رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل السادس عشر
قشعريرة قد اصابته بمجرد سماع صوت هذا الرجل و القلق يأكل قلبه، سأله بحدة:
"مين معايا؟".
أجاب الأخر بجدية:
"مع حضرتك مسئول الإستقبال و المسئول عن متعلقات المصابين و حالات الوفاة فى مستشفى الهلال يا فندم".
و ما أن سمع ذلك تجمدت خلايا جسده و شعر ببرودة كالثلج حيث هربت الدماء من عروقه، ابتلع غصة قد علقت للتو فى حلقه ليسأله:
"ممكن العنوان؟".
هبط الدرج و لا يعلم كيف وصل إلى سيارته ثم أنطلق إلى العنوان الذى أخبره به، توقف أمام الباب و ترجل على الفور دون أن يلاحظ الكثير من الناس يقفون بعضهم يبكى و أخرى تصرخ ببكاء و عويل على فقيدها.
ولج إلى الداخل و لم يرد على سؤال حارس الأمن عن هويته، وقف لدى الأستقبال و أخبر الموظف قائلاً:
"أنا ياسين البحيرى جوز مدام ياسمين اللى أنت رديت عليه من موبايلها".
نظر إليه الأخر فى صمت لثوان ثم قال له مشيراً نحو غرفة تقع فى الرواق المقابل:
"أهلاً بحضرتك، معلش ممكن تروح لدكتور سامى فى مكتبه و هو هيشرح لحضرتك اللى حصل".
و عندما ألتفت وجد مجموعة تقف أمام الغرفة يمنعهم من الدخول رجلاً يصيح فيهم:
"يا جماعة واحد واحد هيدخل للدكتور و يسأله، و أى متعلقات هتستلموها من الـ Reception".
حاول ياسين العبور من بين هؤلاء حتى وصل إلى الحارس و أخبره بما قاله إلى موظف الإستقبال
"ثوانى يا أستاذ ياسين، هبلغ الدكتور".
دلف الرجل و بعد ثوان خرج إليه و كأن الطبيب كان فى إنتظاره:
"اتفضل يا فندم الدكتور مستني حضرتك جوة".
ولج ياسين بخطوات تتزامن مع دقات قلبه، وجد الطبيب يشير إليه ليجلس:
"اتفضل يا أستاذ ياسين، إحنا حاولنا نتواصل مع حضرتك لكن معرفناش نفتح التليفون لأنه برقم سرى، و لسه باعتين حد من عندنا على العنوان اللى مكتوب فى البطاقة مدام ياسمين مالقاش حد هناك".
أخبره الأخر بصوت يكاد يكون مسموعاً من فرط الخوف الذى يشعر به من القادم:
"أصله عنوان الشقة القديمة، هو فيه إيه، ياسمين مالها؟".
و فى مشهد أخر من أمام غرفة ثلاجة حفظ الأموات داخل المشفى، قال الطبيب:
"حضرتك بالتأكيد راجل مؤمن بالله، و مهما تعددت الأسباب فالموت واحد، اللى حصل إنه كان فيه عربية نقل كبيرة محملة مواد قابلة للإشتعال دخلت فى عربية ملاكى و ميكروباص كان وراها، كلوا دخل فى بعضوا و العربيات ولعت، اللى فى العربية و الميكروباص ماتوا من الحادثة و منهم مات من الحريق اللى شوه كتير منهم و كذا جثة معرفناش نحدد هويتها من ملامحهم اللى اتشوهت تماماً، بس لاقينا شنطة مدام ياسمين جمب مكان الحادثة، فكنت عايز حضرتك تدخل تشوف أنهى واحدة من اللى جوه تبقى مدام ياسمين، عشان تستلم جثتها".
حاول أن يتماسك بعد شعور الخدر أصاب أطرافه، دلف إلى الغرفة الخاصة بثلاجة الموتى، أمر الطبيب العامل بأن يفتح باب كل ثلاجة ليخرج له كل جثة للتعرف عليها، و فى كل رؤية لم يتحمل حتى وصل إلى الجثة الرابعة، رفع الرجل الغطاء عن وجهها المشوه و ثيابها السوداء المحترقة، و يبدو أن الضحية كانت ترتدى غطاء الوجه الذى أكلته النيران ثم تمكنت من الوجه حتى يستحيل التعرف على ملامحها، لكن تلك الثياب السوداء و الجسد الضئيل يعلمه جيداً، لم يتحمل النظر أكثر من ذلك و فقد وعيه فى الحال.
