رواية جمر الجليد ج2 (وأنصهر الجليد) الفصل العاشر 10بقلم شروق مصطفي


رواية جمر الجليد ج 2 (وأنصهر الجليد) الفصل العاشر بقلم شروق مصطفي

بينما كان يشدد يديه حول يديها، يضمها إليه كأنما يمنحها وعدًا صامتًا بأنه لن يتخلى عنها أبدًا، عادت الحياة إلى عينيها، وانهارت دموعها تحت وطأة كلماته التي كانت دائمًا مصدر دعمٍ وسندٍ وأمان. ابتسمت له، وبلغة يغمرها الصدق همست:


— "أنا بحبك أوي، بجد، غالي عندي جدًا، والله بجد، انت مهون عليا كل حاجة... مكنتش أعرف إنك حنين أوي كده."


ابتسم لها وهو يراقب عينيها المتلألئتين:


— "طيب إيه؟ مش عايزة حضن؟"


نظرت إليه بخجل، وأدارت وجهها بعيدًا، فابتسم لحَيائها، ثم أمسك بذقنها برفق، يجبرها على مواجهته بعينيه، لكن حين لمح انتهاء المحلول، جذبها إليه وأحاطها بذراعيه في دفء، وكأنه يحاول أن يخبرها أن وجوده هو الأمان. لكن فجأة، تذكر شيئًا، فابتسم وتحدث ممازحًا:


— "عارفة لو نمتي دلوقتي يا هادمة اللحظات الحلوة انتي؟"


لم تُجبه، بل اختبأت في حضنه مجددًا، فاستسلم لعنادها وهو يربت على رأسها بحنان، وكأنها طفلته الصغيرة.


بعد قليل، تركها ونهض ليُحضر لها بعض الطعام. وبعد محاولات كثيرة، أقنعها بأن يأكلها بيده، وحين حاولت النهوض، استوقفها سريعًا:


— "رايحة فين؟"


نظرت إليه بتعجب:


— "هاغسل إيدي في حاجة؟"


ابتسم لها، ثم، دون سابق إنذار، حملها بين ذراعيه:


— "من النهاردة، أنا اللي هعملك كل حاجة."


شهقت في دهشة وهي تحاول التخلص من قبضته:


— "لا نزلني! إنت بتعمل إيه؟ مش هينفع كده، لا بجد مش مستاهلة."


لكنه تجاهل احتجاجاتها وأنزلها برفق أمام صنبور المياه. نظرت إليه بضيق وهي تدفعه في صدره:


— "خلاص طيب، مش للدرجة دي، أنا بقيت كويسة بجد، امشي بقى."


لم يُعر كلامها أي اهتمام، ولم تؤثر لمساتها الخفيفة على صدره. بل اقترب أكثر، وقف خلفها، ثم احتضنها من الخلف، أمسك بيديها، وأخذ يغسلهما بنفسه، بل ومسح وجهها أيضًا بحنان.


نظرت إليه بتعجب، لكنه باغتها بابتسامته الماكرة:


— "مش هخليكي تعملي أي مجهود، ولو كان بسيط... فاهمة؟"


ظلّت تحدق به في صمت، حتى أكمل بمكر:


— "إيه؟ بتبصيلي كده ليه؟ لا، أنتِ كده بتغريني لحاجات، وأنا ماسك نفسي بالعافية، أنتي حرة بقى!"


احمرّ وجهها خجلًا، وأدارت رأسها للجهة الأخرى وهي تهمس باستنكار:


— "سافل..."


ضحك بخفة:


— "سمعتك على فكرة!"


ثم حملها مجددًا ووضعها برفق على الفراش. نظرت حولها في دهشة عندما رأت مجموعة من الكتب بجوارها، فالتفتت إليه مستفسرة:


— "إيه دول؟"


ابتسم بفخر:


— "لما خرجت وانتي نايمة، لفيت لحد ما جبتلك كتب، قلت تتسلي بيهم شوية."


ابتسمت له بحب، ثم أردفت بامتنان:


— "شكرًا بجد، فعلًا كنت محتاجاهم."


تأمل وجهها للحظة، ثم قال بحماس:


— "وعندي ليكي خبر هيفرحك أوي كمان!"


