رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الثاني عشر 12 بقلم ياسمين عادل


رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل الثاني عشر بقلم ياسمين عادل 

"حينما تُقدم لك المكيدة على طبق من ذهب." 

_____________________________________

انخلع قلبها مع سماع ذلك الوصف التفصيلي، لما يدور في منزل آل طحان من مناوشات وحروب دائرة بين الأب وابنهِ الأكبر، بعدما أتهم "حسين" أبيه بتسببهِ في هذا الوضع الكارثي، وأن صبره على" رحيل" وأمها وإتباع بعض اللين معهم هو أحد الأسباب في تلك الجرأة التي حطّت على تصرفاتهم وجلبت إليهم العار -كما وصف- .

استمعت "جليلة" لكل ما تحكيهِ "منال" وقلبها يقرع قرعًا مدويًا گقرع الطبول، وقد نشبت الحرب بين جنباتها ما بين الخوف الشديد على وحيدتها وبين التفكير في الحل الأسلم للخروج من هذه المعركة بأقل خسائر ممكنة، وإن كان ذلك بخسارة أهلها خسارة لا رجعة فيها فهي راضية تمامًا عن ذلك، المهم هو سلامة "رحيل". شردت "جليلة" وهي تستمع لكلمات "منال" شديدة الصعوبة، وما لبثت أن انتبهت لبقية حديثها حتى سمعتها تسألها :

- هتعملي إيه ياخالتي جليلة؟.. حسين لو طالها هيقتلها، ده حالف ١٠٠ يمين على كده، لازم تأمني نفسك وتأمني البت أحسن تروح في شربة ميا!.

ازدردت "جليلة" ريقها وهي تقول :

- ماانا بفكر أهو يامنال.. حمدي الله ينتقم منه مسابش حيلتنا حاجه ولا حتى البيت سابنا نقعد فيه!.

مطت "منال" شفتيها بشئ من الخباثة، ثم سألتها بنفس ذلك الفضول المتطفل :

- طب والراجل اللي قاعدين عنده ده؟!.. هتفضلوا عنده على طول؟.

تأففت "جليلة" غير متحملة تلك التلميحات الرخيصة، والتي تنوه بها "منال" عن السيرة المُشاعة في البلدة كلها :

- والله حماكي وجوزك اللي رامونا على المر.. هقول إيه، حسبي الله ونعم الوكيل.

*****************

صمتهِ ذلك وتعابير وجهه التي تغيرت على حين غرة من عرضها المفاجئ كان بمثابة الرد عليها، ورغم ذلك لم تحاول التراجع عما عرضتهُ عليه، فهنّ في أمسّ الحاجه لمساعدتهِ هو بالذات دون غيره، بأسه وصلابتهِ وتحديهِ السافر لـ "حمدي".. كل ذلك لن يقدر عليه إلا شجاع في مثل أخلاقهِ. أما هو.. فالمفاجأة كانت شديدة التأثير عليه، حتى إنه لم يدرك بعد أن كل مشاعرهِ قد طفت على وجهه بدون أن يتحكم فيها، فهو حتى وإن كان رجلًا أعزب؛ لقد خرج لتوهِ من علاقة مازال يتعامل مع شروخها وتصدّعاتها ولم تنتهي بعد. تحرجت "جليلة" من طول صمتهِ، وأدركت إنها طلبت المستحيل، وربما تطاولت أحلامها في أن تحمل ابنتها نسب گهذا، لذلك حاولت سحب عرضها على الفور بدون أن تسبب له أي حساسية :

- آ... انا مقصدش طبعًا أحطك فالموقف ده!.. حقك عليا أنا بس آ.....

على الفور ظهرت ابتسامة وديعة تلاشت معها كل إيحاءات الرفض أو الذهول، وبتر كلماتها عند تلك النقطة قائلًا :

- متعتذريش أبدًا ياهانم.. أنا بس بفكر ياترى رحيل هتوافق نعمل فرح ولا مش لازم.. سيادتك إيه رأيك؟.

