رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل السابع والثمانون 87 بقلم شمس بكرى

 

رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل السابع والثمانون بقلم شمس بكرى

"الفصل السابع و الثمانون"
"رواية تَعَافَيْتُ بِكَ_الجزء الثاني"
_________________________

قال واصفًا الشعور بخيبته:
"كمن أحضر حِلته لحضور حفل زفافٍ و لم تأتيه دعوةٌ بعد"
_________________________

يرهقني أنني مليءٌ من الداخل بخبايا و أسرارٍ لم استطع البوح عنها لكنها تفيض من عيناي، شخصٌ مثلي اعتاد القلق و السهر في جوف الليل خَلعًا من نفسي قبل الناس، لكن لا بأس فهي دنيا و لا يوجد بها راحةٍ، فأيقن قلبي أن الأمر كله بيد الله و لسان حالي يردد:
‏﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾.

كم هي قاسية صفعات الخذلان بعد الانعام بالراحةِ ؟! حيث يشبه الأمر في حقيقته الحصول على بئر المياه وسط الصحراء بعدما سرت عَطِشًا طوال الليالي و حينما ركضت إليه بكامل قوتك؛ تفاجئت به فارغًا و كأن أحلامك سقطت فوق رأسك، هكذا كان حال "ياسر" و هو يقف أمام المحامي الذي أخبره بوفاة والده و كأن الكهرباء مَست جسده ليقف متسمرًا !! فقال المحامي من جديد:

"أنا أسف أني فاجئت حضرتك كدا بس أنا بحاول أوصل لحضرتك من اسبوعين و مش عارف، البقاء لله"

رأرأت عينيه و كأنها خالية من الحياة و لم يبادر حتى بالنطق على المحامي، فتحدث "خالد" بثباتٍ:
"و نعم بالله، اتفضل حضرتك مينفعش الكلام من على الباب كدا"

تحرك "عامر" بعد حديثه أخيه أمرًا الفتيات بجمودٍ:
"ادخلوا جوة كلكم محدش يطلع دلوقتي"

تحركت الفتيات بتعجبٍ و نظرات الاستنكار تدور بينهن و كلٍ منهن تنظر للأخرى بحيرةٍ حتى اختفى أثرهن، فدلف الشباب معًا للداخل و أمامهم المحامي و خلفهم "ياسر" يسير بلا روحٍ كما الجسد الخاوي.

جلسوا جميعًا فقال "حورج" بنبرةٍ عملية:
"أنا متأسف للمرة التانية اني جيت من غير ميعاد بس حارس العمارة عند استاذ ياسر قالي إنه هنا عند أخوه، اعذروني معلش"

رد عليه "ياسين" بنبرةٍ هادئة و عينيه تتابع قسمات وجه "ياسر":
"ولا يهمك يا فندم حضرتك نورتنا طبعًا، بس هو توفى امتى ؟!"

رد عليه "جورج" متأسفًا مراعيًا حالة الأخر:
"من شهر تقريبًا، بس على ما خلصت الإجراءات و الورق و جيت هنا الموضوع خد مني وقت كبير"

تنفس "ياسر" بحدة محاولًا الثبات أمام نفسه قبلهم جميعًا لكن هل في ظروفه تلك سيتطع الثبات ؟! كانت الأعين جميعها موجهةً نحوه فقال هو بنبرةٍ متحشرجة مختنقة:

"أنا مقدر مجهود حضرتك و وقتك كمان بس اعذرني، أنا مش هقدر أخد حاجة من دول، تقدر حضرتك ترجعها لصحابها و قولهم أنا مباخدش شفقة من حد"

نظر أخوته لبعضهم فيما قال "جورج" بثباتٍ:
"أنا مقدر حالتك و عارف الظروف الخاصة بيك و بوالدك، بس دا حقك أنتَ، الفلوس دي والدك اشتغل بيها و كبرها و عمل بيها اسم، يعني دا حقك أنتَ و أخواتك مش شفقة منهم !!"

رد عليه "ياسر" بنبرةٍ جامدة:
"الفلوس دي اللي هو سابنا علشانها ؟! الفلوس اللي جت بكسرة قلبي أنا و أخواتي ؟! الفلوس اللي قهرني بيها علشان تبقى معاه ؟!"

رد عليه "جورج" بوقارٍ:
"أديك قولت أهو سابك علشانها !! و في النهاية رجعتلك أنتَ و أخواتك و دا حقكم، الفلوس دي كانت مبلغ صغير مع المدام قبل جوازها من والدك، هو كبره و شغله و عمله بمجهوده، يعني فلوس حلال و حقك أنتَ اكتر من أي حد تاني، و الاستاذ فادي بنفسه هو اللي صمم إن الحق دا يوصلك"

نظر له "ياسر" بامعانٍ فقال هو بوقارٍ و ثباتٍ:
"الاوراق مع حضرتك أهيه راجعها و شوف كل حاجة فيها و أنا هنا في مصر فترة و مسافر تاني اتمنى إن حضرتك تمضي علشان أسلم حضرتك الحاجة، عن اذنكم ورايا ميعاد، و مش عاوز من حضرتك رد دلوقتي"

وقف "جورج" بعد حديثه بعدما قطع كل سُبل المعارضة على الأخر فوقف "ياسر" يقول بنبرةٍ متحشرجة:
"عن اذنكم هوصله و طالع تاني"

