![]() |
رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الخامس عشر بقلم ياسمين عادل
"الطيور لا تقع على أشكالها دائمًا، أحيانًا تكون العصافير الرقيقة هي وجبة الصقور الجارحة."
____________________________________
كان قد اصطحبهم لنزهة في تلك الليلة القمرية بأحد أرقى المطاعم على الإطلاق، تلك النوعية من الأماكن التي تحتاج لحجز مسبق، ولا يسمح بدخولها إلا لطبقة معينة من الناس. لم يكن الأمر سهلًا لإستدراج "رحيل" كي تقبل بنزهه گهذه؛ ولكن مع التحجج بوضع "ليلى" ورغبتهِ في تغيير الجو العام لها، رضخت لمطلبهِ أخيرًا من أجل الصغيرة، لكي ترفه عنها ولو قليلًا.
اهتمت "رحيل" بالطفلة لكي تسمح له بتناول الطعام، فكان إنسجام "ليلى" معها مختلف، هي تقبّلتها كلها وأحبت التواجد معها، لا سيما أن "رحيل" تُجيد التعامل مع الأطفال بطريقة مهنية بعدما مارست مهمة التدريس لمرحلة رياض الأطفال لفترة ليست وجيزة.
مسحت لها فمها الذي تلطخ بالصلصة، ثم أردفت بـ :
- تعالي أغسلك إيدك وبوقك يالوليتا.
- ماشي.
قالتها "ليلى" وهي تنهض عن جلستها، فـ تدخلت "جليلة" لكي تتناول هي هذه المهمة :
- خليكي يا رحيل كملي أكلك.. أنا كده كده كنت قايمة للحمام.
اصطحبتها "جليلة" وعيناها توزع النظرات عليهما، في دعوةٍ منها لأن يفتتح معها الحديث الآن، فهي لحظة مناسبة تمامًا للبوح إليها. غابت "جليلة" تمامًا وبقى "هاشم" معها بمفردهِ، فـ اختلس النظر إليها من أسفل اهتمامهِ المزعوم بطعامهِ، ثم وضع أمامها قطع من اللحم المشوي لتبتسم إليه في وداعةٍ وهي تقول :
- تسلم إيدك.
وقف النادل يسكب العصير الطازج في الكؤوس الكريستالية القيّمة، ورغمًا عنه لمس جلدهِ طرف أصبعها، فـ انتشلت يدها فجأة وهي ترنو إليه بجدية، وهو يعتذر عن غفوتهِ بلهجة صادقة :
- آسف جدًا والله يافندم.. مخدتش بالي من أيد حضرتك.
كانت حازمة وهي تصرفه من أمامهم :
- حصل خير.. سيب العصير ولو احتجت أنا هصب بنفسي.
تراجع للخلف متحاشيًا النظر لـ "هاشم"، حيث أحس بظل عينيهِ متسلطًا عليه فـ خشى أن تتلاقي النظرات، وعاد يبتعد على الفور شاعرًا بفداحة ما فعل -دون قصد-.. بينما دفعه ذلك الموقف الصغير لخوض التجربة، والمضي في عرض طلبهِ عليها بتلك اللحظة تحديدًا، حيث أن أولى جلسات المحكمة غدًا، وهو أراد تثبيت أقدامهِ في حياتها بصورة أكثر شرعية قبل أن تحصل على كامل حقوقها. هي الآن في حاجه له؛ بينما في الغد قد تتنازل عن خدماتهِ نهائيًا.
- رحـيل...
ترك "هاشم" ما في يدهِ من شوكة وسكين، وهو ينطق بأسمها لكي تنتقل بإهتمامها إليه، فرأت تلك النظرات اللامعة في عينيهِ وهو يهتف بها بنبرة أشبه للحنٍ فريد لم تسمعه من قبل :
- تتـجـوزينـي ؟!.