سرعان ما تحولت تعابيرها لإشراقة مُخضبة بدماء الحياء التي وردّت وجهها، ولمعت عيناها ببريقٍ يُنذر بالدموع، گالغريق الذي تعلق بقشةٍ تنقذهُ من هول الغرق. ابتسمت "جليلة" وصوتها يرنّ بحيوية وهي تشكره :

- أنا مش عارفه أشكرك وأوفي جميلك إزاي.. آ.... ربنا يباركلك ويكرمك زي ما أكرمتنا...

ابتسم "هاشم" بنفس الوجه البشوش وهو يسألها :

- أنا اللي بشكرك إنك شرفتيني بالعرض ده.. بس هي رحيل هانم تعرف بيه ولا لأ؟.

هزت "جليلة" رأسها بالسلب :

- لأ.. لو قولتلها عمرها ما هترضى، رحيل نفسها عزيزة وعندها كرامتها أهم من أي حاجه تانيه.

أومأ "هاشم" رأسه متفهمًا :

- أنا عارف.. عشان كده مش عايزك تقوليلها حاجه نهائي.. سيبيلي الموضوع كله وأنا هتصرف فيه وهقنعها بطريقة غير مباشرة.

وضعت" جليلة" يدها على رسغهِ وضغطت عليه بدون عمدٍ، وكأنها تمتنّ لصنيعهِ الكريم بعد أن حمل عنها ذلك الحمل الثقيل :

- يبقى كتر خيرك.. أنا متأكدة إنك الراجل الوحيد اللي هيقدر يحميها ويراعيها، أنا مش هعيش العمر كله معاها.

- متقوليش كده طولت العمر ليكي ياهانم.. أنا هبعتلك الدوا مع السواق وهروح أشوف مصالحي وهاجي آخر النهار.

- تسلم يارب من كل سوء.

التفت موليها ظهرهِ، وفي رأسه تلفّ الثعالب وتدور بلا راحة، فقد أصبح العريس المنتظر والمطلوب منه أيضًا إقناع العروس التي قد تعزف عن الزواج احترامًا لذكرى زوجها الراحل، سيكون عليه بذل مجهود إضافي لإقناعها بدون أي تدخل صريح؛ ولكن الأهم هو كيفية تنفيذ ذلك ومتى؟.. وكيف سيرسل الخبر السعيد لبيت آل طحان جميعًا؟.

**************************************

كانت "منال" تجلس بينهم بكل تكبّر، بعدما علم الجميع عن تواطؤها مع "جليلة" لإرسال "رحيل" من المنزل أصبحت محطّ أنظار الجميع، ما بين محتقر وبين مُشجع؛ لكنها لم تأبه بذلك على الإطلاق، بل اعتبرت ما قامت به فخرًا لها، فهي تسعى للحفاظ على زواجها من مهبّ الريح الذي قد يطيح به لأسفل سافلين.

رمقتها "سعاد" بمزيج من النظرات المشتعلة والمستنفرة، فقابلت "منال" تلك النظرات بتعالٍ وشماتة، وسألتها بإستخفاف :

- وانتي بقى معرفتيش مين اللي عمل فيكي كده يا حماتي؟.

أشاحت "سعاد" بنطراتها بعيدًا وهي تردف بـ :

- وانتي مالك.. قوليلي انتي بقى يامرات ابني اطمنتي على صحابك وعرفني مكانهم فين ولا لسه؟.

تلوت شفتي "منال" بإستهجانٍ مفرط :

- وانا لو أعرف هقولك يعني!.. إن شالله ينزلوا تحت الأرض مليش دعوة، المهم إني نفذت اللي في راسي والجوازة دي مهياش ماشيه.

لمحت "تيسير" أخيها يمر بالخارج بعكازهِ، فتعمدت أن ترفع صوتها قليلًا لكي يستمع إلى حديثهم، وكي تدين "منال" بما لم تتفوه به :

- يعني انتي معترفة إنك عارفه مكانهم ومخبية!.. عيب عليكي الناس كلوا وشنا بسببك وبسبب عمايلك، كان زمانها في طوع أخويا وقاعدة وسطنا بدل ما تتصرمح في كل حته.

