رواية تهتك داخلي الفصل الاول
الحلقة الاولي من #تهتُك_داخلي
هل أعطيت يوما للحياة الأمان؟
هل تمنيت يوما أن تعود لذاك الروتين الذي وصفته بالممل لآيام أو لشهور من كثرة المصائب التي تساقطت فوق كاهلك؟....هل أعتقدت أنك ستعود مثلما كنت قبل الأبتلاء؟... أنا لم أعد... حتي أنني لم أعد أستطيع النوم ولا مخاطبة الناس من حولي... أصبحت لا أفعل شيئ ظاهريا سوي
الصمت.... والتركيز بشدة في جميع تفاصيل ماتدور حولي... لعلني أتجنب حدوث حادث جديد مثل الذي مررت به من قبل... أما داخليا.. فقد تحولت لألة لا تتوقف عن التفكير ليلا أونهارا...ماذا يقصد من أمامي بكلماته وبحركاته وبنظراته وتعبيراته... هل هو مجرم متخفي؟! هل هو برئ كما تظهر علي وجهه علامات البراءة والورع؟! هل انا حقا أري
مايمكنني رؤيته ويكفي مايظهر لي منه لأتوخي الحذر؟... لم أكن هكذا من قبل... كنت النقيض تماما... قبل أن أفيق في يوما علي إتهامي في قتل الطالب هادي إسلام البالغ من العمر أربعة سنوات فهو في المرحلة الأولي من رياض الأطفال بالمدرسة التي أعمل بها مُعلمة فصل..... ليس هذا الغريب... الغريب ان الطالب لم يكن ضمن قائمة الطلبة الحاضرين معي في كشف الحضور لذاك اليوم... والأغرب أن الطفل وجد متوفي بين أتوبيسين نقل الطلبة من المدرسة في نفس يوم الذي قمت بإستلام جميع الأطفال من الحافلة وتأكدت بنفسي من خلو الحافلة من أي طفل نائم بها... إذا كان ماقرأته غريبا حتي الآن... فالأغرب لم يأتي بعد....
فالطفل هادي لم يوجد عليه خدش واحد يدل علي مقتله ظاهريا.... أما داخليا فكان مثلي الان محطم بالكامل.... كامل أعضاءه الداخلية كانت بحالة تهتك كامل.... أنا نوران سعيد وهذه قصتي...
انا مصرية مغتربة مع زوجي وأولادي في إحدي الدول العربية منذ مايقارب الاربعة سنوات...تحديدا في دولة من دول الخليج العربي... بعد تواجدي في البلد لفترة قررت النزول والبحث عن عمل يُشغلني... وبذات الوقت يساعد في رفع الأعباء من فوق كاهل زوجي... اردنا أن نكون معا... فكان علينا أن نشدد من أزر بعضنا البعض كلا بطريقته وبما يستطيع تقديمه للمساعدة للوصول لأفضل مستقبل يمكننا توفيره لأولادنا... بعد البحث الطويل توصلت لوظيفة معلمة فصل بإحدي المدارس الخاصة في المنطقة التي أقطن بها...
ولأن المدرسة كانت حديثة العهد فكان يتوجب علي مدرسة الفصل أن تعتني بأطفال فصلها منذ وصولهم حتي ذهابهم... حتي أنه يتعين علي كل مدرسة ان تتأكد بنفسها من نزول أطفال فصلها من حافلة نقلهم... وكذلك من صعودهم للحافلة في أخر اليوم... وبذلك تنتهي وظيفتها وينتهي دوامها مع صعود أخر طفل معها لحافلته... كانت المهمة تسير بشكل هادئ... لا يوجد عمل مريح كليا... ولكني كنت أحب وجودي بجوار الأطفال... وكما كنت أنا وافدة من دولة أخري... كان الأطفال كذلك... أتذكر أن الطفل هادي كان له نصيبا من
إسمه... فأنا أثق أن كلا منا له نصيبا من أسمه... هادي لم يكن قد أكمل سنته الرابعة بعد... كانت جنسيته إيرانيا.... كان وجهه أبيض بلون اللبن... لا يعكره شيئا... عندما تزداد درجات الحرارة قليلا تتحول وجنتيه للحمرة... كانت بوجهه غمازة جميلة تظهر عند ضحكته تجبر من أمامه علي الإبتسام له من شدة هضامته... كانت خصلات شعره الأسود تنساب علي جبهته تخفيها بأكملها... من شدة نعومته كان يتطاير ويتمايل من أخف النسمات للهواء مرورا بجانبه... كنت حقا أحب رؤيته أمامي... حتي أنني تمنيت يوما لو كان أبني...
