رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل الحادي عشر
عادت إلي الداخل لتجده يضع يده علي مقبض باب غرفة النوم و كاد يفتحه، أوقفته بتوسل:
"قصي استني".
استدار إليها و نظر إليها بإستفهام و نظرة قاتلة في آن واحد، يرفع هاتف شقيقه يسألها بنبرة جعلتها غير قادرة علي النظر إليه:
"بيعمل إيه ده هنا؟".
رفعت وجهها و ابتلعت لعابها، خفقات قلبها تدوي كصوت مطرقة الحداد، تسأله بتوسل:
"ممكن تيجي و هافهمك كل حاجة بالعقل؟".
هز رأسه و يجز علي أسنانه و نظرة لا تبشر بخير علي الإطلاق، خلع سترته و ألقاها جانباً و يليها ساعة يده ثم قام بفك أزرار أكمام قميصه ليثني كل كم علي حده إلي أعلي:
"ما تقلقيش دورك جاي بس لما أحاسب الو... اللي جوة الأول".
أنهي وعيده بإدارة مقبض الباب فوجده موصداً من الداخل، صاح بأمر و تهديد:
"أفتح الباب بدل ما أكسره فوق دماغك".
شهقت الأخري بذعر و توسلت إليه بنبرة علي مشارف البكاء:
"قصي أرجوك مش عايزة فضايح، إحنا في كمبوند محترم و الجيران هنا يعرفوني".
اقترب منها بخطي بطيئة و هي تتراجع إلي الخلف رويداً رويداً، يرفع إحدي حاجبيه يسألها بتهكم:
"و لما أنتِ خايفة من الفضايح، طليقك قاعد هنا معاكِ بيعمل إيه؟، هي دي الأخلاق و الأصول اللي ربناكِ عليها أنا و باباكِ الله يرحمه يا بنت رسلان العزازي!".
أوقفها الحائط الذي التصق به ظهرها:
"أقسم بالله أنت فاهم غلط، كل الحكاية إنه كان عندي في المكتب و فجأة اغمي عليا و محستش بنفسي غير النهاردة لما فوقت من التعب، هو مارضاش يسيبني لوحدي أنا و العيال".
لم يصدق حرفاً من ما تفوهت به، بل و هناك بسمة ساخرة علي ثغره يتبعها قوله:
"العيال اللي بعتيهم علي النادي عشان تاخدوا راحتكم مش كدة!".
كان يونس يستمع إلي الحوار الدائر بينهما فخرج إليه غير مكترث إلي مظهره المثير للشك:
"لاء مش كدة يا قصي، و ياريت تسمع و...
كانت خطواته في سرعة الفهد حيث قام بقطع حديثه بلكمة قوية و صاح بها و يسدد إليه لكمة تلو الأخري، فكان الأخر لم يستطع تفاديها أو الدفاع عن نفسه، فكان يمسك بالمنشفة حتي لا تسقط:
"اسمعك و أنت خارج لي بالفوطة!، ما خلاص أنا فهمت كل حاجة".
صرخت كارين ببكاء:
"كفاية بقي سيب أخوك حرام عليك".
تركه و استدار إليها يرفع سبابته أمام وجهها محذراً إياها:
"مش عايز أسمع صوتك ده خالص، كان ليه الطلاق من الأول و حرقة الدم اللي عيشتينا فيها ما دام بتحبيه و مش قادرة علي بعده أوي كدة".
برغم ما تشعر به من شفقة نحو يونس الذي يحاول أن ينهض و يضع يده علي آثار قبضة شقيقه، لكن ما حدث للتو و ما ألقاه قصي علي سمعها جعلها تنظر إليه بعتاب و لوم ثم عادت ببصرها إلي قصي و صاحت:
"لاء هاتسمعني، أنا ما أنكرش إن بحبه بس مش هرجع له لأن صعب أسامحه، و ما حصلش أي حاجة من اللي أنت فهمتها و اللي حصل كل اللي حكيته لك، مش عايز تصدق براحتك".
وضع يديه علي جانبي خصره و يجز بقوة علي فكه الذي برزت حواف عظامه، لا يدرك الحالة الذي يقع تحت تأثيرها للتو:
"أنا ياما صدقت و أديت الثقة و في الأخر ما باخدش غير الكدب و الخداع منكم".
نظرت إليه تحاول فهم ما تحدث به الآن، لا تعلم كم الحزن الدفين الذي بداخله و صراع قلبه و عقله حيال الأمر الذي عزم عليه نحو زوجته، وجدته كارين يردف قائلاً:
"و بتزعلوا من ردة فعل الواحد اللي بتبقي نتيجة أفعالكم أنتم من البداية".
استطاع يونس أخيراً أن يتحدث و ينتهز تلك الفرصة:
"بما أنك مش عايز تصدق كلامها و لا عايز تسمعني، تقدر تكلم المأذون و خليه يجي و أنا هاردها حالاً لو كان ده يرضيك".
"لاء، مش هيحصل".
صاحت بها و كأن قد لدغها عقرب حين تحدث الأخر بالذي سبق، فطن قصي ما وراء هذا المطلب، فقال مُعقباً:
"أنا هقولكم علي حل يراضي الجميع".
نظر إليها و أخبرها بأمر:
"روحي غيري هدومك و تعالي".
ظنت إنه سوف يأخذها عنوة إلي المأذون، فصاحت بسخط:
"قولت لك مش هرجع له".
ضيق يونس عينيه بحنق من رفضها العودة إليه، فقال ليقوم بوضعها في مأزق صعب التملص منه:
"و اللي حصل ما بينا في المطبخ قبل ما أخويا يجي و الرخامة تشهد ده كان يبقي إيه!".
حدق إليها قصي بنظرة آتية من الدرك الأسفل، فصرخت بإنكار:
"كداب، و الله ما حصل حاجة أزيد إنه فضل يضحك عليا بكلمتين و من غير ما أحس لاقيتني في حضنه و باسنـ...
ابتلعت الكلمة بعد أن أدركت فداحة ما نطقت به، ابتسم يونس بإنتصار و رمقها بغمزة من عينه، أخذ قصي ينظر إليه تارة ثم إليها تارة أخري و بأمر جاد قال إليها:
"روحي غيري هدومك".
حدقت إليه بإمتعاض و سألته:
"أنت برضو عايز ترجعني ليه؟".
جز علي أسنانه و أخبرها من بينها:
"اسمعي اللي بقولك عليه يلا".
فعلت كما أمرها، فنهض يونس قائلاً:
"هاروح أنا كمان ألبس هدومي".
صاح الأخر بأمر:
"خليك مكانك أحسن لك".
أطلق الأخر زفرة بضيق، لا يريد سبر أغوار شقيقه حتي لا يضيع عليه فرصة العودة إلي زوجته، ظناً منه إنه سوف يأخذ كليهما إلي المأذون و من ثم بعد ذلك إلي قصر العزازي التي تملكه هي!