جمدت نظراتها للحظات، بدون أن تدرك إنها عالقة عليه دون أن تحيد، عرضهِ لم يكن يومًا محطّ تخمينها، ولم تفكر البتة إنه قد يطلب طلبًا گهذا، في ظل تلك الظروف العنيدة التي تحاوط بها، والمخاطر التي ستلحق به جِراء فكرهِ هذا، هو بالفعل تورط بالمشاكل منذ أن قدم يد العون إليها، ولكن المزيد من التضحيات تعني المزيد من الأثمان التي سيدفعها.
كان التوتر جليًا عليها، ولم تجد من الكلمات ما يكفي لأن يفسر شعورها الآن، سوى عبارة واحدة حاولت بها وصف المعاناة التي تنتظرهُ :
- أنا عارفه حضرتك قد إيه ساعدتنا ومكنش في حد في مكانك هيعمل كل ده.. بس أنا عبئ على أي حد هيفكر يرتبط بيا، وأنا مش هتحمل شعور زي ده.
ارتشفت رشفة ماء تبلل بها ريقها الذي جفّ فجأة، ثم تابعت استرسالها وهو يستمع إليها بكل إصغاء :
- أنا عارفه إني محتاجة حد يحميني وانت مش مجبر على الوضع اللي احنا فيه دلوقتي، بس لو حمايتك ليا هتكون على حساب حياتك أنا آ.....
قاطعها هنا في تلك النقطة، ليفسر نفسه أمامها قليلًا، ولكي يضغط على أوتارٍ من مسعاها تحقيق رغبته في الزواج منها :
- مين قالك إني هتجوزك عشان بس أحميكي؟.. أنا محتاجلك في حياتي يارحيل، أنا وبنتي محتاجينك.
على الأقل أشعرها إنها ليست عبئًا، وإنها مرغوب فيها لشخصها، لكونها "رحــيــل"، وليس لأي أسباب أخرى.. ليست شفقة أو حماية، قد يكون تبادل للمنفعة لصالح كلاهما، كلاهما يحتاج للآخر في حياته.
نهض "هاشم" عن مقعدهِ وجلس لجوارها كي يكون أقرب، فـ وصلت رائحة غسول الجسم باللاڤندر لأنفهِ، رائحة ناعمة تمامًا مثلها. أراد خرق تلك المسافة الآمنة التي تضعها حاجزًا بينهما، فـ وضع كفهِ على يدها المسنودة على الطاولة، ليختفي أسفل دفء جلدهِ، وعيناه تطوفان حول ملامحها وهو يقول :
- إحنا محتاجين بعض، ومش معقول هتفضلي معايا وبعيدة عني، قريبة بس المسافة بينا طويلة.. خلينا نحط أسم رسمي للعلاقة بينا ونقطع كل الألسنة اللي جابت في سيرتك، وأنا كمان أضمن أم حنينة لبنتي تربيها زي ماانا بحلم.
تعلقت عيناها بكفهِ الذي عانق كفها، ولأول مرة لا ترغب في الإبتعاد، لا تشعر بالتحفظ وضرورة حماية نفسها من نظراتهِ، بالعكس، أحست وإنها تحتاجه أكثر من حاجته هو إليها، ولكن ضميرها اليقظ يحاول تثبيط موافقتها، مبررًا لها إنها ستقحمه في الكثير من المصائب :
- مش هيجيلك من ورايا غير المشاكل.. دول أهلي وانا عارفاهم كويس.
شدد "هاشم" أصابعه على يدها، وكأن ذلك ضاعف من رغبتهِ فيها :
- ده يخليني أحس بالمسؤولية ناحيتك أكتر.. أنا مستحيل أسيبك تواجهي الوحوش دول لوحدك، أديني الفرصة دي يارحيل وصدقيني مش هتندمي.. وانا معنديش مشكلة إنك تاخدي وقتك وتفكري.