نظروا لبعضهم البعض بقلة حيلة يتابعوا خروجهما خلف بعضهما و نظرات الاستفهام تغلف ملامح وجوههم، فيما نزل "جورج" و معه "ياسر" هو الأخر الذي ذهب في وادٍ أخر، حتىٰ توقف المصعد و خرج منه كليهما، فقال "جورج" متفهمًا حالته:
"عن اذنك يا دكتور ياسر، منتظر ردك و متأكد إنك هتحسبها صح، دا حقك شرعًا و قانونًا"

حرك "ياسر" رأسه موافقًا ثم مد يده للآخر يودعه و لازالت الدموع كما هي متحجرة في عينيه تأبى الخروج من مصدرها، فابتلع غصة مريرة في حلقه و كأنها أشواك تُخيم على حلقه و تؤلمه، شعر بكف أحدهم يوضع على كتفه من الخلف فحانت منه التفاتة برأسه حتى يتسنى له رؤيته فوجد "ياسين" يقول بنبرةٍ خافتة:

"تعالى في حضن أخوك و عيط، بلاش تكتم وجعك كدا، تعالى"

قالها "ياسين" بألمٍ و كأنه يناصف الأخر في حزنه فيما ارتمى "ياسر" عليه يتشبث به و هو يبكي بحرقة قلبٍ مكلومٍ حتى ارتفع صوت بكائه و تقطعت أنفاسه من الشهقات و حينها احتواه "ياسين" بين ذراعيه و هو يبكي معه ألمًا على صديقه و ما حل به، و فجأة فتح المصعد ليركض منه "عامر" و "خالد" سويًا نحوهما و هما يبكيان بعناق بعضهما، فاقترب "عامر" يربت عليهما و "خالد" الذي سحب "ياسر" بين ذراعيه يُضلل عليه محاولًا الثبات أمامه، لكن هيهات ففي تلك اللحظة تشارك أربعتهم الوجع و كأنه مس قلوبهم جميعًا و ليس واحدًا منهم.
_________________________

أنهت "خلود" الدرس و التكريم و قام المعلم بالتقاط صورةً معها فخرًا بها و كادت تجزم هي أنها أصبحت في خفة الفراشات المُحلقة على أغصان الشجر.

وقفت أمام المركز التعليمي تنتظر قدومه بعدما اتفقت معه أن يمر عليها و يأخذها إلى البيت نظرًا لتأخر الموعد، أتى "عمار" من خلفها يقول بنبرةٍ هادئة:

"دي يدوبك البداية لسه، صدقيني مفيش حاجة هتديها وقتك و طاقتك و مجهوك و هتبخل عليكِ، كلنا عندنا الطاقة و القوة بس محتاجين حد يشاورلنا عليها طالما احنا مكتشفناش دا، و أنا واثق إن طاقتك كبيرة و البداية مبشرة أهوه"

ابتسمت و التفتت له تقول بنبرةٍ هادئة على عكس عادتها:
"أول مرة اتكرم أو احس أني شاطرة، طول عمري عندي عقدة بسبب المدرس اللي بيهتم بطالب و الباقي لأ، كنت مبذاكرش عندًا فيه علشان هو مش مديلي فرصة حتى أحاول مع نفسي، و أنا من النوع اللي الكلمة تخليه يكسر الدنيا و كلمة تنيمه باقي العمر، بس الحمد لله طلعت شاطرة أهو"

ابتسم لها "عمار" و هو يقول بنفس الهدوء:
"ربنا يوفقك و يديم عليكِ النجاح يا رب، أنتِ قدها و قدود إن شاء الله"

حركت رأسها موافقةً بإيماءةٍ بسيطة و في تلك اللحظة توقفت سيارة "وليد" أمام المركز و خرج هو من السيارة يقول مستفسرًا:
"ها اتأخرت عليكِ ؟!"

حركت رأسها نفيًا ثم اقتربت منه تقول بنبرةٍ هادئة:
"لأ أنا لسه نازلة أهوه يدوبك، يلا بس علشان ورايا درس بدري بكرة و عاوزة أراجع على اللي ذاكرته"

رمش "وليد" ببلاهةٍ فتحركت هي تجلس بجواره فيما حرك هو رأسه نحو الأخر يقول بسخريةٍ:
"هتراجع على اللي ذاكرته ؟! خلود ذاكرت و هتراجع كمان ؟! بركاتك يا شيخ عمار"

ابتسم له "عمار" فقال هو له بثباتٍ:
"يلا علشان أوصلك معايا في طريقي، تعالى يلا"

اعتذر منه "عمار" و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"تسلم يا وليد أنا معايا الموتوسيكل بتاع عامر و مش هينفع أسيبه، روح أنتَ و تتعوض مرة تانية"

ابتسم له "وليد" بتفهمٍ ثم ودعه و رحل من أمامه بالسيارة فنظر "عمار" في أثرهما مبتسمًا براحةٍ و كأن النجاح يخصه هو.