و بعد قليل، خرجت كارين من الغرفة بعد أن ابدلت ثيابها و تمسك بحقيبة يدها، قالت علي مضض:
"أنا جاهزة".
ألتقط قصي سترته و قام بإرتدائها و تناول متعلقاته، جذبها من يدها قائلاً:
"أنتِ ملكيش قعاد هنا تاني لوحدك، هانعدي علي الولاد في النادي و هاخدكم تقعدوا عندي ".
نهض يونس بصعوبة و صاح مُعترضاً:
"نعم يا أخويا واخدها علي فين!".
باغته الأخر بلكمة جعلته ارتد بقوة علي الكرسي و أجاب بسخرية:
"ملكش دعوة و ابقي خليك جمب هدومك لحد ما تنشف".
أمسك كارين من يدها و غادر المنزل، و قبل أن تعبر الباب ألقت نظرة عليه تجمعت بها كل المشاعر من حب و غضب، حزن و عتاب، و هذا ما تشعر به أيضاً كلما تتذكر أمر زواجه من الأخري حتي لو كان كما أخبرها إنه مجرد زواج علي ورق فقط.
༺༻
أشار إلي إحدى رجاله نحو الكرسي، ذهب الأخر و أتي إليه به فجلس عليه بعنجهية و تكبر قائلاً:
"أحلي حاجة فيك يا عم صابر إنك فاكر نفسك ذكي و عامل فيها ملاك بجانحين اللي بتنقذ علا و ابنها من الأشرار، صح و لا إيه؟".
تظاهر بعدم العلم و قال:
"علا مين يا باشا، أنا معرفش حد بالإسم ده، و أنا قاعد طول النهار هنا ما بتحركش من مكاني إلا لما بيكون فيه مشاوير".
رفع الأخر زاوية فمه بتهكم:
"مش بقولك أنك فاكر نفسك ذكي، عيب عليك لما تخلي الخدامة تحط منوم في الشاي للرجالة".
ألتفت إلي الذي يقف علي يمينه و أشار إليه، فذهب إلي الخارج و أتي جاذباً الخادمة من ذراعها و ألقاها علي الأرض، نظرت بخوف عندما رأت أحمد ثم حدقت إلي صابر بحزن و أسف، رأي علامات أصابع فوق خديها، يبدو إنها تعرضت إلي العنف و الضرب علي يد أحمد الذي أردف:
" رايح تَهرب علا و ابنها و ما أخدتش بالك إن فيه كاميرات في كل مكان، جايباك أنت و الهانم و ابنها!".
ابتلع الأخر لعابه و أخبره:
"أيوه أنا اللي ساعدتها تهرب، عشان يسري بيه الله يرحمه وصاني عليها، كان قلبه حاسس أو كان متأكد أنك هتأذيها أنت و شيريهان هانم، و كان لازم أنقذها هي و ابنها".
جذبه أحمد من تلابيب قميصه و أخبره بتهديد:
"ما أنت بالذوق و الأدب هاتقولي وديتها فين عشان أنا ماسك نفسي عنك بالعافية و عشان خاطر بابا الله يرحمه، لكن هاتعملي فيها عم الشهم و الجدع هخلي الرجالة ياخدوك علي المخزن اللي ورا هيخلوك تقولهم علي المكان بمعرفتهم و أنت بطلع في الروح".
حدق إليه هذا المسكين بتوسل لعل يجد داخل قلبه قليلاً من الرحمة:
"بالله عليك يا بني سيبها في حالها دي يتيمة الأب و الأم و أخوها الوحيد متغرب، يعني مالهاش غير ربنا و ابنها ربنا يشفيه و يعافيه، مش كفاية اللي جري لست روح الله...
"أحمد بتعمل إيه عندك؟".
قاطعت السيدة شيريهان توسله، فتركه الأخر و ألتفت إلي والدته قائلاً:
"طلع هو اللي هرب علا و ابنها و مش عايز يقول راحت فين".
عاد ببصره إليه بوعيد و أردف:
"و هو بقي اللي إختار الطريقة التانية عشان يتكلم، خدوه".
أشار إلي رجاله و سرعان تحركوا نحو العم صابر الذي حدق السيدة شيريهان بتوسل و نظرة أخري قد أدركت ما خلفها فصاحت:
"وقف عندك أنت و هو محدش يقرب له".
نظر ابنها إليها بتعجب، فأومأت إليه بعينيها بمعني أن ينتظر ريثما تنفرد لتخبره السبب ثم قالت إلي العم صابر:
"روح أنت يا عم صابر، و بعتذر لك عن أي تصرف مش كويس صدر من أحمد".
نظر إلي أحمد ثم إلي والدته بقلق و حزن:
"ربنا يخليكِ يا شيري هانم".
أشارت الأخري إلي إحدى الحراس و أمرته قائلة:
"وصل عم صابر لحد باب البيت".
رفع الأخر يده بإمتنان:
"مفيش داعي يا ست هانم".
ابتسمت إليه فحدق إليها بقلق، فتلك الإبتسامة يعلم جيداً ما تخفيه خلفها من وجه أخر!
"علي راحتك يا صابر، المهم ما تكونش لسه زعلان".
رمق بتوتر إليها و هز رأسه برفض قائلاً:
"خلاص يا شيري هانم، مفيش حاجة".
ذهب في الحال، نظرت الأخري نحو الحراس و أخبرتهم بأمر:
"كله يروح علي مكانه".
فسألها الحارس الذي يمسك الخادمة:
"و البنت دي يا هانم؟".
رمقت الفتاة بازدراء ثم قالت إلي الأخر:
"خلي تاخد حاجتها و تمشي من هنا، مش عايزة أشوف وشها تاني".
دفعها الرجل بعنف:
"سمعتِ الهانم بتقول إيه؟، يلا أنجري قدامي".
أصبحت منفردة بإبنها الذي يرمقها بتعجب و يسألها:
"ممكن تفهميني إيه اللي حصل دلوقت، و تفسري ليه مشيتي صابر؟".
عقدت ساعديها أمام صدرها و أخبرته بحنكة:
"ما أنت عشان طول عمرك متهور و إيديك سابقة مخك عمرك ما هتتقدم خطوة، سر أبوك كان ديماً بيبقي مع صابر، و متأكدة إنه عارف وصية باباك عشان كدة ساعد علا تهرب، و مليون في المية مش هيسيبها، أولاً أول ما هيمشي من هنا أول حاجة هيعملها هايروح يطمن عليها".
تركت ذراعيها بحُرية و تقدمت نحو النافذة تلقي نظرة إلي الخارج ثم تسطرد:
"أنا بعت واحد من رجالتنا يراقبه من غير ما يحس، و بكدة نقدر نوصلها من غير ما تهدده أو تمد إيدك عليه و لا حتي تخلي رجالتك يضربوه و ممكن كان جري له حاجة ساعتها هانروح بسببك في ستين داهية".