انتفضت سيلا بحماس:


— "خبر إيه؟ قول بسرعة! ها... همشي من هنا، صح؟"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نهض من أمامها عندما رأى انهيارها، وكأن شيئًا داخله انكسر معها. لم يرد أن يفعل شيئًا قد يندم عليه، فاكتفى بإلقاء كلمة "سلام" بصوت خافت، ثم غادر بخطوات مثقلة، رأسه محني بانكسار. غير أنه لم يبتعد كثيرًا، إذ وجد هيثم يقف أمامه، يراقب المشهد بصمت بعد أن استمع لآخر كلمات دارت بينهما.


نظر له معتز بتعجب، بينما وقعت عيناه على شقيقته المنهارة خلفه، ثم سرعان ما حاول إخفاء حزنه المتفجر في عينيه. بادره هيثم بنبرة هادئة ولكن حازمة:


— مش هخبي عليك، أنا كنت حاسس إن فيه مشكلة بينكم... طيب، تعالى معايا، عايز أتكلم معاك، هننزل تحت أحسن.


لم يجد معتز مفرًا، فغادر المنزل برفقته، تاركًا خلفه أصداء كلماته الأخيرة ودموع مي التي لم تتوقف.


في تلك اللحظة، خرجت نبيلة من المطبخ على أثر صوت إغلاق الباب، لتجد الصالة خاوية، لكنها سرعان ما انتبهت إلى صوت بكاء مكتوم قادم من الغرفة. هرعت إليها بقلق، فوجدت ابنتها جالسة، غارقة في دموعها، فاقتربت منها بخوف:


— هو مشي إمتى؟ مالك يا بنتي؟ فيكي إيه؟ عملك حاجة؟ انطقي!


لم تجد ردًا، فازدادت قلقًا وجلست بجانبها، تحاول استيعاب ما يحدث:


— يا بنتي، في إيه؟ الراجل مشي فجأة ليه، وانتي بتعيطي كده ليه؟ يا حول الله يارب!


اعتدلت مي قليلًا، وابتلع صوتها الحزين كلماتها قبل أن تنطق:


— خلاص يا ماما... سيبنا بعض. مفيش نصيب بينا.


اتسعت عينا نبيلة في صدمة، ووضعت يدها على صدرها، غير مصدقة ما تسمعه:


— بتقولي إيه؟! سبتوا بعض؟ ليه؟ إيه اللي حصل؟


أخذت مي نفسًا عميقًا، ثم قالت بهدوء متكسر:


— طيب، اهدي كده واحكيلي، يا حبيبتي، إيه اللي حصل؟ إزاي وصلتم لكده؟ الراجل ده، أنا بعيني شفت حبه ليكي ولهفته عليكي... مش شفتي كان هيجنن يوم ما دخلتي المستشفى؟


رفعت مي عينيها إلى والدتها، نظرة يملؤها الانكسار:


— خلاص يا ماما... حتى لو بيحبني، مفيش فايدة. جوايا حاجة اتكسرت، وصورته اتهزت في عيني... إزاي أبصله تاني وكأن مفيش حاجة حصلت؟ مستحيل.


ثم نهضت من مكانها، مستأذنة بصوت خافت:

— بعد إذنك، عاوزة أنام.


راقبتها نبيلة بعينين يملؤهما الحزن، قبل أن تخرج وهي تهمس في داخلها بقلق، متجهة إلى ابنها لتعرف منه الحقيقة.


أما مي، فبعدما أغلقت باب غرفتها، همست بصوت لا يكاد يُسمع، وكأنها تحاول إقناع نفسها:


— حتى لو بنحب بعض، جوايا اتكسر خلاص...


ثم حاولت الهروب إلى النوم، لعلها تجد فيه ما يعوضها عن ألم اليقظة.

ـــــــــــــــــــــــــ

"خبر إيه؟ قول بسرعة! ها... همشي من هنا، صح؟"

نظر لها عاصم بعيون مليئة بالتسلية، ثم قال بنبرة خفيفة:


تمشي من فين؟ إحنا لحقنا؟ لا، فكري … ولا أقولك؟ اديني مقابل، وأقولك على طول.


تمتمت ببعض الكلمات غير الواضحة قبل أن تتمتم بوضوح:

استغلالي أوي!


سمعها عاصم، فابتسم بخفة وأردف:

برطمي براحتك، فكري في المقابل الأول.