دخل "حسين" أثر سماع كلمات أختهِ المتعمدة والمنتقاه بعناية، وعيناه تفيض بالغضب وهو ينظر لزوجتهِ :

- انتي تاني يا منال؟.. انتي اللي عملتيها تاني؟.

أخفت "منال" توترها محاولة أن تبدو صلبة قوية أمامه لا يخيفها أي شئ :

- لو فكرت تمدّ إيدك تاني عليا وديني لأكون سايبالك البيت ياحسين.. أنا مش ملطشتك، لأ أصحى وفوق كده ده انا بنت الصاوي، يعني ورايا رجالة العيلة كلها وممكن يسدوا عين الشمس.

انتفخ "حسين" عن آخره، خاصة بعد تهديدها الصريح له بأهلها وثقلهم في البلدة، فرأى بذلك استخفافًا بقوتهِ، لا سيما إنه علم بمساعدتها التي ما زالت قائمة لـ "رحيل"، فلم يشعر بنفسهِ إلا وهو يرفع أحد عكازيه ويهوي به على جسمها، فصرخت "منال" بدون أن تتدارك ضربتهِ، ليصدح صوت" سعاد" في نفس اللحظة :

- جـدع ياواد.

وقبل أن تطالها عصى ذلك العاجز مجددًا كان "علي" شقيقهِ الأصغر يدفعه عنها برفق وهو يصيح فيه :

- ميصحش كده يا حسين.. الله!.. مراتك كانت هتروح في إيدك المرة اللي فاتت!.

دفعه "حسين" بإهتياج وقد وصل الغضب لذروتهِ:

- أبعد ياعـلي.. دي ولية عايزة رباية من أول وجديد وانا هربيها.

صرخت "منال" في وجهه بعدما ضرب بتهديدها عرض الحائط:

- طب والله ما هتعدي ياحسين، مش هــتـعدي.

- غـوري في داهيـه

وركضت إلى غرفتها وفي نيتها ألا تترك الأمر هنا، ولن تمرر الأمر مرور الكرام هذه المرة، فقد اعتاد في الآونة الأخيرة إهانتها وضربها لأكثر من مرة، بدون أن يرى منها ردّ فعل واضح وصريح ليردع فيه العنف ضدها، ولذلك كانت أولى خطواتها إنها استجدت الغوث من أهلها ذوات النسب الرفيع في المنطقة وأصحاب الصيت العالي، ليكونوا لها نُصرة عليه وعلى أهله.

**************************************

لم يصدق "مراد" في بادئ الأمر، وظن إنه تهويلًا للوضع أو ما شابه؛ لكن آخر ما قد يتوقعه أن تلك السيدة قد تعرض زواج ابنتها منه بغرض حمايتها والحفاظ عليها وعلى حقوقها، ولكي يتصدى لهم "هاشم" ويحبط محاولاتهم لإغتصاب حقوقها الشرعية.

لقد تطور الأمر عن كونهِ مجرد مساعدة لفتاة منكوبة من أهلها، وبات خطيرًا وله تداعيات مستقبلية ليس من السهل توقعها.

اعترض "مراد" على موافقتهِ لأمر گهذا، مستنكرًا تلك السهولة التي قابل بها الأمر :

- إنت مش شايف إنك مستصغر الحكاية أكتر من اللازم!.. يعني إيه تتجوزها؟.. مين دي وليه نتورط في قصتها أصلًا؟.

كان مرتخيًا على المقعد الجلدي المتأرجح، يترنح به يمينًا ويسارًا، وعيناه معلقة بالسقف وهو يقول :

- هي فعلًا ورطة، بس انا بالنسبالي عادي جوازة ومش هتطول، الورطة هتبقى ليها هي.. متنساش إن موضوع الطلاق والإنفصال ده مشكلة للست مش للراجل.