غر فاه و هو ينصت إلي والدته و كيف تتمتع بدهاء و مكر، استدارت و سارت إليه لتقف و تضع يدها علي كتفه:
"اللي عمله صابر مالهوش غير تفسير واحد، إن باباك كتب ثروته كلها لحمزة ابن أخوك، بيعاقبنا و في نفس الوقت بيعوض حفيده عن فقدان أبوه و كمان حاسس بالذنب إن اللي حصل لأخوك الله يرحمه هو السبب فيه لما طاوعه و وافق إنه يبعد عن هنا و يعيش لوحده خصوصاً بعد موت البت اللي كان متجوزها".
ابتعدت بضع خطوات و جلست علي الكرسي، قبل أن تتفوه بكلمة سألها الأخر:
"لو أنتِ اللي بتقوليه ده كله صح، دي تبقي كارثة كبيرة وقعت فوق دماغنا، طب و الحل؟ ".
ابتسامة ثعلب ماكر تلوح علي شفاها الرفيعة، يليها إجابة يشوبها أمر محسوم:
"الحل الوحيد إنك تتجوزها".
༺༻
"كُل يا قصي و سيبك من الهباب اللي في إيدك ده، مش عارفة بتقعد عليه إزاي ده يعمي العين يا حبيبي".
قالتها الجدة إلي ابن حفيدتها، حيث يجتمعون حول مائدة الطعام، دنيا تجلس في صمت و تمسك الملعقة تقلب في طبق الحساء الذي أمامه دون أن تشرب منه رشفة واحدة، بينما رد الصغير قائلاً:
"مش بيعمل حاجة يا نناه لأنه شاشته LED".
أشارت إليه نحو أذنيها تسأله بعدم فهم:
"إيه؟، يعني إيه البتاعة اللي بتقول عليه ده؟".
ملئ وجنتيه بالهواء و أطلق زفرة بضجر ثم أخبرها بحدة:
"ممكن يا نناه تبطلي أسئلة عقبال ما أخلص الـ game".
و برغم شرودها لكنها انتبهت إلي رد صغيرها الغير مهذب علي جدتها، فأختطفت من يده الهاتف و ألقت عليه بأمر شديد اللهجة:
"قوم يلا من هنا و أدخل الأوضة ".
صاح الصغير متمرداً:
"أنتِ أخدتي مني الفون ليه؟".
قامت بتوبيخه و بصوت أجفل صغيريها:
"اسمها حضرتك، أنا نبهتك كذا مرة إنه إزاي ترد علي اللي أكبر منك بإحترام سواء نناه و لا أنا، جزاء ليك مفيش فون خالص لمدة أسبوع ".
نهض من مكانه و صاح مرة أخري:
"خديه مش عايز منك حاجة، أنا لما هاشوف بابي هقوله يجيب لي واحد جديد".
و في ذلك الحين قد تملك منها الغضب، أشارت إليه نحو الغرفة و بأمر قالت إليه:
"أدخل جوة".
عقد ساعديه الصغيرين أمام صدره و بتحدي أخبرها:
"مش داخل".
تدخلت الجدة قائلة عندما رأت الغضب في عيني حفيدتها و تخشي أن تطلقه علي صغيرها:
"خلاص يا دنيا، هو هيسمع الكلام، تعالي يا حبيبي أقعد كمل أكلك".
حدق الصغير إلي الجدة بإمتعاض و قال:
"محدش ليه دعوة بيا، أنا مش عايز أقعد هنا، عايز أروح عند بابي".
باغتته والدته بلطمة علي خده لا تدرك كيف فعلتها، شهقت الجدة ثم قامت بتوبيخ حفيدتها:
"أنتِ غبية يا بت!، فيه حد عاقل يضرب ابنه علي وشه بالغباء ده!".
احتضنت الصغير الذي أجهش في البكاء، أخذت تربت عليه:
"معلش يا حبيبي".
كانت الأخري بعد ما أقترفت ما حدث للتو، ظلت تنظر إلي يدها ثم إلي صغيرها، لم تستطع التحدث أو قول شئ، تركتهم جميعاً و ركضت إلي داخل الغرفة و أغلقت الباب لتنفرد بنفسها، أطلقت العنان لعبراتها الأسيرة.
و في الخارج كانت الجدة تعانق الصغير و تقبل رأسه:
"حقك عليا أنا يا حبيبي، معلش أمك مكنتش تقصد".
رفع وجهه و رمقها بأعين باكية قائلاً:
"أنا عايز أروح عند بابي، كلميه يجي ياخدني".
عقبت بصوت خافت لا يسمعه أحداً سواها:
"أبوك منه لله مطرح ما هو قاعد، اللهي يتقهر و يحزن علي نفسه زي ما قهر قلب أمك الغلبانة و من وقت ما جت ما بطلتش عياط و لا طايقة نفسها، اه لو كان فيا حيل كنت روحت له و نزلت بالعكاز علي دماغه".
نظرت إلي أعين الصغير الذي يتوسل إليها باكياً، أومأت إليه و تظاهرت بالموافقة:
"حاضر أنت بس أهدي و بطل عياط و روح أغسل وشك، و بعدين تعالي كمل أكلك و أنا اللي هاخدك بنفسي و أوديك ليه".
توقف عن البكاء لكنه يشهق من حين إلي أخر حتي هدأ قليلاً و فعل كما قالت إليه الجدة و التي نهضت حيث ذهبت تستند علي العصا المعدنية، دخلت إلي حفيدتها و عندما رأت ملامحها الباكية و حالها الذي يرثي إليه، شعرت بوخز في قلبها، ذهبت إليها و بمجرد أن جلست بجوارها ارتمت الأخري بين ذراعيها، تبكي و تتحدث بألم نابع من قلب جريح يزيده البعاد رهقاً:
"مش قادرة يا تيتا، مش قادرة أستحمل اللي بيحصل معايا، أنا حاسة بموت بالبطئ، مش قادرة أكرهه برغم كل اللي حصل".
أخذت تربت عليها و ذرفت عينيها دموعاً حزناً علي حال حفيدتها:
"يا حبيبتي يا بنتي ما تعمليش في نفسك كدة عشان خاطري، فين دنيا اللي كانت ما بتبطلش ضحك و هزار و أي حاجة بتزعلها ترميها ورا ضهرها".
رفعت وجهها و رمقتها في أسوأ لحظات ضعفها و الشجن يفيض من عينيها:
"ده كان زمان قبل ما أقابله و نتجوز، أول ما شوفته و بعدها جه طلب إيدي مكنتش مصدقة نفسي، قولت معقولة بحلم، واحد زيه راجل جدع و شهم و وسيم و غني، أدالي كل شئ ما عدا أهم حاجة، قلبه اللي بعد ٨ سنين جواز، أكتشف إنه عمره ما كان ليا، لواحدة باعته بالرخيص و لسه مخليها علي ذمته لحد دلوقت".
