![]() |
رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الرابع عشر بقلم ياسمين عادل
"لحظة إمتلاك واحدة، قادرة على تقييد حريتك ما دمت حيًا."
____________________________________
قاربت الساعة على الثالثة فجرًا، وهي مازالت مستيقظة بغرفتها تتأمل القلادة الذهبية المنقوشة بأسمها، ومُطعمة بفصوص كريستالية برّاقة تلمع أمام عينيها. أحست وكأن أسم "رحـيـل" اكتسب معنى جديد بتلك الهدية القيّمة التي لم تكن لتتقبلها بسهولة، لولا إلحاح "ليلى" الشديد في أن ترتديها وتتقبلها منها، فما كان منها إلا القبول.
تحسستها "رحيل" بأناملها وقد ارتفعت ابتسامة على محياها، منذ زمن لم يهديها أحد هدية گهذه، لفتتهِ اللطيفة - رغمًا عن تحفّظها عليها - تسببت في إسعادها، وانتشلتها لبعض الوقت من كمّ الأفكار السوداوية التي تداهمها كلما وضعت رأسها على وسادتها، لتحرم عينيها النوم في غياب الأمان الذي تنشده.
حانت التفاته منها نحو الصغيرة التي تنام في فراشها، وقد غابت عن الوعي في سبات عميق، مسحت على وجهها ثم شعرها برفقٍ، وابتسمت وهي تتأمل ملامحها الطفولية البريئة، والتي تُذكرّها بأجزاء من ماضيها، ثم غابت ابتسامتها وكأن الشمس قد غربت، وهي تستعيد كلمات "جليلة" عن وضع الصغيرة، وعن المآساة التي ستعيشها بعدما صرّح "هاشم" بتصريحهِ الخطير حول طليقتهِ، مما دفع فضولها للتساؤل عن السبب القوي الذي يدفع رجل لإعتبار زوجتهِ السابقة في حكم الأموات، بل ويقرر تربية الصغيرة بعيدًا عنها. هل هي بذلك السوء الذي استشفتهُ من كلماتهِ؟.. هل هي آثمة للحد الذي يجعل هذا العقاب القاسي هو المناسب لها؟.
تنهدت "رحيل" وقد انصرف بصرها عن التعلق بالصغيرة، ثم أرخت ظهرها على الفراش وما زالت القلادة قيد أصابعها، مترددة هل ترتديها أم تتجاهلها؟.. وإن ارتدتها ما هي الدلالات التي ستصل إليه ردًا على هديتهِ المفاجئة؟.
***************************************
منذ أن علم "عمرو" برجوعها لمنزل أبيها وهو في حالة ضيق شديدة، لا سيما إنه سمع حديثًا بطلاقها أيضًا، وهي التي كانت تعشق زوجها وقبلت بزوجة ثانية في سبيل أن تستمر حياتها معه. هذه الأمور شديدة التعقيد خاصة في المدن والقرى، مهما بلغت قوة العائلة و صيتها تبقى تلك هي النقاط السوداء في صفحتها وإن كانت ناصعة شديدة البياض، طلاق النساء للنساء في تلك المجتمعات هو وصمة عار، وبداية لتحليلات جاهلة من الجميع حول الأسباب، وقد يؤدي للطعن في الأخلاق أيضًا، وهذا ما خشاه "عمرو" عليها، أن تنال منها الألسنة وتجعل من قصتها سيرة تتجول بين أفواه العامة، رغمًا عن علمه بحقيقة الأوضاع التي دفعت "منال" لما وصلت عليه.
انتظر "عمرو" بالأسفل حتى تأتيه، بعدما طلب مقابلتها في ذلك الصباح الباكر، ليتفاجأ إنها لم تذق طعم النوم منذ الأمس. جلست "منال" برفقتهِ في باحة البيت، ثم سألته عن أحواله وكأنها تحاول أن لا تتحدث عن أي موضوع يخصها :
- أزيك ياعمرو عامل إيه؟.
