![]() |
رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل التاسع عشر
حبل الكذب قصير، مقولة مأثورة صادقة فمهما كان الكذب وسيلة لدفع أمر سيء ستجد نفسك داخل دائرة من الأكاذيب تؤدي إلي عواقب وخيمة ويحدث ما لا يحمد عقباه.
تقف أمام شقيقها داخل غرفة المكتب تبكي و لا تعلم من أين تبد، بينما الأخر قد ظن أن الأمر متعلق بزوجها فسألها بوجه متجهم الملامح:
"مصعب عملك حاجة؟"
هزت رأسها بنفي و صوت بكائها يزداد نشيجاً مما جعل صبره ينفذ على الفور فصاح بغضب:
"بطلي عياط يا ملك وقولي فيه إيه؟"
حاولت أن تهدأ و لو قليلاً حتي أجابت:
"مصعب أصلاً ما يعرفش إن أنا هنا، و ياريت اللي هقوله لك بالله عليك ما يعرفهوش، الموضوع بدأ من...
ساور القلق قلبه، يخشى أن يكون الأمر كارثة، انصت جيداً إليها و هي تسرد له منذ بداية أن أرسل هذا المحتال إليها رسالة من حساب باسم زائف و تمكن بخداعها و مراسلتها كونه سيدة متزوجة، و كيف استغل تلك المحادثة واخترق من خلالها هاتفها حتي انتهي الأمر بالتهديد و المساومة علي المال والعرض أم الفضيحة؟
و بعد أن انتهت من سردها إليه ساد الصمت بينهما، و إن كان يوجد صوت فهذه دمائه التي تغلي كالماء داخل المراجل ويتصاعد من البخار كالدخان.
تنتظر ردة فعله بتوجس وخوف، كم تعلم أن شقيقها الوجه الآخر من زوجها و ربما أشد قسوة
"قصي، أنا إن غلطت و غلطي كبير كمان، بس و الله ما كنت أعرف، بعترف أنا غبية وهبلة"
و رغماً عنها اجهشت في البكاء من جديد ثم اردفت:
"كنت عايزة أقول لمصعب بس هو ما أداليش فرصة، مصعب معندهوش تفاهم في أمور زي دي أبداً، آدم مسافر و يوسف مشغول، يونس و ياسين الله يكون في عونهم كل واحد فيهم فيه اللي مكفيه، مكنش فيه حد ألجأ له غيرك"
كلما طال صمته زاد خوفها، ماذا عساه أن يفعل بها؟، و إذا بها تنتفض و كادت ترجع إلي الوراء لكنه جذبها علي الفور من يدها واحتضنها بين ذراعيه بحنانه الفياض، أخذ يربت علي ظهرها قائلاً بنبرة هادئة لتطمئن وتهدأ:
"أحسن حاجة عملتيها إنك جيت لي، ما تخافيش أنا هخلي الحيوان ده يندم علي اليوم اللي أتولد فيه"
رفعت وجهها عن صدره فنظرت إليه وقالت:
"أنا خايفة من مصعب، خايفة لأخسره، أنا بحبه أوي و ما اقدرش أعيش من غيره"
حدق إليها بعتاب:
"عايزة الحق و لا هتزعلي؟"
نظرت إلي أسفل بندم فاردف:
"أنتِ غلطانة من البداية خالص، مفيش واحدة عاقلة و كمان زوجة و أم تروح تحكي أسرار بيتها لحد ما تعرفهوش، حتي لو لحد من أخواتك، حتي لو أنا شخصياً، تاني حاجة كان عندي تحكي لمصعب من أول ما اكتشفتي حقيقة القذر التاني، بس خلاص مفيش وقت نقول المفروض و ياريت، أهم حاجة إزاي هانتصرف"
رفعت وجهها و رمقت بأعين أضناها الحزن و فاض بها الدمع، سألته:
"هنعمل إيه؟"
وضع يديه علي كتفيها ونظر صوب عينيها بثقة قائلاً:
"كلميه و قولي له جاي لك"
غرت فاها و نظرت بتعجب:
"إزاي؟"
أطلق زفرة مطولة فأجاب:
"أعملي اللي قولت لك عليه و أنا هافهمك كل حاجة، المهم عايزك قوية و متماسكة بلاش الضعف و السذاجة اللي أنتي فيهم، أنتِ أخت قصي البحيري فاهمة؟"
༺༻
تتسلل أشعة الشمس خلال زجاج النافذة فسقطت علي جفونه مما جعله يشعر بالضجر حينما بدأ يستيقظ، شعر بثقل في رأسه و ألم شديد، رفع يده و أخذ يلمس أثر الإصابة فشعر بالألم، حاول جاهداً أن يتذكر ما حدث بالأمس فانتفض و نهض يلتفت من حوله، وجدها تتمدد علي الأريكة المقابلة له، تحتضن جسدها و ترتجف من البرد الذي يبثه المكيف في أرجاء الغرفة، نهض واقترب منها ليلقي عليها الدثار ثم توقف يتأمل ملامحها وهي نائمة، مد يدهُ لكي يلمس خدها المياس، اتسعت عيناه حيث شعر بحرارة جسدها المرتفعة، خرج مسرعاً ولم يكترث إنه مازال ببدلة العُرسِ منذ الأمس، هبط الدرج وذهب إلي المطبخ، ألتفت الخادمة إليه بفزع تسأله:
"معلش يا أحمد بيه، حالاً و الفطار يكون جاهز"
قال لها باقتضاب دون أن يعقب على حديثها:
"عايز طبق في ميه و تلج"
تعجبت فسألته:
"هو مدام علا كويسة؟"
زجرها بنظرة تحذيرية قائلاً:
"مش عايز رغي، هاتي اللي طلبته منك"
أحضرت له وعاء بلاستيكي وداخله ماء ثم أفرغت داخله مكعبات من الثلج، أتت بها من مجمد البراد، حملته ومدت يدها به إليه:
"أتفضل يا أحمد بيه"
أخذه ثم أمرها من جديد:
"طلعي مع الفطار كوباية من أي مشروب دافي"
أومأت له وقالت:
"حاضر"
بينما هو أسرع في الحال للعودة إلي الغرفة، فوجدها مازالت في تلك الحالة التي تركها عليها، ذهب إلي الخزانة وتناول محرمة قطنية صغيرة، يغمرها في وعاء الماء المثلج ثم يعتصرها ويضعها فوق جبينها فانتفضت و تشبثت بيده دون دراية منها، تصدر من بين شفتيها همهمات لم يفهم منها شيئاً، أخذ يتناول قليلاً من الماء وينثره على خديها، و كذلك أيضاً يديها قام بتمسديها بخاصته داخل الوعاء، كل خمسة عشر دقيقة يضع مقياس الحرارة أسفل لسانها، و عندما وجد الحرارة تقل تدريجياً تنفس الصعداء، اعتصر المنشفة مرة أخري ثم توقف فجأة حينما تفوهت بصوت خافت للغاية لكنه انتبه إلي كلماتها جيداً:
"لاء يا أحمد، لاء، ابعد، أنا ما قتلتهوش، لا"
