقي أتصل عليا، و أنا هابقي أطمن عليها علي الفون"
أدرك كم هو أحمق، بدلاً من أن يشكرها علي اعتنائها بابنته المريضة و مجهوداتها ما بين إعداد الطعام وترتيب و تنظيف المنزل، يأتي لها بذكري زوجته وكأنه يضعها بينهما كالجدار العازل.
"رودينا، استني"
ألتفت إليه فأردف:
"شكراً علي كل حاجة عملتيها و إن أديتنا من وقتك و إهتمامك"
أجابت بشبه ابتسامة:
"العفو، و بعدين قولنا مفيش شكر ما بينا، أنا لو كنت أتجوزت من تسع سنين كان هيبقي معايا بنوتة قدها، و أنا بعتبرها بنوتي زي ما قولت لك"
همت بالذهاب فقال لها:
"طيب أنا هانزل تحت هستناكِ تجهزي براحتك عشان أوصلك"
"مفيش داعي، أنا معايا عربيتي وكمان لسه هاشتري شوية حاجات وأنا في طريقي"
سألها بمزاح:
"معاكِ كاش و لا فيزا؟"
تذكرت هذا الموقف الذي حدث معها من قبل عندما دفع لها حساب المشتروات التي ابتاعتها، ابتسمت وأجابت:
"معايا الحمدلله"
أنتظرها في الأسفل فوجدها خرجت من البناء وقامت بفتح باب السيارة، ولجت علي مقعد القيادة:
"باي"
رد عليها يلوح لها بيده:
"باي"
※※※
يقف أمام المرآة التي تعلو الحوض، يقوم بحلق ذقنه، وقفت بجواره تنظر إليه في صمت، رآها بطرف عينه فاخبرها ببرود رغم علمه بسبب وجودها بجواره:
"الفلوس عندك في درج التسريحة، خدي اللي أنتِ عايزاه"
هزت رأسها بالنفي وعقبت بحزن:
"أنا مش عايزة فلوس يا طه"
أنتهي لتوه من الحلاقة فقام بغسل وجهه كاملاً ثم ألتفت وألتقط المنشفة القطنية ليجفف وجهه، يسألها دون أن ينظر إليها:
"أومال عايزة إيه؟"
وقفت أمامه ونظرت إليه بعتاب قائلة:
"بقي لك كام يوم مش بتتكلم معايا من وقت ما شدينا مع بعض، أتأسفت لك وقتها وسيبتيني ونزلت، كل ما أجي أكلمك بعدها لا تبص لي و جاوبك علي قد السؤال، هاتفضل مخاصمني لحد أمتي؟"
"لحد يا شيماء ما تبطلي ردودك اللي تخلي الواحد ينفر منك، مش أول مرة تعمليها، قبل كدة وحذرتك بس للأسف مفيش فايدة"
أطبقت شفتيها معاً لتمنع نفسها من البكاء فأخبرته بكبرياء أنثى لا تنحني:
"أنا بقي هريحك مني مادام بقيت تقيلة على قلبك"
تركته وولجت إلي غرفة النوم فلحق بها ووجدها تخرج حقيبة الثياب ثم الخزانة، وقف يسألها:
"أنتِ بتعملي إيه؟"
أجابت بغضب وتلقي قطع ثيابها داخل الحقيبة:
"زي ما أنت شايفك، بلم هدومي وسايبة لك الشقة يكش ترتاح مني"
ألقي بالمنشفة التي في يده على الفراش وتقدم نحو الخزانة فأغلقها وقال لها:
"أعقلي وبطلي جنان"
صرخت في وجهه:
"أبعد عن وشي يا طه، أنا ما أقدرش أقعد مع حد مش طايقني و لا طايق ليا كلمة"
اقترب منها وأجاب:
"وأنا ما قولتش كدة، كل إعتراضي كان عن أسلوبك في الكلام، تحبي أعيد لك كلامك؟!"
