رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل السابع و السبعون 77 بقلم سهام صادق

رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل السابع و السبعون بقلم سهام صادق


هل كان يهذي أم أنها كانت الحقيقة التي بحثت عنها من أحاديث حورية القليلة عن سارة؟ 

حدقت زينب بنظرة شاردة نحو البخار المتصاعد من الطعام الذي تطهو فهي منذ الأمس وعقلها يدور في نقطة واحده! كيف له أن يقترف ذنب كهذا في ابنة عمه التي كان يعلم الجميع إنها بعقل الأطفال لا تنمو إلا جسدًا؟

تنهدت بقوة؛ ثم التقطت ملعقة الطعام تتذوق بها الحساء قبل أن تطفئ نار الموقد.

"ضيعها وضيعني". "أنا اغتــ.صبت سارة يا زينب. اغتــ.صبتها"

صوته لا يرحمها ومهما حاولت إلهاء نفسها بشيء آخر تجد نفسها مكبلة بتلك الحقيقة البشعة. انفلت تآوه خافت منها عندما حملت الإناء متناسيه أمر سخونته

"زينب حاسبي. مالك يا حبيبتي سرحانه في إيه كده؟!"


هتفت بها حورية بذعر واقتربت منها؛ ثم التقطت يديها سريعًا بقلق ومسدت برفق على ذلك الأحمرار البسيط الذي تسبب به سخونة الإناء. 

"مش تاخدي بالك يا زوزو، شكلك تعبانه من قلت النوم. روحي ارتاحي يا حبيبتي وأنا هفضل جنبه"


نظرت زينب نحو كفوف يديها، فابتسمت حوريه ورفعت عيناها إليها. 

"الحمد لله ربنا ستر والحرق بسيط"


افلتت زينب يدها منها لتباغتها حورية بوضع يديها على وجنتيها. 

"أنا كويسة يا طنط"


"ابني محظوظ إنِك تكونِ من نصيبه يا زينب. أنا لو فضلت عمري كله أشكرك مش هوفيكِ حقِك. قوليلي أقدر أقدملِك إيه وأنا أعمله. اطلبي يا زينب اطلبي أي حاجة"


انسابت دموع حورية بسخاء؛ فشعرت زينب بالفزع عليها وأسرعت بنفض ذلك الشعور الذي زادها كرهًا لتلك العائلة. 

"طنط حورية من فضلك بلاش تعيطي. تعالي اقعدي بس وأنا هعملك كوباية عصير فريش تهدي أعصابك" 


حركت حورية رأسها إليها برفض ومسحت دموعها. 

"أنا كويسة يا حبيبتي متقلقيش عليا. خليني أحضر الأكل لـ صالح وأنتِ روحي أوضتك ارتاحي"


اومأت برأسها إليها بصمت. أنها بحاجة للإختلاء قليلًا بنفسها. تحركت تحت أنظار حورية التي تتبعتها بنظرة دافئة وممتنه لكل ما تفعله وفعلته. 

"لأول مره عمي شاكر يعرف يختار صح. أنتِ فرصة صالح الأخيرة يا زينب وأنا كأم هحارب بإستماته عشان تفضلي معاه. سامحيني يا زينب"


أغلقت زينب باب غرفتها ورائها؛ ثم احتضنت جسدها بذراعيها وشرعت بهز رأسها رافضة لعقلها أن يسحبها نحو ماضي مظلم عاشته. 

"لأ يا زينب لأ أوعي تفكري فيهم هما راحوا خلاص. راحوا ومعرفوش يعملوا فيكِ حاجة. مفيش حاجة حصلت ليكِ. أيوة مافيش حاجة حصلت ليا"


اغرقت الدموع خديها وانهارت قواها لتسقط على ركبتها؛ ثم أسرعت بتكميم فمها حتى تكتم صوت بكائها. 

"أنا مش عايزة افتكرهم، مش عايزه افتكرهم"


« لو فتحتي بؤك بكلمة وقولتش شوفتي إيه هضيعك» 

« ابعدي عني. ابعدي عني مش هقول حاجة لـ بابا ولا تيته. خلاص هسمع الكلام» 

........


افتر ثغر حورية بإبتسامة صغيرة عندما استجاب صالح لها وتركها تطعمه بعد إلحاح منها. 

"علشان خاطري يا حبيبي معلقه كمان"


بصوت خرج متحشرجًا تمتم وهو يلتقط المحرمة ليمسح بها شفتيه. 

"مش قادر خلاص"


نظرت حورية إلى طبق الطعام الذي مازال ممتلئًا وهزت رأسها بقلة حيلة. 

"لكن أنت مأكلتش حاجة"


اغلق عينيه للحظة بعدما داهم الصداع رأسه. 

"أنا شبعت صدقيني"


لم تجادله حورية ونهضت من جواره حتى تضع صينية الطعام جانبًا وتأتي له بحبة الدواء. 

"خلاص يا حبيبي مش هغصب عليك"


"هي فين زينب؟! مشوفتهاش من ساعة ما حضرتك جيتي. هي تعبانة لتكون اتعدت مني. أنا قولتلها بلاش تفضلي جانبي"

قال حديثه دفعة واحدة؛ ثم نهض منتفضًا من على الفراش، حدقته والدته بنظرة حملت ذهولها وقد الجمتها تلك اللهفة التي لم تراها فيه إلا نحو يزيد. َوجدته يتحرك بوهن ليغادر الغرفة فهتفت سريعًا وهي تتحرك ورائه. 