عودة إلي الزمن الحالى...
قطرة ماء تتساقط على باقة من زهور الياسمين التى تذكره بها، مصدر القطرة عينه يتبعها بضع قطرات، و ما كانت سوى دموعه التى تنسدل حزناً على زوجته و هو يقف أمام هذا القبر و بصره صوب الشاهد المحفور بحروف اسمها و اسفله تاريخ الميلاد و بجواره تاريخ الوفاة الذى مر عليه عامان، لم ينس ذلك اليوم الذى تلقي فيه الخبر، يتذكر تلك الأحداث الآن و كأنها حدثت للتو.
انتبه إلى نداء ابنته بجواره:
"بابي، بابي".
ألتفت إليها قائلاً:
"نعم يا حبيبتى؟".
سألته ببراءة:
"هى مامي مش هاتصحى تانى؟".
عانق صغيرته قائلاً:
"لاء يا ياسمينا، بس هى بتسمعنا و بتشوفنا و إحنا ما بنسمعهاش و ما بنشوفهاش، عشان كدة بنيجي نزورها كل فترة هنا".
سألته مرة أخرى بلهفة و سعادة:
"يعنى لو كلمتها دلوقتى هاتسمعنى؟".
أومأ لها بشبه إبتسامة، فأغلقت عيناها و قالت:
"أنا بحبك أوى يا مامي، وحشانى أوي و نفسى أشوفك، و كان نفسي تكوني معايا النهاردة، لأنه يبقى عيد ميلادى و بابي فى اليوم ده بيبقي قاعد فى البيت بعد ما بنزورك و بيقفل على نفسه الباب".
أمسك ياسين يدها و جذبها ليحتضنها مربتاً على ظهرها قائلاً إلى صغيرته بحزن و ندم:
"حقك عليا يا حبيبتي".
صدح رنين هاتف الصغيرة، أخرجته من حقيبتها الصغيرة فصاحت بسعادة:
"دى رودى اللى بتتصل".
༺༻
يجلس بجوار صغيره و يشاركه اللعب، يمسك بجهاز التحكم الألكترونى اللاسلكي و يهلل بحماس:
"و الـ goal التالت، أيوه بقي".
نظر بجواره إلى ابنه و أردف بسعادة و نصر:
"شوفت مش قولت لك هغلبك، أديني جيبت فيك تلاتة فى عشر دقايق".
نهض الصغير و يكتم الضحك، و يبتعد بضع خطوات إلى الوراء ليخبر والده:
"على فكرة أنت كدة جيبت فى نفسك مش فيا ".
حدق إليه الأخر بتعجب و إستفهام:
"إزاى مش فاهم؟".
"أصل أنا بدلت الدراعات من غير ما تاخد بالك"
و أطلق ضحكته فنهض والده خلفه بصياح:
"اه يا سوسة يا لئيم و الله ما أنا سايبك".
أخذ يركض خلفه و الصغير يضحك، فأمسكه والده و ألقى به فوق الأريكة ليدغدغه قائلاً:
"مسكتك، أنا تضحك عليا!، دى حركات عمك يونس كان بيعملها فيا زمان".
تعالت ضحكات الصغير، يتوسل والده بصوت يكاد يخرج من فمه من فرط الضحك:
"خلاص يا بابي، كفاية".
بينما داخل المرحاض كان تقوم بفرز الثياب وتستمع إلى مزاح زوجها مع صغيرهما فأبتسمت، كانت تضع الثياب المتسخة داخل الغسالة فوقعت من بنطال زوجها بطاقة ورقية على الأرض، دنت منها لتمسك بها، لاحظت ذلك الإسم المدون عليها، قامت بقراءته لتتأكد إنه اسم تلك الصهباء، تركت كل شئ و ذهبت منادية:
"آدم؟".
