![]() |
رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل الثاني عشر
تركت الهاتف علي الفراش و خرجت إلي الردهة، تفاجئت بزوجها و ابنتيها يتناولون الطعام علي المائدة
لوح مصعب إليها بيده قائلاً بتهكم:
"صباح الخير يا مامي، خلاص ده العصر قرب يأذن، كنتِ ناوية تغدي البنات وتوديهم للنادي أمتي بالظبط؟".
رمقته بازدراء و لم تعلق بكلمة، ذهبت إلي المرحاض و قامت بخلع ثيابها ثم دلفت إلي داخل الكابينة الزجاجية للإستحمام، سمعت صوت فتح الباب و احدهم قد دخل و من غيره يفعل ذلك!
زفرت و صبرها أوشك علي النفاذ، فأغلقت باب الكابينة و قامت بوصده من الداخل لديها، أتاها صوته:
"هاتفضلي تقلانة عليا لأمتي يا ملوكة؟".
فتحت الصنبور متعدد الثقوب فأنهمرت المياه فوق رأسها و انسابت علي جسدها
أردف هذا المنتظر و الذي يبتسم بمكر:
"يعني فاكرة لما تقفلي عليكِ من جوة مش هعرف أفتح يعني!".
أجابت بحنق:
"مصعب لو سمحت أخرج برة، ما ينفعش بناتك يشوفوك داخل عليا التويليت يقولوا إيه!".
ضحك ليثير حنقها أكثر قائلاً:
"هيقولو بابي بيموت في مامي و ما بيفارقهاش زي ضلها و وراها فين ما تروح حتي لو دخلت التويليت".
أغلقت الصنبور و قالت و الحنق وصل إلي ذروته:
"مصعب أنا ما بهزرش و بطل تستفز فيا، أنا صاحية دماغي مصدعة".
"ما هو لازم دماغك تصدع، من السهر طول الليل علي الموبايل و تنامي بعد الفجر".
انتفخت أوادجها و فاض بها، صاحت بتحذير:
"لو عايز اليوم يعدي ملكش دعوة بيا خالص".
تحولت ملامحه من البسمة إلي الضيق، سألها بغضب:
"أنتِ بتزعقي لي يا ملك!، علي فكرة أنا راجع عشان أجيب ورق كنت نسيته و راجع تاني علي الشركة، و لما لاقيت البنات صاحيين من بدري و مستنينك تصحي عشان تفطروا مارضتش أخليهم يصحوكِ و طلبنا بيتزا، يعني أنا أصلاً مش جاي عشانك".
ضرب قبضته علي باب الكابينة فأهتز الزجاج و أردف:
"عموماً أنا ماشي دلوقت، و براحتك علي الأخر خالص، عشان يبقي كان عندي حق لما بقولك إنك طفلة يا طفلة، و من غير سلام".
ألقي كلماته النابعة من غضبه و غادر المرحاض صفق الباب خلفه، و هي فتحت باب الكابينة و خرجت لتتناول المعطف القطني فقامت بإرتدائه و خرجت من المرحاض لتبحث عنه و تعتذر إليه، لم تجده فسألت ابنتيها، ردت إحداهما:
"بابي لسه نازل حالاً".
شعرت بالحنق و الغيظ، نظرت إلي ابنتها بحدة و بأمر ألقت عليها:
"بعد ما تخلصوا أكل أنتِ و هي جهزوا نفسكم عشان نازلين"
ذهبت إلي غرفتها تحت نظرات ابنتيها المتعجبة فسألت مليكة شقيقتها:
"هي مامي مالها مش طايقة نفسها ليه؟"
أخذت نور تتلفت من حولها لتطمئن أن والدتها لم تسمعها، اقتربت من شقيقتها و أخبرتها بصوت خافت:
"هقولك بس أوعي تقولي لمامي، أنا شوفت بابي دخل وراها التويليت و كان بيكلمها و بعد كدة كان بيزعق و خرج".
هزت الأخري رأسها قائلة:
"اممم أنا كدة عرفت ليه مامي متضايقة، بالتأكيد عشان بابي دخل التويليت و هي جوة و كدة عيب، بابي بقي كدة naughty".
"أخلصي يا هانم أنتِ و هي و بطلوا رغي".
صاحت ملك من داخل غرفتها فأرتجفت كلتيهما.
تقف أمام المرآة بعد أن أرتدت ثيابها، تقوم الآن بتمشيط شعرها، شردت قليلاً و تشعر بالضيق، فهي بالفعل لم تتحمل الخصام بينها و بين زوجها، توقفت عن التمشيط و أمسكت هاتفها لتجرى إتصالاً به و تبدد الغيمة التي تفاقمت بينهما، و بمجرد أن بدأ الإتصال قامت بالرفض، شهقت بحنق و قالت:
"بتكنسل عليا!، ماشي يا مصعب و الله ما أنا معبراك"
༺༻
ألتفتت الصغيرة من حولها و تنظر إلي باب غرفتها لكي تطمئن إنه مغلق و حتي لا تسمعها والدتها و هي تتحدث مع إحدى زملائها في المدرسة، اختبأت أسفل الغطاء و بصوت خافت تسأله:
"أنا الحمدلله كويسة و أنت؟"
أتاها صوته الذي بدى في بداية مرحلة المراهقة:
"بخير، ها فكرتي في اللي قولته لك إمبارح؟"
تنهدت و أجابت:
"مش عارفة يا معاذ، حاسة إحنا لسه صغيرين و بدري علي مشاعرنا، أنا في أولي إعدادي و أنت في سنة تالتة".
عقب علي كلماتها قائلاً:
"الحب ملهوش سن، و أنا بحبك و هافضل أحبك لحد ما نخلص دراسة و أجي أخطبك من باباكِ".
ابتسمت بخجل و ببراءة ثم أجابت:
"طيب أنت عايز إيه دلوقتي؟".
أخبرها بشوق لسماع ما يريده:
"نفسي اسمعها منك أوي".
وضعت طرف إصبعها بين شفتيها، تشعر بالتردد و الخجل، و عندما طال الصمت بينهما أردف الأخر:
"ريتاچ، أنتِ معايا؟".
كان هناك من يقف أمام باب الغرفة يسترق السمع، أدارت المقبض و فتحت ثم ولجت إلي الداخل دون إصدار صوت، اقتربت من هذه المختبئة أسفل الغطاء
و كانت الأخري تخبر زميلها:
"هقولهالك و هاقفل علي طول".
"ماشي أنا موافق، بس قوليها".
أغلقت عينيها و صوت دقات قلبها يعلو من سرعتها:
"بحبك يا معاذ".
و سرعان أنتهت المكالمة و ألقت الهاتف و الإبتسامة تزين شفتيها، أزاحت الغطاء و نهضت و بمجرد أن ألتفت، أطلقت صرخة بفزع
كانت والدتها تنظر إليها بغضب و سألتها و تعابير وجهها زادت من خوف ابنتها:
"مين معاذ اللي كنتِ بتكلميه في التليفون و بتقولي له بحبك يا ريتاچ هانم؟".