"حبيبي زينب كويسة. أنا قولتلها تدخل أوضتها ترتاح. هي طول اليوم إمبارح وهي جانبك. تعالا ارتاح واطمن"


استدار صالح نحوها والقى عليها نظرة فاتره جعلتها  تحفض رأسها وقد أدركت ما تفوهت به. اتجه نحو المطبخ أولًا؛ فاتبعته في صمت. 

"مأكلتش صح. أنا عارفها بتهتم بالكل ودايمًا بتنسى نفسها"


اشعل الموقد حتى يُسخن لها الطعام؛ فوقفت حورية للحظة تُحدق به وهي لا تصدق ما تراه بعينيها.  التقط أحد الأطباق وبدء بغرف الأرز ودون قصد منه وقعت منه ملعقة الغرف أرضًا؛ سقوط الملعقه جعل حورية تنتبه على شرودها؛ فاتجهت إليه بعدما تمالكت نفسها. 

"خليني أحضر ليها أنا الأكل"


تراجعت عن عرضها عندما رأت نظرة الرفض في عينيه. عليها أن تقف صامته وتراقب؛ هكذا كان دورها دائمًا، فلما اليوم لا تتخذ هذا الدور أيضًا.  سكب لها الطعام بالأطباق بشكل مرتب؛ ثم تحرك بصينية الطعام متجهًا نحو غرفتها. 

"زينب"

هتف بها قبل أن يطرق باب الغرفة عدة طرقات خافته. 

"زينب من فضلك لو صاحيه ردي عليا"

تسلل صوته إلى أذنيها ليفيقها من غفوتها. فتحت عينيها؛ ثم اغلقتهما تردد لنفسها. 

"لأ مش هيعمل فيا زي ما عمل فيها"


"زينب. أنتِ سمعاني، افتحي الباب"

أخذ يُحرك مقبض الباب عدة مرات؛ ثم زفر أنفاسه بقوة لتقترب منه حورية قائلة :

"حبيبي هي أكيد نامت، مش معقول هتكون صاحيه ومتردش عليك"


"زينب مش بتنام في الوقت ده، ولو حتى نامت مبتعرفش تنام بسرعة"

ارتعشت اهداب حورية من الصدمة واختلطت الكثير من المشاعر داخلها. 

.....

وضعت سلوى كوب الشاي على الطاولة بعنف، فاندهشت عبير زميلتها من فعلتها وتساءلت وهي تقضم من الشطيرة التي بيدها. 

"مالك يا سلوى داخله بزعابيبك علينا كده ليه؟!"


"هموت يا عبير. قلبي قايد نار بعد معرفت إن ترقيتي وقفت بسبب بنت الـ..... ما هي خلاص اتجوزته وبقي ليها سُلطه في قراراته وقال إيه أنا وخدالها مفرش بالشئ الفلاني علشان اهاديها بي. أنا مشوفتش في حياتي واحدة خبيثه زيها"


التقطت عبير كوب الشاي الذي أمامها وارتشفت منه. 

"تقصدي ليلى؟"


امتقعت ملامح سلوى من غبائها. 

"ما تركزي يا عبير ولا أنتِ مش فالحه غير في الأكل لحد ما بقيتي شبه الأنبوبة"


لم تتحمل عبير سخريتها ونهضت ساخطه من فظاظتها المتكررة. 

"تشكري يا سلوى. الف شكر"


تحركت عبير من أمامها؛ فاسرعت سلوى ورائها. 

"استنى يا عبير أنتِ عارفة إني مقصدش"


دفعتها عبير من أمامها. 

"تقصدي ولا متقصديش. كلامك أصلًا بقى ماسخ يا سلوى"


اجتذبوا أنظار العاملين حولهم لتجذب سلوى ذراعها. 

"خلاص بقى يا عبير يا ساتر عليكِ. ده أنتِ زعلك وحش"


تنهدت عبير بمقت واشاحت بوجهها عنها. 

"خلاص يا عبير حصل خير، وياريت تخفي هزارك السخيف ولا أنتِ فاكراني زي ليلى كانت تسمع كلامك وتسكت"


التوت شفتي عبوسًا بعدما ذكرتها عبير بها. 

"كانت بتسكت علشان سهونه يا حبيبتي. صدق من قال تحت السواهي دواهي"


هزت عبير رأسها بإستهزاء، فهتفت سلوى بتساؤل

"ما تيجي نروح نبارك ليها، واه نتفرج على العز إللي بقت فيه. واخليها تكلم عزيز بيه على ترقيتي ومنه نحرق دمها بكلمتين"


تنهدت عبير وعادت إلى مقعدها تجلس عليه؛ فنظرت إليها سلوى بتهكم عندما وجدتها تتناول شطيرة أخرى من الفلافل. 

......


حدقت بصينية الطعام التي يحملها بعدما فتحت له الباب لينظر إليها بوجه شاحب من المرض. 

"حضرتلك الأكل"


نظرت للطعام؛ ثم رفعت عيناها ونظرت إليه بنظرة باهتة. 