ابتسم و هو يضع يده علي أثر الجرح في رأسه يتذكر أحداث الأمس، فأدرك ماهية تلك الكلمات التي تتمتم بها دون وعي منها، تراجع عن تلك المشاعر المخترقة لفؤاده، دنا منها جالساً على ركبتيه، يهمس بالقرب من أذنها بوعيد:
"كنتي عايزة تقتليني؟، لما تفوقي و تشدي حيلك هعلمك الأدب علي إيدي"
اشتدت قبضة يدها على يده، رفع جانب فمه بابتسامة ماكرة، وضع طرف إبهامه فوق شفتيها فشعر بالدفء، اقترب بخاصته و أنفاسه تسبقه فوق بشرتها، تناول شفتيها و كأنه يتذوق حبة توت شهية، بدأت تستيقظ و تشعر بما يفعله بها، و إذا بها تدفعه بكل قوة عنها صارخة:
"أنت بتعمل إيه؟"
حاولت أن تنهض لكن التعب الذي يغلب على قوة جسدها، جعلها تشعر بدوار فجلست مرة أخري فاقترب منها وسألها بقلق:
"أنتِ كويسة؟"
رفعت وجهها و حدقت إليه بازدراء قائلة:
"هابقي كويسة طول ما أنت بعيد عني"
نظرة ساخرة يحدقها بها ثم أخبرها:
"أنتِ كان حرارتك عالية و جسمك بيترعش، مهنش عليا أسيبك في الحالة دي صعبتي عليا و عملت لك كمدات"
تري في عينيه نظرة أدركها قلبها لكن لا تريد أن تصدقها، ربما تخشي أن تقع في حبه، فهي لا تتمني التعلق بحبل ضعيف حتي لا تقع في الهاوية.
عقدت ما بين حاجبيها و عقبت بحدة:
"ياريتك كنت سيبتني أموت على الأقل هرتاح منك"
هو ليس بأحمق، يعلم إنها تحذر منه وتخشي أن تقع داخل شباكه، لذا اقترب منها مرة أخرى فدنا منها يستند بيده على المسند الجانبي للأريكة و يده الأخرى يضعها على وجنتها قائلاً بتهكم:
"أسيبك تموتي إزاي من غير ما أطلع عينك، و لا أسيب حق اللي عملتيه فيا إمبارح، ده أنتِ لسه هاتشوفي على أيدي أيام أسود من شعر راسك"
نظرت إليه بتحديٍ وتدفع يده عن وجنتها قائلة:
"و لا يهمني اللي أنت بتقوله ده أصلاً، أنا ما بخافش غير من اللي خلقني يا أحمد بيه"
ذكرت اللقب بنظرة ساخرة مما أثار حديثها غضبه الثائر، رأت ذلك داخل عينيه المشتعلة بألسنة اللهب، ظنت لوهلة إنه سوف يفتك بها حتي جاء طرق علي باب الغرفة أنقذها من شره، ذهب وفتح الباب وجدها الخادمة تدفع عربة يعلوها أطباق من الطعام:
"الفطار و المشروب اللي حضرتك طلبته يا أحمد بيه"
جذب العربة إلي الداخل فلاحظ فضول الخادمة التي حتماً هي من جواسيس والدته لتخبرها كيف هو الوضع، ألتفت إليها ونظر إليها بحدة ثم صفق الباب في وجهها، دفع العربة أمام علا و أمرها بحزم:
"الأكل ده يخلص و تشربي اللي عندك ده"
ذهب نحو الخزانة يخلع عنه قميصه و ألقاه على الفراش مردفاً:
"و بعد ما تخلصي، تقومي تنضفي الأزاز اللي على السرير، مطرح الإزازة اللي كسرتيها على راسي"
بعد أن سمعت كلماته انتبهت إنه يقف جذعه عارياً فوضعت كفيها علي وجهها، و حين استدار و رأي ما تفعله ضحك ساخراً فأخبرها:
"ما أنتِ من هنا و رايح لازم تتعودي، مش المفروض أنا أبقي جوزك؟"
أخذ ثياباً من الخزانة و اتجه إلي المرحاض فتوقف عندما أجابت:
"أنا لسه على كلامي ليك من إمبارح، على جثتي لو ده حصل"
في غضون لحظة كان يقف أمامها ويمسك بكلا يديها يدنو منها قائلاً بنظرة تهديد جعلتها ترتجف أمامه:
"هيحصل و حياتك، بس مش على جثتك، على السرير تحبي أوريكي؟"
دقات قلبها تعلو بخوف من نظراته القوية و التي تخبرها إنه لم يمزح بل يريد هذا كلما أبدت له رفضها، ازدردت لُعابها فأجابت:
"أنا...
اندفع الباب وظهر صغيرها يبكي مُردداً:
"ماما"
جذبت يديها من أيدي زوجها ونهضت لتعانق صغيرها و تربت عليه:
"بتعيط ليه يا حبيبي؟"
أجاب ببراءة من بين دموعه:
"الست دي وحشة مش بحبها، حبست حمزة و زعقت فيه و هو عايز ماما"
انتبهت إلي صوت جدته التي ولجت للتو تعقب بحدة:
"ولد، احترم نفسك و أتكلم عن جدتك باحترام، و لو كانت مامتك معرفتش تربيك و تعلمك، أنا اللي هعلمك زي تحترم اللي أكبر منك"
ذهب أحمد ليلتقط قميصه و يرتديه على عجالة، و بدون أن يلفت انتباه والدته ألقي سترة البدلة علي بقايا الزجاجة المحطمة، بينما علا رمقتها بامتعاض و تربت على ابنها فقالت للسيدة شيريهان:
"ده طفل صغير و قولت لحضرتك له ظروفه الخاصة، و فهمتك أكتر من مرة إنه ما يقدرش ينام بعيد عني، حضرتك صممتي و خدتيه يبات معاكي في أوضتك"
صاحت الأخرى بحنق:
"الكلام ده لحد قبل ما تتجوزي، الوضع دلوقت بقي مختلف، ابنك كبر و ما ينفعش ينام وسطك أنتِ و عمه و لو ما تفهميش في الأصول و الأتيكيت قولي لي و أنا أعلمك"
هنا تحدث أحمد وقال:
"علا بتتكلم صح يا ماما، و غير كدة الكلام ده بيجي بالتدريج مش من مرة واحدة"
حدقت إليه والدته بغضب و أجابت بسخرية:
"واضح أوي إن الهانم عرفت تأثر عليك و كلمتها هي اللي بتمشي"
أدرك ما بين كلمات والدته لاسيما عندما أخذت تنظر إلي قميصه و بنطال البدلة مازال يرتدي كليهما منذ الأمس، جز على أسنانه وينظر إلي والدته بسخط فقال:
"علا كانت تعبانة و حرارتها كانت مرتفعة، و أظن يا ماما اللي ما بيني و بين مراتي بيبقي خاص بيني و بينها، مش ده برضو موجود في الإتيكيت بتاع حضرتك يا شيري هانم؟"
تلون وجهها بألف لون ولون، و تلك النظرة التي في عينيها تذكره حينما كان هناك موقفاً مثل هذا منذ سنوات، شعر بخوف ليس منها بل على علا التي لا تدرك ما يحدث وتتعجب من ردة فعل زوجها، كذلك لهجة التحدي التي يحدثها بها، اكتفت والدته بالصمت و غادرت تاركة إياه أسير أفكاره.