ابتلعت الأخري الغصة التي علقت في حلقها لكي تجيب بخوف:
"ده، ده زميلي في المدرسة".
صاحت الأخري بغضبِ:
"و زميلك اللي في المدرسة بيتصل بيكِ و بتقولي له بحبك!".
نظرت إليها الصغيرة بتوسل:
"يا ماما عشان خاطري وطي صوتك".
حدقت إليها بسخرية و سألتها:
"عايزاني أوطي صوتي، خايفة لطه يسمع!، ما هو بسبب دلعه ليكِ و كل ما تغلطي يحوشني عنك، و أخرتها أهو بقيتِ صايعة و بتكلمي ولد و بكل قلة أدب، بحبك يا معاذ، ده أنتِ لسه ١٢ سنة أومال لما توصلي لسن الجامعة هتتجوزي من ورايا!".
و في الغرفة المجاورة، يرتدي القميص و يغلق الأزرار من أسفل إلي أعلي، تناول زجاجة العطر و أخذ ينثر منها علي قميصه، فوجد صغيره يقف بجواره و يفعل مثله، نظر إليه مبتسماً و أخبره:
"بكرة تكبر و هاتبقي أحسن مني".
وصل إلي سمعه صياح زوجته و بكاء و صراخات ابنتها، ركض علي الفور ليري ما يحدث، دلف إلي الغرفة وجد شيماء تمسك بنعلها البلاستيكي الذي ترتديه داخل المنزل و تهبط به ابنتها التي تصرخ و تستغيث:
"و الله يا ماما ما في حاجة، يا عمو طه ألحقني".
جذب الأخر ما في يد زوجته و ألقي به علي الأرض و جذب من يدها ابنتها و احتضنها ليحميها من غضب والدتها ثم قام بتوبيخها:
"إيه يا مجنونة اللي بتعمليه في بنتك ده!"
"شوفت أخر دلعك ليها، ياما قولت لك البنت مش عايزة التسيب و الدلع و لازم تكون حازم معاها، تقعد تتخانق معايا و تزعقلي".
صاحت بتلك الكلمات، فأجاب الأخر:
"جري إيه يا شيماء، بنتك لسه عيلة صغيرة و العقاب عمره ما كان بالضرب، و بعدين هي غلطت و لا عملت إيه عشان تضربيها بالغباء ده!".
نظرت إليها ابنتها برجاء و توسل هذا لأنها تشعر بخجل شديد أن يعلم زوج والدتها بهذا الأمر المحرج للغاية
لم تكترث إلي توسلها و ألقت به في عرض الحائط لتخبر زوجها:
"الهانم مقصوفة الرقبة، دخلت عليها لاقيتها عمال تتكلم مع زميلها و بتقوله بحبك".
"و لو اللي سمعتيه ده صح، هل يديكِ الحق تضربيها بالشبشب و تكلميها بأسلوب زفت؟".
صاح موبخاً إياها مما سبر أغوارها و تفوهت بغضبٍ و بحديث أحمق:
"يعني هي لو بنتك من صُلبك، لو سمعتها بتقول بحبك لولد هاتاخدها في حضنك و تطبطب عليها زي ما أنت عامل معاها دلوقت، فاكر اللي كنت بتعمله في خديجة أختك زمان، لما دخلنا أنا و عبدالله نحوشها من تحت إيديك و أنت بتقطع جسمها بالحزام و لا نسيت!".
لم تدرك فداحة ما تفوهت به سوي عندما حدق إليها بنظرة جعلتها تشعر بالندم الشديد، قال إليها:
"أولاً ريتاچ ربنا يعلم بعتبرها بنتي و لو كان ربنا رزقني ببنت مكنتش هحبها قد ما حبيتها، يعني لو هي كانت بنتي من صلبي كنت برضو هاخدها في حضني و هاطبطب عليها و هاقعد معاها اسمعها و هافهمها الصح من الغلط، بالنسبة للي كنت بعمله زمان مع أختي كان غلط و غباء مني و لو رجع بيا الزمن مكنتش هاعمل كدة".
قالها و ربت علي الفتاة، قام بتقبيل رأسها و همَ بالذهاب، و قبل أن يغادر الغرفة أردف:
"هي بنت عبدالله بالإسم لكن أنا أبوها، اللي رباها و بتكبر كل يوم قدام عينيه لحد ما هاتبقي عروسة و أسلمها لجوزها، شكراً إنك بتفكريني بحاجة أنا عارفها كويس أوي".
ألقي كلماته و غادر أمام عينيها و هي تقف تشعر بالعجز و الندم علي ما تفوهت به، و عندما تمكنت من التحدث ذهبت خلفه تناديه:
"طه، يا طه".
رأته قد خرج من غرفة النوم يمسك بمتعلقاته متجهاً إلي باب المنزل قام بفتحه، لحقت به و أمسكت ذراعه، أوقفته قائلة:
"أنا آسفة، حقك عليا و الله ما كنت أقصد أي حاجة، أنت عارفني لما بقلب ما ببقاش شايفة قدامي خصوصاً لما بشوف ولادي في خطر".
"بدل ما تعتذري لي روحي خدي بنتك في حضنك، صحبيها و اسمعي لها، كوني معاها و ليها مش عليها، عن إذنك عشان أنا أتأخرت".
جذب ذراعه و ولي إليها ظهره و ذهب بعد أن أغلق الباب خلفه، أتجه إلي المصعد و كان ذهنه منشغلاً لم ينتبه إلي التي تسير عكس اتجاهه فأصطدم بها رغماً عنه بقوة أدت إلي وقوع هاتفها علي الأرض، شهقت بقلق:
"الفون!".
ألتفت إليها معتذراً:
"معلش حضرتك مكنش قصدي".
دنت من الهاتف و أخذته فوجدت كسر في منتصف الشاشة و الهاتف لا يعمل، لاحظ هذا أيضاً فأردف:
"ممكن تيجي معايا لأقرب مركز صيانة موبايلات و هصلحه لحضرتك".
رفعت وجهها إليه و أخبرته بصوتها الناعم:
"Never mind, thank you".
رأي أمامه إمرأة ثلاثينية ذات جمال يخطف العين و يأسر الألباب، مظهرها الأنيق للغاية يجعلك تظن إنها ممثلة أو مغنية أو تعمل عارضة أزياء.
تنحنح قائلاً:
"معلش أنا اللي غلطان و خبطت فيكِ من غير ما أخد بالي من الطريق".
ابتسمت إليه و يا ليتها ما فعلت ذلك، فالبسمة زادت من جمالها الفتان و أجابت:
"أنا كدة كدة هاشتري واحد جديد".
"خلاص يبقي التليفون الجديد أنا هاجيبه لحضرتك، أستأذنك بس ممكن تستني هنا لحد ما هاروح بالعربية و راجع".