تنهد "عمرو" وهو يرى تلك الكسرة في عيناها الذابلتين:
- كويس يا بت عمي.. انتي اللي عاملة إيه؟، حسين محاولش يـ.....
بترت "منال" سؤالهِ وهي غارقة في الشعور بالقهر والخذلان:
- مش عايزة أسمع الأسم ده يا عمرو.. خلاص كل حاجه خلصت.
أجفل "عمرو" بصرهِ وهو يقول بأسف :
- ماانا عرفت.. عمي عدنان حكالي كل حاجه، إحنا ميهمناش غير سعادتك يامنال.. ولو محتاچة أي حاچه أنا موجود.. إحنا برضو ولاد عمّ وانتي زيك زي رؤى أختي بالظبط.
أومأت "منال" رأسها بتفهم، وهي ترى نظرات الأسف في عينيه قاتلة، لم تشعر بالأسى على حالها؛ لكن مغبّة الأنتقام بدأت تتراقص في عيناها وكأن عليها الإقتصاص لنفسها، عسى أن تخمد ثورات صدرها التي اندلعت بين ضلوعها، فبدأت برأس الحـيّة، والمتسببة الأولى فيما حدث عندما عرضت من البداية فكرة تزويج "رحيل" بـ "حسين". "تيسيـر".. تلك الحاقدة التي لا تهنأ بحياتها إلا في رؤية تعاسة البشر، عسى ذلك يرضي انتقاصها، بصقت السمّ في آذان الجميع لكي تتحقق الزيجة وبذلك تقهر "منال" و "هدير"، بدون أي سبب واقعي حقيقي، سوى إنها مريضة بداء المتعة من أحزان الآخرين.
تنهدت "منال" بثِقلٍ، وأسبلت عيناها وصوتها المتحشرج يخرج من شفتيها بصعوبة :
- أنا مش عارفه تيسير هتستفاد إيه من كل ده؟!.. إذا كانت رحيل نفسها رفضت حسين!؟.. ليه تصرّ تجوزهم وتخرب بيتي!.
اتسعت عينا "عمرو" بشئ من الذهول، فهو لم يكن يعلم بشأن تدخل زوجتهِ "تيسير" في الأمر، وبدا ذلك محرجًا للغاية بالنسبة إليه :
- تيسير مراتي؟!.
هزت "منال" رأسها بالإيجاب وهي تؤكد على قولها :
- أيوة هي السبب.. هي اللي زنت في ودن حماتي وبعدها في ودن حسين، وهي كمان اللي راحت فتنت عليا وأتبلت عليا إني هربت رحيل.
تحولت نبرتها لأخرى باكية مقهورة:
- أنا مش عارفه مراتك حطاني في دماغها ليه ياعمرو!؟.
تضايق "عمرو "أكثر لرؤية دموعها تلك، بالرغم إنها كانت تتظاهر بالثبات الشديد في بداية مقابلتهم؛ لكنها الآن إمرأة جريحة، سيطر عليها الشعور بالظلم والخذلان، لاسيما إنه بيد إمرأة كان ينبغي عليها أن تحس معنى رفضها بضرة ثالثة، وهي التي تحاملت على نفسها لقبول الثانية رغمًا عنها. ضاعفت "منال" من جرعة تأثيرها على "حسين"، بإضافة بعض البهارات الخاصة، لكي تضيف السخط على شعورهِ من زوجتهِ، لعلهُ يأتي بحقها من تلك القُراضة التي كانت أحد أسباب تلقيبها بـ مُطلقة. تأملت "منال" تأثير كلماتها المُشاحنة على وجه "عمرو" وعلى إيماءات جسدهِ البينّة، مستشعرة ببداية نشوة تملكتها مع تخيل إنه هو الذي سيأتي بحقها، هو الذي سينتقم لها انتقامًا باردًا، بدون أن تتكلف هي عناء السعي نحو ثأرها وثأر أطفالها.