قطب "مراد" جبينه وكأنه بدأ يفهم نية "هاشم" لشكل العلاقة المستقبلي بينهما :

- يعني انت مقرر كمان إنك هتطلقها!.. ولزومه إيه من الأول؟.

طرق "هاشم" بأصابعه على مسند المقعد هاتفًا :

- على الأقل هيكون تدخلي في وسط شؤون عيلة الطحان تدخل منطقي.. لكن دلوقتي أنا ماليش أي صفة ولا ليا حرية التصرف في أي حاجه، الموضوع ماشي معايا بالبلطجة. 

مازال "مراد" غير مقتنع بما يرويه "هاشم"، منزعجًا لأجل الفتاة التي ستعاني الأمرّين في كلا الحالتين :

- يعني البنت هتخلص من أهلها في مقابل إنك تتجوزها جوازة مؤقتة وبعدين تطلقها لما توصل للي عايزه!.. وهي ذنبها إيه في كل ده؟.

تأفف "هاشم" مضجرًا وهو ينهض عن جلستهِ، وبدون أن يشعر بكلماته كان يجرحهُ بها بعدما قنط من فرط توبيخهِ فيما يخصها هي بالذات :

- يـــوه.. هي حنيتك دي اللي وصلتك للي انت فيه دلوقتي؛ عشان كده عمرك ما هتتخطى أي حاجه واقفة قدامك.

صاح فيه "مراد" محذرًا من تماديهِ فيما يخص هذا الشأن الحساس للغاية :

- هــاشــــم!!...

أشاح "هاشم" بوجهه بعيدًا عنه، ليسمع صوت اقتحام مكتبه وقد فتح "سعد" الباب عنوة متجاهلًا تحذيرات السكرتارية:

- يافندم ميصحش كده!.

رمقهُ "هاشم" بنظرة محتقنة، بينما أصرف "مراد" السكرتيرة وأغلق الباب، حينما أردف "هاشم" بلهجة مستنكرة تصرفهِ الأحمق :

- إيه ياعمي!.. سيبت شغلك في التجارة وبقيت قاطع طريق!.

أشار له "سعد" بسبابتهِ محذرًا إياه :

- ألزم حدودك ياهاشم.. متنساش إنك بتكلم مع عمك.

جلس "هاشم" مترأسًا مكتبهِ الفخم العريض وهو يرد على مزحتهِ السخيفة :

- لما الكبير يحترم نفسه أكيد هيجبر الصغير إنه يحترمه!.

نفخ "مراد" متذمرًا وهو يدعوه للجلوس :

- أتفضل أقعد ياعمي.. خير في إيه؟.

انتقد "هاشم" أسلوب ابن عمه الراقي، بينما الآخر قد أتى من أجل العراك على ما هو ليس من حقه :

- يتفضل فين احنا لسه هنرغي في نفس الحوار!.. اللي عندي قولته ومفيش كلام غيره.

شظايا الحقد انتفضت في عيني "سعد" وهو يشير لأبن أخيه مستشهدًا بحكمتهِ في وزن الأمور :

- شايف يامراد!!.. شايف ابن عمك بيكلمني إزاي؟.

جلس "مراد" قبالة المكتب هاتفًا :

- ماانت اللي مش عايز تفهم ياعمي نعمل إيه!.

جلس "سعد" أمامهم بأريحية، متجاهلًا أسلوب الفطاظة المقللة من شأنه ليقول :

- مفيش حاجه تتفهم غير إنكم طبختوها مع بعض عشان تخرجوني من الميراث.. زي ما عملها أبوك قبل كده يا هاشم وخرجني من الشركة.

أمسك "هاشم" قلمهِ الفضي المحفور عليه أسمه، يتلاعب به بين أصابعه وهو يردف :

- وياترى خرجك ليه يا... عمي ؟؟.