"قولت لحضرتك مفيش داعي، و بعدين أنا أصلاً ساكنة هنا".
ابتسم و سألها:
"بجد!، إحنا طلعنا جيران بقي".
أومأت إليه و أجابت:
"اه، أنا ساكنة في الشقة دي".
و أشارت إليه نحو المنزل المقابل إلي منزله، فأخبرها:
"أنا بقي ساكن في الشقة اللي قصادك، أتشرفت بحضرتك".
" thank you".
ألقي نظرة علي ساعة شاشة هاتفه و قال:
"معلش أنا مضطر أمشي عشان متأخر علي شغلي".
أومأت إليه بإبتسامة:
"اتفضل".
فتح باب المصعد و ولج إلي الداخل، أغلق الباب ثم أطلق زفرة و تناول محرمة من جيب بنطاله ليجفف بها عرق جبهته، أخذ يردد الإستغفار.
༺༻
داخل السيارة يجلسن الثلاثة في المقعد الخلفي، تلهو الصغيرتين علي اللوح الألكتروني، و بجوارهما والدتهما التي تراسل هذا المحتال الذي سألها في رسالة نصية:
«أنا في الكافتريا، أنتِ فين؟»
ضغطت ملك علي علامة تسجيل الصوت و أجابت:
«خلاص خمس دقايق و هانبقي قدام النادي، هادخل البنات جوة و هاجي لك».
و في الناحية الأخري، يقود سيارته و ذهنه منشغلاً بها، وبخ نفسه بعد أن قام برفض مكالمتها، ابتسم و هو يتذكر الحوار الذي حدث بينهما داخل المرحاض و كيف كانت عنيدة و تغضب مثل الأطفال، وضع السماعة اللاسلكية في أذنه ليتصل بها لكن توقف و يفكر قليلاً، خلع السماعة، وجد من الأفضل أن يجلب لها هدية، اتسعت ابتسامته و قام بتغير اتجاه طريقه إلي الطريق الآخر الذي يؤدي إلي النادي!
و بالعودة إلي ملك و الصغيرتين، صف السائق السيارة في ساحة الإنتظار بجوار البوابة و بعد أن ترجل الثلاثة ولجوا إلي داخل النادي، و بعد أن اطمئنت علي صغيرتيها تركتهما لدي مدرب السباحة و ذهبت لكي لا تتأخر علي السيدة التي تنتظرها، هكذا تظن إنه كذلك!
و في داخل الكافتريا، يقف أمام وجهة زجاجية يرى انعكاسه و بجواره شاب يبدو إنه صديقاً له يسأله:
"أنت متأكد من الحوار ده يا زيكو و لا هيطلع زي المرة اللي فاتت و ربك سترها معانا و نفدنا بأعجوبة من إيد جوز الست اللي كنت بتهددها".
أجاب الأخر و يرتدي نظارة شمسية في آن واحد:
"لاء خالص، ده فرق كبير ما بين الوليه الحرباية الأولي و القشطة اللي بالعسل اللي جاية دلوقت، حتي اسمها زي شكلها ملك"
عقب صديقه و القلق يساوره:
"و الله شكلك هتودينا في داهية المرة دي، علي الكلام اللي حكيتيه لي إنها بنت ناس و جوزها رجل أعمال و عيلتها معروفة في البلد، يعني لو أتقفشت منهم مش بعيد يخلصوا".
ألتفت إليه و وضع يده علي كتفه، ابتسم بخبث قائلاً:
"ياض يا عبيط ما هو ده أحسن حاجة، البت شكلها هبلة و علي نيتها و اللي فهمته من الدردشة اللي بيني و بينها إنها بتخاف من جوزها أوي، و هي دي نقطة الضعف اللي همسكها منها و...
توقف عن التحدث عندما رأي تلك القادمة و تبحث عن سلمي التي تظنه هي، ربت علي كتفه و قال:
"أهي جت أهي، زي ما أتفقنا بقي، أول ما تيجي اللقطة المناسبة تقوم هوب مصور"
أومأ إليه الأخر:
"تمام يا صاحبي و ربنا يستر"
ظلت تنظر من حولها تبحث في وجوه الجالسين حول الطاولات حتي اصطدمت به، تراجعت خطوة و رفعت يدها دون أن تنظر إليه:
"بعتذر لحضرتك ما أخدتش بالي".
رمق إليها مبتسماً و عينيه من خلف النظارة تحدقها بنظرة ذئب وقعت فريسته بين يديه:
"و لا يهمك يا ملك"
بعد أن همت بالذهاب توقفت و هنا نظرت إليه لكي تسأله بتوتر:
"حضرتك تعرفني؟"
اتسعت ابتسامته من الأذن إلي الأذن الأخري، يلقي فوق رأسها الخبر الصادم:
"اه طبعاً أعرفك، و هل يخفي القمر، محسوبك زيكو، قصدي مدام سلمي محمد و علي الفيس بوك حبيبة زوجي".
برودة داهمت جميع أطرافها، و كل ما حولها يدور بدون توقف، حاولت أن تتماسك و ابتلعت لعابها، و بصوت خرج بصعوبة بالغة سألته ببلاهه أو هكذا تتمني:
"حضرتك جوز مدام سلمي تقصد؟".
حك ذقنه الحليق و أخبرها:
"أنا عاذرك بصراحة، أصل الصدمة تقيلة، بس عايزك تجمدي عشان اللي جاي عايز أعصاب من حديد، ما تفهمي يا مزة، أنا اللي كنت بكلمك من صفحة حبيبة زوجي و قولت لك اسمي سلمي محمد، ٣٠ سنة، استني كده عشان تتأكدي".
أخرج هاتفه من جيب بنطاله و بزاوية نظر إلي صديقه الذي أخذ يلتقط لهما صور و من يراها يظن إنهما في موعد غرامي، رفع شاشة الهاتف أمام عينيها:
"مش ده كلامك يا ملوكة معايا؟، و ده كمان الفويس اللي بعتيه ليا و أنتِ جاية في الطريق!".
و قام بتشغيل المقطع الصوتي و كان هو بالفعل الذي أرسلته، كادت تتعثر و تقع، أمسك ذراعها و بقلق زائف قال إليها:
"تعالي نقعد علي التربيزة اللي هناك دي بدل ما الناس تتفرج علينا و تتفضحي".
جذبت ذراعها من يده بقوة واهنة و تحدقه بازدراء:
"ابعد ايدك عني، و أنا اللي هافضحك و هاتصلك بالبوليس دلوقتي يا كداب يا نصاب".
رفع النظارة فوق رأسه و ظهرت إليها ملامح وجهه كاملة، شاب في منتصف الثلاثينات و عينيه تنضح بالشر و ملامحه و نظراته كالصياد المحترف الذي يحيك نصب شباكه و الفخاخ حتي تقع داخلهم الفريسة بكل سهولة و يسر ثم يأتي هو و يفترسها كما يشاء.