لم تستطع منع نفسها أكثر من ذلك فاطلقت عبراتها وقالت:
"أنا غلطانة وكلامي زي الطوب، بس حسيت وأعترفت بغلطي، لكن أنت كأنك صدقت تمسك ليا غلطة وماتتكلمش معايا"
شعر بغصة في فؤاده لم يتحمل بكائها الذي أحرق داخله، طوقها بين ذراعيه يعانقها بقوة ثم أخذ يربت علي ظهرها بحنان قائلاً:
"خلاص إهدي وبطلي عياط، و بعدين مش كل ما نتخانق تسيبي البيت وتمشي، أنتِ بقي اللي كدة مش طايقاني"
رفعت وجهها عن صدره لتنظر إليه من بين دموعها:
"أنا لو مش طايقاك مكنتش زماني عمالة أتحايل عليك عشان نتكلم، أنت معودني أنام في حضنك ومن وقت اللي حصل وأنت بتنام جمبي ومديني ضهرك، مش كنا متفقين مهما حصل ما بينا من خلافات ما نبعدش عن بعض؟!"
"مديكي ضهري بس جمبك برضو"
لكزته في صدره بخفة قائلة:
"فيه طبعاً فرق كبير، كأنك جمبي وبعيد عني في نفس الوقت"
عقب بعتاب:
"ما قبلها لما أتخانقنا عشان موضوع الشقة سيبتي البيت"
عقدت ما بين حاجبيها بامتعاض وقالت:
"افتكر وقتها أنا عملت كدة ليه، ولا ناسي الكف اللي أديته لي؟!"
دنا بشفتيه نحو وجنتها وأخبرها بصوت خافت يعزف على أوتار قلبها الذي يعشقه:
"وكان أنهي خد فيهم؟"
أجابت بحزن ودلال في آن واحد:
"كان ده"
وأشارت إلي خدها الأيسر، فأخذ يقبله بنعومة وكأنه يستمتع بملمسه المياس ورائحتها التي تشبه عطر العود، تُأسر حواسه بدلالها الغير متكلف، وإذا بذاكرته أتت له بصورة لهذه الجارة الحسناء فحاول تشتيت انتباهه ويُركز مع زوجته التي يعشقها ولم يحتل قلبه سواها.
هبطت شفتيه من وجنتها إلي شفتيها فتلاحما مواطن الكلمات خاصتهما معاً في قبلة عميقة استمرت لدقائق تلاها عناق قوي أنتهي بملحمة حب أسطورية أنهكت قواهما، فعاد الصفاء بينهما من جديد.
※※※
و ها قد جاءت الليلة المنتظرة، تجلس بداخل الغرفة الملحقة بقاعة الإحتفال، ترتدي ثوباً أبيض اللون ينساب علي منحنيات جسدها ذو الخصر المنحوت، تلقي نظرة علي مظهرها الأنيق وخصلاتها التي تركتها تنعم بالحرية علي ظهرها، الآن أصبحت الابتسامة لا تفارق شفتيها فقد عاد لها نصفها الآخر العاشق المتيم بها، زوجها وحبيب فؤادها الذي علمت بكل معاني الحب والهيام بين يديه.
لاحظت باب الغرفة يتحرك فظهر لها مبتسماً، في كامل أناقته وذوقه الرفيع، يرتدي حُلة سوداء بل هو عريس في ليلة زفافه، أخذ يتأملها و كأنه يراها عروس لأول مرة.