في السيارة كانت "خلود" تعرض عليه ما حصلت عليه من المُعلم بفرحةٍ كبرى و حماسٍ غريب عليه منها هي تجاه الدراسة، حتى قالت هي بنفس الحماس:
"خدت ٢٠٠ جنيه حتة واحدة يا ليدو، أنا عمري ما خدت ١٠ جنيه حتى قبل كدا، طلعت شاطرة"

ابتسم هو لها ثم قال بثباتٍ:
"أنتِ طول عمرك شاطرة بس مش واثقة في قدرات نفسك، من صغرك بتخافي تذاكري، بس لما تقعدي ساعة واحدة بضمير بتقومي فاهمة و مركزة، صدقيني أنتِ لا فاشلة ولا حاجة أنتِ بس عاوزة اللي بشجعك و يديكِ زَقة"

حركت رأسها موافقةً بتفهمٍ ثم قالت بنفس الحماس مرةً أخرى:
"بس أنا فرحانة أوي بجد، و عاوزة أكل شاورما و طبعًا ليدو هيعزمني صح ؟!"

نظر لها بطرف عينه ثم تنهد بقلة حيلة و حرك رأسه موافقًا و قال بضجرٍ زائفٍ:
"ماشي !! جاية على اللي خلفوني بخسارة بس حاضر دي الليلة عيد، خلود مذاكرة و هتراجع"

ضحكت هي على سخريته فقال هو متابعًا حديثه:
"بقولك !! مش هناكل في المحل هنروح البيت ناكل سوا علشان عبلة تمام ؟؟"

حركت رأسها موافقةً ثم سألته بتشوشٍ:
"هي عبلة معندهاش أكل في البيت ؟!"

رد عليها بهدوء:
"لأ فيه طبعًا، بس أنا مش هعرف أكلها من غيرها، كتر خيرها شايلة ابني و ساكتة"

ردت عليه"خلود" بنبرةٍ هادئة:
"ربنا يخليكم لبعض و يقومهالنا بالسلامة، هانت خلاص كلها كام شهر"
ابتسم هو لها ثم حرك رأسه موافقًا و عاد النظر أمامه من جديد و هو يفكر في اليوم الذي سيمسك به قطعة صغيرة منه تشاركه في حب زوجته و قلبه ينبض للمرة الثانية لأجله هو.
_________________________

وقف "أحمد" مع "سلمى" في شقتهما يتابعانها و "حسن" على بعدٍ منهما هو و الشباب و مهندس الديكور صديق "حسن" منذ الدراسة.

تحدث "أحمد" يسألها بنبرةٍ هادئة:
"شوفي كل اللي نفسك فيه و أنا هعمله متشيليش هم حاجة، عاوزة إيه ؟!"

حركت كتفيها بحيرةٍ ثم قالت:
"بصراحة معنديش حاجة معينة في دماغي، أنا بحب الحاجات الهادئة أوي، و في نفس الوقت مش عاوزة اتقل عليك، كفاية إنك أنتَ اللي شايل المسئولية دي"

ابتسم لها ثم قال يُطمئنها:
"ملكيش دعوة بحاجة لسه معانا وقت كتير الراجل يظبط على مهله و أنا اتصرف، المهم شوفي كدا إيه رأيك ؟!"

حركت رأسها موافقةً ثم تابعت الشقة بنظرها و قالت بصوتٍ هاديءٍ:
"بص !! احنا نخليها نفس نظام الشقق اللي هنا، يعني نفس التقسيمة بس اللي هيختلف توزيع العفش و الدهان، لكن غير كدا كل حاجة هنا حلوة و خايفة نبوظها"

حرك رأسه موافقًا فاقترب منهما "طارق" يقول بوجهٍ مُبتسمٍ:
"إيه يا عروسة عجبتك الشقة ؟! أول مرة تدخلي هنا صح ؟!"

حركت رأسها موافقةً بخجلٍ فقال "طارق" لهما بهدوء:
"اعملوا اللي نفسكم فيه هنا و اللي تحتاجوه احنا موجودين، اختاري أنتِ و أحمد اللي يعجبكم، أحمد مظبط كل حاجة و عامل حسابه للي نفسك فيه، طلع سوسة و محوش من ورانا"

ابتسمت هي له ثم قالت بتفهمٍ:
"مش محتاج تقول كدا يا طارق علشان تكبره قصادي، أحمد عاقل و مكافح و لو عمل أقل حاجة بحب ليا و لوجودي معاه صدقني أنا هفرح من كل قلبي، كفاية إنه معتمد على نفسه"

ابتسم "أحمد" بسعادةٍ طغت على نظراته و ملامح وجهه السمحة فيما قال "طارق" بتفهمٍ:
"ربنا يخليكم لبعض يا ستي بس هو محتاج حد يتكلم عنه علشان يكبر، أحمد فعلًا عامل حسابه علشانك و بقى بيشتغل أضغاف مضاعفة علشان لو ربنا كرمه بدري بدري يقدر يخلص و يتجوزك و تكملي هنا في بيته، و لو دا حصل أنا واثق فيه إنه هيسد في الدور، شدوا حيلكم انتوا بس"

نظرا لبعضهما بحبٍ فاقترب "وئام" يقول بثباتٍ:
"هيبدأ من أول الأسبوع الجاي في تشطيب الحمام و المطبخ علشان السيراميك، و البلكونة متشطبة تبع وجهة البيت، حلو كدا ؟!"

حركت رأسها موافقةً فقال "طارق" من جديد:
"اختاروا بقى السيراميك علشان نركبه ليكم و علشان نجهز كل حاجة، طبعًا إحنا معاهم هنا يعني محدش فيكم يشيل هم حاجة، تمام ؟!"