وضعت الجدة يديها المليئة بخطوط تركها الزمان علي خديها تمسح سيل دموعها:
"أنا من أول يوم جه فيه هنا و قلبي عمري ما كان مرتاح له، كأنه كتاب مفتوح قدام عيني لكن لما لاقيته كويس معاكِ و أنتِ كنتِ مبسوطة، و هو كان في الأول مرحب بيا و بيقولي بعتبرك زي أمي و لما أصر ياخدني أقعد معاكم، هما يومين و ما طقتش أقعد أكتر من كدة، و هو كمان أتغير معايا لما شاف في عينيا إن أنا فاهماه و مش بعيد فاكر إن كنت بسلطك عليه، أصل أنا فاهمة الصنف ده كويس ".
بدأ صوت بكائها يخبو، نظرت إلي أسفل و قالت:
"هو أنا وحشة يا تيتا و أستاهل اللي يجري لي!، أتولدت أمي ماتت و أبويا ملحقتش أشوفه هو كمان، ما أنكرش حنيتك و حبك و خوفك عليا، بس كنت طول الوقت بدعي ربنا يوم ما أتجوز، ربنا يرزقني بالزوج اللي يعوضني عن اللي أتحرمت منه، لاقيت العكس".
احتضنتها الأخري و أجابت:
"استغفري ربنا يا بنت الغالي، كل واحد فينا مكتوب له قدره و نصيبه اللي بياخده من الدنيا، ما تعلميش الخير فين، بصي لولادك ربنا يبارك لك فيهم، البصة في وشهم بالدنيا و ما فيها، بكرة هيكبروا و هيبقوا سندك و ربنا يجعلهم باريين بيكِ، لكن جوزك ده اللهي ما يشوف راحة...
"بالله عليكِ يا تيتا، بلاش تدعي عليه، أنا دعيت عليه فعلاً بس بعذاب القلب زي ما حصلي، لكن عمري ما أتمني له الأذي أو أي حاجة تحصله، في الأخر هو يبقي أبو ولادي حتي لو مش هرجع له".
تنهدت الأخري و ظلت تنظر إليها في حيرة من أمرها، فسألتها:
"أنتِ عايزة إيه يا دنيا بالظبط؟".
بادلتها بتلك النظرة الحائرة و أجابت:
"هتصدقيني لو قولت لك، أنا معرفش؟".
احتضنتها و علقت قائلة:
"ربنا يطمن قلبك يا بنتي و يرزقك براحة البال، و لو كان ليكِ فيه خير يهديه و يقربوا منك، و لو كان شر يبعدوا عنك و ينساه قلبك قبل عقلك قادر يا كريم".
رددت الأخري:
"يارب ".
أمسكت الجدة بيدها و أخبرتها:
"يلا قومي أغسلي وشك و روحي صالحي ابنك، إياكِ تطلعي تاني خنقتك من أبوه في العيال، و لو شوفتك مديتي ايدك علي واحد فيهم لهمدك بالعكاز ده علي رجليكِ".
ابتسمت رغماً عنها من بين آثار دموعها و أومأت إلي الجدة بنعم، ارتمت بين يديها و عانقتها قائلة:
"ربنا يبارك لنا فيكِ و ما يحرمناش منك".
༺༻
لما يركض المرء خلف السراب و يترك الحقيقة التي بين يدي؛ لأن هذا حال أغلب البشر يسعون إلي كل ما هو صعب المنال و كأن في هذا لذة و متعة، عجباً لقلب يريد من باعه بثمن بخس و يهمل من يدرك قيمته الغالية!
فما بال هذا الذي يتمدد علي الأريكة بكل ما سبق و هو يمكث في المنزل منذ أن غادرت أو بالأحري تركته رغماً عنه حتي يعرف بمكانتها و قدرها.
الطاولة التي أمامه مليئة بزجاجات الخمر الشاغرة، و وعاء زجاجي صغير مليئ بما تبقي من السجائر التي احترقت مثله تماماً، فكان الاحتراق لديه في قلبه الذي جعله يعيش في ظلام و غشاوة تعمي بصره و جعلته الآن خاسراً وحيداً، عاد إلي ظلمة موحشة طالما فر منها منذ سنوات بزواجه من إمرأة لم يستطع أن يسلم إليها قلبه كما استسلم إليها جسده، عاش علي الماضي و بين أطلال حب كان من طرفه هو فقط، يا له من أحمق يريد العيش في وهمٍ من نسيج خياله الوهن و ترك من اغدقت عليه بحبها و حنانها و هو لم يعط إليها سوي القهر و الألم.
تنبيه متكرر لرسائل عديدة واردة إليه، أيقظه من سباته بعد الإنتهاء من شرب كل تلك الزجاجات، يظن احتساء الخمر سيجعله ينسي، و قد أتي بالنقيض حتي أنقذه النوم و قام بإنتشاله من ظلام ذاكرته.
نهض بجذعه العاري، يشعر بألم شديد في رأسه تأثير الثمالة التي كان غارقاً بها الأمس، بحث عن هاتفه فوجده ملقي علي الأرض ما بين الأريكة و الطاولة، مال إلي الأسفل و أخذه، قام بفتحه و لا يري جيداً، ما زال أثر النوم يحجب الرؤية الجيدة لديه، قام بفرك كلا عينيه بباطن كفه، أنقشعت تلك الغيمة من فوق بصره ليري الرسائل و المكالمات الواردة، فتح تطبيق الدردشة الشهير، قام بالضغط علي أول رسالة و كانت صوتية
«كنان بيه ياريت لما تسمع الرسالة تكلمني ضروري فيه حاجة مهمة في الشغل».
و رسالة أخري مرفقة بصورة بمجرد رؤية اسم المرسل و الذي يدعي چايكوب اعتدل و أعطي كامل إهتمامه لرؤية محتواها، قام بفتحها فوجد صورة من خبر في مجلة روسية خاصة بالأخبار عن أشهر رجال الأعمال و الإقتصاد في روسيا، عنوان كبير باللغة الروسية يتصدر المجلة
«محاولة إغتيال القيصر وريث عائلة رومانوف علي يد إحدى عشيقاته»
لم يهتم بتفاصيل أسفل العنوان، لكنه انتبه إلي الصورة المرفقة بالخبر، قام بتكبيرها ليتمكن من رؤيتها، رأي فلاديمير يحتضن سيلينا، لم يصدق عينيه، فتح المتصفح في الحال و بحث عن اسم المجلة، ظل ينتقل من عنوان إلي أخر حتي وصل إلي صفحة الخبر و الصورة أكثر إيضاحاً، خفق قلبه و تدفق الإدرينالين في جسده بقوة، إنها هي بعد محاولات بحث انتهت بالفشل و الآن يراها بين ذراعي أخطر رجال المافيا الروسية، بل و تلقب بعشيقته!