"واقف عندك كدة ليه؟"
سألته وتحدق إليه عبر المرآة بابتسامة لا تخلو من نظرة عشق أسرت قلب حبيبها، تقدم نحوها فوقف خلفها مباشرة ثم طوق خصرها بذراعيه ودنا بذقنه فوق كتفها، ينظر إلي صورتها المنعكسة قائلاً:
"هتصدقيني لو قولت لك إن أنا عندي نفس إحساسي يوم فرحنا"
وضعت يدها علي خده من يراهما الآن يظن إنهما في وضعية لوحة فنية أو صورة فوتوغرافية يتم إلتقاطها الآن، أجابت بصوت ناعم يشوبه نبرة حب وهيام:
"نفس إحساسي، و الحفلة المرة دي أحسن، هانحتفل في وسط أخواتك ولمة العيلة، كان ناقصنا ماما چيهان، و أهو منها كمان نخلص من سؤال چوليانا بنتك اللي كل شوية لما تشوف ألبوم صور فرحنا تقولي أنا ورسلان كنا فين يا مامي"
ضحك وقال:
"هي هتطلع فضولية وذكية لمين، طالعة زي مامتها"
عقبت كارين بفخر:
"طبعاً طالعة لي حبيبة مامي"
"بالمناسبة أنا أتصلت بماما وقولت لها، فرحت أوي هي و uncle عابد، بيقولوا هينزلوا الأسبوع الجاي"
اتسعت عيناها بسعادة وقالت:
"ياريت بجد، وحشاني جداً وهي اللي بتجمعنا علي طول، هقولك علي حاجة، من وقت ما سافرت والقصر بقي زي المكان المهجور برغم وجود آدم ويوسف فيه، فعلاً الأم هي بركة البيت، ربنا ما يحرمنا منها"
جعلها تستدير لتصبح أمامه وجهاً لوجه يسألها بنظرة ماكرة لا تخلو من روح الدعابة لديه:
"و بالنسبة لابنها مفيش كلام حلو ليه، ده حتي ابنها بيموت فيكي"
دنا نحو عنقها وقام بتقبيله فأردف:
"و بيعشقك"
أرتفع بقبلاته التي جعلتها تائهة في دروب عشقه نحو وجنتها:
"و عمره ما هايخليكي تبعدي عنه ولو ثانية تاني لأنك روحه وحياته اللي ما يقدرش يعيش من غيرهم"
كاد يلتقط شفتيها بخاصته فأوقفته قائلة:
"الـ lip stick اللي أنا حطاه هيطلع في شفايفك"
حاوط وجهها بين كفيه وأخبرها:
"اجسن برضو، عشان مخلي شفايفك شكلها مغري وأنا مش عايز حد يشوفك بيه غيري أنا و بس"
أنقض علي شفتيها بضراوة عاشق أرهقه الإشتياق لمليكة فؤاده، عانقها بقوة ودفعها بجسده نحو الحائط، حاولت دفعه بيديها للإلتقاط أنفاسها لكنه قبض عليهما بيديه وقام بتثبيتهما علي الحائط.
أنفتح الباب فجأة وظهرت صبا التي رأتهما في هذا الوضع، شعرت بالحرج والخجل فتراجعت، أخذت كارين تهمهم وتشير له بعينيها نحو الباب ليتوقف، ابتعد عنها بشق الأنفس ونظر إلي الباب فوجد صبا تغض بصرها قائلة:
"هابقي أجي لك وقت تاني"
حمحم يونس بحرج قائلاً:
"أدخلي يا صبا، أنا كنت بس لاقيت الروچ بتاعها مش مظبوط كنت بمسحه لها قصدي بظبطه لها"
أشارت له كارين نحو شفتيه وحول فمه الملطخ بالحمرة خاصتها، نظر في المرآة وأخرج المحرمة الورقية أخذ يمسح شفتيه وقال بجدية زائفة مازحاً:
"إيه الإستهتار ده، مش كذا مرة قولت لك هاتيه water proof، عيب كدة يا فنانة"
أخذت صبا تضحك، دفعته كارين إلي الخارج:
"أمشي بقي فضحتنا"
ولجت صبا وبجوارها ابنتها التي جاءت تواً، و بعد أن خرج يونس كادت زوجته تغلق الباب فأوقفها ليخبرها بتهديد ضاحك:
"عارفة لو حطيتي من البتاعة ده تاني هاعيد اللي عملته فيكي من شوية و لا هايهمني الموجودين"
"هاحط وابقي وريني هاتعمل إيه"
قالتها وصفقت الباب وأوصدت القفل فجاء لها صوته من الخارج:
"هاتعرفي وقتها و خليكي شاهدة يا صبا علي كلامها"
كانت كلتيهما تضحك وتنظر الصغيرة إليهما، اقتربت من عمتها وسألتها:
"عمتو، هو بوقك ليه عامل زي البلياتشو؟"
ضغطت كارين بأناملها علي خدين الصغيرة فقالت:
"آه منك يا أم لسان طويل، أنا متأكدة إن الدكتورة اللي ولدت مامتك سحبتك من لسانك"
عقبت صبا من بين ضحكاتها:
"ما تفكرنيش بيوم ولادتها، قعد معايا الطلق يومين، عكس ولادة أخوها اللي مكنش فيها أسهل منها"
نظرت إليها كارين و لكزتها بمرقفها في ذراعها قائلة:
"ما أنتِ اللي ما خلتيش قصى يولدك زي ولادة مالك"
تلاشت الضحكة من شفتيها وأصبح بدلاً منها شبح ابتسامة فعقبت:
"كان مسافر وقتها بقي للأسف"
لاحظت كارين الحزن الذي داهم ملامح الأخرى فسألتها بقلق:
"هو لسه مطلقش البت السكرتيرة؟"
أجابت وحاولت أن لا تبكي:
"طلقها من كام يوم"
وضعت يدها علي كتفها بمواساة وقالت:
"ما طلقها أهو، إيه اللي مزعلك طيب؟"
لم تستطع الصمود فاطلقت لعبراتها العنان وأجابت بصوت مختنق من البكاء:
"قصى سايب القصر من وقتها ولا حتي بيتصل يطمن عليا، تخيلي بيعرف أخبارنا من دادة زينات، هونت عليه للدرجدي؟!"
أخذت كارين تربت علي ظهرها وتناولت من المنضدة المجاورة لها علبة محارم ورقية أعطتها إليها:
"إهدي يا حبيبتي، بالتأكيد عنده شغل كتير مع المشاكل اللي كانت ما بينكم، فحب يعمل فاصل يراجع نفسه، مش يمكن بيبعد عشان يشوف غلاوته عندك؟"
نظرت إليها بعينيها الدامعتين وعقبت:
"و غلاوتي اللي مش لاقيها عنده دي، يعمل اللي عمله وعقابه اللي أكبر من الذنب اللي عملته، في الأخر المفروض أنا اللي أصلحه؟!"
تنهدت الأخري وأجابت:
"مش عارفة أقول لك إيه بصراحة، بس أنا عندي إحساس بيقول مش هايستحمل بعدك عنه وهو اللي هيجي لحد عندك، أنتِ بالنسبة له الهوا اللي بيتنفسه"
رفعت زاوية فمها بتهكم معقبة:
"بدليل غيابه عن البيت تلات أيام، و طبعاً شكله مش جاي الحفلة عشان ما يشوفنيش"
ضحكت كارين رغماً عنها فقالت:
"أنا حاسة إن بتكلم مع أتنين مراهقين ومقموصين من بعض و كل واحد فيهم مستني التاني يصلحه، دي أم إبراهيم اللي أنتم مخلفينها لو مكانك كانت راحت صالحت جوزها بعد ما تكون رفعت عليه المطواة و أديت له طعنتين لزوم التأديب عشان يحرم يزعلها"
ابتسمت صبا من حديث الأخري الذي لا يخلو من المزاح، نظرت من حولها باحثه عن ابنتها حتي وقعت عيناها عليها، تقف علي الكرسي أمام المرآة وتمسك بقلم الحمرة، تطلي شفتيها بعشوائية مما جعل الحمرة تلطخ ذقنها وخديها، شهقت كارين قائلة:
"يخرب عقلك يا زوزو، إيه اللي أنتِ هببتيه في نفسك ده"
ألتفت لهما وأجابت:
"بحط روچ عشان قيصو حبيبي لما يشوفني يلاقيني حلوة، هو كلمني علي فون داده زينات و قالي أنا هاجي لك يا زوزو وهارقص معاكي"
ضحكت كارين حتي دمعت عيناها:
"أنا هاموت وأعرف كنتي بتتوحمي علي إيه و أنتِ حامل فيها، لايمكن تكون دي طفلة"
بدأ الحفل بعد أن تجمع عائلة البحيري، آدم وخديجة وابنهما، يوسف وعلياء وابنهما عزالدين وابنته لوچي التي تنظر بحقد نحو آسر وهاجر زوجته وابنائهما، ياسين وابنته ياسمين التي تجلس بجوار رودينا، صبا تجلس مع ابنها وابنتها بجوار ملك وابنتيها، كل منهما تنتظر مجئ زوجها، وهناك طه وشيماء وابنتها وابنهما يجلسون حول منضدة، وهناك بعض المعارف مثل(ماهي) مساعدة كارين في معرض اللوحات خاصتها والتي تولت دعوة بعض العملاء إلي الحفل.