تناوب "مراد" الإجابة وقد سار على نفس النهج في اللهجة المستنفرة :

- يمكن عشان خسرت الشركة ١٥٠ مليون جنيه ياعمي!!.

بدا "سعد" غير راضي عن تلك المناقشة المُدينة له :

- هو في المكسب حبايب وفي الخسارة هشيلها لوحدي ولا إيه؟.

تنهد "هاشم" وقد نفذ صبره، ولم يعد لديه المزيد من الثبات الإنفعالي أمام ذلك الضغط الشديد على صبره :

- مكسب إيه ياعمي!.. وبعدين إيه اللي فكرك بينا وبالشركة!.. هو الأومار مبقاش جايب همه معاك ولا ايه؟.

تدخل "مراد" قبل أن تنشب المشاجرة بسبب كلمات "هاشم" الأخيرة، محاولًا الفصل في الموضوع بشكل نهائي :

- انت خدت نصيبك من الشركة في حياة عمي رضوان ياعمي.. خلاص مبقاش ليك أي حاجه هنا.

تشدد "سعد" في مطلبهِ وقد طفى الغل على وجهه المحمر بعصبية :

- وحقي في ميراث أخويا رضوان فين؟؟.

لم يطيق "هاشم" إعادة نفس الكلمات أكثر من مرة، ومع ذلك اضطر أن يفعلها مرة أخرى عسى أن تكون الأخيرة :

- تـاني!.. انت مبتزهقش ياعمي؟.. قولتلك بابا باع كل حاجه على حياة عينه ليا وبأوراق رسمية، محتاج أقول إيه تاني عشان تصدق إن ملكش أي حاجه عندي؟.

ثم وقف مختتمًا حديثهِ :

- إنت خدت من وقتي أكتر من اللازم.. أنا خلصت كلامي ومعنديش غيره، وريني بقى أخرك ياعمي.

وسحب معطفهِ الجلدي الأسود وسار نحو الباب قائلًا :

- حصلني يا مراد ورانا شغل برا.

مطّ "مراد" شفتيهِ بإذعان، ثم أردف بـ :

- أديك سمعت نهاية الكلام ياعمي.. كفاية بقى تحط نفسك في الموقف ده.

نهض "سعد" عن مكانه شاعرًا بقلة الحيلة؛ لكنه ما زال يكابر بإنه يمتلك حقًا وهما اغتصبوه :

- لو كان مليش في ميراث رضوان الله يرحمه.. يبقى أكيد هورث في ابنه.

قطب" مراد" جبينهِ بإستهجان، وتسلطت عيناه الحادة على عمه الذي ألقى تهديدًا متواريًا منذ لحظات :

- إنت بتقول إيه ياعمي!.. لو فكرت بس تمسّ هاشم أو تتهور بتصرفاتك أنا اللي هقفلك.

ابتسم "سعد" ابتسامة جانبية ساخرة ليقول :

- هتنصره عليا يامراد؟.

كان "مراد" متشددًا محافظًا على صرامتهِ :

- هاشم أخويا يا عمي.. اللي يمسّه كأن مسّني أنا بالظبط.

لم يكترث "سعد" بذلك التحذير الصادق، وتجاهل تمامًا صلة الدم التي تجمعهم ليعلنها صراحةً بأن نواياه قد تتحول للشر يومًا ما :

- ولا يهمني انت ولا هو.. انا عملت اللي عليا وجيبتلكم لحد عندكم، عشان اللي جاي محدش يسألني فيه.

وخرج "سعد" مستشيطًا تكاد النار تحرقه هو أولًا، وقد باتت نواياه تدخر الشر لهم، جِراء تجريدهِ من حقوق غير منسوبة له من الأساس، وبموجب عقود البيع والشراء قد صار كل شئ ملك لـ "هاشم" وفقًا للقانون، فصار أمر الأرث محرمًا على "سعد" وعلى شقيقتهِ التي لم تقل عنه حقدًا وحسدًا، بل إنها هي الحيّة التي تبثق السمّ في أذنيّ "سعد" بإستمرار، فـ دفعتهُ بتعمدٍ لتلك الحرب الباردة التي لم تُضرم بعد.