رد عليه "أحمد" ممتنًا بقوله:
"ربنا يبارك فيكم، استحملوني لحد ما أبقى جاركم هنا، مش فاضل كتير يعني"

اقترب "حسن" و المهندس منهم فقال الأول:
"كدا تمام يا أحمد كل حاجة اتظبطت و اتقسمت زي ما أنتَ عاوز، اللي فاضل مش كتير خلاص، المهندس أول ما يبدأ كل حاجة هتمشي زي الفل و هو معانا يعني تبعنا"

أيده المهندس مؤكدًا حديثه ثم أخبرهم بطريقته في العمل و التكلفة تقريبًا و التي كانت وفق موارد "أحمد" المالية.

رحل المهندس من البيت فتحدث "حسن" بنبرةٍ هادئة:
"يلا بقى علشان نروح هدير ليها ميعاد دوا و هجيبه، عن اذنكم"

تحدث "وئام" بلهفةٍ:
"استنى يا عم أنتَ !! رايح فين ؟! اتعشوا معانا و بعدها امشوا"

رد عليه "أحمد" مسرعًا:
"لأ علشان عم محمد بيتلكك مش ناقصة هي، هو قالي مأخرهاش و أنا محترم كلامه طالما هو مش تاعبني في عيشتي"

ابتسم له الشباب فاقتربت هي من أخيها "طارق" تحتضنه و تودعه ثم رحلت مع زوجها و "حسن" معهما، فيما نظر كلٍ منهما للأخر فقال "وئام" بنبرةٍ ضاحكة:
"تصدق شكلهم حلو مع بعض ؟! عمري ما كنت اتخيلها بس أحمد و سلمى لايقين لبعض أوي"

وضع "طارق" يده على كتف الأخر و هو يقول بدهاءٍ:
"من يوم ما اتعاكست في فرحك و هو اتخانق علشانها و اتحمق أوي كدا و أنا كنت شاكك فيه، بس هو كان أهطل و شاف غلط"

ابتسم له "وئام" فصدح في تلك اللحظة صوت صغيره ينادي عليها حينها تحدث "طارق" ساخرًا:
"رد عليه يا أبو فارس، الواد ساب الكلام كله و مسك أوي في الكلمة، رد يا أخويا رد"

ضحك عليه "وئام" ثم قال:
"روح ربنا يرزقك بعيل زيه كدا كل ما تنام يصحيك"

تحرك "وئام" بعد حديثه فرفع "طارق" صوته قائلًا بسخريةٍ:
"يعني هيجيبوا من برة ؟؟ طالع لعمه، مصيبة سودا فوق دماغنا لو اللي جاي في السكة هو كمان زيه"
ارتفعت ضحكات "وئام" أكثر و "طارق" أيضًا معه خوفًا مما يفكران به.
_________________________

في شقة "عامر" صعد الشباب مرةً أخرى بعدما هدأت نوبة بكاء "ياسر" و عَبَر عن حزنه أمام أخوته، خرجت الفتيات أيضًا تجلس معهم و بعد معرفتهن بما حدث ظهر الحزن على وجوههن و خاصةً "إيمان" التي طالعت زوجها بأسىٰ و شفقةٍ، فيما قال "خالد" له بحكمةٍ:

"سمير الله يرحمه بقى يا ياسر، و الفلوس دي حقك و لازم تاخدها، يا أخي اعتبرها تعويض من الدنيا عن اللي حصل، أنتَ ليه غاوي وجع قلب ؟!"

انتفض "ياسر" من مجلسه يقف أمامه و هو يقول منفعلًا بصوتٍ عالٍ يخالطه الانكسار و الآلم:

"أنتَ ليه مصمم تتعبني ؟! ليه مش عاوز تفهمني ؟! الفلوس دي جت بوجع قلبي أنا و أهلي !! مش دي الفلوس اللي هو سابنا علشانها ؟؟ مش دي الفلوس اللي وقف قصادي و قالي أنا مش ملزم بيكم علشانها !! مش دي الفلوس اللي خلتني اتمرمط في الشوارع من صغري ؟! بعد كل دا أمد ايدي و أخدها ؟!"

رمقه "خالد" بقلة حيلة فيما انتفض"عامر" هو الأخر يقول منفعلًا بصرامةٍ:

"أديك قولت !! جت بتعب القلب !! جت من تعبك أنتَ و سهرك و شغلك، ليه مش عاوز تريح نفسك ؟! ليه مصمم توقف حياتك على واحد زي دا ميستاهلش أصلًا دمعة واحدة منك ؟! الفلوس دي جت رزق العيلين اللي ربنا كرمك بيهم، حقهم من جدهم اللي باع الدنيا كلها علشان الفلوس و في الأخر ماخدش معاه حاجة، الكفن ملوش جيوب يا ياسر، تقدر تقولي هتوديهم فين الفلوس دي ؟؟ هترجعهم تاني لفادي ؟؟ مش محتاجهم أصلًا، و لا فارق معاه، لكن إحنا يهمنا، تقدر تقولي عيالنا دول مين ضامن حياتهم ؟؟ ولا أي حد !! مفيش واحد فينا عامل حسابه حتى لمدة سنة، هي حتة جمعية كل واحد فينا هيقبضها و تتحط ليهم، على ما يكبروا مش هتضمن حتى تعلمهم، ركز يا ياسر و بطل تظلم نفسك"