أصبحت الإضاءة خافتة وبدأت الموسيقي الرومانسية الحالمة، خرج كلا من يونس وكارين من الرواق المظلم، تتركز بقعة ضوء ملونة عليهما وهما يتجهان إلي ساحة الرقص، صعدت الدرجة أولاً ثم تبعها، أمسك كلا يديها، وضع كليهما علي كتفيه، بدأ يتراقصا معاً علي الألحان والكلمات التي تعبر عن كل ما تحمله القلوب العاشقة.
« إرسمني في ليلك نجمة
ضيها يلمع في العين
إكتبني في عمرك كلمة
يحكوها الناس بعدين
أنا نفسي أعيش فوق عمري
يا حبيبي معاك عمرين
لو تطلبي مني عينيا
لو تطلبي عمري كمان
هديكي سنيني الجاية
وهكون راضي وفرحان
انتي اللي وجودك جنبي
حسسني إن أنا إنسان»
و في زاوية كانت عيون تبكي من ألم الإشتياق، تنظر إلي صورة زوجها في شاشة هاتفها فوجدت يد وضعت علي كتفها فوجدت شقيقها آدم، دنا منها وقال:
"حقك عليا، ما تزعليش مني، أنا بحبك وعايز مصلحتك"
أومأت له في صمت فهي لم تملك طاقة كافية للحديث، أمسك يدها فأردف:
"لاء أنتِ لسه شكلك زعلانة، تعالي برة نتكلم"
"مش زعلانة يا آدم، أنا بخير أطمن"
رد بإصرار وقال:
"هاتقومي وهاتيجي معايا، و لا تحبي أشيلك زي زمان وهاخلي بناتك يضحكوا عليكي"
نهضت وقالت علي مضض:
"خلاص جاية معاك"
و هناك في زاوية أخري من ينظر بتمعن إلي كارين التي ترقص بين يدي زوجها، يجز علي أسنانه بغضب مكبوت داخله و في هذه اللحظة كانت تنظر إليه ماهي التي تتمني أن يحدق إليها، ذهبت إليه وجلست علي الكرسي المقابل له وقالت:
"منور الحفلة يا مستر مهند"
أومأ لها بابتسامة رسمية وأجاب باقتضاب وبرود:
"شكراً"
شعرت الأخري بالحرج فابتلعت لعابها ونهضت قائلة:
"عن إذنك"
وفي خارج القاعة، كان تلحق خطوات شقيقها بتعثر:
"حرام عليك يا آدم، راعي إن خطوتي مش زيك"
توقف فضحك قائلاً:
"أومال بتمشي مع جوزك إزاي، ده ماشاء الله خمس خطوات منه يعملوا كيلو متر ومربع كمان، بالتأكيد بيشيلك علي كتفه ويمشي"
حدقت إليه بحنق وسألته:
"يعني أنت مخرجنا برة عشان تتريئ عليا؟!"