"قبل ما هاتفضحني هاتفضحي نفسك، كل الدردشة اللي ما بينا و فويساتك ليها كذا نسخة و مش بس كدة".
رفع زاوية ثغره بسخرية و أردف:
"كل اللي علي موبايلك من صور ليكِ سواء بحجاب من غير حجاب، حتي صورتك بالبكيني اللي هياكل منك حتة كل دول معايا منهم نسخ مش نسخة، ها تحبي أذيع و أنشر لك الصور دي و أخلي فضيحتك بجلاجل؟".
استندت علي الحائط لا تشعر بالزمان أو المكان، أصاب الخدر ساقيها حتي أصبحا كالهلام، قام بإستغلال حالة ضعفها تلك و أمسك بيدها ليجبرها علي الجلوس حول الطاولة و ما كان لها من حول و لا قوة، جلست علي الكرسي
"أيوه اقعدي بقي عشان نتفاهم علي كل حاجة ".
حاولت أن تستجمع قواها الواهنة و سألته:
"أنت عايز مني إيه و تديني الحاجة اللي معاك و ما أشوفش وشك تاني خالص و أول حاجة هاعملها ليك من دلوقت بلوك".
كان قد قرأ في عينيها الخوف الذي أسعده كثيراً حيث سيجعله يحقق غايته دون عناء
"بلوك!، ده أنتِ ما طلعتيش غلبانة و بس، غبية كمان".
أثار غضبها فقالت من بين أسنانها:
"لم لسانك أحسن لك إلا و الله...
"ها هاتعملي إيه!، ده أنتِ روحك في إيدي، عايزك تتخيلي مصعب جوزك لما يشوف الحاجات اللي معايا و أسرار حياتكم اللي بقيت حافظها كأني عايش معاكم".
صدمة أخري لا تقل قوة عن الأولي، ابتلعت غصة شديدة المرارة ثم سألته بصوت كاد يكون مسموعاً:
"عايز كام؟"
وضع ساقاً فوق الأخري و أجاب:
"بالنسبة للفلوس أمرها سهل خالص، يعني حتة شيك كدة محترم تكتبي فيه عشر أرانب".
"أنت أتجننت!".
صاحت بها مما جعل من حولهما يلتفتون إليهما:
"وطي صوتك الجميل، الناس عمالة تبص علينا ".
أطلقت زفرة من أعماقها لعلها تخرج ما بداخلها، عقبت بصوت خافت:
"عشر مليون جنيه إيه اللي أنت عايزهم".
"يعني أنتِ عايزة تفهميني ملك البحيري بجلالة قدرها معندهاش رصيد في البنك ما يجيش حاجة جمب اللي طلبته"
ودت أن تقبض علي عنقه و تتخلص منه لا تعلم ما زال هناك حديث حيث أردف قائلاً:
"خدي بالك أنا مش عايز فلوس و بس".
سألته و داخلها كم من الغضب كالنيران تريد حرقه حياً:
"أومال عايز إيه تاني؟".
أخبرها بثقة بالغة و بكل سفه و انحطاط:
"عايزك أنتِ، هي ليلة واحدة و أوعدك مش هاتشوفي خلقتي بعدها".
هدوء قاتل قاطعه صوت لطمة قوية هبطت من كفها علي خده:
"القلم ده عشان طلبك القذر زيك، و بالنسبة للحاجة اللي معاك هقدم فيك بلاغ لمباحث الإنترنت إنك هكرت موبايلي، و اللي عندك أعمله".
أنهت حديثها الشجاع غرار ما بداخلها من خوف و رعب أن يعلم زوجها بشئ، بصقت في وجهه ثم أطلقت ساقيها للريح
قام بمسح لعابها من علي وجهه بتقزز و قال بوعيد:
"و رحمة أمي لهدفعك تمن القلم و الحركة اللي عملتيها دي غالي أوي".
كانت لا تري أمامها و هي تسرع خطواتها دون أن تشعر بقدميها، ضحكات هذا الشاب الوغد تتردد في سمعها و نظرات عينيه المليئة بالتهديد و الوعيد كافية أن تجعلها تتمني الموت و ألا تعيش في ذلك العذاب، فأكبر مخاوفها هو أن زوجها يعلم بكل هذا، تخشي ردة فعله و التي لديها يقين سوف يلقنها عقاباً قاسياً لن تنساه أبداً.
و إذا هي في وسط كل ذلك تجد من يجذبها من يدها، رفعت عينيها لتجد أخر ما تتمني أن تراه في تلك اللحظة، و بصوت قاتل للخروج من شفتيها بعد أن أصاب الخدر لسانها:
"مصعب!"
لم تكن قادرة علي استيعاب ما يحدث لها، نظرت إلي عينيه المليئة بالقلق و بداخلها عدة أسئلة، شفتيه تتحرك لكن لا تسمع سوي طنين جعلها تنفصل عن ما حولها، خارت قواها فأستسلمت و وقعت بين يديه بعد أن فقدت وعيها.
༺༻
صوت الأمواج و رائحة البحر مع صوت الأغاني و ضحكات الأطفال الذين يلهون علي الشاطئ، و أسفل المظلة يتمدد علي ظهره مُرتدياً ثياب البحر و نظارة شمسية سوداء، و في المقعد الموازي إليه تجلس هي و تعد أطباق داخلها شطائر و قطع فواكه متنوعة، سألته قبل أن تعطي إليه الطعام:
"دومي هتاكل؟".
لم يكن يسمعها بسبب السماعات اللاسلكية في أذنيه و يستمع إلي الأغاني، نهضت و قامت بخلع السماعات فنظر إليها منزعجاً:
"طيب ليه الرخامة دي؟".
لكزته في صدره بخفة قائلة:
"الحق عليا عماله أحضرلك في ساندوتشات و فاكهة و أنت نايم لي علي الشيزلونج زي الباشا عمال تسمع في أغاني و عايش مع نفسك، و ابنك مش عايز يطلع من الميه، و...
قاطعها ضاحكاً:
"خلاص، خلاص فيه إيه يا ديجا، أنتِ أصلاً تاعبة نفسك ليه يا حبيبتي، قولت لك هانروح نتغدي في الـ restaurant، و أنتِ برضو صممتي تتعبي نفسك و تحضري في ساندوتشات، غاوية تعب يعني!".
تنظر إليه بإمتعاض و تخبره:
"لاء أنا بحب أعملكم الأكل من إيدي أنضف و أحسن".
نهض و جلس ثم أمسك يديها قائلاً:
"يا روح قلبي، إحنا جايين نستجم يعني تقعدي ترتاحي و الحاجة تيجي لحد عندك "
بينما كانا يتحدثان خرج الصغير من المياه و يلهو بـ كرة بلاستيكية، ركلها بقوة حتي اصطدمت في وجه هذه السيدة التي تتمدد علي المقعد بأريحية، ترتدي ثياب البحر العارية و نظارة شمسية وقعت عندما قُذفت الكرة في وجهها، صاحت بغضبٍ و تمسك بها، رأت يوسف الصغير و ينظر إليها بتوتر و خوف، نهضت متجهة إليه فركض نحو والديه
لاحظت خديجة علامات الخوف علي وجهه فسألته:
"فيه إيه مالك حد ضايقك؟".