************************************
شروق الشمس، رؤية الصباح، لون السماء اللبنية وهي تداعب السُحب البيضاء گكتل القطن الناعم حين تلامس الجبين، إنها أشياء تُشعرك بتحسن تلقائي في المزاج، وتجعلك تتنفس بأريحية غريبة لا تدري مصدرها؛ ولكن حالها هي كان على النقيض تمامًا، صدرها مختنق، ولا تطيق الوقوف في المطبخ دقائق معدودة، وكل شئ من حولها فوضوي ومبعثر بشكل يؤرق النفس والعين. تأففت "هناء" بضجر وهي ترفع كوب الشاي بيدها، ثم خرجت متوجهه للصالة، لتضع الفنجان أمام شقيقها هاتفة بـ :
- وبعدين يا سعد؟.. خلاص كده أتقفلت في وشنا؟.
تناول "سعد" الفنجان وعلى وجهه علامات المقت والغضب جلية :
- مفيش حاجه أتقفلت يا هناء.. أنا مش هيأس أبدًا، ده حقي وحقك ولازم ناخده.
ثم نظر من حوله بترقبٍ وهو يسألها :
- عملتي الشاي بنفسك ليه؟.. أمال البت بهية فين؟.
نفخت "هناء" بضيق شديد وهي تتذكر معاناتها الأيام الماضية :
- مشيتها، خلاص مبقتش قادرة أدفع مرتبات الخدامين!.. تخيل بعمل لنفسي كل حاجه وخلاص مش طايقة العيشة دي!.
رفع "سعد" كوب الشاي على فمهِ ليتذوق رشفة، فـ تقلصت تعابير وجهه برفضٍ غير مستور، وهو ينظر إليه مستنكرًا ليقول :
- أعوذ بالله.. إيه الشاي ده ؟؟.
ارتفع حاجبيها بذهولٍ لتسأل :
- إيه ؟.. وحش ؟.
تركه "سعد" على الطاولة معترفًا :
- زي الزفت.. متعمليش شاي تاني أحسن.
عقدت" هناء" ذراعيها أمام صدرها بعدم رضا، وقد زاد ضيقها من الوضع الراهن الذي أجبرها عليه إفلاسها:
- وهو في بديل وقولت لأ.. منه لله رضوان هو السبب في اللي احنا فيه!.. بقى يكتب كل حاجه لأبنه ويسيب أخواته كده!.
زمجر "سعد" بزمجرةٍ حادة وهو ينبّهها :
- بس متقوليش ابنه دي!.. رضوان ربى حيوان زيه، عايش يطيح فينا كأنه مال أبوه وهو اللي اداله الفرصة دي.
نهض "سعد" عن جلستهِ بإندفاع منفعل غير مقصود وهو يتابع :
- أنا سألت المحامي ولقيت الموضوع هيدخل في مصاريف احنا مش قدها دلوقتي.
ثم انتقلت عيناه اللامعة للنظر إلى سوارها الذهبي مستكملًا:
- ما تشوفي معاكي أي حاجه نفك بيها ضيقتنا ونصرف على القضية لحد ما نكسبها ونورث.
تحسست سوارها الذي نهمت عيناه منه، وقد نمى التردد بين ضلوعها وهي تقول :
- منين ياسعد؟.. أنا خلاص مبقاش فاضلي غير الأسورة والخاتم دول، والقضية بتاعتك مبقتش مضمونة.
ثم نهضت عن مكانها وقد ظهر الشيطان الرابض بداخلها وهي تلمح قائلة :
- مفيش غير إن ربنا يفتكره ونورث فيه مع بنته.
قطب "سعد" جبينه معترضًا على عبارة الجمع التي استخدمتها:
- وهي العمة بتورث!.
عقدت "هناء" ذراعيها أمام صدرها وهي ترد بإجابة واثقة :
- العم بيورث لو مفيش ولد، وأنا معاك في الحلوة والمرّة ياسعد.. أحمد ربنا إن هاشم عنده بنت بس.
دنت منه "هناء" وهي تسأله بنبرةٍ أشبه لفحيح أنثى الشيطان :
- المهم هتخلص منه أمتى؟.