توقف عن المزاح مع صغيره قائلاً:
"مامي بتنادي، لما أروح أشوفها عايزة إيه، و راجع لك تانى".
ذهب ليجدها تنتظره أمام غرفة النوم الخاصة بهما عاقدة ساعديها أمام صدرها تنظر إليه بوجه متجهم، تخبره مشيرة إليه نحو الغرفة:
"عايزاك فى موضوع جوة".
نظر خلفه فوجد ابنه يلهو، فقال لها بمزاح و مكر:
"طيب يوسف صاحى دلوقت، ما تستني لما ينام".
و غمز بعينه، فأدركت ماذا يظن، أطلقت زفرة لتخبره بجدية:
"الموضوع اللى عايزاك فيه مش اللى فى دماغك، أنا بس مش عايزة أتكلم قدام الولد".
تلاشت ابتسامته و حدسه يخبره بأن هناك كارثة فى انتظاره فأشار إليها نحو الغرفة قائلاً:
"أتفضلى".
ولجت إلى الداخل و دلف ورائها و يغلق الباب، يسألها:
"خير يا حبيبتي؟".
رفعت البطاقة أمامه تسأله و نيران الغضب و الغيرة تتطاير من عينيها كالشرر:
"ممكن أعرف كارت البنى آدمة دى بيعمل معاك إيه بالظبط؟".
كان يخفى ما حدث مع صغيره من محاولة إختطاف و هذا لكى لا يقلقها و لأنه كان لا يريد أن يذكر أمامها كيف تم انقاذه و مَنْ المنقذ.
حك ذقنه يفكر فى إجابة، لكنه وجد عليه أن يخبرها بالصدق حتى لا يثير الشك نحوه و يجلب إلى نفسه سيل من التوبيخ، فقال لها بهدوء:
"تعالى أقعدى و أنا هافهمك كل حاجة براحة".
جلست على الكرسى المقابل للفراش و جلس هو أيضاً على الكرسى المجاور.
"أتفضل أنا سامعاك".
"بصي الموضوع كله حصل أول ما خرجنا من الهايبر أنا و يوسف و قفلت معاكِ...
أخذ يسرد إليها من بداية إختطاف صغيره و ظهور روڤان بسيارتها و أنقذت ابنهما بعد أن تصدت للمختطف الذى فر هارباً لكنه حفظ رقم الدراجة النارية و أرسله إلى صديقه الضابط و ينتظر منه خبر القبض على هذا المجرم.
"بس يا ستي ده كل اللى حصل، و المفروض أرد لها الجميل ده ابعت لها هدية أو ممكن نعزمها على غدا أو عشا كنوع من الشكر".
كانت تستمع إليه فى صمت أثار مخاوفه فسألها:
"فيه إيه يا ديجا من وقت ما حكيت لك و أنتِ و لا علقتِ بأى كلمة أو حتى أتأثرتِ، ده غير بصاتك كدة كأنك مش مصدقاني".
"أنا مصدقاك يا حبيبي، بس حوار خطف يوسف لو أنت حكيته لأى حد حتى لو طفل صغير، هيقولك إنه مُدبر و واضح أوى فيه شغل حرابيق بيحصل و اللى هاتجنن منه إزاي دخل عليك الموضوع ده و صدقته".
أخذ يفكر فيما تفوهت به للتو فسألها بتعجب:
"قصدك إن اللى عملت كده روڤان؟"
رفعت جانب فمها بتهكم و قالت:
"هى فيه غيرها، مش عارفة تقرب لك بأى حجة، فعملت الحوار ده عشان تبقي الملاك أبو جناحين قدامك، تقوم أنت تشكرها و هى ما تصدق تجر رجلك، و أنا بقى هطلع الهبلة اللى فى رواية أحدهم و مش بعيد تعمل زى أخوك يونس و تتجوزها".
ضحك رغماً عنه قائلاً:
"يخربيت الروايات و الكتب اللى كلت دماغك".
نهضت و عقبت بغضب غرار طبيعتها الهادئة فى الحوار:
"لاء و حياتك اللى عملته ست روڤان أتعمل قبل كدة و مهروس فى مليون رواية و مسلسل و فيلم، أنت لو كنت أخدت بالك من بصتها ليا لما كنا على البحر هاتعرف إن الست دى مش سهلة، كأنها بتقولي إنها حطتك فى دماغها و مش هاتسيبك غير لما تكون ليها".