"قبل ما تنامي كُلي الأول يا زينب ولا عايز واحد فينا يخف والتاني يتعب" 

قالها بصوت مازح يتخلله المزاح؛ فاشاحت عيناها عنه. 

"تعالي يلا علشان اكلك زي ما كنتِ بتأكليني إمبارح"


"لأ أنا مش جعانه"

تجمدت ملامح وجهه عندما باغتته بردها؛ فحاول تلاشي ذلك الشعور الذي تسلل لقلبه. 

"بجد مش جعانه. طيب اكلتي أخر مره إمتى؟ 


"قولت مش جعانه. ممكن تسيبني لوحدي"


تراجع إلى الوراء مدهوشًا من صراخها عليه؛ فاقتربت حورية من باب الغرفة ووقفت تتابع ما يحدث.  تنهد بقوة وأقترب منها

"طيب كلي الأول وبعدين هخرج"


شعرت بالإختناق من وجوده معها بنفس الغرفة، والتفت إليه حتى تخبره أن يغادر غرفتها ويتركها بحالها فيكفيها ما حصدته منه ومن عائلته، لكن غضبها تبخر وهي ترى نظرة حورية لها. 

اطرقت رأسها بخزى فما الذي ستظنه بها الآن. 

تدفقت الدموع من مقلتيها وغمغمت بخفوت. 

"أنا مش عايزه أكل متتعبش نفسك معايا وأنت تعبان"


انفرج ثغره بأبتسامة واسعة؛ وأسرع بوضع صينيه الطعام على الفراش.

"اسمعي الكلام وريحي قلبي وتعالي كُلي، لكن لو فضلتي تجادلي فيا هتعب أكتر. يلا بقي يا زوزو"


ابتعدت حورية عن غرفتهم وقد اعتلى الحزن ملامح وجهها. 

"زوزو أنا تعبان ومافيش حيل احايل يلا بقى"

وضع المعلقة في طبق الأرز واردف بمحايله. 

"زوزو هتيجي تاكل ولا أكلم يزيد اشكيله منها، واقوله بابي تعبان و زوزو مش بتسمع الكلام"


تلاقت عيناهم؛ فاسرعت بالهرب من نظرة عيناه لها.

"خدي بالك دكتورة حورية بره. يرضيكي منظري يكون وحش قدامها يا زوزو"


أرخت أجفانها حتى لا يرى نظرة الضياع التي احتلت مقلتيها، فتنهد وخرج صوته بتعب. 

"علشان خاطر يزيد يا زوزو مش هقولك علشان خاطري"


ارتجف قلبها فلما لا يرحمها ويرحم نفسه وتكون نهايتهم الفراق وينتهي الأمر ويكتفي كل منهم بندوبه. 

"على فكرة أنا متغدتش كويس، بصراحه كنت مستني أكل من إيدك"

قالها بصوت هامس حتى لا تسمعه والدته وتحزن؛ ثم غمز لها بطرف عينه. 

تنهيدة عميقه خرجت منها، إنه يزيدها ضياع وحيرة في أمره. 

اقترب منها والتقط يدها حتى يجلسها على الفراش. 

" هتاكلي لوحدك ولا أكلك أنا"


حركت رأسها إليه ونظرت للطعام. 

"هاكل لوحدي"


" عايزك بقى تخلصي كل الاكل مفهوم "


ومع كل معلقة تدسها بين شفتيها كانت تنظر إليه بتَشَتَّت. ابتسم بسعادة عندما رأها تأكل بنهم فهي منذ الأمس لم تتناول إلا وجبة فطورها. لم يتحدث بكلمة حتى يجعلها تأكل دون حرج منه. حدقت بنظرة طويلة وهي تتناول الطعام ورغمًا عنها عادت دموعها تنساب على خديها. ليته لم يذيقها إلا القسوة لكان الرحيل عنه سهلًا كما كانت تُخطط.


"عملت كده ليه؟"

انفلت السؤال الذي يُحيرها منذ أمس من شفتيها ليحدق بها بنظرة واهنة متسائلًا:

"بتقولي حاجة يا زينب؟!"


ابتلعت الطعام الذي عُلق بحلقها؛ ثم حركت رأسها إليه وأخذت تسعل بشدة. التقط كوب الماء بذعر ومد يده لها به. 

"أشربِ المية براحه يا زينب"


حرك يده على ظهرها برفق حتى هدء السُعال؛ ثم ربت على رأسها بحنان. 

"مش عارف ليه حاسس أن فيكِ حاجة يا زينب!"

قالها بهمس خافت لم تسمعه، فقلبه يخبره أن صمتها ونظراتها له اليوم تخفي ورائهم شيء 

..........


التمعت عينين عزيز بتوق عندما وقعت عيناه عليها. ترك الجهاز اللوحي الذي يتابع عليه بعض التصاميم الخاصة بعمله وأبتسم. 

ارتبكت من نظرته لها فاسرعت بخفض رأسها؛ ثم اتجهت نحو طاولة الزينة. 

قطب جبينه بدهشة و ارتسم العبوس على ملامحه وتنهد. 

"يا حبيبتي كام مرة عايزاني أقولهالك. أنتِ مش محتاجة تحطي حاجة في وشك"


توردت وجنتيها خجلًا وجمعت خصلات شعرها لأعلى

"ما أنا بعمل كده علشان أكون جميلة أكتر في عينك يا عزيز"


خفق قلب عزيز بجنون فهي تقف أمامه بتلك الفتنة المهلكة لقلبه الذي ظل سنوات صامدًا أمام مغريات النساء، وتخبره الآن أنها تضع زينة الوجه حتى تصبح جميلة بعينيه. 