كانت كفوفه الصغيرة تحتضن كفوفي في أصعب الاوقات التي تمر بي بغربتي في تلك البلد... حقا أحببته من كل قلبي وحزنت لأجله مرتين... مرة لوفاته في هذا العمر وهو مازال صغيرا لم يسعد بمباهج الحياة وفرحتها بعد.. ومرة لوفاته بتلك الطريقة المؤلمة التي لا يستحقها بشر... فما بالكم بملاك صغير...
في صباح يوم الاثنين أخذت أبنتي وأدخلتها حضانتها وذهبت لإستلام عملي... ووقفت أمام الحافلة في إنتظار نزول الطلبة الصغار منها... أكملت عد طلابي ووجدت هادي متغيبا... صعدت للحافلة التي تقله لم يكن موجودا بها... فسألت السائق عم رسلان.... هل أتي هادي اليوم؟ ليجيبني... لا... ونزل من كرسي القيادة وأغلق الباب خلفه وذهب
ليجلس مع باقي زملائه من السائقين... نزلت من الحافلة وسرت وخلفي طلابي الذين ساروا خلفي في صف مستوي... وصلت لفصلي وجلس طلابي بأماكنهم وبدأت بأخبارهم بإخراج فطورهم ويبدأوا بتناوله... وأخذت الدادة حليمة تساعدهم وتضحك معهم... وماهي إلا لحظات حتي سمعنا أصوات هرج ومرج بالخارج... وبدأت تتعالي الصرخات... وتلاها صمت وصراخ من الرجال بأن يصمت الجميع... فتحت باب فصلي ووقفت أمامه لأفوجئ بظابط شرطة خليجي يقف أمامي... هل أنتِ نوران سعيد؟
نوران :نعم... ماذا هناك؟!
الظابط :تفضلي معي إلي مديرية الآمن
نوران:لماذا؟ بما أنا متهمة؟
الظابط :الطالب هادي الذي كان بعهدتك وجد جثته بين السيارتين... وهذه جريمة إهمال أدت إلي قتل... تفضلي معي دون أي شوشرة...
وجدتني أنظر حوالي تائهة... إنتابتني القشعريرة للحظات... حتي أنني اتذكر أنني صباحا كنت أعاني من الحر الشديد... فكيف لي الآن ااشعور بتلك البرودة... وجدت زميلاتي ينظرون إلي ويبكون... لم أكن أعلم ماذا علي لحظتها أن أقول... فكرت في الإبتسام لهم لطمأنتهم... ولكن صدمتي
أبت أن تجعل ملامح وجهي تظهر أي شيئ سوي الدموع... لم أجد سبيلا للتنفس سوي من دموعي... زميلاتي ثريا تبرعت بأستلام الأطفال مني... وأحضرت لي حقيبتي مسرعة ووضعتها بكتفي وأنا ذاهبة مع الظابط والحراس... ونادت صديقتي نادية علي لتخبرني ان لا أخاف... ستقوم بالإتصال بزوجي نادر للحضور فورا... أذكر أنني لم أعيرها أهتمام... كل ما كنت أفكر فيه الآن هل حقا لم أبحث عن هادي بالحافلة جيدا وكان نائما ولم أره؟! هل يُعقل أن أكون حقا تركته بمفرده وأفاق ونزل من الحافلة وتحرك عم رسلان بالحافلة فلم يره وقام بالدهس عليه؟! حاول عقلي التفكير في كل شيئ وكل سيناريو يمكن أن يكون قد
حدث.....وصلت لمديرية الأمن وتم تركي أمام غرفة وكيل النيابة لمدة تجاوزت الست ساعات... علي الجانب الأخر مني يجلس مدير المدرسة والوكيلة... الكل مُستدعي وبإنتظار الإدلاء بأقواله.... كان نادر قد حضر مسرعا بعد ان ذهب وأحضر إبنتنا من الحضانة وتركها مع جارتي السورية قسمت... وجدتني أدخل إلي حضن نادر لأبكي بشدة... لم أفعل شيئ أقسم لك بالله... وجدت نادر يسكتني مع محاولات العسكري أن يجعله يبتعد عني كي لا يتم
مجازاته... ولكن مع محاولة نادر إقناعه بأنه لن يفعل شيء فقط سيطمئنني فقط صمت العسكري علي مضض...