فكرت قليلًا ثم قالت بمكر:

لو الخبر حلو، اللي أنت تطلبه هعمله، أما لو معجبنيش، فمفيش حاجة. ها، يلا قول الخبر.


هز عاصم رأسه نافيًا بحزم:


لا، هتنفذي على طول، سواء حلو أو وحش، هيتنفذ.


رفعت سيلا إحدى حاجبيها بتفكير وعناد واضح:


لا، على حسب الخبر!


ابتسم عاصم لها بحب وهو يقول بلطف:

ماشي يا غلباوية، بصي، كمان أسبوع بالضبط، همسة ووليد جايين هنا ومقيمين معانا. في أحلى من كده؟ ها، أستاهل مقابل ولا لا؟


ما إن سمعت الخبر حتى قفزت من فرحتها، ولم تتمالك نفسها، بل اندفعت نحوه لتحتضنه سريعًا وتطبع قبلة رقيقة على وجنته، ثم تراجعت وهي تبتسم بسعادة غامرة:

بجد، تستاهلها! أنا فرحانة أوي أوي!


ظل عاصم متجمدًا في مكانه للحظات، غير مستوعب لما حدث، وضع يده على موضع قبلتها ونظر إليها بعشق، بينما هي ابتعدت عنه تبتسم بسعادة. نظر إليها باندهاش قبل أن يقول:


إيه ده اللي عملتيه دلوقتي؟


تغيرت تعابير وجهها للحظة، لكنها سرعان ما فهمت ما يقصده، فابتسمت له وهي تقول بمكر:


إيه؟ المقابل اللي قولت عليه؟ بصراحة، الخبر حلو أوي وفرحني جدًا، تسلملي يا رب، يا حبيبي.


اقترب منها عاصم بخطوات بطيئة وهو يقول بنبرة ماكرة:


لا، كده أنتِ ضحكتي عليا خالص، ما بدهاش بقى… أنا هاخده بنفسي.


حاولت التراجع بسرعة وهي تتجه نحو الفراش، ثم غطت وجهها بالغطاء قائلة بمرح:


لا، لا، لا! أنت غشاش! امشي يلا بقى، أنا هنام، لأني تعبانة.


توقف عاصم ينظر إليها بدهشة مصطنعة، ثم تمتم وهو يتظاهر بالحزن:


أمشي؟ يعني دا جزاتي في الآخر؟ طيب، ماشي يا سيلا… حسابك تقل أوي معايا، وأنا بقى بجمعهم لك، أنا ماشي أهو.


قالها وهو يهم بالخروج، لكنه توقف عندما سمع صوتها يناديه:

استنى!


التفت إليها سريعًا، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مليئة بالأمل وهو يقترب منها مجددًا:

إيه؟ جيت، أنا كنت عارف إنك مش ههون عليكِ، صح؟


ابتسمت سيلا بخبث قبل أن تقول بمرح:


آه، معلش، قبل ما تمشي، ناولني الريموت دا، واقفل الباب وراك، مش قادرة أقوم.


تجمد في مكانه لثوانٍ، ينظر إليها بصدمة، ثم زفر بضيق وهو يقول مغتاظًا:


ر... إيه؟ ريموت؟! ماشي يا سيلا… اتفضلي، ريموت أهو!


ناولها الريموت بغضب مصطنع، ثم خرج وهو يغلق الباب خلفه، لكنه لم يستطع منع نفسه من الابتسام عندما سمع صوت ضحكاتها العالية تتردد في الغرفة. همس لنفسه وهو يمشي مبتعدًا:


صبرني يا رب… وعدّي الأيام الجاية على خير، ويشفيها ويشفي كل مريض، يا رب.


 ـــــــــــــــــــــــــــــــ

عندما خرجا سويًا، قال هيثم بنبرة هادئة:


تعالى، هنروح نقعد في كافيه ونتكلم.


ركب معتز بجانبه على مضض، بينما خيم الصمت بينهما طوال الطريق. وعندما وصلا إلى الكافيه، جلسا معًا، لكن نظرات هيثم كانت تحمل الكثير من التساؤلات، قبل أن ينطق أخيرًا:


ممكن تحكيلي إيه اللي حصل؟ أظن إحنا شباب زي بعض، وبنفهم بعض كويس. كنت حاسس إن في موضوع كبير، من يوم ما وقعت وجالها انهيار، ورفضت تشوفك، وحتى ترددها النهاردة في مقابلتك.