"ليلى هتجيلي ولا أجيلك"

قالها؛ ثم أشار إليها أن تقترب منه فحركت رأسها بدلال له. 

"أصبر يا عزيز هحط روج بس"

التقطت حمرة الشفاه حتى تضع منه، فتنهد بكبت وعقد ساعديه أمام صدره. 

"والله يا ليلى في تفاصيل أهم من الروج"


استدارت برأسها إليه؛ ثم مطت شفتيها للأمام بتذمر، فتعالت صوت ضحكاته. 

"مش عجبك كلامي يا ليلى، طيب أنا قايم علشان أعرفك إيه هي التفاصيل الأهم"


فور أن حرك ساقيه من على الفراش وجدها تُلقي بأحد أدوات الزينة من يدها وتهتف بصياح. 

"هو أنت ليه عدو الحاجات دي"

ازدادت تقطيبة حاجبيه وتقوست شفتيه؛ ثم قهقه وطرق كفوف يديه ببعضهم

"سبحان الله عمري ما كنت أتخيل إن خلقي هيكون واسع مع واحده ست. تعالي يا ليلى ربنا يهديكِ"


رفرفت باهدابها ببراءة؛ ثم اقتربت منه

"عزيز أنا عايزة اتكلم معاك في حاجة مهمه"


اجتذب ذراعها فوقعت على صدره

"تتكلمي وأنتِ في حضني"


بالأمس أخبرها بنفس العبارة وها هو الليلة يخبرها بها. 

"قولتيلي كده إمبارح يا عزيز وقولتلي كمان من كام يوم أنك مش هتنسى"

ضاقت حدقتاه وتذكر سريعًا تلك الليلة التي وعدها بها أن يواصلوا كلامهم بعد يرحل ضيوفهم الغير مرحبين بهم. 

"لأ ده شكل الموضوع مهم يا ليلى اتكلمي"


شعرت بيده تتحرك على ذراعها بلمسات خفيفه، فاسدلت جفنيها وتنهدت بخفوت.

"عزيز أنا..."

توقف الكلام على طرف لسانها عندما شعرت بتحرك يده بجراءة على جسدها؛ ثم همس بخفوت

"قولي يا ليلى أنا سامعك"

أغلقت عينيها بقوة بعدما دبت في اوصالها ذلك الشعور الذي لم تعرف له معنى إلا معه. 


"عزيز أنا عايزة. أنا عايزة أرجع اشتغل"


لم يسمع ما تفوهت وقد ضاع حديثها وسط قبلاته، إنه لا يرتوي منها. تهدجت أنفاسه الهادرة بعدما انتهت ثورة مشاعرهم لينظر إليها بنظرة منتشية. 

"عشقتك يا ليلى زي ما سالم عشقها ، بقيتي نقطه ضعف عزيز الزهار"

لم تنتبه على كلامه الذي غمغم به وابتسمت إليه؛ ثم رفعت كفوف يديها تحركهم على خديه. 

طبع قبلات عدة على جبينها إنه ممتن لها. ممتن لتلك السعادة التي لم يعد يجدها إلا في حضنها. 

......


نظر إليها بنظرة ضيقه بعدما حملت من أمامه صينية الفطور واعطته دوائه؛ ثم غادرت الغرفة سريعًا وكأنها تهرب منه. 

تنهد صالح بتعب وتسطح على الفراش مُحدقًا بسقف الغرفة، محاولًا تذكر ما فعله منذ تلك الليلة التي انتهت بمرضه. 

"مش فاكر إني ضيقتها بحاجة وأنا تعبان"

ثم اطلق زفيرًا طويلًا واردف بصوت مُجهد. 

"هتفضلي لحد أمتى محيراني معاكِ يا زينب" 

.......


تحركت ليلى بالمساحة الخضراء الخاصة بمحيط الفيلا؛ ثم أخذت نفسًا عميقًا وزفرته ببطء. 

"الجو النهاردة جميل"

أخذت تمرر يدها على الأزهار واستمرت بزفر أنفاسها تساءل نفسها

"معقول عزيز يرفض موضوع الشغل؟ أنا لازم النهاردة اكلمه تاني ويكون مركز معايا"

اخترقت رأسها اوقاتهم الحميمية التي تجعلها محلقة بالسماء فتخضبت وجنتيها بالحمرة. 

"بقيتي قليلة الأدب يا ليلى. لأ أنا لازم أرجع أشتغل تاني" 

ثم زمت شفتيها وتأففت بقوة

"أنا مش مصدقة إن ده عزيز بيه الزهار لأ. لأ أنا لازم أرجع الشغل تاني"

انطفأت لمعه عينيها عندما تذكرت أمر المصنع وكيف لها أن تعمل في مصنع زوجها. 

"لأ أنا هدور على شغل في مكان تاني. أنا بقى عندي خبره خلاص"

وسرعان ما كان الوجوم يصيب ملامحها عندما أدركت إنها صارت تُحادث نفسها. لطمت جبينها بقوة حتى تعود إلى صوابها؛ ثم نظرت حولها فوجدت كارولين تجلس بالحديقة وعلى ما يبدو أنها تستمع إلى بعض مقاطع الأغاني. 