**************************************
*عودة للوقت الحالي*
جلست "رحيل" في السيارة بالخلف، تحاول مقاومة شلالات الخوف التي تنهمر على مشاعرها وتغلفها كلها، اليوم رأت نصب عينيها أن ما هو قادم ليس سهلًا كما ظنتّهُ، أن حكم المحكمة قد يكون غير كافي لردع "حمدي" وولدهِ الفاسق، حتى وإن انتهى الأمر بحبس "حسين" لتهديدهِ بقتلهم والتعدّي عليهم فأن ذلك لن يكفي لدحرهم.
فتح "هاشم" نافذة الشباك الخلفي أمام وجهها، وكأنه أحس إنها بحاجه ماسّة لإستنشاق الهواء العليل، لعلّ ذلك يطفئ النار الناشبة بأحشائها، وقد أحسن صنيعًا. هي بالفعل عبأت صدرها بالهواء البارد، قبل أن تطردهُ رويدًا رويدًا من صدرها، ثم هتفت بصوت يشوبه الضيق :
- مش قولتلك إني هبقى عبئ عليك!.
حانت من رأسه نصف إلتفاته، قبل أن يستنكر كلمتها الثقيلة تلك :
- متقوليش كده يارحيل.. اللي حصل ده كان خير.
قطبت جبينها منزعجة من اعتباره ما حدث خيرًا:
- خير؟؟.
فأكد على مقصده قائلًا :
- طبعًا خير.. حسين دلوقتي في الحبس ومش بعيد ياخد حكم يقعده في السجن فترة، يعني عندنا الوقت نظبط كل ورقنا في غيابه.. الخطر من حمدي أقل من ابنه بكتير.
دار في خلدها سؤال أحست بوجوب سؤالهِ، فلم تتردد في طرحهِ عليه :
- هو... انت قصدت إنه.....
- أيوة.. أنا تعمدت أستفزه عشان أخرج منه التصرف اللي يخليني أدينهُ، وبالفعل ده اللي حصل.
فكرت من نفس الجانب الذي يفكر منه "هاشم"، فوجدته بالفعل محقًا، كان من الأفضل الزجّ به بعيدًا عنهم لفترة، حتى تستعيد "رحيل" حقوقها من ناحية، وتتأقلم في حياتها الجديدة من ناحية أخرى، لعل ذلك يضفي بعض الهدوء على حياتها التي باتت گنشرة الحوادث في المذياع، لا تتوقف عن نشر الأخبار السيئة.
************************************
كان يكتم أنفاسهِ بالوسادة، متعمدًا خنقهِ وقتلهِ، بلا أدنى شفقة أو رحمة، ليسرق الحياة من بين رئتيهِ التي توقفت عن الحركة، وقد سكن قلبهِ تمامًا معلنًا الوفاة أثر اختناق.
انتفض "سعد" من نومتهِ فزعًا، وقد عاد ذلك الكابوس اللعين في مراودتهِ بشراسةٍ، ليحرم من عينيه النوم، ويسلب الراحة من نفسهِ التي سوّلت له ذلك السوء. تنفس "سعد" بصعوبة بالغة وهو ينظر من حوله لاهثًا، ثم نهض عن فراشهِ متوجهًا للكومود، وفتّش في الأدراج عن علاجهِ المهدئ الذي يتناوله في مثل تلك الحالات، حتى وجده گمن وجد كنزًا ثمينًا، فـ ابتلع منه قرصين أعقبهم بشرب الماء، ثم عاد يتمدد على الفراش وهو يهتف بذمجرةٍ:
- وبعدين مــعــاك يارضـوان!؟ هتفضل ملاحقنـي لـحد أمتـى؟.
رنّ هاتفهِ فأفزعهُ، قبل أن يعتدل في نومتهِ ليسحب الهاتف، فوجد أسم "هناء" ينير شاشتهِ، فعاد يلقي به وهو يهمس :
- ولا هعبرك ياهناء، أكيد عايزة مني حاجه.. ماانتي متتصليش غير لو ليكي مصلحة!..