نهض و اقترب منها ليقف أمامها يمسك بيدها:
"و لنفرض اللى أنتِ بتقوليه ده كله صح، أنتِ مش واثقة فيا؟".
نظرت صوب عينيه عن كثب و أجابت:
"أنا واثقة فيك طبعاً، لكن مش واثقة فيها و أهى بدأتها بخطف الولد و يا عالم كان ممكن لا قدر الله المجرم ده خطفه بجد و أذاه".
جذبها من خصرها و حاوطه بكلا يديه قائلاً:
"ما أنا قولت لك كلمت مدحت صاحبي و أول ما هيوصل للمجرم هيكلمني".
رمقته بحنق و سألته بتعجب:
"أنت مالك بتتكلم عن اللى حصل عادى كدة و ببرود أعصاب و كأن اللى كان هيتخطف ده مش ابنك!".
"ابننا الحمدلله قاعد بيلعب برة، أنتِ اللى متضايقة و واخدة الموضوع على أعصابك عشان غيرانة عليا من روڤان".
رمقته بإمتعاض و أجابت بإنكار:
"مين دى اللى غيرانة منها، و لا هى و لا ألف زيها".
أطلق قهقة على ملامح وجهها و خديها على وشك الإنفجار من حمرة الغضب ثم قال:
"طيب عيني فى عينك كدة".
لكزته فى صدره و لانت ملامحها من الغضب إلى الابتسامة:
"اه بغير عليك طبعاً مش جوزى حبيبي و أبو ابني؟".
أمسك طرف ذقنها قائلاً:
"و جوزك حبيبك بيقولك أنت اللى فى عيونه و قلبه و عقله، كله ملكك و لا روڤان و لا أى واحدة غيرها تقدر تاخده منك، لأن أنتِ روحه اللى عايش بيها، و لا أنتِ إيه رأيك يا أم يوسف؟"
ينظر إليها بعشق و هيام و رغبة نابعة من القلب و العين متجهة صوب فؤادها و عيناها التى تحدق إليه بكل كلمة فى معجم كلمات العشق، لكنها تذكرت أمر صغيرها المستيقظ فى الخارج و ما ينتظرها:
"يوسف صاحى و بقي بيفهم كل حاجة، و ورايا غسيل نسيت أشغل الغسالة".
"ابنك طالما بيلعب بلايستيشن قدامه تلات ساعات على الأقل عقبال ما يقوم من قدامه، و الغسيل مش هيحصله حاجة، إحنا جايين هنا عشان نتدلع و نقضي لنا يومين حلوين، و أنتِ من وقت ما جينا منفضة لي و لا عايزاني أروح لروڤان تدلعني و هى ما هتصدق".
لكزته بقبضتها فى صدرها قائلة:
"إتلم أحسن لك".
تأوه ثم قال:
"إيدك تقيلة أوى، كنت بهزر معاكِ، ده أنا عمال أحب فيكِ و أقولك كلام حلو، الظاهر مش نافع معاكِ الكلام، أنا شايف الفعل أقوى و أحسن".
كادت تضحك على كلماته و أسلوبه الفكاهي، باغتها بقبلة قوية و دفعها على الفراش ليخبرها إن للعاشق كلمات لم تنطق بالألسن فقط، فلابد من الفعل ليكتمل المعنى الحقيقي لكلمة العشق.
༺༻
فى قاعة خاصة للإحتفال بأعياد الميلاد، تمسك بيد ياسمين الصغيرة و تخبرها:
"خليكِ مغمضة لحد ما أقولك فتحى، اتفقنا".
ابتسمت الصغيرة و تغمض عينيها قائلة:
"أوك يا رودى".