"فرصة حلوة اخلي كارولين تكمل معايا كورس اللغه، من ساعة الفرح وإحنا وقفنا الدروس، وأعرف منها وسط كلامنا ليه واخده مني موقف ما انا برضوه بقيت اتجاهلها زي ما هي بتتجاهلني، فخليني أبدأ أنا بالود من تاني"


توهجت عينيها بالحماس واتجهت إليها وعلى محياها ارتسمت ابتسامة واسعة تلاشت سريعًا عندما وجدتها تنهض. 

"كارولين هو أنا زعلتك في حاجة، إحنا كنا صحاب قبل الفرح"

التفت كارولين إليها؛ ثم حدقته بنظرة ناعسة تشبه نظرات القطط. 

"لا أرغب بصداقتك ليلى. سيف حذرني منكِ. فأنتِ فتاة...."

توقفت كارولين عند تلك الكلمة التي دائمًا ما يوصمها سيف بها، لكنها لا تستطيع تذكرها.

"ليه؟ أنا معملتش له حاجة علشان يكرهني كده"

تمتمت بها ليلى بعدما ابتعدت عنها كارولين وتركتها في صدمتها، ما الشيء الذي فعلته حتى يبغضها بتلك الطريقة. 

......


وكما وضعت أمامه صينية الفطور، كانت تضع له صينية وجبة الغداء. 

تسأل بعدما فقد صبره. 

"زينب في حاجة عملتها زعلتك"

"طنط حورية اتصلت تطمن عليك واحتمال تيجي بالليل ومعاها يزيد"

اعطته حبة الدواء؛ ثم حملت الصينية وغادرت ولم تعطيه الجواب الذي يرغبه وقد تأكد حدسه أن هناك شئ حدث منه ازعجها، خاصة بعدما وضعت له طعام العشاء وغادرت غرفته بعدما أشارت له على الدواء الذي عليه تناوله. 

نظر صالح نحو الطعام بفتور؛ ثم ازاح صينية الطعام جانبًا فلم يعد لديه شهيه، ورأسه صار يؤلمه من كثرة التفكير في أمرها الذي يُحيره منذ الأمس. غادر غرفته واتجه نحو غرفتها عازمًا على معرفة ما يجعلها تُحاول تجنبه. 


"حاولي معاه تاني يا جيلان في أقرب فرصة هجمع الفلوس. لأ. لأ أنا عايزة الشقة دي أكيد. أنتِ عارفة السبب"

تحشرج صوتها واردفت برجاء

"الشقة دي فيها كل ذكرياتي مع بابا وتيته. لأ يومين بس وهديه الفلوس يا جيلان"


تهاوت بجسدها على الفراش، فتراجع بخطواته إلى الوراء. فهل هذا ما يجعلها تتجنبه. هل تحتاج منه المال ولا تستطيع إخباره؟ 

تنهد بغضب من صلابه رأسها اليابس ليمرر يده على عنقه، عليه أن يتدبر هذا الأمر بمعرفته ويساعدها. 

استمع إلى صوت تنهيدتها التي زفرتها بيأس، فازدرد لعابه ودخل إلى غرفة بعدما تنحنح بصوت قوي حتى تنتبه على وجوده 

"زينب. أنا....." 

ابتلع بقية الكلام واتسعت عيناه في قلق عندما وجدها تنظر إليه بنظرة قوية.

توقد الغضب داخل عينيها واندفعت صوبه بعدما تملك منها اليأس. 

"متبررش جريمتك. سارة ويزيد ضحيتك وهيفضلوا طول عمرهم ذنب هتعيش بيه"

.... 


جلست ليلى شاردة تستمع إلى ثرثرة شهد وكل ما تفعله هو تحرك رأسها لها، لكنها لم تستمع إلا جزء صغير من حديثها. 

"ليلى اتكلمي مع ماما شوية وخليها تعرف إني كبرت خلاص. بجد أنا تعبت من الكلام معاه. رمقته ليلى وقد نفضت عن رأسها ذلك الشعور الذي دفعتها إليه كارولين اليوم. 

"شهد أنتِ لازم...."

قطعت شهد حديثها عندما نهضت من جوارها وهتفت بنبرة فرحة ادهشت ليلى. 

"سيف وصل، ليلى ممكن تكلمي ماما تقوليها إني هتعشا معاكم النهاردة وإنك أنتِ اصريتي عليا. تمام"


بهتت ملامح ليلى عندما رأت ما تخشى حدوثه في نظرات شهد نحو سيف الذي فور أن رأها وهو يتحدث بهاتفه أشار إليه وابتسم. أنهى مكالمته واقترب منهم ودون أن ينظر إلى ليلى القى تحيته. 

"مساء الخير"

"مساء الخير"

ردت شهد عليه ومثلها فعلت ليلى ورغم ضيقها منه إلا أنها قررت أن تبادر بالحسنة لعل حقده عليها الذي لا تعرف له سبب يزول. 

"طمنيني عليكِ النهاردة اتصالحتي أنتِ و عايدة"


مطت شهد شفتيها بإستياء من أفعال والدتها معها. 