أجاب وينظر إلي شاشة هاتفه:
"لاء عشان حاجة تانية أهم، بصي وراكي وهاتعرفي"
ألتفتت فوجدته يقف أمامها بطوله الفارع، شبه مبتسماً:
"مقدرتش أبعد عنك أكتر من كدة"
و بدون أن تتفوه بحرف ألقت نفسها علي صدره، تعانقه وتتشبث به، اجهشت في البكاء تخبره بنبرة سارت ذبذبتها في خلايا جسده:
"وحشتني أوي يا مصعب، أرجوك ماتسيبنيش تاني، أنا آسفة"
قال آدم الذي استعد للذهاب:
"طيب أنا بقي أستأذن وأسيبكم علي راحتكم، بس ما تاخدوش راحتكم أوي المكان مليان كاميرات، عشان ما لاقيش تاني يوم ترند شاهد قبل الحذف"
ضحك مصعب و أجاب:
"ما تقلقش لينا بيت نرتاح فيه، خد بالك أنت وخديجة من البنات، وأنا بكرة إن شاء الله هعدي أخدهم"
"ربنا ما يحرمكم من بعض، مش هوصيك عليها بقي ومش عايز اسمع عنكم غير كل خير"
أومأ له الأخر وعقب علي حديثه:
"بإذن الله"
تركهما معاً، أبعد وجهها عن صدره وحدق في عينيها بنظرة تحمل الكثير ما بين عشق وشوق، عتاب ولوم، لكن وجد لسانه يتحدث بما يمليه عليه قلبه قائلاً:
"أنا مش جاي أعاتب و لا ألوم، كفاية اللي عيشناه الأيام اللي فاتت، عايز منك أنك تعرفي حاجة واحدة بس، و هي إن أنا الحضن اللي يوم ما تحسي بخوف تستخبي فيه، أنا أمانك وحمايتك وأكتر واحد بيحبك، أنا اللي جوايا ليكي عدي مرحلة العشق"
ليست شفتيها التي تبتسم فقط بل قلبها يتراقص من السعادة، عادت روحها إلي جسدها الذي لم يستطع العيش في بعاده، مضت الأيام عليها وكأنها عقود خريفية تتساقط فيها أوراق الشجر الذابلة علي دموع ذرفتها عيون بكت بحرقة وألم نابعة من قلوب يملأها الحنين والندم.
افترقت مواطن الكلمات لديها لتنطق بحروف لا تفقه سواها معهُ:
"أنا بعشقك أوي يا مصعب"
عانقها بقوة كاد يحطم عظامها بين ذراعيه من فرط إشتياقه إليها قائلاً:
"و أنتِ روحي يا ملاكي"
عودة إلي الداخل، كانت الأجواء مليئة بالفرح، بدأت الأغاني ذات الإيقاع السريع بالعمل ويتراقص عليها الأطفال، تقف صبا والقلق يبدو علي ملامحها، تنظر من الفينة والفينة نحو الباب، وقفت كارين بجوارها تهمس بالقرب من أذنها لكي تسمعها من بين صخب الأغاني:
"زمانه علي وصول دلوقتي"
نظرت إليها الأخري فاردفت كارين:
"لسه يونس مكلمه وهو قاله إنه كان عنده شغل لازم يخلصه"
و لدي رودينا سألت خديجة:
"هي فين ملك؟"
أجاب آدم الذي جذب كرسي وجلس بجوار ياسين:
"مع مصعب بره بيتصالحوا"
ابتسمت بسعادة وعقبت:
"بجد؟!، أحلي خبر سمعته النهاردة"
تدخل ياسين في الحوار الدائر، لم يكن لديه علم ما حدث لشقيقته:
"ما لهم ملك ومصعب؟"
نظر آدم إلي رودينا بتحذير وأومأت له دون أن تلفت انتباه ياسين، فأجاب الأول علي سؤال شقيقه:
"كان مسافر ولسه راجع، و أنت عارف أختك بتحبه قد إيه و ما تقدرش تبعد عنه، عقبالك أنت كمان لما ما تبعدش عن اللي في بالي"
قالها وأشار إليه بعينيه نحو رودينا، حدق ياسين إليه بتحذير ولكزه في ذراعه هامساً:
"خليك في حالك أحسن لك"
رد الأخر بصوت خافت:
"أنا بكلمك لمصالحتك، البنت شكلها بتحبك أوي وبنتك بتموت فيها، إيه المانع تدي لنفسك فرصة تانية، تحب وتتجوز و لا هاتفضل عايش زي الراهب باقية عمرك؟!"