طالعه "ياسر" بتيهٍ فأضاف"خالد" مكملًا على حديث الأخر:
"عامر كلامه صح، لا أنا و لا أي واحد فينا مأمن مستقبل عياله، اهوه قدامك مصاريف ولادة بس و كام يوم شوف صرفت قد إيه ؟؟ بس الحمد لله ربك اللي بيرزق، و رزقك جالك اقبله و ريح نفسك علشان بعد كدا هتندم، نسيت نومتك في الشارع ؟؟ نسيت تعبك علشان توضب الشقة ؟! نسيت الديون اللي كنت ملتزم بيها علشان تجوز أخواتك و ماخدتش من واحد فينا جنيه ؟! كل دا حقك الدنيا كانت شايلاه ليك و جالك"

ضرب "ياسر" كفيه ببعضهما و هو يقول منفعلًا بنفاذ صبرٍ:
"برضه هيقولي حقي !! حقي منين و أنا مشقيتش فيه ؟!"

تدخل "ياسين" يقول هو الأخر بانفعالٍ في وجهه:
"مشقيتش فيه آه، بس شقيت بسببه !! و لا نسيت ؟! هو لو كان معاك كان هيحصل فيك كدا ؟! كنت هتتعب كدا ؟! كنت هتشوف اللي شوفته و عديت بيه ؟! دا حقك في الدنيا تاخده منها و تحط إيدك في بوقها و تسحبه، لو مزعلك أوي كدا، اعتبره رزق عيالك و جالهم و أنتَ أمين عليه لحد ما ياخدوه، بطل تظلم نفسك بقى يا أخي !!"

مسح "ياسر" وجهه بعنفٍ فيما قال "ياسين" بنبرةٍ أهدأ:
"دا ورث يا ياسر يعني مفروض عليك تاخده، حقك و حق أخواتك غصبٍ عن الكل، خده و ريح نفسك و ريح اللي حواليك، مترفضش النعمة اللي ربنا أنعم عليك بيها"

تنفس "ياسر" بحدة ثم قال بثباتٍ و نبرةٍ جامدة:
"طيب !! الفلوس دي أيًا كان هما كام بعد نصيب ندى و نيرمين هتتقسم على أربعة، و انتوا قبليا"

اتسعت عيونهم بدهشةٍ، فيما أضاف هو مُقررًا بنفس الثبات:
"قولت اهوه !! قابلين تتقسم علينا احنا الأربعة يبقى خلاص هاخدها، لو واحد فيكم اعترض يبقى يرجعوا زي ما كانوا؛ ميلزمونيش"

اقترب "خالد" منه يقف مجاورًا له و هو يقول بنبرةٍ جامدة هو الأخر:
"هو أنتَ اتهطلت ؟؟ فلوس إيه دي اللي ناخد منهم ؟! بإمارة إيه إن شاء الله ؟!"

رد عليه "ياسر" مفسرًا:
"بإمارة إن مفيش واحد فينا الدنيا ضحكتله لوحده و لا التاني الدنيا ضربته لوحده، زي ما طول عمرنا كتف واحد يبقى الفلوس دي تخصنا كلنا، يتقسموا علينا و عمار معانا هو كمان، نصيبنا يتحط في البنك لعيالنا، و عمار يفتح صيدلة بعد تخرجه، يمين بالله لو حد اعترض لأخدهم تاني أرجعهم، لو وافقتوا !! همضي حالًا و امضي اخواتي، ها !!"

كست الدهشة ملامح وجوههم جميعًا و كذلك الفتيات فرفع "ياسر" حاجبيه يستفسر منهم عن إجابتهم فيما وقفوا هم بدهشةٍ لم يصدق أيًا منهم ما وقع على سمعهم.
_________________________

في بيت آلـ "الرشيد" كان "وليد" جالسًا بجوار زوجته و "خلود" أمامهما تذاكر دروسها و تأكل من الطعام الذي جلبه "وليد" لهما، و كذلك هو يتناول الطعام أيضًا و يطعم "عبلة" بين الحين و الآخر.

صعد لهم "أحمد" و "سلمى" معًا و جلسوا سويًا فقال "أحمد" بمعاتبةٍ زائفة:
"كدا يا ليدو ؟! شاورما من غيرنا ؟! اخس على العشم اللي بيننا ؟!"

قدم له "وليد" الحقيبة البلاستيكية و هو يقول بضجرٍ:
"أمسك و مترغيش كتير، فيه معاك اربع سندوتشات كنت جايبهم لعبلة بس نفسها مسدودة باين كلت الـ ٨ التانيين بس"

وكزته "عبلة" في كتفه فتأوه هو صارخًا و قال بألمٍ:
"آه....خلاص خلاص كلت ٦ بس، بألف هنا و شفا"

ضحكوا عليهما جميعًا فقالت هي بضجرٍ منه:
"ألف هنا و شفا على قلبي و قلب ابني حبيبي، هو اللي مغذيني"

رد عليها "وليد" بضجرٍ:
"اخرتها بقت هو اللي مغذيكي ؟! و أنا اتحرق يعني ؟!"