" لسه كنت بقول لـ ليلى تتكلم معاها "


اختفت ابتسامته عندما أستمع إلى اسمها، رمقها بنظرة ساخرة لم تلفت إنتباه ليلى وقد انشغلت بالتحديق بشاشة هاتفها. 

"أنا هتكلم معاها. أهم حاجة تفضلي تضحكي وترفعي راسنا يا دكتورة"


التمعت عينين شهد بشقاوة وأخذت تُحرك رأسها إليه وسرعان ما كانت تتذكر ذلك الوسيم الذي تقابلوا معه بالأمس قرب بوابة الفيلا بعد أن أخذها للسير قليلًا بالخارج حتى تتوقف عن البكاء.

"بشمهندس سليم أمور أوي. أنا إزاي مأخدتش بالي منه قبل كده"

رفعت ليلى عيناها عن الهاتف ونظرت نحو شهد؛ ثم زجرتها بنظرة حانقة حتى تنتبه على حديثها، فالتقط سيف فعلتها ورفع أحد حاجبيه بإستهزاء.

"لو عايدة كانت واقفه دلوقتي كانت جابتك من ضفايرك الحلوة يا شوشو"

أشار نحو فمه حتى لا تتكلم أكثر واردف ضاحكًا.

"يعنى نتلم"

خفق قلب شهد بقوة وتوردت وجنتيها، فـ لميس صديقتها أخبرتها أن من علامات الحب هي الغيرة، وها هي تخطو بقدميها نحو قلب سيف.

" فاكرة بشمهندس سليم يا ليلى"

فاقت شهد من تلك الحالة التي تملكتها ونظرت نحو ليلى تتساءل.

"هي ليلى تعرف بشمهندس سليم"

دارت عينين ليلى بينهم بجبين مقطب.


_"أنا عايزة أعرف بقى ليلى تعرف البشمهندس منين"


قالتها شهد بفضول واسرعت نحو سيف تدفعه على ذراعه حتى ينظر إليها ويُجيبها.

"قولي يا سيف"


" شهد مش لازم تعرفي كل حاجة"

خرج صوت ليلى بنبرة عالية قليلًا، فابتسم سيف وأخذ يُحرك رأسه هازئاً. 

" بشمهندس سليم جارنا كان متقدم لـ ليلى قبل عمي وكرر طلبه مرتين بس خسارة يومها كانت خلاص ليلى بقت من نصيب عمي، عارفة دلوقتي بقى خاطب بنت مين يا شوشو

وبنظرة متفرسة لملامح ليلى واصل كلامه"


" بنت اللواء صديق عمي هارون"


نظرتها إليه ملئت وجهه بزهو مزيف وانفرجت شفتيه بابتسامة عريضة، فـ عليه أن يذكرها دَوْمًا بوضعها وأن عمه تكرم عليها وتزوجها ومن سوء حظه أن تنتهي رحلة زهده عن النساء مع فتاه مثلها. تجمدت ملامح عزيز وقد خرج للتو من غرفة مكتبه وهدر بصوت غاضب.


" سيف"

❤️❤️❤️❤️

انحبست أنفاسه داخل صدره وازداد شحوب وجهه وهو يراها تدفعه بكل قوتها وتخبره بحقيقة يجلد بها نفسه كل ليلة ولا يرى فيها ذاته إلا مذنبًا.

أطبق "صالح"جفنيه بوهن وازدرد لعابه بمرارة ثم قبض على كفوف يديه بقوة وتركها تُفرغ به غضبها وقد اتضح سبب نفورها منه منذ الأمس وعلى ما يبدو إنه هَذَى بذنبه في مرضه. 


_ ساكت ليه، رد قول حاجة.. قول إن كل ده كدب وإنك مش مغتـ.صب..


ارتفع صوت بكائها واخذت تُردد بصوت متقطع لمرات.


_ رد عليا، رد عليا.. قول حاجة..


توقفت عن دفعه على صدره ونظرت إليه تسأله برجاء أن يُكذِب ما أخبرها به. 


_ أنت معملتش كده، قول إنك مش وحش زيهم.. قول إنك مكنتش بتقول الحقيقة. 


خرج صوتها بضعف، فأهتز قلبه الذي اعتصره الآلم...، إنه الآن يرغب بالصراخ عاليًا، يرغب بالركض لأميال بعيدة.

_ رد عليا، قول حاجة. 


غشيت عينيه الدموع وأسرع بحفض رأسه لتحرك رأسها بخزي. 


_ أنا عرفت دلوقتي ليه لما سألتك يومها هربت من السؤال، أنا كنت بدأت ارسم ليك من تاني صوره حلوه..

 

_ كفاية يا "زينب" ، كفاية... 

هدر صوته بصراخ يحمل وجعه ثم رفع رأسه إليها،

تراجعت بخطواتها إلى الوراء وهي تضع يدها على شفتيها لتكتم صوت شهقاتها. 


_ أنا مش وحش ولا عمري كنت وحش وعمري ما هربت ولا نكرت ذنب "سارة" ولا ابني... عارفه يعني إيه تعيشي عمرك كله بذنب كنتي فيه المذنب والضحية. 


تهدجت أنفاسه و زَاغَت عيناه بضياعٍ وبؤس. 


_ مش لوحدك كنتي لعبة في أيد "شاكر" باشا، كلنا كنا لعبه في ايديه يا "زينب". 