༺༻
في داخل السيارة يجلس شارداً، يحمل من الهموم جبالاً، فهو إليهم الأخ الكبير و الحضن الدافئ، بينما قلبه أضناهُ الحزن من ما يحدث بينه و بين زوجته، كليهما يتشبث بالعند والتحدي.
بينما التي تجلس جواره تمسك هاتفها الذى تركته على الوضع الصامت، تنظر في شاشته كل فينه والأخرى تري الإتصال الوارد و لم تجب لأنها تعلم غاية المتصل.
توقفت السيارة أمام الشركة فأخبرها:
"أنزلي أنتِ و أنا هخلص مكالمة و جاي وراكي"
أومأت له قائلة:
"حاضر"
ترجلت من السيارة و تفتح حقيبة اليد التي تمسك بها لتضع داخلها الهاتف، و إذا بيد غليظة تقبض على عضدها بعنف، التفت إلي صاحبها بفزع فقال لها:
"كنتي فاكرة مش هعرف أوصلك!، و لا فكراني زي أمك اللي ضاحكة عليها و مفهماها إنك مسافرة تبع شغلك و أنتِ مقضياها من الشركة لبيت الراجل اللي بتشتغلي عنده يا..."
حاولت أن تجذب ذراعها في محاولة بائسة، فقالت بقوة زائفة:
"عايز مني إيه ما ترحمني بقي، أخر مرة قولت لك أنت بالنسبة لي ميت"
أثارت كلماتها غضبه فجذبها من شعرها بقوة قائلاً من بين أسنانه:
"بتتمني لي الموت يا بنت الـ...
و كاد يصفعها تقدم نحوه رجال الأمن بعد صياح قصى الهادر و ذلك بعدما أن رأي ما يحدث عبر النافذة فترجل على الفور:
"أمسكوه"
قبض عليه رجال الأمن، فاتجه نحوه قصى بخطوات سريعة وكاد يسدد له لكمة قوية فوقفت منار بينهما صارخة:
"لاء يا قصى، ده بابا"
تراجع عن ما كان مقبل عليه وأشار إلى رجاله أن يتركوه، فعقب والدها بتهكم:
"أيوه أبوها اللي مستغفلاه و راحت تمشي معاك في الحرام"
اندفع نحوه ليسدد له لكمة فأوقفه الحارسان بالقبض على ذراعيه قبل أن يهجم على قصى الذى أشار لهما قائلاً:
"سيبوه"
اقترب منه و حدق إليه بتحذير قائلاً:
"أنا لولا إنك طلعت والد منار كان هيبقي ليا معاك تصرف تاني، و على فكرة بنتك تبقي مراتي مش ماشية معايا في الحرام"
ابتسم الأخر بسخرية معقباً:
"هتلاقيك متجوزها عرفي طبعاً، بأمارة ما أنت مخليها مفهمة أمها وأخوها إنها مسافرة تبع الشغل"
أخبرته منار بدفاع عن اتهامه لها:
"أنا و قصى متجوزيين على سنة الله و رسوله، و مش محتاجة أثبت لك ده"
فسألها بنظرة ساخرة:
"و ليه أمك بتقولي إنك مسافرة و لا مش عايزاني أعرف إنك أتجوزتي رجل أعمال غنى"
لاحظ قصى نظرة الكراهية والخوف في آن واحد داخل عيناها تجاه والدها، لذا أمسك يدها ليجعلها تشعر بالأمان قائلاً:
"حضرتك لو عايز تتفضل تطلع معانا فوق نتكلم بكل أدب و احترام أهلاً بيك"
رد الأخر بفظاظة:
"أنا أصلاً مش جاي لك"
ثم نظر إلي ابنته وأردف:
"هي عارفة أنا عايزها في إيه"
يكفي افتضاح أمر والدها إلى هذا الحد أمام زوجها، اقتربت منه وهمست:
"ارجوك كفاية فضايح و هابعت لك اللي أنت عايزه"
أجاب بصوت خافت محدقاً إليها بخبث:
"ما كان من الأول، عموماً هاطلع جدع معاكي المرة دي، بس مقابل الجدعنة تحولي لي مليون جنيه"
غرت فاها ثم أخبرته:
"أنا مش معايا المبلغ ده"
"أنتِ هاتستعبطي؟، متجوزة راجل معيشك ملكة و مش معاكي مليون جنيه!، اتصرفي و يكون المبلغ متحولي في خلال أسبوع"
أجابت بهمس:
"حاضر، ممكن بقي تمشي"
"أنا ماشي بس لو المبلغ ما أتبعتش هاروح لأمك و أخوكِ و هما اللي هايتصرفوا معاكي، مع السلامة يا عروسة"
ثم نظر إلي قصى و لوح إليه بيده ساخراً:
"سلام يا جوز بنتي"
قالها و ذهب إلى السيارة التي كان يقودها، ولج إلى مقعد القيادة فانطلق بها.
༺༻
ترتدي زياً رياضياً و تمارس رياضة الركض في مسار دائري، توقفت حينما شعرت بالتعب، أخرجت هاتفها من جيب بنطالها الأبيض لتنظر في شاشة الهاتف فوجدت رسائل تخبرها أن أتاها اتصالات عديدة من رقم والدتها و والدها، لكن يبدو أن المكان الذى تركض فيه خارج التغطية، رفعت الهاتف قليلاً و ظلت تسير باحثة عن إرسال جيد لشبكة الإتصال حتى وصلت إلى المسبح، مازالت منشغلة بالتقاط الإرسال فلم تأخذ حذرها و أنزلقت قدمها على الحافة فاختل توازنها و سقطت في الماء.