حاول معتز التماسك أمامه وإخفاء انكسار عينيه، لكنه زفر بعمق، ثم قال بصوت مبحوح:


مش هخبي عليك… أنا بحب مي، عمري ما حبيت قبلها ولا هحب بعدها. بس للأسف… خذلتها، وصورتي اتشوهت قدامها.


توقف للحظات، وكأنه يجمع شتات كلماته، ثم تابع:


مش هقولك إني ملاك، ولا هحاول أبرر نفسي. أنا بعترف… كنت شخص سيئ، لدرجة إني عصيت ربنا. بس بجد… اتغيرت. بدأت حياة نظيفة، بعيدة عن السواد اللي كنت فيه. زمان… مكنش عندي حد علشانه أتغير، وده كان غلط، لأن التغيير المفروض يكون لنفسك قبل أي حد. بس حاجات كتير اتغيرت لوحدها أول ما قابلتها… كأني اتولدت من جديد. هي علمتني، فهمتني حاجات عمري ما كنت أفهمها… لكن كله اتهد في لحظة واحدة.


ابتسم بوجع، ثم أكمل:


حياتي القديمة شكلها مش عايزة تسيبني، مش عايزة تديني فرصة أبدأ من جديد. كان لازم أمحي الماضي الأول، بس للأسف… ملحقتش، وسقطت من نظرها. مش قادر أوضح أكتر من كده… لأني مش قادر أتكلم بجد.


ماتت الكلمات في حلقه، وظل داخله يحترق بنيران الحب والفراق في آنٍ واحد. كان هيثم يراقب تعابير وجهه، يحس بانكساره العميق، حتى أنه شعر بالحزن الذي يتغلغل في صوته. ثم قال له بنبرة صادقة:


معتز، أنت بجد اتغيرت. واللي فهمته منك، واللي سمعته قبل ما تمشي، إنك فعلًا شخص مختلف. حياتك القديمة مش من حق حد يحاسبك عليها… ده ماضي، وانتهى. وأنت بنفسك قولت إنك كنت سيئ، وإنك عصيت ربك. إحنا مش ملايكة، كلنا بنغلط، أنا، أو أمي، أو أنت… المهم إننا نتعلم. وربنا بيقبل التوبة… العبد مش هيقبلها؟! الأهم إن توبتك تكون صادقة، مش عشان حد، عشان نفسك قبل أي حاجة. طول ما أنت على الطريق الصح، كمل، والأهم… متوقعش تاني في الخطأ.


ظل يراقب وجهه للحظات، قبل أن يستطرد:


لو مكتوبين لبعض، تأكد إنكم هتكونوا لبعض، حتى لو بعد حين. هي مسألة وقت، بس النفوس تهدأ. ولو مفيش نصيب، فأنت خلاص… الحمد لله، اتغيرت، وربنا راضي عنك، وبقيت إنسان صالح. إياك ترجع زي ما كنت عشان حد أو عشان رفض حد ليك. سيب الأيام تصلح كل شيء بينكم.


ثم وقف، ومد يده له ليصافحه، وقال بابتسامة صادقة:


أنا بجد مبسوط إني اتعرفت على شخص زيك، وإنك دخلت حياتنا واتغيرت للأحسن. وأنا معاك كأخ، لو احتجت أي حاجة.


نهض معتز هو الآخر، وصافحه بحرارة، قبل أن يقول بصوت مختنق:


وأنا اتشرفت بيكم كلكم… بلغ اعتذاري لماما، إني مشيت فجأة… وبلغ اعتذاري ليكم كلكم…


توقف قليلًا، لم يستطع نطق اسمها، فقد شعر أن دموعه ستخونه، ثم تمتم بصوت مرتعش:


وإن شاء الله… الأيام تبين حسن نيتي، وربنا يتقبل توبتي… ولو لنا نصيب…


ربت هيثم على كتفه عدة مرات، قبل أن يحتضنه مودعًا. ثم خرجا معًا من الكافيه، وعندما وصلا إلى السيارة، قال هيثم:


يلا، اركب… رايح فين؟ هوصلك.


لكن معتز أشار بيده رافضًا:


لا، توكل أنت… حابب أتمشى شوية.