انتفض "سعد" لدى سماع سؤالها المرعب، ونظرت عيناه إليها في دهشة وهو يقول :
- انتي بتقولي إيه؟.. انتي خلاص قررتي إننا هنقتله؟. أنا بقول ربنا يفتكره مش احنا اللي نسفره لما لانهاية.
حجبت عنه إنفعالها وقد غابت نظرة الطمع من عينيه، ثم هتفت بعدوانية شديدة :
- مش لازم تقتله بإيدك.. ابعت حد يخلص.
ابتسامة عابثة صعدت لمحياها وهي تذكرهُ بذنبهِ الذي قد يكون نساه، ولكي تُحيي الكابوس الذي داهمه لأشهر طويلة ومازال لم يتخلص منه كُليًا :
- وبعدين هي أول مرة يا سعد؟!.
انتقل كفهِ ليُكمم شفتيها بعنفٍ مباغت، وعيناه تبرقان وهو يحدجها بشراسةٍ :
- أخرسـي.. انتي اتجننتي يا هناء ولا إيه!.
أبعدت يداه المغلفة برائحة النيكوتين عن فمها، وهتفت بحنق بلغ حلقومها :
- لأ لسه بعقلي.. واللي يريحك اعمله يا سعد، بس متجيش تسألني على فلوس ولا تستلف مني تاني، أنا خلاص يا حبيبي شطبت، روح أتشطر على هاشم اللي غرقان في نعيم أخونا لوحده.
جلست وهي تختم حديثها بسخريتها المعتادة :
- أحضرلك فطار ولا اكتفيت بالشاي!.
لم يجبها، وأعطاها ظهرهِ لينصرف، تاركًا خلفهِ خيبة أمل، بعدما اعتمد على الأموال التي كان يتحايل على شقيقتهِ لتتعطف عليه بها، والآن قد بات حالها گحالهِ، تفتقر للمال، وهي تعيش في منزل يُقدر بملايين الجنيهات، لا تجد قرشًا تنفقه على نفسها، بينما خزانة ملابسها ممتلئة بثياب من أفضل وأغلى الماركات العالمية، عاجزة عن دفع راتب الخادمة، ويدها تحمل سوارًا يُقدر بآلاف الجنيهات. حياة رغدة بداخلها فجوة من الفراغ، گالبلورة الزجاج الأنيقة الجميلة؛ لكنها هشّة خفيفة وفارغة.
**************************************
لم تمرّ ليلتهِ على خير أبدًا، وكأن رؤيتها أحيت ملايين من مشاعر العذاب والذنب والحزن والإشتياق واللوعة واللهفة والحب والبغض والحنين والكراهيه.. كلٍ في آنٍ واحد. رؤيتها أيقظت أماني لقائها التي بقيت دفينة صدرهِ لسنوات، وكأن مشيئة القدر بقيت في صفهِ بعد المعاناة بأن رآها حية أمامه وليس عبر شاشة الهاتف، ليست مجرد صورة جديدة تنشرها على حسابها الشخصي، وإنما متجسدة أمامه بأنفاسها الحارّة التي اعتاد أن تلمس صفحة وجههِ. "ندى" رفيقة الكلية والسهر للمذاكرة والسفر للعب واللهو والعمل من أجل النجاح، "ندى".. أنشودة الحياة التي لطالما حلم أن يجمعهما القدر؛ ولكن -النصيب- قد حكم حكمًا ظالمًا عليهما، لتندثر أسفل حياة اختارتها هي بعيدة عنه، وتفارقه بملئ إرادتها، معتقدة إنها بذلك تحقق له المستقبل الأفضل الذي حلم به والدهِ الراحل، بعد أن فرض رأيهِ برفض زيجتهم، فـ تختفي من الوجود في حياتهِ بدون أن تسأله الرحيل!.. فتترك قلبًا متصدعًا بحبها، وعقلًا يسأل في كل يوم، هل فعلًا أحبتهُ كما أحبها؟.
أطبق "مراد" عينيهِ بقوةٍ ولمحات من لقاء الأمس تتشكل أمامه، حيث تمردت على تعبها الظاهر عليها متعمدة إظهار القوة -كما اعتادت-، فلم يغفل هو عن مساعدتها، وتوصيلها إلى سيارتها رغمًا عن رفضها، لتختصر الرد بدون أن تضيف كلمة واحدة تفتح المجال لنقاشات أخرى :
- "شكـرًا".