كان هناك من يتابع هذا الموقف فنهض مسرعاً و خلع قميصه القطني ثم قفز لينقذها، حاول أن يحاوطها من خصرها ليدفعها إلي أعلى، فتفاجئ إنها تدفعه بقوة ليبتعد عنها أمسكت بالحافة وصاحت به:
"أنت مين عشان تسمح لنفسك اللي أنت عملته دلوقت ده؟"
نظر إليها بحنق قائلاً:
"تصدقي أنا غلطان، كنت سيبتك تغرقي أحسن"
شعرت بالضيق من أسلوبها الفظ بدلاً أن تبدي له الشكر والإمتنان فعلت النقيض، خرجت من المسبح وذهبت خلفه:
"لو سمحت، يا...
توقف والتفت إليها بامتعاض، تري الآن ملامحه بتمعن، يبدو إنه شاب في منتصف العقد الثالث ذو بشرة برونزية من تأثير أشعة الشمس، متوسط الطول وعريض المنكبين، يمتلك جسداً رياضياً، بينما هو الأمر لديه بنظرة خاطفة حفر ملامحها في عقله، ذات بشرة بيضاء وأنف دقيق و شفاه بلون التوت الأحمر، عينان يغلب عليهما نظرة الحزن برغم صغر سنها، ومض بريق عيناه ببريق ثم أطلق زفرة وأجاب:
"نعم؟، عندك حاجة نسيتي تقوليها لما كنا في الـ pool؟!"
هزت رأسها بالنفي ثم ابتسمت بخجل ونظرت إلي أسفل لتخبره:
"i'm sorry"
ابتسم بترحاب وأجاب بمكر:
"أنا ممكن أقبل الإعتذار، بس في حالة واحدة، نقعد نشرب حاجة في الكافيتريا و أنا اللي أعزمك"
ترددت في الإجابة فألتقط هذا التردد بعينيه ذات النظرة الثاقبة كطائر العُقاب، فأردف:
"لو قلقانة هما خمس دقايق و الكاڤيتريا هنا في النادي، يعني مكان عام"
شعرت بالحرج وفي النهاية قبلت الدعوة فقالت له:
"و هقلق من إيه، حتي لو في مكان private أنا واثقة من نفسي كويس"
أطلق صفيراً باعجاب ثم باغتها بتلك الإجابة:
"بس أنا شايف العكس، الثقة دي مجرد قناع بتخفي وراه ضعفك، شايف قدامي آنسة جميلة جداً جواها طفلة مفتقدة للأمان"
كلماته جعلتها ترتبك وكأنه كشف دواخلها وأصبحت شخصيتها عارية أمامه، همت بالذهاب وقالت:
"عن إذنك"
توقف أمامها ورفع كفيه:
"بعتذر لو كلامي ضايقك، معلش بقي شغلي بيغلبني كل ما أقابل حد"
رمقته بعدم فهم فأردف ويومئ لها:
"أنا عمرو المصري دكتور أمراض نفسية"
مد يده إليها فبادلته المصافحة وعقبت:
"لوچى البحيري"
༺༻
و في داخل المصعد تتفادى النظر إلى قصى وتمنع دموعها التي أبت الأسر داخل عينيها، يديها ترتجف بتوتر، و عندما وصل كليهما أمسك يدها حتى ولج إلى داخل المكتب، فأغلق الباب بعد أن دخلت، لم تتحمل أكثر من ذلك، ولت ظهرها إليه فأطلقت دموعها بغزارة، أخذ العلبة الخشبية الخاصة بالمحارم الورقية من فوق المكتب ثم اقترب منها ومد يده بها إليها، تناولت منها محرمة وأخذت تجفف خديها من عبراتها، ربت على ذراعها قائلاً:
"تعالي اقعدي هنا"
أشار إليها نحو الأريكة الجلدية فجلست أعلاها، عاد إلى مكتبه من أجل أن يتصل بالمسئول عن عمل المشروبات و يقول له:
"واحد ليمون بالنعناع و قهوة سادة"
أغلق سماعة الهاتف ثم ذهب ليجلس بجوارها، بدأ بكائها يخبو رويداً رويداً، يدرك حالة الإنهيار التي بها فسألها:
"حاسة بإيه دلوقتي؟، لسه عايزة تعيطي؟"
هزت رأسها بالنفي وأجابت بحزن دفين:
"أنا اللي جوايا أكبر من الدموع، كلمة بابا دي عمري ما حسيتها عشان أناديه بيها، كان و مازال على طول قاسي و أناني ما بيفكرش في نفسه، كنا آخر همه و ضيف على كدة أمي اللى أتعذبت و اتبهدلت منه و بسببه"
توقفت لتتناول محرمة و تجفف أنفها وتسطرد:
"عمري ما هنسي لما كنت بدافع عن ماما لما كان بيمد إيده عليها، يطردها برة الأوضة و يقفل الباب بالمفتاح و يخلع الحزام عشان ينزل بيه عليا و أمي تصرخ برة عشان يفتح و يسيبني، عمري ما هنسي لما يوم ما ماما جابت أخرها منه و وقفت قدامه وطلبت الطلاق، راح باع شقتنا بعقد و بتاريخ قديم، فجأة لاقينا عفشنا مرمي في مدخل العمارة، مافكرش فينا أنا و أخويا وأمي مصيرنا هيبقي إيه، المهم يكسرها ويذلها مش مشكلة إننا نتبهدل"
وضعت كلا كفيها على وجهها فاجهشت في البكاء من جديد قائلة من بين دموعها:
"أنا كل ما أحاول أنسي كل الذكريات دي يرجع ويخليني أفتكرها، و دلوقتي جاي يساومني يا أديله فلوس عشان يروح يسكر بيها و يلعب قمار يا إما هايروح يحكي لماما وأخويا علي جوازنا"
شعر بالشفقة والحزن حيالها لاسيما بعد أن علم تلك المأساة التي عاشت ومازالت تعيش فيها لتأتي مسألة زواجهما عاقبة وخيمة فوق رأسها، ربما قد نسي تماماً أمر عائلتها الذين لا يعلمون شيئاً و كيف سوف يتقبلون هذا الأمر، كارثة أخرى تلحق به وبها أيضاً.