نادر :أخبريني سريعا بما حدث... أتصلت بزميل لي يعرف محامي سيحضره ويأتي علي الفور... فقط أخبريني بما حدث معك؟
نوران ظلت تخبره وهي ترتعش والدموع تتساقط من عيونها... لترفع عينها تنظر لنادر تارة وللمدير والوكيلة أمامها تارة أخري... كان يبدوا عليهما الثبات الشديد... لم اكن أعتريهم أي إهتمام ولا تركيز... فقط مجرد نظرات تفقدية سريعا لا تعني شيئا أكثر من نظرة... بعد مرور ست ساعات فوجئنا بقوات الشرطة قد أحضرت السائقين بإستدعاء رسمي من النيابة... ولكن العم رسلان والعم فاروق فقط من كانوا مكبلين بالأصفاد... كان محامي المدير قد وصل وطمأنهم
علي الوضع... وأن بالرغم من وجود جثة الطالب بالمدرسة الا ان المسؤلية ستنطلي علي السائق والمدرسة... وإذا لزم الأمر سينتهي الأمر بصرف تعويض كافي لأهل الطفل المتوفي وحل القضية معهم وينتهي الأمر... ولا داعي للقلق... ثار نادر بشدة وأمسك بملابس المحامي... كيف لك ان تقول ذلك؟! أي ضمير ذلك الذي تمتلكه!! المعلمة لم تفعل شيئ وتريد تحويل القضية لإهمال ادي لقتل لتصبح قضية فرد وتخرج المدرسة كمنظومة كاملة لا يشوبها تصرفات الفرد الفاسد... عن أي شيئ تتحدثون! زوجتي لم تفعل شيئ وأنتم تعلمون ذلك ولن تكون كبش فدا لخلاصكم من الجريمة... علي الفور أتي صديق نادر ومعه شخصا أخر كان المحامي الذي تدخلا سريعا لحل الأمر وتخليص محامي المدير من يد نادر...
بعد دقائق قام وكيل النيابة بالمرور امامنا للدخول لحجرة الإستجواب ومعه أثنين من الرجال يسيرون خلفه... وماهي إلا لحظات إلا وتم إستدعائي أولا... فدخلت ومعي المحامي خاصتي الأستاذ محمد... دخلنا فألقي الأستاذ محمد السلام علي الجميع فقاموا بالرد وأشار إلينا وكيل النيابة بالجلوس...