ألقي بالهاتف علي الأريكة و زمجر كالوحش الكاسر، أخذ يلقي كل ما أمامه بعنف، ها هي دعوات زوجته قد استجابت علي وجه السرعة، يشعر بوجع و ألم في قلبه، فهو في حالة مزرية و سيئة للغاية، زوجته أم أولاده تركته و من أحبها و ظل يتوهم عودتها و مازالت زوجته لأنه لم يطلقها بعد، أصبحت عشيقة لرجل آخر من المستحيل الإقتراب منه أو من ممتلكاته، فهو علي دراية بمن هو فلاديمير رومانوف!
༺༻
علي موسيقي الأوبرا الروسية يتناول الطعام علي مائدة كبيرة تضم أربعة و عشرون مقعداً، يترأسها بكل هيبة و هالة مظلمة تحيطه تُخيف كل من يقترب منه.
تسير نحوه فتاة ترتدي زي الخدم، تحمل صينية تعلوها زجاجة خمر مغلفة بوعاء من الخوص، وقفت بجواره، سكبت في الكأس الموضوع علي يمينه ثم ألتفت إلي الجهة الأخري لتترك الصينية و أعلاها الزجاجة علي يساره في صمت و رهبة، صوت دقات فؤادها يصل إلي أذنه، سألته بتوتر:
"هل تريد شيئاً آخر سيدي؟".
أجاب بصوته الرخيم مقتضباً:
"لا".
قاطع هذا الهدوء و الموسيقي، صوت إحدى رجاله قد ولج للتو:
"اعتذر سيدي عن مقاطعة وقت تناول طعامك ".
تناول الأخر محرمة بيضاء و قام بمسح فمه ليخبره بأمر:
"قُل ما لديك".
أومأ الرجل إليه بإجلال ثم قال:
"تم تسريب خبر محاولة إغتيالك و قامت إحدى المجلات الشهيرة بنشره لديهم".
"أعلم ذلك، هل من جديد؟".
سأله و في انتظار إجابة الأخر و الذي أخبره:
"تلقينا العديد من الإتصالات جميعها من رجال الأعمال و كبيرين العائلات من أجل الإطمئنان عليك".
شبح ابتسامة ظهر علي ثغره فعقب قائلاً:
"تباً لهم، ينتظرون خبر وفاتي و ليس الإطمئنان علي، هل هناك من خبر ٍ أخر؟".
هز رأسه بالنفي و أجاب:
"لا سيدي".
صوت ضوضاء يحدث أمام باب غرفة المائدة
"أبتعد عني يا أحمق، أريد مقابلة سيدك في أمر هام".
يقف الأخر أمامها كالحائط و يخبرها:
"عذراً سيدتي، انتظري ريثما سيدي ينتهي من تناول طعامه و لديه اجتماع مع إحدى رجاله".
رمقته بحنق و صاحت:
"فلاد، فلاد، أريدك في أمر هام، دع رجالك يسمحون لي بالدخول".
خرج إليها الرجل الذي كان لديه يقول:
"تفضلي سيدتي، سيدي ينتظرك في الداخل".
حدقت إلي الحارس الذي منعها من الدخول بازدراء ثم تابعت سيرها إلي الداخل، وجدته يقف أمام مدفئة كلاسيكية و ألسنة النيران التي بداخلها تنعكس علي حدقتيه كبريق نجوم لامعة في كبد سماء الليل الحالكة، يمسك بكأس الخمر
توقفت بالقرب منه و سألته بغضب:
"أريد أن أعلم ما هذا الهراء الذي تم نشره اليوم في المجلة؟".
تناول رشفة ثم سألها ببسمة ساخرة:
"و لما أنتِ غاضبة؟".
"لديك هاتفك تصفح الخبر جيداً و ستعلم سبب غضبي".
التفت إليها بجانب وجهه و سألها مرة أخري ببرود يخفي خلفه عاصفة عاتية:
"هناك سببان، الأول اتهامك في محاولة الإغتيال و الثاني تم وصفك بإحدى عشيقاتي، أي منهما أغضبك سيلينا؟".
أنتظر ردها و يعلمه قبل أن تتفوه به، يكفي النظرة التي تحدقه بها الآن، ارتسمت علي شفتيها ابتسامة استهزاء و قالت:
"هكذا إذاً، إنه عرض بأسلوب مبتكر".
اقتربت منه أكثر و أخذت من يده الكأس ثم ألقت به داخل النار و عادت ببصرها ترمقه برفضٍ و تحدي قائلة:
"لا فلاد، لم أصبح يوماً عشيقة لقاتل أبي و أخي، إذا أنت قد نسيت هذا، فأنا لن أنساه".
لم يتلفظ بحرفٍ واحد و ظل صامتاً، يتبعها و هي تغادر المكان أمام عينيه، لم ينس ما حدث في الماضي، عندما تعرض والده إلي حادث إغتيال من قبل رجال مرتزقة فتصدي إليهم حارس الأمن و الذي كان يدعي بـ ماركس، أصيب بعدة طلقات نارية، منها طلقة أستقرت في ظهره، و بعد إزالتها بنجاح لكن تدهورت حالته الصحية و لم يعد يستطيع السير مرة أخري، أصبح قعيداً فكافئه السيد رومانوف و منحه منزلاً يقع أمام قصره و هذا ليتمكن من الإعتناء به.
كان لماركس ابن يدعي رينو ذو سبع عشر ربيعاً و ابنة تدعي سيلينا ذات خمسة عشر أعواماً، قام بقتل زوجته ذات الأصول الهولندية بعد ولادة ابنته بست سنوات، و هذا بعد أن رآها تخونه في فراشه مع جارهم الذي يقطن أمامهم.
أخذ ابنيه و رحل عن البلدة و ذهب إلي العاصمة موسكو، بدأ العمل كحارس أمن أمام شركة إحدي رجال الأعمال و كان السيد رومانوف، و بعد أن حدث ما سبق ذكره من حادث الإغتيال، أنتقل إلي المنزل الجديد.
بينما رومانوف كان من أكبر رجال الأعمال سطوة و نفوذاً في روسيا، كان لديه ثلاثة ابناء الابن الأكبر فلاديمير، كان عمره آنذاك واحد و عشرون عاماً، و الأبن الأوسط نيكلاوس ذو الثامنة عشر عاماً، و أخيراً ابنة تدعي آليس ذات السادسة عشر ربيعاً، توفت أيضاً زوجته بعد أن أصابها مرض العضال و لم يتحمل جسدها، تدهورت حالتها الصحية و فارقت الحياة.