ابتسمت له باستفزازٍ أثار حنقه فسألها هو بنبرةٍ هادئة:
"إلا أنتِ بقيتي في الشهر الكام يا شابة ؟؟"

وضعت كفيها على بطنها و هي تقول بحماسٍ:
"خلاص اهوه بنشطب في الخامس و داخلين في السادس"

زادت الضحكات أكثر بعد حديثها فقال هو بتهكمٍ:
"إيه دا ؟! أنتِ حامل في شيكارة اسمنت ؟! احترمي ابني اللي في بطنك لو سمحتي، بطلوا قلة قيمة بقى"

صعدت "هدير" في تلك اللحظة و معها "مشيرة" و خلفهما "حسن" يحمل صينية كبيرة الحجم يتوسطها أطباقٌ من الحلويات فسألهم "وليد" متعجبًا:

"إيه دا أنتوا مروحتوش ؟! غريبة يعني"

ردت عليه "مشيرة" بثباتٍ:
"لأ هما هيفضلوا معانا هنا علشان محمود متضايق إنه لوحده، و بعدين ادينا قاعدين سوا أهوه، دوقوا بقى عملتلكم بسبوسة و أم علي كمان، طلبك اهوه يا عبلة"

نظرت لها "عبلة" بتوسلٍ ألا تفضح أمرها فيما تابعت "مشيرة" بمرحٍ دون أن تنتبه لنظرات الأخرى:
"عبلة بقالها يومين تطلب مني ام علي، قولت بما أني فاضية النهاردة بقى اعملها ليها علشان تاكلها"

رفع "وليد" حاجبيه مستنكرًا قول عمته و هو يقول بسخريةٍ:
"عبلة ؟! قصدك علبة، عمالة تاكل ما شاء الله، أنا خايف و الله يطلع دا كله حمل كاذب و البطن دي من كتر الأكل"

نفخت وجنتيها بضيقٍ منه فيما تدخل "حسن" يقول بسخريةٍ:
"أومال هدير مش عاوزة تاكل ليه من أول الحمل ؟! دا أنا و عم محمود بقينا نتحايل عليها تاكل منابها بس"

رد عليه "وليد" يعانده و هو يراقص حاجبيه:
"أنا مراتي بتاكل و أنتَ لأ"

تدخلت "خلود" تقول بمرحٍ:
"خلاص لو زعلانين كدا أنا هعتبر الحلويات دي بمناسبة نجاحي و تكريمي، مش أنا اتكرمت النهاردة"

قالتها بحماسٍ ثم قامت بعرض الهدايا أمامهم جميعًا حتى قالت "هدير" بفرحةٍ:
"اللهم بارك يا خلود، فرحانة بيكي أوي ربنا يبارك فيكي و ييسرلك كل أمر صعب و يناولك ما في بالك يا رب"

اقتربت منها "خلود" تقبل وجنتها ثم طوقت كتفيها من الخلف بذراعيها و هي تميل عليها و قالت بحبٍ:
"أنا بحبك أوي يا هدير، كل يوم بقيت بحبك أكتر من اللي قبله، الخمار مخليكي طيبة أوي"

ضحك "حسن" بعدما حاول كتم ضحكته فيما قالت "هدير" بسخريةٍ:
"يعني هو الخمار اللي مخليني طيبة ؟! حاضر مش هقلعه طول عمري و ربنا يكرمك بيه إن شاء الله"
ابتسمت لها "خلود" ثم فكرت في الأمر لبرهةٍ عابرة من الزمن، هل حقًا ستأخذ تلك الخطوة ؟!
_________________________

في شقة "عامر" بعد نزول الشباب جلس هو يحمل "عمر" على ذراعيه و هو يربت عليه بذهنٍ شاردٍ في حديث صديقه حتى اقتربت منه "سارة" بعدما أنهت عملها بالمطبخ و كانت تتحدث لكنه لم يصغ لها، فسألته هي بتعجبٍ:

"مالك يا عامر ؟! سرحان في إيه"

انتبه لها فأغمض عيناه ثم قال:
"سرحان في اللي حصل يا سارة، ياسر دماغه قفل و صمم اننا ناخد من الفلوس و حاطط علاقتنا بيه في كفة و الفلوس في كفة، هي حقه هو مش حقنا احنا بس هو مش فاهم"

ربتت على كفه و هي تقول بنبرةٍ هادئة:
"هو عنده وجهة نظر غيركم هو حاسبها انكم اخوات و مش أغراب عنه، و دي حاجة حلوة إنه مقدر علاقتكم بيه، يعني متعتبوش عليه يا عامر"

زفر بقوةٍ ثم قال مستاءًا من الفكرة بأكملها:
"أنا خايف، خايف يكون حاطط علاقتنا بيه في نقطة إنه بيرد حق وقفتنا سوا، دي توجعنا أوي"

حركت رأسها نفيًا ثم اضافت مسرعةً:
"لأ، بلاش تفكروا كدا، ياسر عاقل و مستحيل يقلل من قيمة اللي بينكم بالطريقة دي، ياسر عاوز الخير ليكم كلكم زيه يا عامر، مش عاوز يكون هو أكتر منكم في الرزق، بلاش تظلم أخوك و تخلي الشيطان يلعب بدماغك"

حرك رأسه موافقًا باستسلامٍ لها ثم نظر في وجه ابنه الذي غفى على ذراعه.

في شقة "خالد" كان الوضع لم يختلف كثيرًا عن شقة "عامر" حيث فكر "خالد" مليًا في عرض أخيه و كالعادة لم يجد بُدًا من التفكير سوى مشاركة "ريهام" التي عاونته بدورها و أرشدته هو الأخر.