لم يرد لكنه انتفض بفزع عندما رأي تلك القادمة و تمسك بالكرة خاصته، تصيح بغضب:
"ينفع اللي ابنكم عملوا، يحدف الكورة و جت في وشي و كسرت نضارتي".
نظرت الأخري من خلف نظارتها الشمسية التي تخفي نصف وجهها إلي الكرة ثم إلي صغيرها بإمتعاض جلي، عادت ببصرها إلي تلك السيدة ذات الوجه المألوف لديها
"معلش حقك عليا، ده طفل و بالتأكيد مكنش يقصد، و النضارة إحنا نجيب لك واحدة بدالها ".
ردت الأخري بكبر و تعجرف:
"واحدة بدالها إزاي، اللي كسرهالي ابنك دي براند من سويسرا و ما بتتباعش هنا في مصر ".
أطلقت خديجة زفرة و صبرها علي وشك أن ينفذ، ابتسمت إليها ببسمة زائفة و أخبرتها:
"شوفي تمنها كام حضرتك و باباه هيدفعه لك حالاً".
و ألتفت إلي آدم الذي كان يغمض عينيه و مازال يستمع إلي الأغاني عبر السماعات اللاسلكية، ربتت علي ذراعه، انتبه و يزفر بضيق:
"في إيه يا خديجـ...
قاطعته قائلة:
"شوف الأستاذة عايزة إيه".
و أشارت إليه نحو الأخري، و حين نظر إليها خلع نظارته و حدقها بتعجب يسألها:
"روفان؟".
دققت النظر في ملامحه و سرعان اتسعت شفتيها بإبتسامة عارمة، فسألته قاطعة الشك باليقين:
"آدم البحيري؟".
هز رأسه بالإيجاب:
"أه، أنا"
مدت يدها و بسعادة بالغة تصافحه:
"How are you? ".
أجاب و يبادلها المصافحة:
" i'm fine, and you?".
كانت خديجة تشاهد و تسمع حوارهما بنظرة ساخرة لاحظها آدم الذي تنحنح و أخبرها:
"دي طلعت روڤان بنت uncle نشأت الميهي يا خديجة فاكراها، اللي حاضرنا عيد ميلادها".
جالت الأخري ببصرها من أعلي إلي أسفل إليها بازدراء و هذا لما ترتديه من ثياب البحر الكاشفة عن معظم جسدها دون حياء، عقبت علي حديث زوجها:
"أيوة فاكرها طبعاً و فاكرة لما أنت جيبت لها هدية عيد ميلادها كتاب عذاب القبر و معجبهاش".
حدقتها الأخري بإبتسامة صفراء و قالت إليها من بين أسنانها:
" so funny ".
كتم آدم ضحكاته لأنه يعلم ما تمر به زوجته الآن من اندلاع نيران الغيرة، بينما هي أجابت علي الأخري بتهكم:
"لاء ما هو فعلاً الكتاب مش مناسب للي أنا شايفاه دلوقتي".
عقدت روفان ما بين حاجبيها و سألتها:
"تقصدي إيه بكلامك؟".
نظرت إلي زوجها ببسمة ماكرة ثم حدقت إلي الأخري و أجابت:
"يعني زمان كنتِ محتاجة الكتاب ده يمكن تتعلمي منه و تاخدي منه عظة، لكن دلوقت أنتِ محتاجة كتاب أهوال يوم القيامة".
هنا لم يستطع زوجها أن يكتم ضحكاته أكثر من ذلك، فأطلقها للعنان مما جعل روفان تكاد تنفجر من الغيظ، و هذا يتضح علي وجهها المحتقن بالدماء، ألقت الكرة عليه و عادت إلي مكانها و تهذي بكلمات غير مسموعة.
"أقسم بالله يا خديجة أنتِ ملكيش حل، البت كانت هتتحرق و هي واقفة قدمنا".
قالها من بين ضحكاته إليها، فأجابت:
"أحسن، أهي نار الدنيا أرحم من نار الأخرة".
"بس بقي بطني وجعتني من كتر الضحك".
مازال مستمراً في الضحك، بادلته الأخري و أخبرته من بين قهقهاتها:
"ما هي اللي بني آدمة مستفزة، أول ما جت بتشتكي من يوسف حدفها بالكورة و اتكسرت نضارتها، عمالة اقولها هاجيب لك واحدة بدالها قامت ردت من طرف مناخيرها، دي براند و مش موجودة منها في مصر".
كانت تقلد الأخري في أخر جملة، مما جعلته غير قادر أن يتوقف عن الضحك، ألتفت إلي صغيرها الذي كان يتابع ما يحدث في صمت و قالت إليه:
"يوسف لما تيجي تلعب تبقي تاخد بالك لتأذي حد أو تخبطه، ماشي يا حبيبي؟".
أومأ إليها قائلاً:
"أوك مامي".
نهضت و أمسكت بيده:
"تعالي نروح نغسل إيدينا و نرجع عشان ناكل".
فقال إليها زوجها بعدما توقف عن الضحك. بصعوبة:
"ما تتأخروش عشان أنا جعان أوي".
ذهبت خديجة و تمسك بيدها يد صغيرها، تعمدت السير من أمام روفان التي أشاحت وجهها إلي الجانب الأخر لتتمكن من النظر إلي آدم الذي عاد إلي التمدد مرة أخري، و برغم ما تشعر به من حنق و غضب نحو زوجته، لكن هذا تلاشي بمجرد رؤيته، لقد ازداد وسامة و جذابية أكثر و جسده محتفظاً بلياقته البدنية، تدور في ذهنها آلاف الأفكار و تنضح من عينيها نظرة تخفي نواياها الخبيثة التي تنتهي بمقولة ما ضاع في الأمس يمكن استرداده اليوم!
༺༻
لم يعد لديه طاقة لتحمل المزيد من ألم الوحدة و يزيد فوقها ألم قلبه الذي أحترق و أصبح رماداً في مهب الريح منذ أن رأي صورة زوجته الأولي بين أحضان أخر غير مكترثة إلي زواجهما، شعر كم كان غبياً و أحمق، كيف قد نسي ما حدث في الماضي لتأتي ذاكرته إليه بمشهد و كأنه حدث في الأمس...
«مشهد من الجزء الثاني عهد الذئاب»
"أجل إني أحبه و أنت تعلم ذلك جيداً"
صرخت بها، فأقترب منها كالمجنون و قبض علي خصلاتها:
"لكن لا أعلم إنك خائنة بل و عاهرة"
صرخت بألم و هي تحاول أن تبعد يده عن خصلاتها:
" اه، أتركني أيها الأحمق، أنت تؤلمني"
"ألمك هذا نقطة ضئيلة في بحر آلامي عندما أري صورته بداخل عينيك كلما أقترب منك"
صاحت بألم و سألته:
"و لما تزوجتني و أنت تعلم إنه من في قلبي!"