تلك الكلمة الرسمية التي لم تكن متداولة بينهم يومًا، والتي ضاعفت من شعوره بالمسافة بينهما، ولم يقوَ على فرض نفسه عليها من جديد؛ لكنه لاحظ شيئًا قلب الموازين كلها، يدها التي خلت من خاتم الزواج، فارغة تمامًا من أي إكسسوار معدني، مما جعل رأسه تعج بالأسئلة الكثيرة، والتي أجبرتهُ على تفحص حساباتها الشخصية مجددًا؛ لكنه لم يلاحظ ما يفيد شكوكهِ حول إنهاء زواجها. فقط شئ وحيد لفت انتباهه، وهو إنها لم تشارك أي أخبار أو منشورات منذ فترة زادت عن الأربعة أشهر؛ إذًا أين كانت كل تلك المدة؟ فهي شديدة التعلق بالحسابات الإجتماعية معتبرة إياها المنفذ الوحيد على العالم من حولها، لطالما كانت كتومة محتفظة إلا في كتاباتها وخواطرها التي داومت على تدوينها على مدونتها الأدبية، وهذا أيضًا قاطعتهُ منذ فترة لسبب مجهول.
نفض "مراد" عن نفسه رِداء الحزن هذا، وغادر الفراش متوجهًا لدورة المياة، فوضع رأسه أسفل الصنبور لتتجمد رأسه لحظات بالماء البارد، ثم انتزعها من هناك بعدما أضاء عقله فكرة لم تأتي بذهنهِ من قبل، فـ هرع للخارج واستخدم هاتفهِ في عملية البحث الدقيقة، لحظات ثم دقائق، طال البحث أكثر من اللازم، وسط حسابات كثيرة تحمل نفس الأسم والكنية، إلى أن وجدها أخـيرًا وبعد طول صبر. حساب جديد أنشأتهُ منذ أشهرٍ قليلة، بصورة مختلفة عن الحساب الآخر، ومنشوراتهِ قليلة مختصرة للغاية؛ لكن أكثر ما لفت انتباهه، وضاعف دقّات قلبهِ، وجعل وجهه يبهت فجأة، هو رؤيته لكلمة (single).. الكلمة التي لمعت عيناه بها، ومحت من ذاكرته شريط قاسي من الذكريات بدونها، ليدق الإشتياق المباح صدرهِ، ويتفكك حِصار الإستسلام المُقيد لضلوعهِ، لينشطر تماسكهِ المزعوم وتدق الرغبة أبوابه من جديد.
*************************************
شرد "حمدي" قليلًا، فـ منذ أن اختفت "رحيل" وعقله لم يسترح، وقلبهِ يضمر لها السوء ما أن تتُاح له الفرصة بذلك. تأفف بسخطٍ وهو ينظر من حولهِ بنظرات محتقنة، لقد ساقتهُ إبنة أخيه وزوجة إبنه لدخول المحاكم أيضًا، وها هو يقف منتظرًا الدخول للجلسة التي سيحكم فيها القضاء منذ الوهله الأولى وبضمان كامل لإسترداد جميع حقوقها المهدورة في أرثها من أبيها وزوجها أيضًا، بعيدًا عن ظلمه هو وولدهِ.
حانت إلتفاته من رأس "حمدي" نحو ولده "حسين"، فرأى الظلام في عينيه، والنية المُبيتة للغدر بها حتى وإن كانت بداخل حِصن القانون والحكومة، لينتشر التوتر بين خطوط وجهه وهو يحذره من التمادي فيما يفكر فيه :
- أوعاك تعمل أي غلطة هنا يا حسين.. الغلطة هنا تمنها هيكون عمرك.
نظر "حسين" بإتجاه والدهِ وهو يخمن :
- تفتكر هتيجي النهاردة ؟.