وبصوت ساخر متألم أردف. 

_ جوازنا خطط ليه كويس اوي، اختارك بدقه وكأنه بيتم صفقة من صفقاته ما أنتِ مش هتكوني أغلى من حفيدته ولا مني لما يلعب بيكِ زينا ويوهم جدك إن حفيدته عجبته وحابب يعيد صداقتهم بالنسب السعيد. 


توقفت عن ذرف دموعها واهتزت جفونها وهي تُحدق به، إنها الحقيقة التي تعلمها تمامًا من وراء هذا الزواج. 


_ حاربني بكل الطرق قبل ما اقبل جوازي من "سارة" ، رفضت وثورت. 


شعر بالإختناق بعدما داهمته ذكريات الماضي ليُحرك يده على عنقه لَعَلّ هذا الاختناق يزول. 


_ أب و أم بيدعموا القرار وبيقولولك أرضخ لكلام جدك عشان مستقبلك وحلمك وكفاية إنه سمح ليك أنك تكون طيار. 


وانفرج ثغره بإستهزاء ليُسرع بزفر أنفاسه حتى يستطيع استكمال سرد حياته البائسة. 


_ اصل "شاكر" باشا كان حاطط أمل إني أكمل مسيرته في عالم البيزنس، ما أنا الأمل الوحيد له. 


اخذ نفسًا عميقًا ونظر إليها ليجدها تنظر إليه بنظرة تجلى فيها الضعف. 


_ تحبي تسمعي حكاية "سارة" يا "زينب"، تحبي تعرفي اغتــ.صبتها إزاي؟ 


نبرة صوته خرجت هذه المرة بقوة، قوة تلاشت سريعًا وانتفض بعدها قلبه فزعًا وهو يراها تسقط ارضًا أمام عينيه. 


صدح صوته بذعر وأسرع إليها بقلب مرتجف. 

_ "زينب" 

....

 

حاوط الصَمْت المُطبِق طاولة الطعام، فما حدث قبل قليل وتر أجواء الليلة التي كان "عزيز" يأمل فيها قضاء أمسية ممتعه مع عائلته الصغيرة التي يعد فيها ابن شقيقه فردًا اساسيًا بها ، فهو ابنه البكر الذي لم ينجبه. 


دارت عينين "شهد" بينهم ثم اطرقت رأسها وقد شعرت بالحرج من نفسها... ؛ فوجودها وحديثها أفسد هذه الليلة وافقدهم شهيتهم. 

وضعت الخادمة أخر طبق من تلك الأطعمة الشهية على الطاولة ثم انصرفت وكان من حسن حظ "شهد" أن خالها غادر الفيلا باكرًا اليوم لارتفاع ضغط الدم لديه. 


_ شكرًا" ليلى" على طهيك لطبق الطعام هذا، إنه من اطعمتي المفضله. 


هتفت بها "كارولين" بعدما مضغت إحدى قطع الدجاج الغارق بالنكهات المميزة، حدقتها "ليلى" بدهشة على شكرها الذي لم تنتظره منها بعد حديثها الذي أذهلها. 


_ "سيف" أيضًا يحب طهو الدجاج هكذا ، تناول منه حبيبي سيعجبك.. "ليلى" طباخة ماهرة. 


استنكر "عزيز" كلامها وامتعضت ملامح وجهه ونظر نحو "ليلى" التي لم يظهر على ملامحها غير الذهول.

 

_ "ليلى" زوجة شاطرة والزوجة الشاطرة فيها كل حاجة أي راجل يتمناها، يعني مش طباخة بس هايلة. 


اخفضت "كارولين" رأسها سريعًا بعدما شعرت بحدته معها، فهي أرادت أن تكسب نقاط أمامه تكون بصالحها قبل أن تخبره  "ليلى" بحديثها معها اليوم. 

تقابلت عينين "عزيز" بنظرة" سيف" إليه، فالتقط "عزيز" يد "ليلى" ليطبع قبلة ممتنه عليها. 


_ تسلم ايدك يا حببتي. 


دهشت "ليلى" اِنمحت في لحظة وافتر ثعرها عن ابتسامة عريضة أشرقت معها ملامح وجهها وجعلت دقات قلبها تخفق عشقًا.

توردت وجنتيها خجلًا، فانظارهم صارت عليها. 


_ قوليلي بقي إيه الأصناف اللي أنتِ عملتيها عشان أكل منها كلها. 


اطرق "سيف" رأسه نحو طبق طعامه حتى لا يلاحظ عمه تجهم وجهه ويدرك غيرته القوية نحو "ليلى" ، فهي سرقت حقه وحق شقيقته في عمهم الذي كَرَّسَ حياته عليهم ولم يشعرهم يومًا أن هناك أحدًا يتقاسم معهم حبه القوي لهم. 


نظرت إليه بعينيها التي توهجت بالعشق ونبضت بدفئ لم يجده إلا معها. 


_ كل صنف حطيته ليك في طبقك أنا عملته، وكمان عملت ليك طبق أم علي عشان تحلي بي. 


ولو كان غاضب منها من قبل بسبب غيرته من ذلك الجار الذي عرض لمرتين رغبته فيها ولم يفقد الأمل إلا عندما تأكد إنها صارت ملكًا لغيره لكن الآن غضبه تلاشى، فهاهي ترضيه بكل اسلحتها التي تملكها. 