نظر ياسين إلي رودينا التي لاحظت نظراته فتهربت ونهضت تمسك بيد ياسمين لتذهب بها إلي ساحة الرقص لترقص مع ابناء أعمامها، فأردف آدم إلي شقيقه:
"أنا مش بضغط عليك و لا بتدخل في حياتك، بس عايز أقولك في فرص بتيجي مرة واحدة بس ولو ضيعتها عمرها ما هتجي لك تاني، علي الأقل فكر في بنتك اللي واضح جداً إنها أتعلقت بيها وكأنها مامتها"
ألتفت ياسين إليه وقال بحدة:
"مامتها تبقي ياسمين الله يرحمها"
تنهد الأخر وعقب قائلاً:
"الله يرحمها، و أنا ما أقصدش حاجة، كل اللي عايز أقوله لك، إن بنتك فاقدة لحنان الأم و أنت مهما أحتويتها عمرك ما هتعوضها عن اللي فقدته، لكن أنا شايف في عيون بنتك نظرة حب وفرح طول ما رودينا جمبها، و مش بس عشان بنتك، أنت كمان محتاج واحدة تحبك وتحتويك و اللي أنا شايفه بعينيا إن رودينا بتحبك أوي، بدليل إنها ما أتجوزتش لحد دلوقت"
أخذ ياسين ينظر إلي رودينا التي لاحظت مراقبته لها مما أصابها بالتوتر فتظاهرت بالانشغال واللعب مع ابنته و ابنتي ملك.
و لدي المنضدة القريبة حيث يجلس كلا من طه وشيماء، يمسك يدها بامتلاك تتخلل أنامله بين خاصتها، اقترب نحو أذنها بشفاه وقال لها:
"ما تيجي نطلع برة و نتمشي شوية"
نظرت إليه وأجابت:
"و لا عايز تشرب سجاير؟"
غمزت بعينها فقال:
"ده أساسي، بس فعلاً عايز أتمشي شوية و لا أخرج لوحدي؟"
نهضت و ردت قائلة:
"رجلي علي رجلك قوم يلا"
نعود مرة أخري لدي صبا التي مازالت تنتظر علي أحر من الجمر قدومه، كانت خلفها تقف فتاتان من إحدي معارف كارين في مجال العمل، تقول إحداهما:
"مكنتش أتصور إن أخوات يونس جوز كارين بالحلاوة دي، و لا الدكتور صاحب أخو جوزها يخربيته قمر"
أجابت الأخري:
"طول عمرك بتحبي الراجل الأبيض أبو عيون ملونة، لكن بقي لو شوفتي الكينج هتغيري رأيك خالص"
"مين الكينج ده كمان؟"
"ده يبقي أخو كارين بالتبني، مهما وصفت لك مش هاتقدري تتخيليه، حاجة كدة زي ملوك الرومان، أنطونيو، شبه الموديل اللي كنتِ بتكراشي عليه، اللي كان طالع مع إليسا في كليب تعبت منك، مش فاكرة كان اسمه إيه، أيوه افتكرته إليخاندرو كورزو"
جاء للتو و ولج من الباب الزجاجي، مجيئه كالعادة له حضور خاص، تلتفت الأنظار إليه فذهب أشقائه ليتبادلون معه التحية والمصافحة.