اقترب منها وأخذ يربت علي ظهرها فأخبرها:
"حقك عليا أنا اللي ورطك في موضوع جوازنا و وعد مني هاقف جمبك ومش هاسيبك حتي بعد ما نطلق"
أنزلت يديها ورفعت وجهها ثم ألتفت إليه قائلة:
"هقولك على حاجة، أنا أول مرة ما أخافش حتي لما شوفت بابا النهاردة، لأن وجودك جمبي خلاني أحس بالأمان، حتي لما بعيط ما بحبش حد يشوف دموعي، لكن قدامك عيطت و بفضفض بحاجات عمري ما أتكلمت فيها مع حد عن حياتي الشخصية"
اندفعت نحوه وقامت بمعانقته مُردفة:
"ربنا ما يحرمني منك يا قصى"
تردد في أن يبادلها العناق وألا يستسلم إلى هوىٰ نفسه، فهي زوجته ويحق له ذلك، لكنه يحسب هذا خيانة لصبا التي تملك هذا الجسد بل قلبه وكل ما له رغماً من الذى حدث بينهما.
انتبه إلى حرارة جسده التي بدأت ترتفع و منار قابعة بين ذراعيه تلتصق بصدره، أبعدها عنه برفق ثم نظر إلي عينيها كم هي جميلة في ضعفها وقطرات دموعها متعلقة بأهدابها، شِفاها يشوبها رجفة طفيفة من أثر البكاء، بينما هي لم يكن الأمر يمر بالنسبة إليها كمرور الكرام، فأمامها رجل أربعيني يملك من الوسامة و شيم الرجال ما يجعلها و يجعل الأخريات يقعن في حبه، لكن حبها له من نوع أخر، فهي قد حسمت هذا الأمر باكراً لأنها تعلم كم يعشق زوجته و من المستحيل أن يحب إمرأة سواها، لذا لن تتمسك بأهداب واهية.
أغمض عينيه واكتفي بطبع قبلة على جبينها، يجاهد نفسه بشق الأنفس، حتى لا يرتكب فعلاً يجعله يندم لاحقاً.
قاطع تلك اللحظة رنين هاتفه و كأن هذا الإتصال جاء لينتشله من الوقوع في الخطأ.
نهض سريعاً وأجاب:
"وصلت؟"
أجاب الأخر:
"يعتبر داخلين على المكان"
"طيب لما تخلصوا ابقي طمني"
رد الأخر باقتضاب:
"حاضر، سلام"
"سلام"
༺༻
تقف على الرصيف لدي العنوان الذي قرأته للتو في الرسالة، تتلفت من حولها باحثة عن سيارة شقيقها ومعه رجاله كما أتفق معها في الأمس، لم تجد شيئاً فحاولت الإتصال على شقيقها قبل أن تخبر (زيكو) إنها في انتظاره لكن لم تتلق رداً منه، شعرت بالقلق والوقت على وشك أن ينفذ، فقررت أن تعود إلي داخل السيارة التي أتت بها إلى هذا المكان.
"على فين العزم إن شاء الله؟"
تسمرت في مكانها حينما سمعت صوت هذا الوغد فالتفت إليه و تزدرد ريقها بتوتر وخوف، كان داخل (توكتوك) فترجل منه مرتدياً نظارة شمسية و قبعة (كاب)، أظهر لها جزء من مُدية يحملها داخل جيب بنطاله وقال لها بأمر:
"يلا قدامي"
لم تتحرك إنشاً واحداً وتنظر إليه بخوف دون أن تتحدث بحرفٍ واحد، لوح لها بيده قائلاً:
"هاتفضلي واقفة كدة كتير، ما تنجزي الراجل وراه مشاوير غيرنا"
لاحظ يدها ترتجف فاردف ورفع يده ليمسك بخاصتها:
"أنتِ لسه بتفكري...
وقبل أن يلمس يدها أطاحت يده ركلة قوية وتبعها لكمة شديدة في وجهه، ترجل سائق التوكتوك ليدافع عن صاحبه فوجد رجل أخر يباغته بلكمة جعلته يقع على الأرض، أمسك هؤلاء الجدران البشرية كلا من زيكو و السائق ينتظرون الأمر.
و لدي ملك فمن رعب وهول ما يحدث لم تشعر بأطرافها، تراجعت إلي الوراء بخوف وذعر حتى اصطدمت بجدار صلب، أتاها صوت رخيم من خلفها مباشرة يلقي الأمر على رجاله:
"خدوهم على العربية"
ألتفت على الفور للتأكد من صحة سمعها، و ما أن تلاقت عينيها بخاصته الرمادية، جفت الدماء في عروقها، لم تستطع أن تستوعب تلك الصدمة وتصمد أكثر من ذلك، داهم الخدر ساقيها، وقبل أن تقع تلقاها بين ذراعيه ثم حملها إلى سيارته.
༺༻
قامت بفتح تطبيق التواصل الإجتماعي فظهر أمامها أول منشور على الصفحة الرئيسية صورة تجمع بين يونس وكارين و يعلوها تعليق "و قد عادت روحي إلى جسدي"، ابتسمت وشعرت بسعادة وفي الحال بدأت بكتابة تعليق تهنئة
"ألف مبارك يا كوكي وربنا يجمعكم ديماً على خير بإذن الله"
وبعد انتهائها من نشر التعليق قامت بالضغط على أحببت، نهضت وذهبت باحثة عن زوجها لتخبره:
"آدم؟، دومي؟"
ولجت إلى داخل الغرفة فوجدته نائماً بجوار ابنه، قامت بالقاء الدثار فوقهما ثم دنت من صغيرها الذي أصبح يشبه والده تماماً في الملامح والطباع، وكذلك وضعية النوم وكأنه نسخة صغيرة منه، ابتسمت وأخذت تردد بعض الأدعية ثم دنت نحو خده وقامت بطبع قبلة حانية وأخرى فوق خد زوجها الذي يغط في نوم عميق، كادت أن تغادر الغرفة لكن أوقفها ضوء هاتف زوجها يبدو إنه قد وقع من يده بجوار السرير، أمسكت به ولاحظت إشعارات على شاشة القفل، مكالمات لم يرد عليها ورسائل نصية واردة، خرجت دون أن تصدر صوتً، ولجت إلي الغرفة الأخري ترددت أن تفتح الهاتف فهي لم تفعلها من قبل، لكن هناك شعور يراوضها ويخبرها حدسها أن تُلقي نظرة، قامت بفتح الرسائل وكان فحواها كالآتي
«كنت مبسوطة أوي لما شوفتك إمبارح، ماتنساش العيد ميلاد هستناك»
و رسالة أخرى سابقة تم الرد عليها منه، فقامت بتمريرها لقراءة المحادثة من البداية وكانت كالتالي:
"هاي دومي أنا روڤان، يوسف حبيبي عامل إيه؟، يارب تكونوا بخير"
رد آدم:
"أهلاً روڤان، أنتِ جيبتي رقمي منين؟، الحمدلله كلنا بخير، شكراً على سؤالك"
"لما أكون عايزة أعرف حاجة بوصلها"
"(رمز تعبيري وجه ضاحك)، ما هو واضح، أنتِ مش ساهلة"
"(رمز تعبيري لوجه يغمز بعينه)، إيه عجبتك؟"
"روڤان أنتِ زي القمر و أي حد يتمناكي"
"أنا مش عايزة أي حد، أنا عايزاك أنت،؟، ما بتردش ليه؟، أنا هكلمك فون؟"
خرجت من المحادثة بعد أن حفظت توقيتها بالتاريخ والساعة، انتقلت إلى سجل المكالمات فوجدت رقم هاتف روڤان ومكالمة واردة استغرقت ساعة بعد توقيت المحادثة مباشرة.