في مشهد يسود فيه اللون الأسود، يرتدونه جميع أفراد عائلة رومانوف و ذويهم و كل من حضر مراسم الدفن، كانت آليس تجثو علي ركبتيها أمام القبر و تمسك في يديها باقة من الأزهار، لم تصدق أنها فقدت والدتها، بينما كلاوس ظل يتابع ما يحدث في صمت و لم تصدر منه أي ردة فعل تدل علي حزنه حيالها، و في ركن بعيد قليلاً يقف فلاديمير يبكي، يولي ظهره إلي الجميع، لا يريد أي أحد أن يراه في تلك الحالة، تقدم ماركس و ابنه من رومانوف لمواساته، و سيلينا التي كانت تتابع بعينيها فلاد ذهبت إليه و وقفت بجواره، رأته يمسك في يده قلادة و ينظر إليها و يبكي
"هل تعلم إنها تراكَ و تشعر بك الآن؟".
ألتفت إليها رأي طفلة شقراء في سن المراهقة، رمقها بإمتعاض يسألها:
"من أنتِ، و لماذا تدخلين فيما لا يعينكِ؟".
لم تهتم إلي أسلوبه الحاد فأجابت:
"أدعي سيلينا ماركس، أقطن في المنزل المقابل لقصر عائلتك".
جال بعينيه علي هيئتها من أخمص قدميها حتي أعلي رأسها، عقب بتهكم:
"ابنة حارس الأمن الذي كان يعمل في حراسة أمن الشركة لدي أبي".
وضعت يديها خلف ظهرها، وقفت أمامه تكبت غضبها فأخبرته بفخر:
"أجل، الحارس الذي أفدي حياة والدك".
عقد ما بين حاجبيه و سألها:
"ماذا تريدين؟".
"لم أريد شيئاً منك، لقد رأيتك تبكي و جئت لمواساتك، لكن يبدو إنني كنت علي خطأ، فالمتعجرفون أمثالك لا يستحقون الشفقة".
ألقت عليه تلك الكلمات و تركته علي الفور لتذهب إلي أبيها و أخيها تحت أنظار فلاد الذي توعد إليها بداخله أن لا يمرر هذا الموقف إليها مرور الكرام.
عاد من ذاكرته إلي الوقت الحالي، ابتسم عندما تذكر أول لقاء لهما، و كان ليس الأخير فمازال هناك الكثير لم يُسرد بعد.
༺༻
ضغط علي زر مشغل الأغاني داخل سيارته، صدحت الموسيقي و بدأت الأغنية، بدأ بالغناء معها، التفت إلي التي تجلس في المقعد المجاور إليه، فوجدها شاردة و وجهها عابس، توقف عن الغناء و قام بالضغط علي زر أخر يخفض صوت الأغنية قليلاً
"مالك يا ديجا متضايقة من إيه؟".
استدارت إليه بزاوية و أجابت:
"مكنتش عايزة نسافر بالليل، و أنت برضو فضلت مصمم و نفذت اللي في دماغك".
أطلق زفرة بضيق ثم قال إليها:
"ماله السفر بالليل، الطرق بتبقي رايقة و مفيش زحمة و الجو بيبقي حلو".
"كدة كدة أصلاً و لو بالنهار مفيش زحمة، الطريق صحراوي و علي يمينا و شمالنا جبال، و بصراحة ببقي خايفة و قلقانة".
ضحك و أمسك بيدها ليخبرها:
"حبيبة قلبي خايفة و أنا معاها؟".
ابتسمت و أمسكت يده بيدها الأخري، فأصبح كفه بين يديها، تخبره قائلة:
"طول ما أنت معايا عمري ما بخاف، بس خوفي و قلقي إن لا قدر الله العربية تعطل مننا و لا حاجة في الطريق، وقتها هانعمل إيه؟ ".
كاد يتحدث فوجد السيارة توقفت ببطئ، اعتلت الصدمة ملامح وجهه بينما خديجة قامت بكتم ضحكتها، حاول تشغيل المحرك عدة مرات و في النهاية لم يعمل، ضرب كفه بالأخر و ردد:
"لا حول و لا قوة إلا بالله".
نظر إليها بحنق و أردف بسخرية مازحاً:
"بركاتك يا شيخة خديجة، ده أنا كنت لسه هقولك ما تقلقيش العربية لسه شاريها من شهر و دي تالت مرة أسافر بيها".
أطلقت ضحكاتها و قالت:
"و ليه ما تقولش إن أنا بركة و بحس بأي حاجة قبل ما تحصل".
"طيب يا بركة قولي لي أعمل إيه دلوقت، المنطقة اللي إحنا فيها مفيهاش شبكة عشان أكلم الميكانيكي يقولي حتي أتصرف إزاي، ما هو لو كان العطل في العجل معايا إستبن و العدة في شنطة العربية".
ألقت نظرة علي صغيرها النائم في المقعد الخلفي ثم عادت ببصرها إلي زوجها و أخبرته:
"طيب أنزل هات العدة و تعالي".
رمقها بإستفهام و سألها بقلق:
"ناوية تعملي إيه؟".
ابتسمت و أجابت بثقة:
"أنت مالك قلقان ليه كده، أنا هحاول أشوف العطل فين و أصلحه".
"لاء إحنا نفضل مستنين لحد ما أي عربية تعدي، نطلب منهم المساعدة".
و بعد مرور ساعة...
"ناولني المفتاح الصغير".
أطلق زفرة بنفاذ صبر، أعطي إليها ما تريده و قال:
"بقي لك ساعة عمالة تخربي و تشيلي في حاجات و تحطي في حاجات و في الأخر العربية هاتولع بينا".
لم تهتم لسخريته، انتهت من تصليح العطل الذي وجدته، فقالت بأمر إليه:
"روح شغل كدة".
"ماشي، لما نشوف أخرتها، أبعدي بس من قدام الموتور عشان لو شغلت و حاجة فرقعت ما تجيش في وشك".
أخرجت له لسانها فأخذ يضحك، قام بتشغيل المحرك ليجده يعمل بالفعل، صاحت الأخري بمرح:
"الله عليا، شوفت بقي عمال تتريق و تسخر من قدراتي و في الأخر صلحت لك عربيتك".
صعد كليهما إلي داخل السيارة و سألها:
"ألا قولي لي اتعلمتي أمتي و إزاي تصليح العربيات؟".
أجابت بزهو و فخر:
"علي فكرة دي أول مرة أصلح فيها عربية، و الموضوع مش تعليم أنا كنت في مرة قاعدة مع ابنك و جايب فيديوهات عن العربيات و بتتصنع إزاي و إزاي تصلح فيها أي عطل".