ترك خصلاتها و أبتعد لينظر من النافذة قائلاً:
"كنت أظن إني سأجعلك تشعرين بقلبي و تحبيني كما أحبك".
أجابت بسخرية:
"أحمق و ساذج، لو كان قلبي ملكي لما خنت كلاوس و أخبرت سيدك بما سيفعله به و أعلم ما سوف يحدث لي، كنت لم أهرب و أنا علي دراية إن أمسك بي، فالموت يصبح مصيري المحتوم".
ألتفت نحوها و بخطي سريعة حتي أصبح أمامها مباشرة:
"اللعنة عليك و علي قلبي الذليل".
أقتربت بشفتيها من أذنه و قالت:
"إذاً أتركني و شأني"
رفع فمه جانباً ببسمة ساخرة:
"لا حبيبتي لن أتركك و هذا ليس بسبب حبي لك، بل لأن أريدك أن تتذوقي المعني الحقيقي للعذاب"
ضحكت بسخرية مماثله و بنبرة استفزازية:
"عذاب!، أتعلم ما هو العذاب الحقيقي لدي، هو عندما أشتاق إليه هو و أجد نفسي بين ذراعيك أنت"
كانت كلماتها بمثابة الريح التي هبت علي جمر خامد لتزيده اشتعالاً فأندلعت نيرانه،
أمسك يديها و دفعها إلي الحائط فتأوهت و سألته بتوجس:
"ماذا تفعل كنان؟"
رمقها بنظرات تخلو من الحياة، لم يمهلها أن تدرك ما سيفعله بها، فأجاب:
"سوف أجعلك تشتاقين إليه حقاً"
قالها بصوت مرعب جعلها انتفضت بوجل، حاولت التملص منه لكن يحاوطها بجسده و أنقض عليها مثل ليث جائع لم يترك إليها مجال للتنفس، أخرج كل غضبه المكبوت بداخله في كل لمسه و قبلة، شعرت بشفتيها و هي تسحق و أنامله التي يغرزها في خصرها تقسم إنها كادت تخترق جلدها، كلما تصرخ يكمم فمها بقبلة دامية، مزق ثيابها بوحشية لم يرحم توسلاتها، و ألقي بها علي المضجع بكل قوة حتي تحطمت ألواح الخشب أسفل الفراش، لم يتركها حتي أنهكت قواها و بدي علي ملامحها التعب الشديد، نهض من فوقها و هو يلتقط ثيابه و رمقها بإزدراء قائلاً:
"من الآن و صاعداً سأتعامل معك كعاهرة لأنك لا تستحقين سوي ذلك"
༺༻
يصدح رنين الجرس في أرجاء المنزل، كانت الجدة تجلس علي الكرسي داخل غرفتها تصلي، أدت التحية و أنتهت ثم صاحت منادية:
"يا ولاد حد يشوف مين اللي علي الباب".
ركض كلا من قصي الصغير و شقيقه الأوسط يزيد، يتسابقا نحو الباب
"أنا اللي هافتح".
دفعه الأخر يصيح بإصرار:
"أوعي أنا اللي هافتح".
توقف كليهما قبل أن يقتربا من الباب عندما صاحت والدتهما:
"اللي هاشوفه هيجي جمب الباب هعلقه، أدخلوا جوة يلا و أقفلوا علي نفسكم الباب".
نفذ الصغيرين أمرها، بينما هي كانت ترتدي عباءة محتشمة و تغطي رأسها بوشاح مزركش، صاحت إلي الطارق:
"حاضر ياللي بتخبط".
قامت بفتح الباب و دون أي توقع لديها وجدته يقف بملامح باردة كالعادة، تظن إنه قد أتي نادماً و سوف يعتذر لكن ليس بجديد عليه أن يفاجئها، ألقي عليها أمره و كأنه لم يحدث أي شئ:
"أدخلي غيري هدومك و هاتي الأولاد و أنا هستناكم تحت عقبال ما تخلصوا و هاطلع أخدكم".
"مين يا دنيا؟".
سألتها الجدة من غرفتها فأجابت الأخري بصوت جهوري:
"واحد جاي علي عنوان غلط يا تيتا".
عقب الأخر بإبتسامة لم تصل إلي عينيه:
"يلا يا دنيا، أنا مش هعيد كلامي تاني".
يا له من وغد لعين، بعدما جعلها تبكي بدل الدموع دماء و يأتي إليها بعد هذا، يطلب منها العودة إليه!
"هو أنت مصدق نفسك بجد!، ده أنت حتي ياريتك جاي ندمان أو حتي حاسس بالذنب من اللي عيشتيني فيه طول السنين اللي فاتت".
لم يرف إليه هدب واحد، بل جز علي أسنانه و أخبرها:
"لينا بيت نتكلم فيه براحتنا، من غير ما نزعج حد و لا حد يزعجنا".
أدركت إنه يقصد جدتها، شعرت بالحنق الشديد حيال ذلك فقالت:
"هو أنت بتستعبط و لا عامل نفسك عبيط!، أنا مش راجعة لك، و خد بقي دي كمان أنا عايزة أتطلق لأن أنا خلاص ما أقدرش أعيش مع واحد أناني و خاين و كداب".
عقب بغضب:
"أنا ما خنتكيش يا دنيا، و اللي شوفتيه مجرد ذكريات محتفظ بيها، هاتغيري من حبة صور و شوية حاجات ملهاش لازمة!".
إنه بالفعل مع كل كلمة تصدر من فمه يزيدها ألماً و قهراً، فأجابت و تحاول أن تتمثل الهدوء أمامه:
"لاء خونتني، مش شرط تكون الخيانة بالمعني اللي أنت فاهمه، الخيانة هنا خيانة مشاعر، و قلب كان بيحبك إخلاص و أنت عايش علي حب واحدة ما طقتش العيشة معاك و هربت منك، تصدق بالله أنا مش متضايقة و لاغيرانة منها، بالعكس ده أنا بقول يا بختها ربنا نجدها منك".
كلماتها كانت كفيلة بإضرام نيران قلبه التي يحاول إخمادها منذ أن رأي صورة زوجته الأولي مع من يعلن إنها عشقيته.
༺༻
أطلقت كارين شهقة بصدمة ثم قالت:
"يخرب عقلك يا صبا، إزاي خطر في بالك أصلاً أنك تعملي كدة!، ده أنتِ أحمدي ربنا إنه معملش فيكِ زي أيام زمان".
عقبت الأخري من بين بكائها:
"ياريته كان عمل كدة بس علي الأقل يتكلم معايا، بقولك مقاطعني و مش عايز يسمعني خالص، و لو لاقاني في مكان ما يطقش وجودي و ينزل في أوضة مكتبه و يفضل حابس نفسه فيها لحد ما ينام".