ابتسم هيثم له وقال بهدوء:


ماشي، على راحتك.

قاد سيارته ورحل، بينما ظل معتز يتمشى بلا هدف، حتى توقف أمام النيل، ينظر إلى الماء كأنه غارق في حلم لا يريد أن يستيقظ منه. لكن داخله كان يغلي… ولد داخله إحساس جديد… إحساس بالانتقام ممن دمر كل شيء في لحظة. وفي صمت، عقد العزم على فعل شيء ما… ثم رحل.


توجه إلى الملهى الليلي، والغضب يعصف بداخله، عازمًا على الانتقام ممن كانوا سببًا في تدمير حياته. لكن ما إن وصل حتى صُدم بالمشهد أمامه. لم يكن هناك أثر للمكان سوى أطلال متفحمة، كأن النار ابتلعت كل شيء ولم تُبقِ حتى على ذكرى لما كان هنا.


اقترب معتز ببطء، عينيه تجوبان المكان، وكأنهما تبحثان عن دليل يُعيده إلى الواقع. سأل بعض أصحاب المحلات المجاورة، ليكتشف أن الملهى قد احترق بالكامل نتيجة ماس كهربائي مفاجئ، اندلعت منه نيران هائلة التهمت كل شيء، حتى الحديد انصهر تحت لهيبها، ولم ينجُ أحد ممن كانوا في الداخل.


وقف في مكانه للحظات، لم يشعر بجسده، وكأن قدميه لم تعد تحمله. ثم، شيئًا فشيئًا، تسللت ابتسامة خفيفة إلى شفتيه. لم تكن ابتسامة شماتة، بل كانت ابتسامة رضا… رضا من عدالة الله وانتقامه ممن أفسدوا في الأرض. شعر وكأن الله قد حماه من ارتكاب ما كان ينوي فعله، ونجّاه من خطيئة ربما كانت ستعيده إلى ظلام ماضيه.


رفع رأسه إلى السماء، همس بحمدٍ صادق:


الحمد لله… شكرًا لك يا رب.


ثم استدار، ومضى ليبدأ حياته الجديدة، واضعًا خلفه كل ما مضى، مستعدًا للمضي قدمًا.


---


بعد ستة أشهر…


طوال الفترة الماضية، لم يترك عاصم سيلا لحظة واحدة. كان بجانبها في كل خطوة، في كل جلسة علاج، في كل وجبة طعام. كان يعتني بها كأنها روحه، لا يفارقها إلا عند النوم. ومع الوقت، أصبحا روحًا واحدة، لا يقدر أحدهما على الابتعاد عن الآخر.


أما معتز، فلم يتحمل رؤيتها من بعيد، ولم يقوَ على الاقتراب منها، حتى النظر إليها كان أشبه بطعنة في قلبه. كانت قريبة، لكن المسافة بينهما أصبحت أبعد من أي وقت مضى.


لم يكن أمامه سوى الرحيل، فالوجود في نفس المكان معها دون القدرة على الحديث أو حتى اللقاء بعينيها كان أقسى عليه من أي شيء آخر.


قرر السفر، هربًا… ربما من نفسه أكثر من أي شيء آخر. توجه لأخيه، ليقف إلى جانبه كما يجب، لكنه كان يعلم في قرارة نفسه أنه يبحث عن أكثر من مجرد واجب أخوي. كان بحاجة إلى الهروب من ماضيه، من نظراتها التي لم تعد كما كانت، من ثقل الذكريات التي تلاحقه أينما ذهب.


ربما السفر سيمنحه فرصة لاستعادة ذاته، لإعادة ترتيب فوضى قلبه وعقله، للبحث عن معنى جديد لحياته بعيدًا عن الحزن والندم. لكنه كان يدرك جيدًا أن بعض الذكريات لا تمحى، وبعض القلوب لا تلتئم بسهولة.


ورحل معتز، تاركًا وراءه جزءًا من روحه، وقصة لم تكتمل.


أما همسة، فلم تفارقها إلا ليلًا، حين كانت تعود مع وليد إلى منزله القريب من المستشفى.


---


داخل غرفة العمليات، مرت أكثر من ثلاث ساعات… وفجأة، هرول بعض أفراد الطاقم التمريضي إلى الخارج، ثم عادوا ومعهم أطباء آخرون. عمّت حالة من الهرج والمرج، وصوت الأجهزة الطبية يعلو في الخلفية.