ابتسم و يشعر بالسعادة من زوجته التي تمتلك سرعة الفهم و البديهة، كما لديها شغف القراءة و معرفة كل شئ عبر قراءة الكتب و تصفح الأنترنت
"عارفة يا ديجا، أنا كل يوم و أنا بصلي بشكر ربنا إنه رزقني بيكِ، أنتِ طيبة و جدعة و جميلة و مثقفة و ذكية، و فيكِ حاجات كتير لو أتكلمت عليها هافضل أتكلم من دلوقتي لحد سنين".
شعرت بالخجل من ما يخبره بها من إطراء و قالت:
"أنا بقي اللي كل يوم بصلي غير الفروض و السنن بصلي ركعتين شكر لله علي كل حاجة أنعم عليا بيها و خصوصاً أنت".
أمسكت بيده و نظرت صوب عينيه بعشق و وله لتردف بنبرة رومانسية حالمة:
"أنت الجنة اللي ياما حلمت بيها بعد حب سنين و صبر و دعوات إنك تكون ليا".
رفع يدها إلي شفتيه و قام بتقبيل باطن كفها و أخبرها:
"تعرفي أنا بقي نفسي في إيه دلوقت؟".
ترك يدها ثم جذبها بين ذراعيه و أردف:
"نفسي في كدة".
و دنا من شفتيها و أخذ يقبلها، و في الخلف بدأ يوسف الصغير يستيقظ و يقول بصوت يغلبه النعاس:
"مامي عايز أشرب".
أنتفض كليهما و ابتعدت عن آدم الذي ألقي نظرة عبر المرآة علي ابنه فوجده يرمقه بغضب، أعطته والدته زجاجة مياه معدنية، تفهم الأخر أن ابنه قد رآه و هو يقبل والدته فقال بمزاح:
"علي فكرة يا چو مامي هي اللي عمالة تحرضني من الصبح، و عمالة أقولها عيب يا ديجا لازم نعمل إحترام للراجل اللي راكب معانا و هي برضو مصممة و عمالة تتحمرش بيا".
لكزته خديجة في كتفه بقوة:
"أنا برضو اللي بعمل فيك كدة، ماشي حسابك معايا بعدين لما نوصل للشاليه".
ضحك و اقترب من أذنها ليسألها بصوت خافت حتي لا يسمعه الصغير:
"هاتعملي إيه؟، هاتتحمرشي بيا؟".
لكزته في كتفه و قالت:
"بس بقي، بقيت منحرف كدة ليه!"
"لينا شاليه هيجمعنا و هناك هجاوبك علي سؤالك عملي و نظري".
غمز بعينه إليها، فقامت بلكزه للمرة الثالثة، صاح الصغير بأمر:
"ملكش دعوة بمامي و سوق يالا".
ضحكت خديجة علي آدم الذي حدقها بتوعد مازحاً و ينظر إلي ابنه قائلاً:
"أمرك يا چو باشا".
عاد ينظر إلي أمامه و استعد لينطلق بسيارته.
༺༻
ضغطت علي علامة الإتصال و أنتظرت حتي يجيب عليها:
"ألو يا بابي؟".
أجاب بصوت يغلبه النوم:
"أيوه يا لوچي، أنتِ بتكلمني من أوضتك؟".
إلي هذا الحد لم يهتم و يتصل بها ليعلم إنها عادت من الخارج أم لا!، أجابت:
"أنا لسه مارجعتش من عند مامي، و هابيت معاها الليلة دي".
نظر في شاشة هاتفه فوجد الوقت متأخراً، أخبرها بغضب:
"مين سمح لك تقعدي لحد دلوقت عندها و كمان عايزة تبيتي".
ردت بتهكم:
"هو أنت حضرتك سألت عليا أصلاً، أنا عموماً كلمت السواق و قولت له مش يستناني و يجي بكرة ياخدني".
أطلق زفرة و قال:
"ماشي يا لوچي لما ترجعي بكرة هيبقي ليا معاكِ كلام تاني".
أجابت ببرود يسبر الأغوار:
"أوك يا بابي، good night، باي".
أنهت المكالمة، فسألتها التي تجلس بجوارها:
"طبعاً زعق لك أول ما عرف إنك هتباتي عندي ".
ترددت الأخري أن تخبرها بذلك:
"مش كدة، بس الموضوع...
"ما تكذبيش يا لوچي، أنا عارفة و فاهمة دماغ باباكِ كويس، هو في فاكر إن هأذيكِ، ما يعرفش إنك الأمل الوحيد اللي عايشة عشانه".
نهضت ابنتها و جثت علي ركبتيها لتحتضن والدتها الجالسة علي الأريكة:
"حبيبتي يا مامي ما تزعليش حقك عليا، لو كلهم ضدك أنا معاكِ و مش هاسيبك".
أبعدت وجه ابنتها عن صدرها لتنظر صوب عينيها عن كثب، تمسك طرف ذقنها، تخبرها بفحيح أفعي ماكرة تريد حرق الأخضر و اليابس:
"حبيبتي يا لوچي أنا مليش غيرك و أنتِ كمان ملكيش غيري، باباكِ كل همه شغله و المستشفي و إزاي يبقي دكتور عظيم الكل يتكلم عنه، و مراته عمرها ما هاتحبك لأنك مش بنتها و لو عملتك كويس عشان بس يوسف ما يزعلش منها، راقبيها من بعيد لبعيد هتلاقي اهتمامها و حبها لإبنها، لازم تتخلصي منها و نرجع عيلة مع بعض أنا و أنتِ و باباكِ ".
"بس يا مامي علياء كويسة، عمرها ما زعلتني و بتعاملني كأني بنتها من زمان"
كاد يجن جنون الأخري، جحظت عينيها و صاحت في وجهها بغضب:
"تاني يا لوچي، أنتِ ما بتفهميش، دي خطفت أبوكِ منك و مني، هي اللي خلته يرميني في المصحة السنين اللي فاتت".
عقبت بتوتر و خوف:
"يا مامي بس أنا كنت شايفة كل حاجة و أنا صغيرة، أنتِ دخلتي المصحة عشان قتلتي uncle مروان".
قبضت علي تلابيب كنزتها و هزتها بعنف:
"أنا كنت بدافع عن نفسي، مروان ضحك عليا زي ما باباكِ خدعني، كلهم كدابين، و علياء دي زيهم أنتِ فاهمة".
كانت الأخري خائفة فأومأت إليها في صمت ثم قالت:
"فاهمة، أنا عملت زي ما قولتي لي، خليت بابي بيشك فيها و في آسر، أخر مرة أتخانق معاها عشان رايحة فرح قريبتها مع بنت خالتها هاجر و آسر، و هو دلوقت بايت في المستشفي".
انتبهت إلي ما أخبرتها به ابنتها، تركت تلابيبها و سألتها بصياح مرة أخري:
"أنتِ إزاي قاعدة معايا من بدري و ما بلغتنيش بحاجة زي كدة؟".