أشارت الأخرى إلى ياسين بالصمت ثم لوحت بيدها إلى المسئول عن مشغل الأغاني، فأشار إليها بإصبعه أن كل شئ على ما يرام و ضغط على زر التشغيل لتبدأ أغنية شهيرة بعيد الميلاد
فتحت ياسمين عينيها لتجد إنها داخل قاعة فاخرة و خاصة بالإحتفال بعيد الميلاد، مليئة بالبالونات و مزينة بالشرائط الملونة و اللامعة، و هناك بالونات على شكل حروف مكونة جملة التهنئة
«Happy Birthday Yasmine»
و أسفلها رقم سبعة بالإنجليزية، يقفوا ثلاثتهم أمام طاولة يعلوها قالب حلوي فوقه شموع صغيرة بعدد سنوات عمرها، اقتربت الصغيرة منه بعدما انتهت الأغنية و اغمضت عينيها لتتمنى أمنية ثم أطفأت الشموع.
احتضنتها رودينا و قالت إليها بسعادة:
"Happy Birthday Yasmine ".
فأجابت الأخرى بسعادة عارمة:
"أنا فرحانة أوى يا رودى، أحلى عيد ميلاد بجد، تعرفى محدش أفتكر عيد ميلادي غيرك، thank you "
و وقفت على أطراف قدميها و قامت بطبع قبلة على خدها، فبادلتها الأخرى قبلة على وجنتها الوردية و نظرت إلى ياسين الذى بدى على ملامحه الضيق و الإنزعاج ثم قالت للصغيرة:
"مين قالك محدش فاكر، على فكرة بابي و عمتو ملك كانوا متفقين معايا نعملها لك مفاجأة، بس عمتو مقدرتش تيجي عشان تعبانة شوية".
ألتفت إلى والدها و احتضنته:
" thank you dad".
عانق ابنته و يحدق إلى رودينا بنظرات شكر و إمتنان فأبتسمت الأخرى إليه و أخذت تتأمل ملامحه، انتبه إلى ذلك فتنحنح مما جعلها تشعر بالخجل و نظرت إلى ابنته:
"يلا عشان نقطع التورتة"
كانت الأجواء تملؤها السعادة، ما بين الضحك و اللعب، قامت بالرقص مع الصغيرة و أخرجت روح الطفلة لديها معها، بينما هو يقف فى الزاوية يتأمل ذلك المشهد و كيف أصبحت ابنته تشعر بالفرح بعد ظهور صديقة شقيقته فى حياته، لا ينكر إنه رأى فى عينيها نظرة الحب التى كانت ترمقه بها منذ سنوات بالأحرى قبل مجئ ياسمين إلى قصر عائلته و العمل به، كان ينظر حينها إلى رودينا إنها صديقة شقيقته الصغيرة و لم يكترث، لكن الآن وجد إن شعورها نحوه لن يتغير، فهل من الممكن أن يأتي اليوم و يبادلها هذا الحب!
كيف و قلبه و عقله و جوارحه مازالوا ملكاً إلى زوجته الراحلة كما يظن!
انتبه إليها و هى تقترب منه فقال لها:
"مش عارف أشكرك إزاى على المفاجئة الحلوة دى".
ابتسمت و أجابت بترحاب:
"ما تقولش كدة، دى حاجة بسيطة عشان ياسمينا و كفاية إنها مبسوطة أوى".
كانت تتحدث و تنظر إلى ابنته ثم ألتفت إليه و أردفت:
"أنا كنت عايزة أستأذنك فى حاجة، عرفت من ياسمين أنك مش بتحب القطط و هى طلبت كتير منك تجيب لها قطة و أنت رافض، أنا جيبت لها الهدية قطة عندها تلات شهور، مطعمة و معاها شهادات التطعيم و المتابعة، هادية جداً و مش هتضايقك و لو فيه أى حاجة أنا ممكن أخدها للـ vet يكشف عليها"
عقد ما بين حاجبيه و يفكر فى الأمر ملياً، شعرت بالقلق من صمته هذا حتى رأت البسمة تظهر على ثغره قائلاً:
"موافق طبعاً، كفاية إنها هديتك لياسمين".
و بعد انتهاء هذا الحفل و مغادرة المكان، قام بإيصالها أمام المبنى الذى تقطن به، فقالت:
"ديماً الأوقات الحلوة بتخلص بسرعة".