ارتمت جالسة على طرف الأريكة، تسند كلا مرفقيها على فخذيها وتشبك يديها وتسند ذقنها فوقهما ،لم تشعر بمن دخل للتو يسألها عندما رآها في ذلك الوضع:
"مالك يا خديجة قاعدة كدة ليه؟"
ترددت في بادئ الأمر أن تخبره بما علمته، لكنها لا تريد أن تعطي للشك عنواناً لدرب فؤادها، فهي تود أن تسمع الحقيقة من شفتيه وليس من الوساوس التي تهاجم دواخلها.
نهضت ووقفت أمامه، توجه شاشة هاتفه أمام عينيه وسألته:
"إيه ده؟"
لعن نفسه داخل عقله إنه قد نسي أن يمسح تلك الرسائل لكن تظاهر بالهدوء وأجاب لتجنب حريق على وشك الإندلاع:
"دي روڤان و زي ما قرأتي كدة هي اللي كلمتني الأول، وكلامي كان معاها مختصر"
جزت على شفتها حتى لا تفقد صبرها وعقبت بتهكم:
"أيوه فعلاً ردك عليها كان مختصر في الكتابة لكن الكلام لما أتصلت عليك كان مختصر برضو لمدة ساعة، أومال لو كنت طولت كنت كلمتها طول الليل؟!"
لم يتقبل أسلوب حديثها المتهكم حتى لو كان مخطئاً فأجاب:
"واضح إنك فتشتي في الموبايل بضمير، مش بتهيئلي التجسس على خصوصية غيرك حتى لو كان جوزك يبقي حرام و لا إيه؟"
رفعت إحدى حاجبيها بسخط فهو الآن يقلب الموقف لصالحه، لكن بفطنة ودهاء أخبرته:
"أيوة حرام بس لو كانت الحاجة دي تخص حد غيرنا، لكن مفيش حاجة اسمها خصوصية بيني وبينك وخصوصاً لما تبقي حاجة هتخرب عايزة تخرب بيتنا"
أطلق زفرة عميقة، يعلم إذا دخل معها في جدال سيكون هو الخاسر لا محالة، لذا قال لها:
"أطمني يا خديجة، مفيش حاجة من اللي في دماغك و أنا عرفت أوقفها عند حدودها، و لا هي و لا غيرها تقدر تخرب بيتنا ولا أنا أسمح بكدة، خلي عندك ثقة فيا"
ابتسمت بسخرية فقالت:
"أعيدها لك للمرة الألف، أنا عندي ثقة فيك لكن معنديش ثقة في اللي حواليك، وأنت أصلاً تدي مجال للست دي إنها تقرب منك ليه؟!، دي فتنة وبلوة و أنا وأنت عارفين غرضها كويس"
أجاب من بين أسنانه:
"و أنا بقولك أنا مش عيل صغير يضحك عليه"
لم تكن قادرة أن تتحمل أكثر من ذلك فصاحت بصوت مرتفع غاضبة:
"اللي أعرفه أول ما كانت بعتت لك من البداية كنت عملت لها بلوك، إلا بقي كلامها جاي على هواك وعجبك وهي كمان عجباك؟!"
حدق إليها بصدمة ثم قال محذراً إياها:
"بلاش تقولي كلام ممكن تندمي عليه بعدين"
ابتعدت وجلست على طرف الفراش ثم أخبرته دون مقدمات:
"أنا عايزة أسافر"
رد ببرود وبلا مبالاة:
"لسه فاضل يومين ونسافر"
نهضت مرة أخري وصاحت بإصرار:
"و أنا بقولك عايزة أرجع للقصر، ولا ناوي تحضر عيد ميلاد روڤان هانم؟"
وجد أن الأمر لم يعد يُحتمل أكثر من ذلك، فأخبرها بأمر:
"قومي حضري الشنط عشان هانمشي دلوقتي"
༺༻
ونعود إلي هذا المنتظر داخل سيارته، حيث توقف في مكان هادئ يخلو من المارة، ينظر إلى التي فقدت وعيها ومستلقية بجواره، ينتظرها ريثما تستيقظ، يتذكر ما حدث منذ أيام وذلك بعد اليوم الذي رآها داخل الكافتريا المقابلة للنادي، ومنذ هذا الوقت شعر بتغيرها و كثيراً تكون شاردة، فهو يفهم ما يدور داخل عقلها من نظرة عين واحدة، سألها عدة مرات بأسلوب غير مباشر فلم يجد منها سوي التهرب والكذب، فتركها حتي تأتي بمفردها و تحكي، لكن قامت بسرد له أحداث يعلم جيداً هي من حدث معها ذلك وليست صديقتها كما أدعت، و عندما سألها فوجد منها الإنكار، لم ينطلِ عليه الأمر فوجد أن عليه إكتشاف ما يحدث بنفسه ربما هناك خطر يحوم حولها، فبدأ بالبحث أولاً في هاتفها دون أن يعيقه الرقم السري الذي علمه بسهولة، فتاريخ ميلاده المفضل لديها، رأي رسائل التهديدات فقط و لم يتمكن من رؤية الدردشة التي قامت بإزالتها سابقاً، وفي اليوم التي جاءت إليها صديقتها تظاهر إنه ذهب إلي الشركة لكنه عاد وقام بفتح الباب دون أن يشعرا به واستمع إلي كل ما أخبرت به صديقتها، حينها شعر بالضيق و الغضب، كيف يصل بها الأمر إلي أن تصبح حمقاء وأعطت إلي هذا المحتال فرصة ذهبية لإبتزازها واستغلالها؟!، كيف لها أن تفشي أسرارهما الخاصة بينهما رغماً من تحذيراته المتكررة لها و نهيه الدائم لها أيضاً حول هذا الأمر؟!