جذبتها الأخري و أخذت تربت عليها بمواساة قائلة:
"معلش يا حبيبتي، بإذن الله هيهدي و هيجي يكلمك، أسأليني أنا برغم قساوته بس هو حنين أوي، هو ممكن حب يعاقبك بالخصام عشان عارف إنك ما بتقدريش تستحملي زعله منك".
رفعت رأسها و نظرت إليها حائرة:
"شوري عليا يا كارين، قولي لي أعمل إيه عشان يسامحني".
فكرت قليلاً ثم سألتها:
"جربتي تكتبي له رسالة بدل ما هو مش عاوز يسمع لك؟".
هزت رأسها بالنفي و أجابت:
"لاء، ما كتبتش قبل كدة ليه أي رسالة".
"طب جربي، أكتبِ له كدة كل اللي عايزة تقوليه و صدقيني هتلاقيه بيتصل بيكِ علي طول و لا ما أتصلش لما هيرجع من الشركة هينادي لك عشان أكلمك".
صدح رنين رسالة واردة، ألتفت كلتيهما إلي الهاتف، أخذته صبا لتري محتوي الرسالة، و ما أن رأت الإشعار بأن المرسل إليها زوجها، صاحت بسعادة من بين عبراتها:
"ألحقى دي رسالة منه".
التصقت بجوارها و أخبرتها بفرح:
"شوفتي بقي، مش قولت لك هو حنين و مش هيستحمل، إفتحيها بقي و شوفي بعت لك إيه ".
قامت بالضغط علي الإشعار، فأنفتح لها الدردشة الخاصة بينها و بينه، و بدأت تقرأ الرسالة بقلبها قبل عينيها، تسمع صوته داخل أذنها:
"جهزي نفسك عشان السواق هياخدك علي الساعة ٦، هاكون في إنتظارك علي أحر من الجمر"
و أسفل النص أرسل رموز تعبيرية لقلوب حمراء و أزهار وردية
"أيوة بقي الله يسهلو، شكله عازمك علي عشا رومانسي".
استدارت بزاوية لتحدقها و القلق ينضح من عينيها تسألها:
"تفتكري!، أومال ليه أنا قلبي مقبوض و مش مرتاحة؟".
أشارت الأخري إليه نحو شاشة الهاتف قائلة:
"فين اللي مش مريحك في الرسالة، الراجل بعت لك إنك تجهزي نفسك عشان السواق هياخدك لمكان هو منتظرك فيه، و تحت الرسالة قلوب و ورد، مش لغز محير و لا حاجة، واضحة زي الشمس، هو عازمك علي العشا هتلاقيه محرج يتكلم معاكِ هنا، عشان أنا قاعدة معاكم بالإجبار، منه لله ابن خالك هو السبب في اللي أنا فيه".
كان قلبها يخبرها بأن هناك خطب ما، فهي تعلم صفاته جيداً، إن هدوئه منذ أن علم بخدعتها كالهدوء الذي يسبق العاصفة و سوف يجعلها تندم على فعلتها طوال عمرها.
تنهدت و قالت:
"برضو أنتِ مش فهماني، أنتِ لو شوفتي منظره كل ما أجي أتكلم معاه هتقولي إستحالة إنه هيسامحني، أكبر عيب في قصي يا كارين إنه مش بيسامح و لو حد غلط في حقه، مش بيسيبه غير لما بينتقم منه أشد إنتقام و يخليه يندم علي غلطته دي طول حياته".
"أنا معاكِ و عارفة عيبه ده، بس تفائلي خير، مش يمكن طبعه ده أتغير زي ما أتغيرت فيه حاجات كتير، و البركة فيكِ يا قمر"
نظرت نحو الفراغ و عقبت:
"ربنا يستر".
لكزتها الأخري بكتفها و قالت:
"أنتِ لسه واقفة عندك، قومي جهزي نفسك يلا الساعة خمسة، قدامك ساعة بس".
ابتسمت و كأن الحياة قد عادت إليها بعد الموت، و بعد قليل تقف أمام المرآة مرتدية ثوب أنيق يشبه ثوب حورية البحر، ذو لون زمردي يأسر العين، رفعت خصلاتها إلي أعلي علي هيئة كعكة بشكل أنيق و قامت بتمشيط غرة كثيفة علي جبهتها زادت من جمالها أضعافاً، تطلي شفتيها بالحمرة الداكنة، كما وضعت ظلال جفون أسود متدرج أظهر جمال عينيها الرمادية.
ولجت كارين إليها و سألتها:
"ها، جهزتي و لا لسه؟".
أجابت و تمسك بزجاجة العطر و أخذت تنثر الكثير منها:
"أنا خلصت، إيه رأيك؟".
استدارت إليها لتصيح الأخري بتهليل:
"ماشاء الله، مارلين مونرو يا أخواتي".
ضحكت علي هذا الإطراء و قالت:
"بس يا بكاشة".
"أنا مليش في جو المجاملات، أنتِ فعلاً زي القمر ماشاء الله، أراهنك أن قصي أول ما هايشوفك هياخدك علي اليخت بتاعه و تقضي honeymoon من أول و جديد".
غمزت بعينها مما جعلت الأخري لم تكف عن الضحك
و الآن هي في السيارة تجلس في المقعد الخلفي، تشاهد شوارع وسط العاصمة من خلف الزجاج و مياه نهر النيل و جمالها في الليل.
༺༻
و إذا به يجذب يديها و دفعها ليستطع أن يدلف ثم أغلق الباب بقدمه:
"أنا مش هحاسبك علي اللي أنتِ بتقوليه لأن ملتمس لك العذر، لكن أحب أعرفك أنا مش هطلقك، تجيب لي قصي تجيب لي الجن الأزرق، مش هعمل غير اللي أنا عايزه".
و لأول مرة تري هذا الوحش الذي يقف أمامها، شعرت بالخوف حقاً، فقالت بنبرة قد أوشكت علي البكاء:
"أنا فعلاً مش هجيب لك حد، بس القانون بيديني الحق أرفع عليك قضية طلاق أو خلع".
ضغط من قوة قبضتيه علي يديها و أخبرها محذراً إياها:
" أعمليها يا دنيا و يبقي أنتِ اللي خسرانة، الظاهر إنك ناسية أنا بشتغل إيه، أنا صاحب أكبر شركات للأمن و الحراسة، و علاقاتي و نفوذي كتير، و أقل حاجة بس ممكن أعملها و أخليكِ تلفي حوالين نفسك، أن أخد من الولاد و مش هاتشوفيهم و برضو مش هطلقك و هاتيجي لي بنفسك لحد عندي".
لم تتحمل ألم يديها و ألم قلبها من قساوة الذي باتت لم تعد تعرفه و كأنه أصبح شخص أخر، أجهشت بالبكاء:
"أنا إزاي كنت مخدوعة فيك أوي للدرجدي!، سنين و أنا عايشة معاك و مش عارفة حقيقتك و لا وشك التاني".