*************************************
لم يكن الوصول بلمقر شركتها الصغيرة صعبًا، فالعنوان مدوّن على صفحة الشركة الأصلية، والتي كانت قد شاركت منشور لها من قبل.
حدق "مراد" على تلك اليافطة على الباب والتي حملت أسم "Nada Beauty". نظر إليها في فخرٍ وقد حققت جزء من حلمها الكبير بصناعة ماركة عالمية لأدوات التجميل، ثم دفع الباب الزجاجي ودخل، ليجد عدة موظفين، فتقدمت منه إحداهن وهي ترسم إبتسامة متملقة على وجهها مرحبة به :
- أهلًا وسهلًا يافندم.. أقدر أساعدك إزاي؟.
أعطاها "مراد" بطاقتهِ ليقول في جدية :
- عايز أقابل مدام ندى.
نظرت للبطاقة لحظات قبل أن تعود لتسأله :
- في معاد سابق أو.....
قاطعها قائلًا :
- أديها الكارت وبس من فضلك.
أشارت إليه للجلوس في المساحة المخصصة لإستقبال الضيوف، ثم غابت بالداخل لدقيقتين، قبل أن تخرج "ندى" بنفسها لإستقبالهِ، غير مصدقة إنه يتواجد هنا الآن. وقف "مراد" عن جلستهِ يرنو إليها بشوقٍ تعدّى كل الآفاق، حينما اقتربت هي منه لتمدّ يدها أولًا بالمصافحة الرسمية :
- أهلًا يا مستر مراد.. أتفضل.
وأشارت إليه نحو الردهه المؤدية للغرف، فـ سار من خلفها حتى بلغت غرفتها، غرفة "مديرة الشركة". أغلقت الباب على كلاهما وظلت مولية ظهرها للحظات تستجمع فيها شجاعتها، ثم التفتت إليه لترى ذلك العشق القديم وقد تجدد في ينابيع عيناه الحانية وهو يسألها :
- عاملة إيه ياندى؟.
أومأت رأسها وهي تجيب :
- الحمد لله.. أتفضل.
أشارت له حيث الأريكة المخصصة لإستقبال فترة الإستراحة خاصتها، فجلس ومازالت عيناه عليها تراقب ذلك التغيير الطفيف في وجهها، تقريبًا زادت خطوطهِ، كأن الزمن رسم تعابير من مرورهِ على وجهها، بينما عينيها مازالت كما هي، بندقية ساحرة. انتظرت أن يبدأ بالحديث، لكنه أصرّ الصمت طويلًا، فبدأت هي بسؤاله :
- عرفت مكان الشركة إزاي؟.
وضع الصندوق الذي كان يحمله على المنضدة ليفتحهُ بنفسه مجيبًا عليها :
- اللي عايز حاجه بيعملها يا ندى.
كشف عن محتوى الصندوق، حيث كانت فازة من البورسلين أنيقة وعريقة، تعود أصولها لسنوات عتيقة، ولكن شروخها وكسورها مازالت عليها، ويبدو أثر اللاصق بين شقوقها، لكن "مراد" قد ألصقها بعناية وإحتراف. اتسعت عينا "ندى" متفاجئة، وقد تجمعت الدموع في مقلتيها وهي تسأله :
- دي الفازة بتاعتي اللي كسرتها؟؟.. انت عرفت تصلحها؟.
أومأ برأسه إيجابًا وعيناه تقرأ السعادة في وجهها وهو يجيب :
- كل حاجه ينفع تتصلح ياندى.
ثم نظر من حوله بمزيد من الفخر وهو يقول :
- مبروك على الشركة.. أنا فخور جدًا بيكي.
تحاشت النظر إليه وهي تحس بالضعف يطرق أبوابها، ويُفتت حصونها التي بالفعل كانت شبه منهارة، وهي تجيب بإيجاز متحفظ:
- شكرًا يامراد.
ثم أشارت نحو الحقيبة الصغيرة وتسائلت:
- هي إيه الشنطة دي؟.