و أختتمت الكارثة بذهابها إلي شقيقها الأكبر لطلب المساعدة منه وكأن زوجها لا وجود له و ليس حقه أنه من يحميها.
مشهد سابق...
بعد أن أنطلق السائق بالسيارة التي بداخلها ملك، كانت هناك سيارة أخري تقف بمسافة ينتظرها صاحبها أن تغادر ويدخل إلى المكان، فاستقبله الحراس بترحاب وكأنهم يؤدون تحية عسكرية له:
"أهلاً وسهلاً يا مصعب باشا"
أومأ إليهم بشبه ابتسامة وظل يقود إلي أن وصل أمام باب القصر فترجل من السيارة، قام بالاتصال علي قصى وأخبره إنه ينتظره في الحديقة، جاء الأخر واستقبله بترحاب وطلب منه الدخول إلي القصر لكنه أبي بلباقة قائلاً:
"خليها مرة تانية، أنا جاي أتكلم معاك خمس دقايق و ماشي علي طول"
عقد قصى ما بين حاجبيه وتظاهر بعكس ما جاء إليه الأخر وكلاهما يفهم الأخر جيداً فسأله:
"حصل حاجة في الشغل؟"
"الشغل ماشي تمام الحمدلله، بس أنت فاهم أنا جاي لك في إيه كويس"
أشار إليه الأخر بأن يجلس علي المقعد الخشبي:
"أقعد بس الأول أطلب لك حاجة تشربها"
كاد ينادي علي الخادمة فأوقفه مصعب قائلاً:
"بالله عليك أنا مش قادر أشرب حاجة، و لو عايز هطلب من غير ما أنت تطلب لي، أنا مهما كان في بيت أخو مراتي اللي في مقام أخويا"
اومأ إليه وأخبره:
"ربنا يعلم أنا بعتبرك زي أخويا ويوم ما بلجأ لمساعدة بتكون أنت في ضهري على طول"
"و هنفضل طول عمرنا ضهر وسند لبعض، و عشان الغلاوة و المَعزة اللي ما بينا جاي أقولك موضوع ملك أعتبر نفسك ما عرفتهوش"
أراد أن يطمئن علي شقيقته فسأله ليزيح القلق من داخل قلبه:
"هو أنت عرفت إزاي و لا ناوي علي إيه بالظبط عشان أبقي فاهم؟"
أومأ مصعب بعينيه ثم أجاب:
"أولاً عيب لما تسألني عرفت إزاي و أنت بنفسك بتكلفني بأي مهمة جمع معلومات، ثانياً بقي والأهم مش أنا اللي تخاف منه علي أختك، ملك أنا شيلتها علي أيدي بعد ما أتولدت، أتربت قدام عيني و كبرت لحظة بلحظة، لحظات الحزن والفرح كنت شريكها فيها، أنا أمانها وظلها اللي عمره ما فارقها و لا لحظة، ملك من قبل ما تنطق بكون عارف هتقول إيه"
ابتسم بسأم وأردف:
"ملك قبل ما تكون مراتي هي بنت قلبي وروحي اللي عايش بيها، تخيل بقي لما روحك تخذلك وبعد ما كنت أمانها وملجأها تكون خايفة منك"
أطلق الأخر تنهيدة، فهو يشعر به رغماً من اختلاف فعل زوجة كل منهما
"أنا واثق طبعاً عمرك ما هتأذيها ومن غير ما تقول أي حاجة، أنا عارف ملك هي إيه بالنسبة لك و أنت كمان إيه بالنسبة لها، و حكاية إنها لجأت لي ده معناه خايفة أنها تخسرك، معاك إنها غلطانة والحمدلله إنها أتكلمت في الوقت المناسب، أختي إسم علي مسمي حتي في طبعها عشان كدة وقعت في فخ حتة عيل نصاب"
"أنا بقي جاي أقولك الواد ده سيبه لي، أنا كفيل إن هاخد حق مراتي بنفسي، وأنا أقسم بالله هخليه يدعي على نفسه ليل ونهار إن ربنا ياخد أجله عشان يرحمه من اللي هايشوفه مني"
أخبره الأخر:
"أنا أتفقت معاها إنها تقابله في الميعاد والمكان اللي يحدده و كنت ناوي أعمله كمين"
أومأ له مصعب بثقة قائلاً:
"اعتبره حصل"
فسأله مرة أخري عن هذا الأمر ليطمئن قلبه:
"طيب وملك؟"
ألتزم الصمت وكأنه يصارع ما في داخل رأسه من قرارات جميعها يحتاج إلي التحمل والصبر!
عودة إلي الوقت الحالي...
ينظر إليها بوجه بارد كالجليد خالياً من المشاعر رغماً من الغضب الكامن داخله كبركان يوشك أن ينفجر، و قبل حدوث هذا الإنفجار أنطلق بالسيارة.
༺༻
و في داخل السيارة ألتزم كليهما الصمت لاسيما بعد أن فضلت الجلوس في المقعد الخلفي بجوار صغيرها الذي يغط في النوم، تنظر إلي زوجها كل فينة والأخرى من خلال المرآة الأمامية تجده متجهم الملامح.
قاطع هذا الصمت الرتيب رنين هاتفه، نظر إلى شاشة هاتفه ورأي المتصل شقيقه فأجاب:
"ألو يا يونس أخبارك إيه؟"
أجاب شقيقه على الجانب الأخر لديه:
"الحمدلله يا أدوم، هترجعوا أمتي من الجونة؟"
رد آدم باقتضاب:
"إحنا في الطريق"
"أنتوا لحقتوا مش قولت أنكم هتقعدوا عشر أيام هناك؟"
نظر إلي خديجة عبر المرآة بامتعاض ثم رد على شقيقه:
"أهو اللي حصل بقي"
"ترجعوا بالسلامة، عموماً أنا هعمل حفلة بمناسبة رجوعنا أنا وكارين وهانتجمع كلنا فيها إن شاء الله"
انتبه إلي الخبر السعيد الذي تفوه به شقيقه للتو فقال بفرح:
"إيه ده حصل أمتي؟"
"إمبارح وقبلها حصل حوار لما تيجي هابقي أحكي لك عنه"
"إن شاء الله، ألف مبروك"
"الله يبارك فيك، ماتنساش بقي هستناك، هابعت لك لوكيشن المكان علي الواتس"
"إن شاء الله هنيجي"
"هقفل معاك بقي عشان تركز في الطريق، سلام عليكم"
ردد التحية وأنهي المكالمة فأخبرها دون أن ينظر أو يلتفت إليها:
"يونس وكارين رجعوا لبعض"
أجابت باقتضاب:
"عارفة"
هنا نظر إليها وسألها معاتباً:
"و ليه مقولتليش؟، و لا أنتِ مش بتفتكري غير اللي على مزاجك؟!"