"وشي التاني ما بيظهرش غير للي بيقف قصادي، فبلاش تتحديني و تعملي أي حاجة تندمي عليها".
قالها ثم ترك يديها، ابتعدت عنه و أردف بأمر مرة أخري:
"خليكِ زي الشاطرة و اسمعي الكلام، هاتي شنطتك و الولاد و يلا".
"بنت ابني مش هتخطي برة عتبة باب الشقة، و لا هترجع لك".
كان قول الجدة التي خرجت من غرفتها للتو، يبدو إنها كانت تتابع الحوار منذ البداية
حدق إليها الأخر بغضب و أشار إليها بأصبعه محذراً:
"أنا بتكلم مع مراتي، فياريت تخليكِ في حالك أحسن".
دكت عصاها المعدنية في الأرض و قالت إليه:
"أخليني في حالي و أنت جاي في بيتي، عمال تزعق و تؤمر و تحرق دم حفيدتي و مبكيها، عايزني أقف ساكتة و أتفرج!".
خشيت دنيا أن يحتدم الحديث بينهما فأقتربت من جدتها و أخبرتها:
"حقك عليا أنا يا تيتا، معلش أدخلي جوة و هو خلاص هايمشي دلوقت".
صاح الأخر كالوحش الثائر:
"مش ماشي غير لما أخدك أنتِ و ولادي".
حدقت إليه الجدة بحدة ثم قالت إليه بحسم:
"جري إيه ياض مالك متفرعن كده ليه، أنت فاكر إن إحنا عشان ولايا و معناش راجل يقف لك، يبقي هاتعمل اللي أنت عايزه، أنا ست كبيرة اه في السن بس اللي يجرح دنيا بكلمة أكله بسناني، يعني إحمد ربنا أنك واقف علي رجلك".
كاد يقترب منها فوقفت دنيا بينهما، فصاح الأخر:
"أنا و الله لحد دلوقت مراعي إنك ست كبيرة في السن و ساكت".
تدخلت دنيا قائلة إليه بتوسل:
"أرجوك يا كنان أمشي دلوقت، و كفاية لحد كدة بقي".
صاحت جدتها:
"سبيه يوريني هايعمل معايا إيه".
ألتفت إليها الأخري:
"خلاص يا تيتا عشان خاطري".
أصبح وجهه محتقن بالدماء من فرط ما يشعر به من غضب، نظر إلي زوجته و سألها:
"لأخر مرة بقولك، هاتيجي معايا و لا لاء؟".
هزت رأسها و من بين دموعها أجابت:
"لاء يا كنان، مش جاية و أرجوك أمشي بقي".
نظرت إليه الجدة بإبتسامة نصر يشوبها الشماتة، أخبر حفيدتها بوعيد:
"تمام أوي، بس ياريت محدش فيكم يزعل من اللي هاعمله، و بفكرك يا دنيا، أنتِ بنفسك هتجي لي لحد عندي، خليكِ فاكرة الكلام ده كويس".
قالها و أتجه نحو الباب ثم فتحه بعنف و غادر،
لم تستطع أن تتمالك دموعها التي بالفعل تنساب علي خديها، لكن بكائها أزداد ليصبح نحيب، ركضت إلي غرفتها و أغلقت الباب.
༺༻
في أعلي اليخت تصدح الأغاني و يرددها بعض الحضور و هم يرقصون و يهللون، و آخرون يهنئون العروسين، فالعريس يرتدي حُلة قام بشرائها من إحدي دور الأزياء الإيطالية، أنيقة للغاية و كأنها صنعت خصيصاً إليه، و العروس ترتدي ثوب زفاف أبيض بدون أكمام مثل ثوب الأميرات في القرن الـ ١٩، تتجمع خصلاتها الذهبية في جديلة فرنسية و يعلو رأسها تاج من الألماس، جمالها يخطف العين.
تقف بجوار العريس مستندة علي ساعده بيدها و الأخري تمسك باقة أزهار بيضاء، يبدو علي ملامحها الحزن و القلق، تجرع النبيذ من الكأس التي في يده و سألها:
"زعلانة ليه عروسة؟".
طيف ابتسامة ارتسم علي ثغرها و أجابت:
"مفيش حاجة، و كفاية شرب، حضرتك شربت كتير النهاردة".
كاد يعقب علي حديثها التي زاد من إصراره علي معرفة الجواب و لا يبالي إلي النصيحة، حيث قاطعه إهتزاز هاتفه داخل جيب بنطاله، أجاب في التو:
"تمام، قولها مستنيها فوق، سلام".
أنهي المكالمة و دقات قلبه كانت تسبق خطواتها بعدما ترجلت من السيارة، أشار إلي المسئول عن تشغيل الأغاني، فتوقفت الأغاني و بدأت موسيقي رومانسية هادئة، جذب العروس من يدها و بيده الأخري من خصرها، همس بجوار أذنها قائلاً:
"المفروض في يوم زي ده تكوني مبسوطة و ابتسامتك ما تفارقش شفايفك".
رفعت وجهها و نظرت إلي عينيه و قالت:
"و أخر كل ده إيه؟، حضرتك ما أخدتش بالك من نظرات البنات بيبصوا لي بحقد و حتي زمايلي الرجالة قريت في عينهم جملة السكرتيرة اللي لعبت علي مديرها لحد ما خلته يتجوزها علي مراته، إحساس وحش أوي لما بتكون متهم أنك وحش و أنت مش كدة".
و في الأسفل كانت تري هؤلاء الموظفين و الموظفات، تعجبت من وجودهم، لما قام زوجها بدعوتهم في ميعاد المفترض أن يكون خاص بهما فقط، لكن باغتها القلق و الخوف عندما رأتها إحداهن و أشاحت و جهها إلي أخري و كأنها تخبرها بشئ و تضحك بسخرية.
بحثت بعينيها لم تجده، و انتبهت إلي الموسيقي التي تعشقها و تذكرها عندما كانت تتراقص عليها معه و بين يديه يعلو رويداً رويداً كلما تخطو درجة من السلم حتي وصلت، و أخذت تتلفت من حولها باحثة عنه، و عيون الجميع ينظرون إليها تارة و نحو العروسين تارة أخري و كأنهم في انتظار حدث كبير، لفت انتباهها هذا فأستدارت لتري إلي ماذا ينظرون!
انقطعت الأنفاس و تلاقت العيون، ذراعه تحاوط خصر التي تقف جواره و ترتدي ثوب الزفاف، و كذلك هو يرتدي حُلة عريس تشبه كثيراً مثل الذي قام بإرتدائها في ليلة زفافهما، أغمضت عينيها لعله حلم مزعج و سيتلاشي الآن، لكن عندما فتحت وجدت هذه مجرد حقيقة بمثابة رصاصة نارية تخترق الفؤاد بلا رحمة!