ناولها إياها بدون أن ينطق بكلمة واحدة، فتفحصتها "ندى" لتتفاجأ بالأدوية التي بحثت عنها كثيرًا في ذلك اليوم صادفته فيه ولم تجدها، اتسعت عيناها بذهول، وقد بدت سعيدة أكثر وهي تسأله بفضول :
- إنت عـرفت إزاي ؟!
- من الصيدلي.. خدت منه أسماء الأدوية اللي بتدوري عليها وجيبتهالك بنفسي.
منحته نظرة إمتنان تساوي عنده آلاف المشاعر، عاجزة عن ردّ معروفهِ :
- أنا مش عارفه أقولك إيه بجد ؟.. شكرًا جدًا يا مراد بجد شكرًا.
لم يستطع "مراد" منع فضوله من أن يسألها :
- أنا عارف إن دي أدوية صرع!.. جيباها لمين يا ندى؟.
أطرقت "ندى" رأسها في أسفٍ ولم تجبهُ، فأعاد هو سؤالها بتخمين:
- جـ جوزك؟!.
تحفزت ملامحها ببادرة غضبٍ، وصلت لعروق عنقها التي نفرت على الفور، وهي تجيب بإقتضاب شديد :
- لأ... لأبني.
************************************
تلك الحيرة المتملكة منها ليومين كانت تؤرق حياتها، تعجزها حتى عن التفكير في المستقبل وما يحمله لها من خبايا، في ظل وجود أمر من المحكمة بتمكينها من أرثها. عرض الزواج الذي طرحه عليها "هاشم" كان بمثابة طوق نجاة، هو رجل المرحلة الراهنة الذي سيستطيع حمايتها والدفاع عن حقوقها؛ لكن الشعور بالذنب يأكل في صدرها، ماذا عن "حسن" الذي وافتهُ المنية منذ عدة أشهر غدرًا وظلمًا، كيف تتزوج الآن ولم يمضي سوى مدة العدة؟!.
تأففت "رحيل" بقنوط ومازالت غير قادرة على إتخاذ القرار الآمن الصحيح، وتشتت رأسها يبعثر كل قرار ترسو عليه فتعود لنقطة الصفر من جديد. دخلت "جليلة" عليها وهي تسأل :
- أحضرلك الغدا يا رحيل؟.. الساعة بقت سبعة وانتي على لقمة الفطار من الصبح!.
هزت "رحيل" رأسها بالرفض بدون أن تلتفت إليها :
- ماليش نفس ياماما.. أكلي ليلى بس.
- كلت ياحببتي.
انضمت "جليلة" لمجلسها على الأريكة، بعدما لاحظت ذلك التردد جليًا على وجهها، والقلق يتأرجح في لمعان عينيها بشكل مريب. ربتت على كتفها لتسألها بتوددٍ، ورغبتها في التأثير على قرارها تتقافز من عيناها :
- مالك يارحيل؟.. لسه بتفكري في عرض هاشم؟؟.
عقدت "رحيل" ذراعيها أمام صدرها، محررة تنهيدة ثقيلة من بين ضلوعها :
- آه.. مش عارفه أعمل إيه؟.
لم تتردد "جليلة" في التأثير عليها كما طلب منها "هاشم"، لكي تلين رأسها قليلًا :
- وافقي يارحيل.. الفرص مش هتيجي كل يوم يابنتي.
رمقتها "رحيل" مستنكرة تلك السهولة التي تتحدث بها "جليلة"، وإنها تجاوزت كل ما مرّوا به لتقنعها الآن بقبول الزواج :
- أوافق؟؟ وحسن يا ماما؟.. دي العدة لسه خلصانة من يومين بس! الناس تقول عليا إيه؟ ما صدقت مات وروحت أتجوزت!.