نظر أمامه بحزن دفين ثم عقب قائلاً:
"دى سُنة الحياة، مفيش أى سعادة بتدوم، حتى الناس اللى بنحبهم بيمشوا بسرعة من حياتنا".
أدركت على الفور ماذا يقصد بحديثه
"بس ربنا زى ما بياخد مننا حاجة بيعوضنا بغيرها عشان عارف الإنسان ما بيستحملش الحزن لوقت طويل فبيعوضه، ده غير نعمة النسيان"
ألتفت إليها و عقب بجدية:
"فيه حاجات عمرها ما بتتعوض، و لا ليها بديل، و لا حتى بنقدر ننساها".
داهمها شعور باليأس داهم قلبها، فكلماته كانت رسالة صريحة إليها قامت بإطفاء شعاع الأمل لديها، نظرت إليه بطيف ابتسامة و قالت:
"عن إذنك".
و ترجلت من السيارة بخطوات سريعة، زفر بضيق من ما اقترفه للتو، و شعر بالذنب نحوها، فكان دافعه لا يريد أن يقحمها فى دائرة أحزانه، فهو لا يريدها أن تتعلق برجلٍ قد رحلت حبيبته و رحل قلبه معها و ما تبقى منه سوى أطلال.
༺༻
يتقلب بضجر فى فراشه حيث يجافيه النوم كلما يتذكر الحديث الذى دار بينه و بين زوجته أمام ابنتها، كانت كلماتها الحادة بمثابة سهام اخترقت صدره الذى يشعر داخله بالإختناق، لذا ألتزم الصمت و لم يتحدث معها منذ ذلك الحين، و هى لم تحاول مجدداً بأن تتطلب السماح و الغفران منه حيث تشعر بالخجل و الحرج منه.
نظر فى ساعة هاتفه وجدها الثانية بعد منتصف الليل، نهض دون أن يصدر صوتاً و تناول علبة السجائر و القداحة من فوق الكمود جواره ثم غادر الغرفة و سار فى الردهة حتى خرج إلى الشرفة.
وقف لدى حافة السور المعدنى ذو الزخارف، أخرج سيجارة من العلبة و وضعها بين شفتيه ثم أشعلها بالقداحة، نفث الدخان و زفر معه نفساً عميقاً يخرج به همومه.
وصل إلى سمعهِ صوتاً ناعماً قد سمعهُ من قبل، أنصت جيداً هذا الصوت الذى يقترب من الجوار حيث شرفة الشقة المقابلة، صوتاً يتحدث بالإنجليزية التى لا يفقه منها سوى كلمات قليلة
"رائع، و متى ستأتِ إلى هنا؟ .... حسناً سأكون فى انتظارك .... لا تنسي ما أريده منك ....
ألتفت إلى صاحبة الصوت الناعم فوجدها هى تلك الحسناء التى تقطن فى الشقة المقابلة و التى تلتصق بجوار شرفة منزله، ظل يتأملها رغماً عنه، فهى ترتدي ثوباً قطنياً ذو لون أسود و حمالات رفيعة، تاركة خصلات شعرها المتميزة بلون الكستناء على ظهرها، بشرتها البيضاء تكاد تنير من الصفاء و النعومة لا سيما بشرة وجهها و وجنتيها ذات اللون الوردي الطبيعى، أشاح وجهه و ابتلع ريقه، أخذ يلتقط أنفاسه و يردد الإستغفار، كاد يعود إلى الداخل كانت قد انتهت من التحدث و أوقفته:
"يا أستاذ...
ألتفت إليها و حاول أن ينظر إلى أسفل و يجيب:
"اسمى طه، فيه حاجة؟".
لاحظت تجنبه للنظر إليها فأثار ذلك فضولها، فسألته بمكر لا يخلو من الدلال:
"هو فيه حاجة واقعة منك و بتدور عليها؟"
رفع وجهه و نظر إليها و فاه مفتوحاً ثم عاد إلى إدراكه، تنحنح و أخبرها بإنكار:
"لاء، قصدى اه، ما تاخديش فى بالك".
ابتسمت و ليتها ما فعلت ذلك، ظل يتأملها حتى انتهت السيجارة و أحرقت أصبعيه، فألقاها و حرك يده بألم.