لم يفكر "حمدي" في احتمال گهذا، ولذلك قمع تلك الفكرة بدون أن يفكر حتى فيها :
- لاه مستحيل.. رحيل مش بالجراءة دي.
طفت ابتسامة ساخرة محملة بمزيج من الغضب والإنفعال معًا على وجهه، وهو يقول مستخفًا بنظرة والدهِ البريئة حول تلك الحيّة - كما رآها - :
- شكلك كده متعرفش أي حاجه يابا.. بص وراك كده.
انتفض "حمدي" في وقفتهِ، واستدار لينظر خلفهِ، فرأى "رحيل" برفقة ذلك الرجل الذي اتهمهُ بخطفها من قبل، وحولهم رجال للحراسة، وهي تستند على عكازها لتسير في تعرجٍ بسيط. حدقت عينا "حمدي" وهو يرمقها بنفور، ومن بين أنينهِ المنفعل همس بـ :
- آه يابنت الـ ×××××
كاد "حسين" يتقدم منهما، لولا ذراع والدهِ التي وضعت أمامه لتمنعه من المرور :
- قولتلك لأ يا حسين.. ده لا مكانه ولا وقته.. إحنا ماضيين على تعهد بعدم التعرض يا بني بلاش تودينا في داهيه.
تجاهل "هاشم" النظر إليهم، فقط كان يسير جوارها گالظل الحارس، حتى مررها أمامهِ لتدخل قاعة المحكمة، ودخل من بعدها بأمان شديد، وعلى مرأى ومسمع منهم، والعجز متشكلًا على ملامحهم بطريقة مثيرة للشماتة.
**************************************
كانت حبيسة غرفتها، منذ أن عادت لمنزل أبيها وهي تحس وجعًا يتناوب دورهِ في الهجوم على رئتيها، ربما هو الحزن الذي حوّل قلبها حُطامًا، وربما الخذلان الذي يجعلك تشعر بالكمد. طرق "جمال" بابها، فـ اعتدلت في جلستها هاتفة :
- أدخل.
دخل "جمال" إليها مزينًا محياه المرسوم باللحية بإبتسامة عاقلة، ثم اقترب منها وهو يدللها قائلًا :
- حبيبة چمال.. صباح الورد.
ابتسمت "منال" وهي تجفل بصرها بإستحياء لتقول :
- من وقت ما اتچوزت مقولتليش حبيبة چمال.
ربت على ذراعها في حنوٍ ليبرر :
- مكنتش عايز المحروق طليقك يغير مني لما يشوفني بحبك أكتر منه.
نامت "منال" على كتف أخيها تستدرج عطفهِ، فـ حاوطها بذراعهِ مستشعرًا الذنب حيالها، لو إنه لم يتركها حين تزوج اللعين طليقها بزيجته الثانية لكان اعتبارها الآن له قيمة؛ لكنه تركها تعيش خيارها وهذا كان خطأه، لم يتدخل في حياتها بحجة إنها إمرأة كبيرة؛ لكنها كانت تحتاج ليد ترشدها وتسحبها من ظلام تلك العلاقة التي تستحق غيرها.
تنهدت "منال" وهي مستسلمة للصمت، ثم رفعت رأسها لأخيها وفي عيناها الكثير من الكلمات، فقطب "جمال" جبينه وهو يسألها :
- قولي عايزة إيه يامنال، بحور عنيكي فيها موچ عالي هيغرجني لو مسمعتكيش.
لم تتردد "منال"؛ بل كانت متماسكة قوية، شديدة التعقل رغمًا عن قلبها الجريح، لتقول بعد تنهيدة مثقلة بالهموم :
- عايزة حجي ياچمال.
ابتسم "جمال" وهو يغازل لكنتها الصعيدية التي تعاود إليها من حين لآخر، لتتذكر أصولها العريقة الممتدة لأحد العائلات الكبرى بمحافظات الصعيد، والتي لم يتخلى عنها "جمال" ولا أبيه ولا حتى "عمرو" بعدما تغيرت حياتهم وانتقلوا إلى هنا:
- شوفي أسمي كيف چميل وانتي بتعطشي الچيم.. لسانك أتعدل ونسيتي لغة المدينة أول ما رچعتي دوار الحچ عدنان.