لم تكن كلماتها مؤثرة على قرار "جليلة" ورغبتها الشديدة في إتمام تلك الزيجة، وإنما دفعتها للمضي في إقناعها أكثر مستعينة بحكمتها في الحياة :
- ناس!!.. وهما الناس أنقذوكي من حسين لما ضرب عليكي نار؟ الناس رحموكي لما جابوا سيرتك بالباطل؟.. الناس هيجيبوا حقنا ويقفوا ضد عمك الظالم وابنه المجنون؟.. هما فين الناس دول يا بنتي!.
أنا ميهمنيش الناس.
بدت متحفزة للغاية بعد كلمات "رحيل" عن أقاويل الناس وسيرتها التي ستشيع على ألسنتهم، ولم تهتم على الإطلاق بتلك المسألة الفارغة - في نظرها -:
- طالما مش بتعملي حاجه تغضب ربنا يبقى ميهمكيش حاجه.. ربنا حللّ الجواز للست بعد ما تتم عدتها، وأهي تمت، يبقى إيه يمنعك تكوني مع راجل شاريكي وهيقدر يحافظ عليكي؟.. وبعدين حسن الله يرحمه لو عايش مكنش رضي باللي بيحصل فينا ده يا رحيل.
مسحت "جليلة" على رأسها وهي تختم حديثها :
- ولسه اللي جاي منعرفش مخبي إيه!.. وافقي وسيبيها على الله.
صوت رنين الجرس جعل "جليلة" تُشرق فجأة، وقد خمنت هوية الزائر :
- ده أكيد هو.. أنا هقوم أشوفه وانتي البسي هدومك وتعالي.
قطبت "رحيل" جبينها مدهوشة من هذا الودّ المفاجئ من والدتها، والتي كانت محتفظة أكثر منها من قبل :
- إيه البهجة دي!.. انتي لحقتي تحبيه ياماما؟.
- آه والله حبيته لله ف لله.. يلا متتأخريش.
وتركتها وحدها لتستقبل ضيفها العزيز وزوج ابنتها المستقبلي، كما تستقبله كل مرة بحفاوتها المعتادة، لتجده حاملًا الكثير من الحقائب، والسائق أيضًا من خلفهِ يحمل عنه الكثير، سمحت لهم بالدخول والفضول على وجهها جليًا:
- أهلًا وسهلًا.
ترك "حامد" كل شئ وغادر منصرفًا، فـ صافحها "هاشم" بتوددٍ ليقول في وداعة:
- مساء الخير ياهانم.
- ابتسمت "جليلة" وهي تجلسه في مكانه قائلة :
- مساء الفل يا بني.. تعالى أقعد.
جلس "هاشم" محتفظًا بحقيبة أنيقة مكتوب عليها (Hakim Jewelry)، فـ ابتسمت "جليلة" وهي تجلس قبالتهِ حينما كان يسألها وعيناه تبحث من حوله :
- أمال فين ليلى؟.
- بتتفرج على الكرتون جوا.. ثواني هجيبها لك.
- معلش يا هانم تاعبينك معانا.
- ولا تعب ولا حاجه يا حبيبي خلاص هنبقى عيلة.
انبعجت شفتيه ببسمةٍ متحمسة وهو يسألها في خبثٍ رغم علمه بنتيجة ضغطهِ عليها :
- خلاص الموافقة جت؟.
ضحكت "جليلة" وهو تومئ برأسها إيجابًا :
- حاجه زي كده.. عن أذنك.
لم تتأخر "رحيل" في الحضور إليه، وقد ارتدت أحد الثياب التي اقتناها لها، أضافت عليها جمالًا خاصًا بألوانها الزهرية الناعمة، خاصة وأن الحجاب كان يحمل ألوانًا متعددة أظهرت جمال الثوب. نهض يستقبلها وعيناه تتفرس النظر في جمالها الغير مفرط، حتى اقتربت منه ليمدّ هو بيدهِ للمصافحة عن عمد، فـ انتظرت لحظتين من التردد قبل أن تهمّ بملامسة كفهِ بشئ من الخجل، ليسمك هو كفها كاملًا بين راحتيهِ الأثنتين، ثم مسح على ظهرهِ بحنوٍ مسيطر وهو يقول :
- عاملة إيه النهاردة؟.