"ثوانى هاجيب كريم و راجعة لك".
كان يجز على أسنانه و يقول داخل عقله:
"أحسن تستاهل من مجرد النظر ليها السوجارة لسعتك، ما بالك بنار الأخرة، إعقل يا ابن الشيخ سالم و ما توديش روحك فى داهية، شيماء لو شمت خبر بس إنك واقف بتتكلم مع القمر دى و الساعة ٢ بالليل ممكن تبيتك على السلم و من غير هدوم كمان"
"معلش أتأخرت عليك، هات إيدك".
قالتها و مدت يدها إليه، حدق إليها بإستفهام فأخبرته:
"ده كريم خاص بالحروق مفعوله سحر".
"شكراً، مش محتاج أحط كريم، متعود على كدة هى لسعة خفيفة و راحت لحالها"
عقدت ما بين حاجبيها بتعجب و عقبت:
"أنت إزاى مستهون بالحرق حتى لو كانت زى ما بتقول لسعة خفيفة، ممكن تسيب لك أثر مش لطيف، هات إيدك و أنت هاتحس بفرق رهيب".
تردد فى تلبية طلبها و ينظر إليها، لا تعلم أن مفعول السحر يكمن فى عينيها، مد يده فى النهاية على مضض فوجدها تفرغ القليل من محتوى الأنبوب و قامت بوضعه على مكان الإصابة على كلا إصبعيه بلطف، كانت تنظر إليه بتلك الإبتسامة التى يقع من أجلها قلوب أقوى الرجال.
ابتلع لعابه و جذب يده من يدها قائلاً:
"شكراً يا...
مازالت البسمة على ثغرها فأجابت:
"اسمي چومانة، و أصحابى بيدلعوني چيمو"
أومأ لها مبتسماً و قال:
"شكراً يا چومانة، هستأذنك بس عشان أنا بصحى بدرى فمضطر أدخل أنام لى ساعتين".
"العفو يا طه، oh sorry لو ندهت لك من غير ألقاب، i don't like it".
أومأ لها بعينه قائلاً:
"و لا يهمك، مفيش أصلاً داعى للألقاب، تصبحي على خير".
لوحت بيدها مبتسمة و قالت بدلال:
"good night, happy dreams".
أكتفي بأن يبادلها الإبتسامة و عاد إلى الداخل بظهره فأصطدم فى باب الشرفة الزجاجي، فأستدار على الفور ثم عاد إلى غرفته و يشعر بالسعادة التى تلاشت بمجرد أن رأى زوجته مستيقظة و كأنها تجلس فى إنتظاره، فى عينيها نظرة أسف، تصنع عدم الإهتمام إليها و نظر إلى شاشة هاتفه ثم تمدد على جانبه مولياً إليها ظهره.
شعر بإقترابها منه و لمسة يدها على كتفه، تسأله برجاء:
"طه، ممكن أتكلم معاك شوية؟".
أجاب بحدة و دون أن يكلف عناء نفسه أن يتقلب و ينظر إليها:
"أنا عايز أنام، ورايا شغل الصبح ".
أغلق عينيه و يعلم كيف هى الآن و بماذا تشعر، فعدم التحدث معها هذا أفضل عقاب لها رداً على ما تفوهت به، سوف يجعلها تندم و تفكر فى كل كلمة قبل أن تتفوه بها معه.
༺༻
أتى صباح اليوم التالي، استيقظت بفزع و تتلفت من حولها، فتذكرت أين هى و عندما وجدت الأريكة خالية و لا يوجد عليها أثر إنه كان نائماً، تنفست الصعداء.
نهضت و أجرت روتينها اليومى، كانت تخشي مغادرة الغرفة حتى لا تتقابل مع أى فرد سواه لا سيما صبا
و الآن تقف أمام المرآة تمشط شعرها، فسمعت صوت طرق على الباب، فذهبت لتفتح فلم تجد أحد، انتبهت إلى شئ أسفل قدميها، تمعنت النظر جيداً غير مصدقة لتجده جرذاً صغيراً فأطلقت صرخة وصلت إلى كل من فى القصر، خرجت كل من صبا و كارين، ظهر قصى من الجهة الأخرى فى الرواق يسأل بصوت جهوري:
"فيه إيه؟".