ابتسمت وعيناها تتحاشى النظر الدقيق إليه، فترك "جمال" تلك الأحاديث الجانبية وقد أثاره الفضول حول ما تريد البوح به، بعدما تعكر وجهها كأن الأمر جلل :
- في إيه يا منال.. أنا سامع.
كانت مقدمة قصيرة للغاية قالتها؛ ولكنها كانت ثقيلة على "جمال" الذي لم يتحمل تشويقًا گهذا :
- متقولش ردك عليّ دلوقت.. فكر في اللي هقوله وبعدين نـ....
اختفى اللين من وجهه، وهتف بجدية :
- في إيه يامنال؟ ؟.. أواعاكي تقولي اللي في بالي، يمين بالله ما هسامحك لو قولتي ترچعي للـ **** ده
زفرت "منال" زفيرًا حانقًا، ثم قالتها دفعة واحدة :
- أنا عايزة أتچوز واد عمي عمرو بعد ما تفوت العِدة.
*************************************
خرجت منتصرة، نصفها القانون وأعاد كل شئ لنصابهِ الصحيح، وأقرّ بأحقيتها في أملاك أبيها وعمها، وأعاد إليها ما سلبهُ "حمدي" غصبًا وعدوانًا، لتعيش بعد الآن حُرة، لا حكم لأحد عليها ولن تطالها أيادي الظلم.
لم يقوَ "حسين" على تلك الهزيمة النكراء، واعترض طريقهم ليجد "هاشم" واقفًا گالصقر أمامه، وعيناه تطلق من الوعيد مالا يحمد عقباه. تجمدت "رحيل" في مكانها، وشحب وجهها وهي تنظر لظالمها وهو يقول :
- برضو مش هتاخدي حاجه يابنت عمي.. إلا لو عقلتي ورجعتي عن طريق الحرام اللي مشيتي فيه، ساعتها يمكن نتفق.
أمسك "حمدي" بذراعهِ يمنعه من التقدم خطوة أخرى، حينما كانت "رحيل" تهدر بصوتها غير متحملة أي إهانة أو ذنب لم ترتكبه:
- أخرس ياحسين.. أخرس، ربنا عالم إني معملتش حاجه غلط وإني مش عايزة غير حقي الشرعي منكم.. والإفترا اللي افتريتوه عليا مش مسمحاكم فيه بقية عمري.
دفعهُ "هاشم" من كتفهِ وهي يرنو إليه بإحتقارٍ وتعالي :
- يلا يابابا أمشي من قدامي.. بدل ما القضية يبقوا أتنين.. ياحسين.
ضرب "حسين" على ذراعه لتبتعد عنه :
- ملكش صالح بالموضوع ده.. حسابنا لسه جاي في الطريق بس أخلص حسابي مع مرات المرحوم.
ثم نظر إليها وكأنه يوخزها بكلماته السامة:
- ولا جه اللي نسّاكي حسن يا بت عمي.
امتدت يدا "حسين" ليطالها من خلفه وقد احتمت "رحيل" فيه، فقبض "هاشم" على ياقتهِ، حتى كاد يخنقهُ، وصوتهِ المزلزل يدوي في آذانهِ، وهو يقول بذلك الصوت المرعب :
- إياك تمسّها أو تفكر حتى.. اللي يمسّ طرف الست بتاعتي مش هيلاقي غير كفنهُ.
اهتاج "حسين" وأصيب بحالة غير مسبوقة من الغضب، بعدما وصلت تلك الكلمة السامة لمسامعهِ گجمرة من نار أصابته بالإشتعال، وهمّ يطبق على عنق "هاشم" في محاولة لقتلهِ دون الشعور بالمكان والزمان من حوله، ودون الشعور بيد "حمدي" التي عجزت عن كبح جماحهِ :
- يا ××××.. هـقتلك وأقــتلـها وأغـسل عاري قبل ما تعمـلها.. هـقتلك يا هــاشـم....