أسبلت جفونها لتجيب بخفوت :
- الحمد لله أحسن.. فكيت الغرز امبارح والدكتور قالي استغنى عن العكاز.
- حمدالله على سلامتك.
وترك كفها أخيرًا وهو يشير إليها للجلوس بجواره :
- أتفضلي ارتاحي.
قدّم لها تلك الحقيبة الأنيقة، فـ امتلأت عيناها بالحرج منه وهي تسأله :
- إيه ده ؟.
- شوفيها بنفسك.
فتحت الحقيبة لترى عُلبة مخملية زرقاء كبيرة، فطنت إنها قد تكون شيئًا گالقلادة التي أهدتها إليها "ليلى" ؛ لكنها تفاجئت بطقم ماسي فخم للغاية، ويبدو عليه قيمتهِ الغالية جدًا، فـ شهقت رغمًا عنها وقد لمعت عيناها بوميض الماس المتلألئ أمام عينيها، ثم نظرت إليه في ذهولٍ منبهر وكأنها تسأله لماذا تلك الهدية، ليأتيها الجواب قبل أن يسأل هو :
- دي شبكتك يارحيل.
عادت تنظر لطقم المجوهرات مرة أخرى وهي تردف بـ :
- بس أنا لسه مقولتلكش رأيي!.. عرفت منين إني ممكن أكون موافقة.
ابتسم معتبرًا ذلك دلالاً عليه، ثم هتف بـ :
- بقالك يومين ساكتة.. والسكوت علامة الرضا.
رقعت "جليلة" زغروطة عالية جعلت "رحيل" تنتفض من مكانها متفاجئة بذلك الصوت الصادح، حينما ضحك "هاشم" متفائلًا، وقد فتح ذراعيهِ ليضم أميرتهِ الصغيرة بين أحضانهِ وهي تسأل بفضول :
- دادي انت هتتجوز؟.
قبّل "هاشم" جبينها متسائلًا :
- آه ياحبيبة دادي، إيه رأيك موافقة ؟.
فنظرت "ليلى" نحو "رحيل" التي كادت تفقد وعيها من شدة الحياء الذي لوّن وجهها كله بحُمرة الدماء :
- طب وليلى؟.. هتروح فين بعد كده؟.
شدد "هاشم" على عناقها وهو يجيب :
- هتفضلي مع دادي طبعًا.. مش انتي بتحبي طنط رحيل؟.. هي خلاص هتفضل معانا على طول.
اتسعت عينا "ليلى" بحماسةٍ :
- يعني هنلعب كل يوم وتنام معايا كل يوم؟.
أكد "هاشم" على معلوماتها حول العيش معًا والتي لم تتجاوز عقلها الصغير :
- كل يوم كل يوم.
صفقت "ليلى" بتهليل وهي تعلن رضاها الكامل عن زواج والدها، لما وجدت به من صفقة مربحة، حيث اللعب طول النهار، واللهو طول الليل، والنوم على ذراع "رحيل" التي تعلقت بها في تلك الفترة الوجيزة. ضاعف ذلك من رضا "رحيل" عن تلك الزيجة - الرابحة - للطرفين، فهو يحتاج إليها، وهي تحتاجه أكثر، كلاهما وقع أمام الآخر في التوقيت المناسب تمامًا، وكأن تلك الليلة التي دخلت فيها لقصر "العزيزي" كانت قدرها الذي ساقها للمصير الأفضل الذي تعيشه الآن، فلم تعد تخشى الغد ولا تفكر فيما ستلقاه من عمّها الطاغية الذي أكل مال اليتيمة وأمها دون مراعاة الدين والقانون. أغلقت "رحيل" هديتهِ ووضعتها في الحقيبة وهي تبتسم برضا، وقد تلاشت كل مشاعر التردد والحيرة من داخلها الآن، وباتت تؤمن أن خيارات القدر كانت أفضل لها، ثم نظرت لتلك اللوحة الأبوية الحانية متخيلة إنضمامها إليها، حتمًا ستكون أسرة سعيدة.