************************************

تسلّم "هاشم" حوائجها التي انتقاها بنفسهِ، ثياب وأوشحة للرأس من أجل حجابها الرقيق، منامات منزلية وملابس فضفاضة للخروج، ولم ينسى أبدًا بعض الأكسسوارات المتألقة التي تتماشى مع ألوان الثياب التي اختارها من بين تصاميم عديدة للمحجبات.

تناول السائق كل الحقائب من يده ووضعها في شنطة السيارة، ثم همّ ليفتح بابهِ الخلفي هاتفًا :

- أتفضل يافندم.

جلس "هاشم" في مكانهِ ونزع عنه نظارة الشمس، ثم نظر لساعتهِ وهو يسأله :

- الرجالة اتحركوا ولا لسه؟.

- زمانهم في الطريق ومعاهم الهانم الصغيرة وست عبير.

أومأ "هاشم" رأسهِ ثم أردف بـ :

- أنا عملت أوردر غدا من قصر المندي، وصلني وتطلع على هناك تستلمه وتتأكد إنه سخن.

- أوامرك يافندم.

بدأ "حامد" في قيادة السيارة نحو منزل "هاشم" البعيد عن وسط المدينة بصخبها وإزدحامها، والمتواجد في مكان هادئ وراقي وسط أحد التجمعات السكانية الراقية في مدينة الشيخ زايد، لم يمر سوى نصف ساعة تقريبًا وكان "هاشم" يترجل عن السيارة ويصعد لشُقتهِ التي تأوي ضيفتهِ الحزينة وعروسهِ المستقبلية، ففتحت له "جليلة" لتستقبله بترحابٍ غير عادي :

- أهلًا وسهلًا أهلًا.. حماتك بتحبك، لسه حالًا قافلة على الغدا.

انبعجت شفتيه بمجاملة وهو يرفع عنها ذلك التعب :

- حضرتك متتعبيش نفسك خالص.. أنا طلبت غدا والسواق رايح يجيبه.

استنكرت "جليلة" ذلك بينما هي قامت بكل ذلك المجهود منتظرة حضورهِ :

- لأ طبعًا هو أكل المطاعم ييجي إيه جمب أكلنا!.. ألغيهِ أنا خلاص حضرت كل حاجه، أنت كتر خيرك مليت البيت والتلاجة كمان هتتكلف غدا جاهز!.

لم يتمسك برغبتهِ كثيرًا، وفضّل أن يحتوي مجهودها المبذول بمزيد من التقدير :

- تسلم إيدك يا هانم.. ممكن تستأذنيها أدخلها؟.

خرجت "رحيل" بعدما سمعت صوتهِ، وهي تستند على عكازها لئلا تضغط على قدمها المصابة، وآتاه صوتها وهي تقول :

- أنا جيت بنفسي أهو.

نظر لقدمها المسنودة على الأرضية وقد تحولت ملامحه لأخرى مستنكرة متضايقة لعدم التزامها بالراحة كما أوصى الطبيب :

- انتي إيه نزلك من السرير؟.. مش الدكتور قال متضغطيش على رجلك وإلا الغرز هتتفتح تاني!

ومشى صوبها أثناء حديثه ليمدّ إليها يدهِ تستند عليها :

- متقلقش أنا بدوس عليها، وبعدين زهقت من قعدة الأوضة.

نظرت لذراعهِ الممدودة لها، ثم أطرقت رأسها بتحرجٍ لتقول وهي تجلس على أقرب أريكة :

- ربنا يخليك أنا العكاز مساعدني أهو.

دخل "حامد" حاملًا الحقائب :

- أحطها فين يا فندم؟.

أشار له "هاشم" نحو باب الغرفة :

- دخلها الأوضة اللي آخر الطرقة ياحامد.