رمقته بامتعاض و لم تعقب علي كلماته، أكتفت بالتحديق إليه بامتعاض وقالت بوعيد داخل عقلها:
"أنت لسه شوفت حاجة، حسابي معاك لما نرجع إما وريتك مابقاش أنا خديجة"
༺༻
فتحت عينيها فبدت الصورة إليها في البداية غير مرئية جيداً حتى أصبحت لديها الرؤية واضحة تماماً، افترقت أهدابها باتساع حينما رأته جالساً بجوارها في صمت يرعبها أكثر من إذا تحدث.
نهضت واعتدلت تنظر إلي الأمام ثم إلي الأسفل لتتهرب من النظر إليه، تشعر بكم من الحرج والخجل والخوف أيضاً.
تحدث أخيراً و قال لها بأمر:
"لفي وشك ناحيتي و بصي لي"
اطاعت أمره لكن مازالت غير قادرة علي النظر إليه
"للدرجدي مش قادرة تبصي لي و لا غلطاتك وكذبك عليا مخلينك محرجة ومش قادرة ترفعي عينك في عيني؟!"
لاحظ رجفة يديها وجسدها، نذير له إنها علي مشارف البكاء، أجابت بصوت خافت يكاد يسمعه بصعوبة:
"أنا آسفة"
نظر أمامه ويقبض على عجلة المقود بغضب لم يظهره حتي الآن، ردد بتهكم:
"آسفة!، علي إيه و لا إيه بالظبط؟، على إنك ما بتسمعيش كلامي لما بحذرك عن حاجة عارف هاتكون نهايتها فيها أذى ليكي و ده من دافع خوفي عليكي، و لا آسفة على أسرارنا وخصوصيتنا اللي بقت علي العلن عند حتة عيل و... كان هينزلها لك إسكرينات؟!، و لا على كذبك كل ما أسألك وأقولك مخبية حاجة عني تقولي لي لاء وأنا من غير ما أبص لك حتى عارف و واثق إنه فيه حاجات، لاء وختمتيها بمرواحك لأخوكي عشان ينقذك ويجيب لك حقك، كأن ملكيش راجل"
ضرب قبضته في المقود فافزعها وانتفضت، ألتفت إليها وأردف من بين أسنانه باختناق من كبت غضبه الذي يشبه النيران التي لو أطلقها لتحرقها حية حتي تصبح رماداً تبعثره الرياح:
"كنتي ناوية تخلي قصى يحل لك الموضوع و أنا أفضل زي الأهبل ما أعرفش اللي بيحصل معاكي؟!"
و ها هي لم تتحمل عتابه القاسي فاجهشت في البكاء وقالت:
"كنت خايفة منك، و خوفت أخسرك"
أمسك طرف ذقنها ورفع وجهها ليجبرها على النظر إليه رغماً عنها فقال:
"أنا كان ممكن أسامحك لو كنتي جيتي لي من البداية"
صاحت بدفاع عن نفسها من بين بكائها:
"أنت السبب، أنت على طول أعملي يا ملك و ما تعمليش، كأني عيلة صغيرة والنتيجة خلتني بقيت شخصية مهزوزة مش عارفة تاخد أي قرار، خوفك وغيرتك الزيادة
، قفلتك عليا من العالم الخارجي بدافع الخوف خلتني زي ما أكون طفلة صغيرة خلتني بقيت واحدة ساذجة بتتعامل بطبيعتها من غير ما تاخد حذرها"
تلتقط أنفاسها وشهقاتها المتلاحقة جعلتها تتوقف للحظات ثم أردفت:
"كنت هقولك اللي حصل معايا وحبيت أختبر ردة فعلك، بعد ما كنت قريبة من الإعتراف بخطوة، كلامك و ردة فعلك خلتني أتراجع ألف خطوة لورا، أنا غلطانة وندمانة، بس قبل ما تحاسبني حاسب نفسك الأول، لأنك السبب في اللي أنا وصلت له"
عقب بسخرية و بعد أن حسم قراره:
"ما أنا فعلاً غلطان وسبب كل اللي وصلتي له، عشان كده هريحك مني"
انتفضت في مكانها فسألته بتوجس:
"أنت تقصد إيه؟"
رفع جانب فمه بابتسامة ساخرة وأجاب:
"هاتعرفي بعدين"
قام بتشغيل محرك السيارة، و قبل أن يبدأ بالقيادة وضعت يدها على يده تسأله بوجه شاحب:
"أنت هطلقني؟"
حدق إليها بنظرة قاسية ولم يتأثر بعبراتها التي تمزق الأفئدة حزناً عليها، فأجاب بدون تردد وكأنه قد حسم أمره من قبل:
"أنتي طالق"
شهقت بقوة حينما استيقظت من هذا الكابوس المرعب، تتلفت يميناً ويساراً فوجدت إنها تتمدد على فراش ليس بغريب، أخذت تتأمل ما حولها فرأت إنها على مضجعها فى غرفتها داخل قصر البحيري، نهضت وتشعر بالخدر في أطرافها، استندت على كل ما يقابلها حتى وصلت إلي الباب فوجدته يُفتح و تظهر منه السيدة سميرة مربيتها، تحمل صينية طعام:
"حمدالله على السلامة، كويس أنك صحيتي عشان تاكلي"
لم تكترث إلي ما تفوهت به على قدر إنها سألتها بقلق وخوف:
"أنا جيت هنا إزاي؟"
تركت الأخرى الصينية أعلى المنضدة ثم ألتفت إليها وأجابت:
"اللي جابك مصعب بيه وطلعك لحد هنا، ومليكة و نور بيلعبوا فى الجنينة تحت ومبسوطين"
سألتها بتوجس من ما يخبره به حدسها للتو:
"مصعب فين؟"
نظرت إليها الأخرى بحزن وأجابت:
"هو قالي إنك تعبتي عشان كدة جابك هنا، و بعد ما أطمن عليكي مشي وقالي إنك والبنات هاتفضلوا قاعدين هنا فترة كبيرة لأنه مسافر تبع شغل"
شعرت بغصة توقفت في حلقها و دقات قلبها تتسارع، أخذت تبحث عن هاتفها وقامت بالاتصال به، تلقت رسالة مسجلة تفيد أن هذا الرقم مغلق أو غير متاح.
و فى تلك الحين أدركت إنه ها قد شرع في تنفيذ أشد أنواع العقاب قسوة و هو الابتعاد عنها دون أن يعطي لها حق الدفاع عن نفسها....