نظر "هاشم" في ساعتهِ قبل أن يسألها :
- أكلم المأذون ونتوكل على الله؟.
شدهت من رغبتة في تسريع الأمر :
- دلوقتي ؟!.
لم يكن "هاشم" ليتحمل يومًا آخر من المفاجآت القدرية، فـ أصر على إتمام الزواج اليوم :
- خير البرّ عاجله.. وبعدين ده هيبقى كتب كتاب ولو عايزة فرح بعد كده أنا تحت الأمر.
نفت "جليلة" رغبة گتلك قائلة :
- لأ مش عايزين فرح وزيطة على الفاضي.
فتدخلت "رحيل" بدورها كون الأمر يخصها بالأكثر :
- خليها يوم الخميس.. تكون رجلي أتحسنت أكتر.
أرخى "هاشم" ظهرهِ للخلف مرتاحًا، وقد وافق على رغبتها بدون أي نقاش :
- زي ما تحبي.
كادت "جليلة" ترقع زغروطة أخرى، لولا أن "رحيل" استوقفتها قائلة :
- خلاص ياماما.. تعالى نجهز العشا أكيد هاشم جعان.
- جدًا.
ابتسمت "رحيل" وهي تنهض لمساعدة والدتها، فأمرتها "جليلة" أن تجلس معه لكي تزيد من فرصة التحدث بينهما :
- لأ خليكي.. أنا هاخد معايا لوليتا وانتي ارتاحي عشان رجلك.
أخذتها "جليلة" لتصطحبها نحو المطبخ، حينما كان "هاشم" في حاجه ماسّة لأن يعرفها أكثر، وعيناه تتجول على ملامحها وهو يستدرج الحديث منها :
- كلميني عنك يا رحيل.
لم تعرف من أين تبدأ، فسألتهُ التيسير عليها قليلًا بسؤال مباشر :
- عايز تعرف إيه بالظبط؟.
- كل حاجه..
**************************************
طوال الأيام الماضية كانت تكافح من أجل الوصول لبرائتها، بداية من إثبات دخول الماكينات الحديثة عبر الجمارك المصرية وحتى الوصول للعميلة التي وشت بها وافترت عليهم بإنهن أصابوها بحروق جلدية بليغة بسبب استخدام أجهزة غير مطابقة للمواصفات العالمية والمواصفات المذكورة عبر صفحاتهم الإجتماعية. أرادت أن تثبت للجميع إنها البريئة المظلومة، وأن إدعاءهِ بعدم أهليتها لتربية الطفلة غير صحيح، ثم تتخذ الإجراء المناسب لإسترداد "ليلى" مرة أخرى لأحضانها.
وفي خِضم انشغالها بحالها وقضاء تنقلاتها من اليمين لليسار أتتها تلك الرسالة عبر تطبيق "الواتساب"، بعدما قطعت "كاميليا" أي تواصل مع "رمزي" في تلك الآونة، محاولة بذلك استرداد ابنتها الوحيدة.
فتحت رسالتهِ بفتور لتقرأها بسرعة؛ لكن محتوى الرسالة جعلها تتوقف عن القيادة وتنتزع نظارتها الشمسية لتقرأها مجددًا :
أنا عرفت مكان ليلى فين، الـ ***** سايبها عند ناس في الشيخ زايد وبيروحلهم كل يوم......
لم تقرأ بقية رسالتهِ، وعلى الفور كانت ترفع عن رقم هاتفهِ حظر الإتصال وتتصل به، وأناملها ترتعش ارتعاشةٍ باردة :
- أيوة يا رمـزي.. هـي فـين، أرجوك مش وقته الكلام ده، بنتي فين ومين الناس اللي قاعدة عندهم؟.. أبعتلي location بسرعة يارمزي، بسرعة.