في شقة "رياض" وصل "ياسين" و كان والده في انتظارهما عدا والدته التي انشغلت بالقطة و داعبتها بعدما أحبتها و كأنها أبنة لها، أخبرهما "ياسين" بما حدث و قص على والده حديث صديقه فقال "رياض" بهدوء و حكمةٍ:

"ياسر حسبها انكم أخوات طول عمركم و مشيتوا الطريق مع بعض، محدش فيكم زعل لوحده و لا حد فرح لوحده، من يوم ما ربنا كرم قلوبكم و جمعها في روابط الأخوة و السكة واحدة بيكم انتم مهما كان الطريق صعب، طبيعي إنه يرفض الخير ليه لوحده، أقبلوا عرضه و أنتم مع بعض ربنا هيكرمكم"

سأله "ياسين" مستنكرًا حديث والده:
"أنتَ اللي بتقول كدا يا بابا ؟! أنتَ عارف كل حاجة و الوضع عامل ازاي، اخرتها نقبل فلوس سمير ؟! طب ياسر ابنه، احنا دورنا مين؟!"

رد عليه "رياض" متكئًا على حروف كلماته:
"أخــواتــه....انتوا أخوات ياسر، اللي بينكم أخوة و اكتر من كدا، ربنا يخليكم لبعض"

نظر له "ياسين" بإمعانٍ ثم وجه نظراته لزوجته التي حركت رأسها موافقةً بحركةٍ خافتة فزفر هو بعمقٍ ثم سأل والدته بسخريةٍ:
"و ماما رأيها إيه ؟! و لا خلاص القطة شغلتك عننا"

حركت رأسها موافقةً ثم أضافت:
"خدوش دي بنتي، غلاوتها من غلاوتك كدا بالظب، أو يمكن أكتر شوية"

ضحك والده و زوجته أيضًا فرفع هو حاجبيه بتعجبٍ حتى كررت والدته جملتها و هي تقول:
"علشان متزعلش يعني !! بحبها نفس حبي ليك و أنتَ محترم و متربي، مش عربجي و قليل الأدب"

رمقته بغيظٍ فقال هو بسخريةٍ:
"حاضر المرة الجاية لما مراتي يتقدملها عريس هروح أبل الشربات و أجيبك تزغرطيلنا"

تجاهلت حديثه و هي تداعب القطة فضرب هو كفيه ببعضهما حتى قالت "خديجة" بقلة حيلة:
"خدوهم يا ياسين و ريحوا نفسكم و ريحوا ياسر معاكم، و بعدها بقى بعد كام سنة رجعوله الفلوس تاني، أكيد الوقت هيكون كتير و الزمن هدا الموضوع"

تدخل "رياض" يقول مؤيدًا لها باستحسانٍ:
"برافو عليكي يا حبيبة بابا، كلامك صح و مظبوط، هما دلوقتي يوافقوا و يخلوا الفلوس كلها مع بعضها باسمهم، بعدها بقى يبقوا يتصرفوا طالما مش محتاجينهم دلوقتي"

استسلم "ياسين" لهم بعدما أيدت والدته ذلك الحديث و هو يفكر في الأمر خاصةً بعدما أجبرهم "ياسر" و وضع صداقتهم في مأزقٍ
_________________________

في شقة "ياسر" جلس أمام طفليه يتابع نومهما بجوار بعضهما و الدموع تسيل على وجنتيه حتى دلفت "إيمان" الغرفة و وقفت جواره تضع يدها على كتفه فمسح هو دموعه على الفور حتى وقفت هي مقابلةً له تقول بصوتٍ مختنقٍ:

"عيط و ازعل و زعق و أعمل كل اللي نفسك فيه، قول إنك زعلان عليه و إنك موجوع من فراقه بالطريقة دي، صدقني محدش هيلومك، أنا حاسة بيك علشان جربت الاحساس دا لما بابا مات و سابني"

تنهد هو بعمقٍ ثم قال بوجعٍ يبوح لها بما في صدره:
"قلبي متكسر ١٠٠ حتة و مش عارف أعمل إيه، لو كان حسبها مرة واحدة صح و كان اختارنا كان زماني شوفته قبل ما يمشي و كان زماني سانده في تعبه، بس هو مسابليش فرصة واحدة بس تخليني أفكر فيه هو، الفلوس اللي جري وراها مشي من غيرها، كان فين قلبه و عقله ساعتها؟! إزاي الاتنين اتفقوا إن أب يكسر شوكة عياله كدا ؟!"

نزلت دموعه و هو بتحدث حتى قالت هي بصوتٍ باكٍ:
"صدقني دا اختبار من ربنا ليك، بيختبر قوة صبرك و حمدك، بيشوفك هتركز في النعم اللي عندك و لا هتبص على اللي راح و سابك، أنتَ بقيت أب دلوقتي لاتنين مش واحد !! بقى معاك زين و زينة رزق لوحدهم، احمد ربنا و سامح في اللي فات علشان تقدر تفرح باللي جاي، محدش بيقف عند الماضي يخبط على بابه و يرجع يستغرب دنيته مش ماشية ليه، احمد ربنا يا ياسر على الرزق و على اللي عندك"

حرك رأسه موافقًا ثم مال بجسده على طفليه يقبل قمة رأس كلٍ منهما ثم قال متأسفًا:
"أنا أسف، أسف على فرحتي اللي انطفت بيكم، مش بايدي و الله هي دنيتي كدا، بس وعد و الله مخليش حاجة تأثر على حياتي معاكم، هتفضلوا انتوا أحلى حاجة جت في حياتي"