وكيل النيابة:أستاذة نوران هل لكِ تذكر ما حدث بالتفصيل الممل ليوم الأحد؟ كيف كان حال هادي؟
نوران :لم أري هادي اليوم فقد كان... ثم صمتت قليلا... أعتذر لقد فهمت سؤالك بشكل خاطئ... حضرتك بتسأل عن الأمس؟
وكيل النيابة :بالظبط... الطب الشرعي في التقرير المبدئي أقر ساعة الوفاة ما بين السادسة صباحا والسابعة صباحا.... وأستلام عملك من الثامنة إلا الربع صباحا... مع العلم بوجود محضر تغيب من الأمس مقدم من أهل الطفل المجني عليه لعدم حضوره بالأمس للمنزل في موعده ولم يبيت بمنزله ليلة أمس... هلا وصفتي لي حالة الطفل هادي قبل صعوده لحافلته بنهاية اليوم الدراسي بالآمس؟
نوران :كان هادي بطبعه هادئا... ولكن بالأمس كان يبدو عليه التعب... حتي انني أبلغت مشرفة الدور الأستاذة مروة بالأمر وقامت بتبليغ والدته عبر الهاتف وكنت أتوقع أن تأتي لإخذه للمنزل ليرتاح... ولكن فؤجئت بعودته مرة أخرة مع استاذة مروة وظل نائما علي المنضدة فوق يديه المشبوكة حتي نهاية الدوام... توقعت أن والدته لم تستطيع الخروج من العمل باكرة لأخذه... كنت أذهب إليه وأتفقد حراراته... كانت عالية بعض الشيئ ولكن ليس كثيرا... وبأخر اليوم قمت بتسليمه للسائق عم رسلان... وجلس بمقعده... رأيته بنفسي يجلس ويستند علي مسند الكرسي ويحاول ان يغفو قليلا.. قمت بتوصية عم رسلان عليه وتركته وذهبت إلي حضانة إبنتي أحضرتها وعدت لمنزلي...
وكيل النيابة : ماقولك أن كاميرات المراقبة بفناء المدرسة لم تظهر ركوب الطفل هادي بيدك للحافلة ليوم الأحد عقب إنتهاء اليوم الدراسي؟!
وجدتني أصمت من جديد... لم تسقط دموعي تلك اللحظة من الأساس... لم أستطيع إبداء إي ردة فعل لا طبيعية ولا حتي لا إراديه.. وكأنني تجمدت وتجمد حولي الوقت... لحظتها تذكرت ما حدث... ووجدتني أنظر بكف يداي... هل حقا أفلت يده من يدي قبل صعوده للحافلة؟ إذا كان كذلك فلماذا أشعر بلمس كفوفه في يداي إلي الآن؟ هل كنت أتوهم ما حدث؟ وجدتني أستفيق علي صوت المحامي مدام نوران هل تسمعيني.... وجدتني أرد عليه مسرعة... لقد سلمته بيدي للعم رسلان... والكاميرات في جميع الإتجاهات تظهر صعودي كل يوم بالأطفال للحافلة... فلماذا سأفعل عكس ذلك إذا كان أحدهم مريض؟
هنا طالب المحامي بسرعة التحقق من اقوالي بمعاينة كافة كاميرات المراقبة للتأكد من صحة أقوالي... ما دفع وكيل النيابة إلي طمئنته إلي أن هذا مايدور بالفعل في المعمل الجنائي... ولكن لدي سؤال أخر لموكلتك.... أستاذة نوران ثبت من دليل التليفونات أنكِ قمت بالتواصل مع والدته لأكثر من نصف ساعة مساء الأحد علي الخطوط الأرضية.. هل من الطبيعي ان يتم التواصل بين المعلمين وأولياء الأمور لكل تلك الفترة؟
نوران : كانت تسألني عن اعراض مرض طفلها وأجبتها بكل شيئ... حتي انها لم تخبرني بإختفائه وعدم مبيته بالمنزل هذا اليوم...لم أعلم بإختفائه إلا الآن ومن سيادتك...
وكيل النيابة: ولكن الأم تقول أنها أخبرتكِ بذلك في اول المكالمة وأن محادثتها لكِ كان علي تتبع خط سير الحافلة إن كان لكِ بها علم وطلبت منكِ عنوان منزل العم رسلان للسؤال عن طفلها؟
تلعثمت نوران وأخذت تنظر حولها... لا تعلم ماذا عليها أن تقول... فقط لم تجد سوي الصمت من جديد... ولكن تلك المرة قرع الباب ليدخل العسكري بتقرير من الطب الشرعي جديد... لأجدني أهاب الموقف وتتسارع دقات قلبي وخروج أنفاسي بشكل متوالي... انظر لملامح وكيل النيابة وهو يقرأ التقرير لعلني أفهم شيئا من تعابير وجهه...
وما أن أنتهي من القراءة حتي أغلق التقرير ونظر للكاتب... أمرنا نحن وكيل النيابة بحبس المتهمة نوران سعيد أربعة أيام علي ذمة التحقيق....