صاحت الفتاة الأخري:
"ألحقي إليخاندرو أهو، أوعي تقولي إن ده الكينج اللي قصدك عليه؟"
أومأت لها وأجابت:
"أيوه هو اسمه قصى البحيري"
"أنتِ بتهزري أكيد، ده أنا كنت لسة شايفة له لقاء من فترة علي الـ T. V، و المذيعة عمالة تعاكسه و كانت ناقص تقوم تاخده بالأحضان"
هنا لن تتحمل صبا ما تسمعه من هاتان الأفعتان، استدارت إليهما بنظرة ترعب كلتاهما قائلة بهدوء تُحسد عليه:
"مش عيب تقعدوا تتكلموا علي رجالة متجوزين بالشكل ده؟!، و لا أنتِ و هي اللي بيتقال عليها صيادة رجالة متجوزة؟!"
اشتد حنق كلتاهما فسألتها إحداهما:
"أنتِ مين عشان تتكلمي معانا بالأسلوب ده؟"
عقدت ساعديها أمام صدرها ورفعت إحدي حاجبيها فأجابت بثقة وفخر:
"أنا مرات الكينج"
تلون وجه كل منهما و انسحبا في هدوء قبل أن تفتك بهما صبا، بينما زوجها انتهي من التصافح مع أشقائه والمعارف، وقف علي مقربة منها وحدق إليها دون أن ينبث بكلمة، أثرت الصمت و لا تعلم لماذا أجبرها لسانها علي عدم التحدث، يكفي نظرات العيون؛ فهي أبلغ من آلاف الكلمات.
تخشي أن تخونها عيناها و تظهر ضعفها أمامه وتذرف عبرات الحنين والإشتياق، ذهبت مسرعة عن مرمي بصره وغادرت المكان وقلبها يناشدها بالعودة إليه، لكن تضارب المشاعر داخلها جعلها كالشريدة، تتخبط وتتعثر في كل خطوة لها حتي وجدت إنها تقف لدي سور مصنوع من الزجاج الشفاف مطل علي مياه النيل السوداء والمنعكس علي موجاتها ضوء القمر، أطلقت سراح دموعها، ظلت تبكي بنحيب كطفلة تائهة في درب مظلم ملىء بالوحوش حتي أنتشلها الفارس المغوار، يمسك رسغها بحنان فألتفت إليه لتجده يقف أمامها مباشرة، يحدق إليها بكلمات تدركها دون أن ينطق بها لسانه.
"أنا آسف"
توقف الزمن في تلك اللحظة، وقفت الدموع أيضاً فخفق القلب العاشق من جديد، أردف حديثه المقتضب:
"آسف علي كل دمعة من عيونك أنا السبب فيها، و آسف علي كل لحظة ألم خليتك تعيشيها، قولي عليا ظالم وأناني، أوصفيني زي ما أنتِ عايزة، بس أهم حاجة قلبك يرتاح وعيونك تبطل بُكا"
جذبها إلي صدره وطوقها بين ذراعيه بلهفة عاشق مشتاق، مغترب يعود إلي أحضان وطنه بعد سنوات من الضياع، ظمآن يرتوي ماء عذب، آسير يُطلق سراحه بعد سنوات من السجن والعذاب، ضرير قد عاد إليه بصره ليري النور، تائه وجد سبيله، فهي إليه النور والسبيل، هي الوطن والماء، هي ضالته التي كان سيفقدها في لحظة أنانية وجنون.
أبعدت رأسها عن صدره لتخبره بكل أسف نابع من داخلها بصدق:
"حقك عليا أنا آسفة، أنا...
وضع طرف سبابته علي شفتيها قائلاً:
"كفاية، شيلي أي حاجة من دماغك وتعالي نطوي الصفحة دي من حياتنا ونبدأ من جديد، الليلة دي هانسيب قلوبنا اللي تتكلم وتحكي"
ألقي نظرة سريعة من حوله قبل أن يقول لها:
"أنا قولت لآدم ياخد مالك و زوزو معاه يوصلهم في طريقه لحد القصر و دادة زينات هتستناهم علي البوابة"
"إيه ده ليه؟"
ضحك من ضعف استيعابها فقال لها:
"أصل بصراحة ناوي أخطفك، بس مش علي الحصان الأبيض"
حملها فجأة علي ذراعيه وأردف:
"في عربيتي الـ jeep السودة"