ثم نظر حيالها هاتفًا :

- دي شويه هدوم هتناسبك.. ومنسيتش الطرح طبعًا.

تخضبت وجنتيها بإستحياءٍ من كرمهِ المفرط معها :

- حضرتك تعبت نفسك ليه بس!.. كده كتير وانا مش هقدر أسدد كل ده.

قطب جبينهِ مستنكرًا كلماتها الأخيرة ببعض التحفظ :

- مين قالك هتسدديها!.

تغيرت ملامحها بعض الشئ وهي ترفض استلام هدية گهذه بدون تسديد استحقاقها:

- ومين قال إني هقبلها لو مش هدفع فلوسها؟!.

اكتشف طابعًا جديدًا لديها، طابعًا زاد من شغفهِ لإستكشافها كلها، بينما تدخلت "جليلة" بعدما أحست بفظاظة غير مقصودة من ابنتها التي لم تعلم بعد عن مستقبلها المجهول مع ذلك الرجل التي تعتبره - غريبًا عنها - حتى اللحظة :

- آ... ميصحش كده يارحيل !.. هي دي كلمة شكرًا؟!.

تناوب "هاشم" الرد عنها بدون أن تغيب تلك الإبتسامة عن محياه :

- سيبيها على راحتها ياهانم.. هي برضو عندها حق.

أخرج "هاشم" فواتير السنتر الشهير الذي ابتاع منه كل تلك الأشياء، ثم مدّ يدهِ إليها قائلًا :

- اللي يريحك أكيد هعمله.

نظرت "رحيل" لقيمة الفاتورة، فـ جحظت عيناها بذهولٍ من الرقم الضخم المكتوب فيها، ثم رفعت بصرها إليه وهي تهتف في تعجب :

- تمانية وستين ألف جنيه على هدوم بس؟

فـ صحح لها "هاشم" وصفها مضيفًـا عليه :

- وطرح وبيچامات والذي منه.

كادت تعترض بدورها لولا إنه أشار إليها مقاطعًا :

- أكيد مش هتديني تمنهم دلوقتي يارحيل هانم.. لما تكسبي القضية وتستردي حقوقك كاملة أبقي سدديهم بالتقسيط المريح وعلى ١٢ سنة مش ١٢ شهر بس.

رغمًا عنها ابتسمت بإمتنان، بينما أشار "هاشم" لسائقهِ كي يدخل ليضع الحوائج بالداخل، فجلس هو قبالتها مستأذنًا :

- الست جليلة عزمتني على الغدا معاكم النهاردة.. ده لو مكنش عندك مانع طبعًا.

ردت عليه على الفور بدون أدنى تفكير :

- تنور.. ده البيت بيتك واحنا ضيوف هنا.

قطب جبينهِ منزعجًا ليقول :

- أرجوكي متقوليش كده.. البيت بيتك متعمليش أي فرق.

أشارت "جليلة" نحو المطبخ قائلة :

- هجهز السفرة على طول اهو.. عن أذنكم.

خرج "حامد" ومرّ أمامه ليقف بالقرب من الباب وهو يسأل :

- تؤمرني بحاجه تانية مع الغدا يا فندم؟.

- خد الغدا وروح اتغدى انت وعيالك يا حامد.. أنا هرجع لوحدي.

انفرجت شفتي "حامد" بإمتنان وهو يقول :

- ربنا يخليك لينا يافندم.. سلامو عليكم.

انتقلت عينا "هاشم" تنظران إليها، بدون أن يحذر تلك المرة من تفسير نظراتهِ على محمل غير مناسب، فقد بات يتوق لعدّ خطوط وجهها، استكشاف ثغرات بشرتها، ترقب عيناها المتوترة حين تحس به يراقبها، الآن يتجرأ على ذلك أكثر من ذي قبل، بعد أن أصبح لديه السبب المقنع لهذا، وهو إنها عروسهِ القادمة، وحتى إن كان يعتقدها صفقة، عليه أن يدرك جيدًا أن كل ما يخصها بات يعنيهِ، فـ الطير الجارح يهتم جدًا بإستكشاف قدرات فريستهِ قبل أن يحطّ عليها، لكي يتوقع ردود فعلها المهاجمة ضد محاولاتهِ للإنقضاض عليها، فيقوى على صدّها قبل أن تتخذ موضع الدفاع.