عاصم، الذي كان واقفًا بالقرب من الباب، شعر بقلبه ينقبض فجأة. وضع يده عليه، وكأنه يحاول تهدئته، لكنه لم يستطع. ارتعدت أوصاله، وكأن الخوف يتسلل إلى كل خلية في جسده.


أسرع إليه وليد، ربت على كتفه محاولًا تهدئته:


إن شاء الله هتطلع لنا بالسلامة، ادعِ لها بس.


لكن عاصم كان شاردًا، عيناه تائهتان وهو يرد بصوت مختنق:


مش قادر… حاسس إن روحي هي اللي بتطلع معاها. انت مشوفتش منظرها قبل ما تدخل… ولا الكلام اللي قالته… قلبي مقبوض أوي…


---


قبل ثلاث ساعات…قبل دخولها غرفة العمليات، نظرت سيلا إلى همسة وهمست بصوت ضعيف:

ادعيلي يا حبيبتي.

وانصهر الجليد

لم تتمالك همسة نفسها، ارتمت في حضنها هامسة:

بدعيلك والله… وهتخرجي لنا بالسلامة، إن شاء الله. انتي النور اللي بينور حياتنا كلنا.


بعدها، التفتت سيلا إلى عاصم، الذي كان واقفًا بعيدًا عند الباب، شاردًا في عالم آخر، متجمدًا في مكانه من شدة الخوف. لم يكن قادرًا حتى على الاقتراب، كأن الاقتراب منها يعني مواجهة احتمال فقدانها، وهو ما لا يستطيع تحمله.


ابتسمت له رغم تعبها، رغم أن المرض قد التهم شعرها وأضعف جسدها. مدّت يدها نحوه، تشير له بأن يقترب.

عاصم… تعالى قرب.

بقلم شرق مصطفى

اقترب منها ببطء، أمسك يدها، ضغط عليها بقوة، وكأنه يحاول أن يبعث لها الأمان، أن ينقل إليها قوته، أن يمنحها جزءًا من روحه.


نظرت في عينيه طويلًا، كأنها تريد أن تحفظ ملامحه داخلها إلى الأبد.


عاصم، عاوزاك توعدني وعد.

هز رأسه بسرعة، كأنه يرفض حتى مجرد فكرة الحديث عن أي شيء قد يحمل معنى الوداع.

هشّش… اسكتي، متتكلميش، أرجوكي.


لكنها تمسّكت به، نظرت إليه بترجٍ حارق:

عشان خاطري… اسمعني بس.


تألم من نظرتها، زفر بحدة وقال بنفاد صبر:

عشان خاطري انتي! مش عاوز كلام، انتي هتدخلي، وبعدها هتخرجي لنا، وهنبدأ حياتنا… هاخدك، ونسافر، ونلف العالم كله، و…


قاطعت كلماته، وانهمرت دموعها بصمت:


أرجوك، يا عاصم… بس.


شعر بمرارة في حلقه، ابتلع ريقه بصعوبة، وكبح دموعه وهو يقول:


أرجوكي… انتي بس اطلعي لنا بالسلامة، بعد كده قولي اللي انتي عاوزاه.


اختنق صوتها من أثر كلماته، ثم همست برجاء:

طيب… عاوزاك تحضني… ممكن؟


لم تنتظر أن تكمل كلامها، فقد جذبها إليه بقوة، احتواها داخله، كأنه يريد أن يحميها من العالم بأكمله. كان هذا العناق يحمل كل شيء… الحب، الخوف، الرجاء، التمسك، والانكسار في آنٍ واحد.


لم يشعر أحدهما بالزمن، تناسيا كل شيء، حتى أيقظهما صوت الممرضة وهي تربت على كتف عاصم برفق، تخبره أن الوقت قد حان… يجب أن تذهب.


لكنه لم يتحرك، لم يشأ أن يفلتها.


وكأنها تقرأ أفكاره، ابتعدت عنه ببطء، ونظرت إليه نظرة أخيرة، قبل أن تمسك يدها بيده، وتشد عليها للمرة الأخيرة، ثم تتركها…

ورحلت داخل غرفة العمليات.

الفصل الحادي عشر من هنا

تعليقات



×