تراجعت بخوف و أجابت:
"نسيت، sorry".
ارتسمت الهدوء و الوداعة علي ملامحها ثم حاوطت وجه ابنتها بكفيها:
"لوچي، أنا عايزة مصلحتك، و مصلحتك يرجع باباكِ ليا، هتساعديني عشان يرجع لي؟".
هزت رأسها بنعم، تخشي غضبها فقالت:
"حاضر مامي".
༺༻
في اليوم التالي...
يوقع في أسفل الورقة اسمه«قصي البحيري»
سأل الموظف الذي يقف ينتظره أن ينهي توقيع الأوراق:
"تاخد العقود دي و تبعتها للشئون القانونية تتراجع".
"أمرك يا فندم".
أمسك الأوراق و قام بترتيبها و أعطاها إلي الأخر الذي أخذها منه و غادر غرفة المكتب
عاد بظهره إلي الوراء و تعود الأفكار إليه من جديد، تذكر أمراً هاماً بالنسبة إليه، رفع سماعة الهاتف و قال:
"منار سيبي اللي في إيدك و تعالي عايزك حالاً ".
و في الخارج لديها أجابت:
"حاضر يا فندم".
أنهت المكالمة و ظلت في مكانها شاردة و يسيطر عليها الشعور بالتوتر، تخشي هذا الأمر المقبلة عليه و ما يخيفها أكثر العواقب التي سوف تترتب عليه، نهضت و اعتدلت من مظهرها، ذهبت إليه.
بالعودة إليه، ينتظرها حتي سمع طرقها علي الباب ثم دلفت و أغلقت خلفها الباب، نهض و أشار إليها نحو المقاعد الجلدية التي يستقبل عليها ضيوفه:
"تعالي نقعد هنا أحسن".
ذهبت و وقفت تنتظر يجلس أولاً ثم جلست بعده، أخذ علبة خشبية من فوق الطاولة و قام بفتحها ليتناول منها سيجاراً، قام إشعالها بالقداحة و بدأ الحديث:
"أنا عارف الأمر مش سهل بالنسبة لك، عشان كدة قولت لك خدي وقتك و ردي عليا بعد ما تكوني فكرتي كويس".
ابتلعت لعابها و أخبرته:
"تمام أنا فكرت، بس قبل ما أقول أنا موافقة أو رافضة، عايزة أفهم حضرتك إنك كدة بتنتقم من مدام صبا، الست أكتر حاجة بتوجعها و بتكسرها لما جوزها بيتجوز عليها، لاء و كمان هيجيبها تعيش معاها في بيت واحد ده قمة القهر".
رمقها بنظرة جعلتها شعرت بالندم لما تفوهت به الآن، فأردفت بتوتر:
"أنا و الله مش قصدي أتدخل في أمور حضرتك الشخصية، لكن لاقيت واجب عليا أن أنصحك سواء أخدت الخطوة دي معايا أو مع غيري".
نفث دخان سيجاره بغضبٍ:
"خلي نصيحتك لنفسك أنا عارف بعمل إيه كويس، و ما تقلقيش اللي هتطلبيه هيتحول علي حسابك و دلوقت، و هاعين أخوكِ في الفرع اللي ماسكه مصعب، ها قولتِ إيه؟".
"مستر قصي أنا عمري ما بصيت للفلوس، و لو هوافق عشان حضرتك طلبت مساعدتي مش أكتر من كدة".
دفس ما تبقي من السيجار في المنفضة الكريستالية قائلاً:
"أنا ما باخدش حاجة غير و بدفع ليها مقابل، ده غير إنه الفترة الجاية هاتسيبي بيتك و هاتيجي تعيشي عندنا في القصر، فبالتالي محتاجة مصاريف، بكرة هتاخدي أجازة عشان تجهزي نفسك و تبلغي والدتك إنك مسافرة تبع الشركة و ممكن أنا هكلمها بنفسي لو عايزة".
"لاء بلاش، قصدي أنا هاقولها، بس حضرتك شوفتني خلاص وافقت أصلاً؟".
نهض و وقف أمامها، دنا منها و استند بيديه علي المساند الجانبية للمقعد جعلها تراجعت للخلف بخوف حتي ألتصقت بظهر الكرسي
"هتوافقي يا منار، و هاتعملي كل حاجة هقولك عليها، وصلت؟".
خبأت وجهها بكفيها و أجابت:
"أنا موافقة، أنا موافقة،بس بالله عليك ما تبصليش البصة دي تاني عشان بخاف منك".
ابتسم رغماً عنه و ابتعد بمسافة قائلاً:
"خلاص أبقي إسمعي اللي بقولك عليه من غير جدال، قومي يلا أرجعي علي مكتبك و أنا هابقي علي إتصال معاكِ".
أبعدت يديها عن وجهها و نهضت:
"حاضر".
غادرت المكان في الحال و عاد هو إلي الجلوس خلف مكتبه، أمسك هاتفه الذي تركه علي الوضع الصامت، فتح معرض الصور و أخذ يقلب في الصور التي تجمعه مع صباقلبه و روحه، قام بتكبير الصورة يتأمل ملامحها و ضحكتها التي يعشقها، قرب الهاتف من شفتيه و أغلق عينيه ليقبل شفتيها في الصورة و داخل عقله يتخيلها بين ذراعيه، كم أشتاق إليها و ود أن تكون أمامه الآن لكان أختطفها بين أحضانه و أذاقها من عشقه إليها خمر شفتيه حتي تثمل و تفقد الوعي بين يديه.
༺༻
استيقظت من النوم علي صوت رنين المنبه، قامت بغلقه و نهضت، قامت بفتح شبكة الـ Wi-Fi في الهاتف و انهالت الإشعارات و الرسائل من تطبيقات الدردشة و رسائل أخري من التطبيقات الأخري
الرسالة الأولي صوتية من صديقتها رودينا، قامت بالضغط لتشغيلها
"صباح الخير يا ملوكه، لما تصحي أبقي كلميني عشان عايزاكِ، سلمي لي علي نور و مليكة"
ضغطت علي علامة تسجيل الصوت و قالت:
"صباح النور يا رودي، أنا لسه صاحية و هفطر البنات و أجهزهم عشان عندهم سباحة النهاردة، هكلمك لما أروح النادي"
رسالة أخري نصية من هذا المحتال
"صباح الخير و الورد يا أحلي ملك".
قامت مرة أخري بالضغط علي مسجل الصوت و قالت:
"صباح النور يا حبيبتي، يارب تكوني بخير، علي فكرة أنا شوية و هنزل أنا و البنات رايحين النادي، لو فاضية نتقابل في الكافيه اللي جمب النادي لحد البنات ما يخلصوا التمرين ردي عليا عشان هابقي أبعت لك الـ location".
رد الأخر برسالة نصية:
"و أنا هستناكِ يا قمر".