كانت تقف فى مكانها ترتجف و تشير إلى الأرض بخوف:
"فار".
خرجت المشاكسة الصغيرة من الغرفة المجاورة و تتثائب بإتقان:
"فيه إيه يا نان بتصرخي ليه، حرام عليكِ خضتيني و صحتيني من النوم".
نظرت إلى أسفل و أردفت و كأنها لم تفعل شئ على الإطلاق:
"إيه ده شرنوبى!، إيه اللى خرجك من الصندوق يا naughty "
ذهبت إلى الجرذ و أمسكته بيديها الصغيرتين، وجدت والدها ينظر إليها بوعيد، حدقت إلى منار الخائفة و أخبرتها ببراءة زائفة:
"معلش يا نان، شرنوبى ده الهامستر بتاعي، كان صعبان عليا و هو محبوس فتحت له الصندوق شوية و نمت و نسيت أقفله، ما تخافيش منه ده so cute، أمسكيه كدة"
كادت تلقيه نحو يديها فصرخت الأخرى و قفزت تتشبث بقصى أمام نظرات صبا التى تريد الفتك بها و تطعمها ذلك الشرنوبى داخل فمها.
"قصى please، خليها تشيله أنا عندى فوبيا من الفيران".
لاحظ نظرات صبا فأبتسم و أراد أن يريها وعيده الذى تستهين به، حاوط منار بذراعه و أخذ يربت عليها قائلاً:
"استنينى تحت على السفرة و أنا جاي لك يا حبيبتى".
اتسعت عينيها و تحدق إليه بتوسل أن يكف عن فعل هذا ثم نظرت إلى صبا و كما توقعت نظرات صبا كالنيران التى لو أطلقتها عليها لأحترقت و أصبحت رماداً، ففعلت كما أمرها الأخر.
بينما صبا أكتفت أن ترمقه من أعلى إلى أسفل بازدراء ثم ولجت إلى غرفتها و صفقت الباب بقوة
كانت الصغيرة تتسلل نحو غرفتها فأوقفها:
"زوزه".
توقفت و بين يديها جرذها، أجابت:
"نعم يا بابي".
أمرها بحسم و جدية:
"أدخلي حطي البتاعة اللى في أيدك ده فى الصندوق و أقفليه كويس، و بعديها أغسلي إيديكِ و تعالي".
أومأت إليه و قالت:
"حاضر".
ثم أردفت بصوت خافت:
"اه يا نان يا بوبى يا جلابة المصايب، أهو بابي فهم كل حاجة و هينفخني بسببك".
"بطلي برطمة و اعملي اللى قولت لك عليه".
انتفضت و ركضت إلى داخل غرفتها، اقتربت كارين منه و بدى على وجهها الإرهاق من قلة النوم:
"قصى هو يونس كلمك إمبارح أو النهاردة؟".
"لاء، بس هو المفروض كان يخلص مشوار المأذون زى ما إحنا متفقين و يجى على هنا، أنتِ أتصلتِ بيه؟".
أجابت و القلق ينهش قلبها:
"اه اتصلت بيه كذا مرة فى الأول كان بيديني جرس و من وقت الفجر بيديني مغلق، بصراحة أنا قلقانة عليه، ممكن تعدى عليه ليكون لا قدر الله تعبان، أنا كنت عايزة أروح معاك بس لو شوفت الزفتة اللى هناك مش هتمالك اعصابي و هجيبها من شعرها".
ربت على كتفها قائلاً:
"أطمنى، أنا شوية و رايح الشركة و فى طريقي هعدى عليه و أكلمك على طول و إن شاء الله خير".
أخرج هاتفه من جيب بنطاله و قام بالإتصال على شقيقه فوجده مُغلقاً كما أخبرته، و كان الهاتف على منضدة خشبية قديمة داخل غرفة مظلمة تملؤها رائحة عطنة، و هناك أشعة الشمس تتسلل من فتحات النافذة و تستقر فى وسط الغرفة لتكشف عن هذا المقيد فى الكرسى و يغفو فى نوم عميق!