*************************************

جلس "حمدي" على سطح منزلهِ الكبير برفقة ولدهِ الكبير "حسين"، حيث كان السطح مجهزًا لإستقبال الجلسات فيه، محاط بالرخام ومقاعدهِ من الخوص القوي وعليها وسادات محشوة بالأسفنج الطري، بجانب المزروعات والصبار والشجيرات.

كان يفكر فيما يحيط به من أحداث، لم يتخيل أن تخرج الأمور عن سيطرتهِ هكذا، يبدو إنه تعيّن عليه أخذ الأمور بالحكمة وليست الشدة، بدلًا من أن تتفرق عنه زوجة ولده المتوفي وأمها، وفي يدهم نصيب الأسد الذي يجاهدن للحصول عليه من بين الأراضي والأملاك، منذ أن مات والدها وحتى الآن. تنهد "حمدي" متأزمًا وهو ينظر من حوله بقلق، ثم همس بـ :

- وبعدين يا حمدي؟.. لو المحكمة حكمت ليها يبقى كده روحنا فطيس!.. بنت الـ **** مش هتقبل تتنازل ولا تبيع بعد اللي حصل.. هتستقوى عليا.

لم يكن "حسين" راضيًا عن لمحة الهزيمة التي سمعها في صوت والدهِ، ولا ذلك القلق البادي عليه، فـ نفخ بصوتٍ مسموع وهو يقول :

- ما نفتح البطن دي ونخلص يابا!.. إحنا لسه هنستنى الست تتكرم علينا وكمان توافق أو ترفض تبيع!.. احنا نسلمها الأرض خربانة، بعد ما نكون خدنا المصلحة منها.

فرك "حمدي" أصابعهِ يفكر في ذلك الحلّ، ثم أردف بـ :

- أنا عارف اللي فيها.. واد العزيزي بيعمل كل ده عشان ياخد الأرض بالبطن اللي فيها من بت عمك، بس ده على جثتي، دي ملايين الدولارات!.. فاهم يعني إيه ياحسين؟.. البطن دي بالذات عمري كله.. الله يرحمه عمك منعني زمان ومن بعده حسن؛ لكن دلوقتي لابد آخدها.

اقترح عليه "حسين" فكرة من وحي أفكاره المتشتتة:

- ما نجيب العمال ونبدأ الحفر من الفجرية يابا!.. أنا مش ضامن استنى بعد كلام المحامي اللي قاله ده، طالما متأكدين إنها هتاخدها هتاخدها يبقى تاخدها فاضية.

ثم فكر مليًا ليسأل بعدها :

- بس الناس اللي هياخدوا الآثار دي جاهزين يستلموا ويدفعوا الكاش ولا هنقعد بالمصيبة في حضننا كتير؟.

- جاهزين في أي وقت ياولدي.. هما بس مستنين الإشارة مني، أنا الصبح هكلم الخواجة ونشوف معاه أقرب وأسرع وقت يستلموا فيه، بس قبل كل ده لازم الشيخ صبّاح ييجي يقرا على البطن لاحسن تصيبنا بمصايب احنا مش قدها. 


صوت أقدام على السلم جعلتهم يتوقفوا عن متابعة الحديث، فإذا بهِ "علي" يصعد إليهم وعلى وجههِ تعابير الحنق وهو ينظر لشقيقهِ الغبي "حسين" :

- عيلة الصاوي تحت يا حسين.. جايين ياخدوا بنتهم منال.

استند "حسين" على عكازهِ لينهض واقفًا وهو يسبّها بلفظٍ شنيع :

- عملتها بنت الـ ****ـة!!..

الفصل الثالث عشر من هنا

تعليقات



×