تخصرت "إيمان" بشرٍ تمثيلي حتى ابتسم هو من جانب فمه ثم قال متراجعًا:
"بعد إيمان طبعًا علشان هي أول حاجة تخليني أخرج من زعلي"

اقتربت منهم هي ثم قبلت كف صغيرتها و رأس صغيرها ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
"أنتَ و هما رزق و أنا محظوظة بيكم، ربنا يبعد عنك الحزن و يبعد عنهم الشر و الأذىٰ"
_________________________

مرت الأيام سريعًا و كأن الدهر لم يتوانى و لو ثوانٍ حتى، كانت الأيام تمر على الجميع متشابهة و كما غيرها حتى مر الكثير و الكثير و أتى اليوم الذي انتظره "وليد" بشغفٍ حيث يوم ميلاد ابنه، ذلك اليوم الذي انتظره الجميع و أولهم "عبلة".

في غرفة المشفى جلست "عبلة" على الفراش تمسك بطنها و هي تبتسم بهدوء بعدما أخبرتها الطبيبة بنوع الجنين و قام بتخبئة الأمر عليه حتى يتفاجأ، دلف لها الغرفة بهدوء ثم اقترب من الفراش يميل عليه مقبلًا قمة رأسها ثم قال بنبرةٍ هادئة:

"عاملة إيه يا سوبيا ؟! جاهزة؟"

حركت رأسها موافقةً و هي تبتسم له فقال بعدما تنفس بعمقٍ:
"مش عاوزك تخافي، هتولدي من غير تعب و لا ألم إن شاء الله، أنا اتأكدت منهم و قالولي إنها عملية ولادة مضمونة، خير إن شاء الله"

بكت هي رغمًا عنها فسألها هو بخوفٍ:
"مالك بس ؟! بتعيطي ليه أنا معاكِ و كلهم برة موجودين علشانك أنتِ"

ردت عليه بصوتٍ باكٍ:
"خايفة، خايفة أوي و مرعوبة، ادعيلي علشان خاطري، دماغي عمالة تجبلي افكار وحشة أوي"

احتضن وجهها بكفيه ثم حرك كفه مرةً أخرى يكفكف دموعها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"بلاش بالله عليكِ تخلي دماغك تلعب بيكِ، أنتِ كويسة و هتكوني زي الفل إن شاء الله، ربنا يقومك أنتِ و هي بالسلامة إن شاء الله"

عقدت ما بين حاجبيها فقال هو يمازحها:
"مش هي هتبقى بنوتة برضه إن شاء الله ؟! صح ؟"

حركت كتفيها بحيرةٍ فقبل هو رأسها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"مش مهم، المهم أنها منك أنتِ، أنا راضي بأي حاجة، بس عاوزك أنتِ معايا"
نزلت دموعها من جديد فاحتضنها هو حتى يُطمئنها و لكن ما قلقه هو تمسكها به بتلك الطريقة التي بثت القلق داخل ثنايا قلبه و فتت أحشائه.

طرقت الممرضة الغرفة فابتعد عنها هو ثم مسح وجهها بكفيه و هو ينظر لها مبتسمًا و قد بادلته البسمة هي الأخرىٰ.

دلفت "عبلة" غرفة العمليات بعدما ودعتهم جميعًا، و خاصةً و هي تقوم بتوصية "خديجة" على "وليد" و مولودها، حينها بكت "خديجة" بخوفٍ عليها لكنها طمأنتها بحديثها.

اقترب "وليد" يجلس بجوار "خديجة" التي انتفخت بطنها بشكلٍ ملحوظ حيث أصبحت في الشهر الرابع في حملها، احتضنته هي فيما جلس "ياسين" بجواره يربت على ظهره فبكى هو بخوفٍ غريبٍ عليه و لو كان الأمر بيده لكان دلف لها غرفة العمليات و شاركها تلك اللحظة بدلًا من القلق الذي يأكله في الخارج.
استمرت الولادة في الداخل دون أن يدري من هم بالخارج شيئًا عما يصير في غرفة العمليات و بعد حوالي ساعة تقريبًا بعد مرور الكثير من القلق خرج الطبيب أخيرًا فركض له الجميع و أولهم كان "وليد" الذي كان متابعًا للغرفة بعينيه، فقال الطبيب بهدوء:
"الحمد لله جابت ولدين توأم، ألف مبروك، ربنا يبارك فيهم"

ظهرت تعابير الفرحة على أوجه الجميع و الأصوات المهللة عدا "طارق" الذي تأكل قلبه على شقيقته و "سلمى" أيضًا فيما
سأله "وليد" بلهفةٍ دون أن يشعر بنفسه او بحديث الطبيب:
"طب هي، هي عاملة إيه ؟! فاقت ؟!"

رد عليه الطبيب بأسفٍ:
"إحنا بنحاول و الله، دعواتك ليها إن شاء الله تقوم بالسلامة، للأسف الولادة كانت صعبة أوي، ادعولها"

تاه "وليد" منهم و زاغ بصره بعد حديث الطبيب و كأنه ضُربَ بسوطٌ على جلده العاري في ليالي الشتاء و نظر لـ "خديجة" يسألها بنظراته حتى اقتربت منه تحتضنه و هي تبكي، فبكى هو أيضًا و هو يتمنى أن حديث الطبيب يكون من وحي خياله و أن لا يذوق ألم فقدانها.

تعليقات



×