_ طيب وأنا يا "لولو" مش هتعملي ليا الرول كيك، بقيت بحبها من ايدك أوي. 


صياح "شهد" بصوتها الطفولي اجتذب انتباههم، لتزداد ملامح "سيف" تجهمًا.. فهل محور حياتهم سيدور دائمًا على تلك التي لا يقبل وجودها بينهم؟


_ حاضر يا "شوشو"، بكره نعملها سوا... اصلا انا وعدت عم سعيد إنه يتعشا من ايدى بكره 


_ وعدتي مين يا حببتي. 

تساءل بها "عزيز" فور أن التقطت أذنيه حديثها لتنظر إليه بتلك الابتسامة التي باتت أقوى سلاح لديها معه.


_ يرضيك عم "سعيد" يزعل مننا، ده ممكن يدعي علينا.


_ لأ طبعًا ميرضنيش.

قالها "عزيز" ضاحكًا وحانقًا منها وهو يصوب نظراته الثاقبة نحو "سيف" الذي سيطر بصعوبة على ملامح وجهه حتى لا يُغضب عمه... ليردد داخله. 


" عرفت تخدعك بصورتها البريئة لكن متقدرش تخدعني...بكره اكشف حقيقتها ليك يا عمي" 

...

 

التقط أخيرًا أنفاسه بإرتياح عندما وجدها ترفرف بأهدابها، وضع زجاجة العطر جانبًا وهتف بقلق. 


_ "زينب"، فتحي عينك... 


فتحت عينيها ببطئ إلى أن بدأت تستعيد وعيها وتساءلت. 

_ أنا حصلي إيه؟ 


تنهد بعمق ليجدها تُحاول الاعتدال في وضع استلقائها.


_ خليكي في الوضع ده احسن عشان ضغط الدم. 


أغلقت عينيها مجددًا، فأصاب الفزع قلبه وأسرع بوضع يده على خدها حتى تنظر إليه. 


_ "زينب" متغمضيش عينك، لو فضلتي كده هاخدك على المستشفى. 


دمعت عيناها، فما الذي فعلته بحياتها لتحصد حياة تعيش فيها معذبه بين المضي قدمًا معه أو الهرب بعيدًا عنه. 

_ طيب قوليلي بتعيطي ليه دلوقتي، مش أنتِ كنتي عايزه تعرفي الحقيقة..


_ بابا وحشني أوي. 


واردفت بمرارة وحرقة قلب يشتاق لذكريات لا تُنسى. 

_ كان ديمًا بقولي إني أميرة والأميرة ميلقش بيها غير فارس على حصان أبيض. 


ثم تحشرج صوتها واِفتر ثغرها عن ابتسامة باهتة. 

_ حتى الفارس مكنش هيسمح له إنه ياخدني منه. 


تدفقت الدموع من مقلتيه، فـ أين كان قلبه وعقله في تلك الليلة وتغافل عن أمر  يُتمها، لا أب ولا أم بحياتها يحنو عليها وعلى ما يبدو من حديثها عن والدها إنه كان رجلًا حنونًا اغدقها دلالًا وحبً. 


_ أنا آسف يا "زينب"، آسف إني مكنتش الفارس، آسف على وجع قلبك وكسرته، أسف ليكي ولـ "سارة" ولـ ابني.. أنا أستحق أعيش عمري كله حاسس بالذنب. 


انكمشت على نفسها بوجع، فازداد قلبه آلمًا ونهض من جوارها. 


انسابت دموعها على خديها وضمت جسدها بذراعيها بعدما شعرت بالبرودة ثم أغلقت عينيها حتى تهرب بالنوم كعادتها وقد ظنت إنه غادر الشقة وتركها بمفردها. 


أتى إليها بعد دقائق حاملًا كوبًَ من العصير واقترب من طرف الفراش. 


_ "زينب"، اشربي العصير... بلاش تنامي وبطلي تهربي بالنوم..


حرك يده بخفه على ذراعها ففتحت عيناها إليه، إنه هنا لم يتركها. 


_ ممشتش وسبتني ليه؟ 


وهل بعد سؤالها الذي لا يرى فيه إلا طفلة تحتاج لحنان والدها يستطيع الصمود. 

_ آه يا "زينب"، أنتِ فعلًا دائي و دوائي. 


ارغمها على النهوض قائلًا بحزم. 


_ هتشربي العصير من أيدى، أنا بعرف اقوم بدور الاب كويس ومش بملل ولا بزهق. 


_ "صالح" ، ابعد عني.. 

بإصرار رفض. 

_ مش هبعد يا "زينب" 


بعد وقت، اخذ يتنهد بنفاذ صبر بعدما التقطت منه كوب العصير وبدأت ترتشف منه. 


_ عايزة تعرفي تكملة الحكاية ولا هتكتفي إنك تشوفيني ديما بصورة المذنب. 


ابتلعت ما ارتشفته من العصير وارتجفت يدها التي تقبض بها على الكوب، فتنهد واخفض رأسه. 


_ ما دام الماضي اتفتح، خليني أكمل الحكاية يمكن مطلعش وحش أوي يا "زينب"


ابتلع غصته واسدل جفنيه ثم اطلق زفيرًا طويلًا قبل أن يسحبه الماضي نحو تلك الليلة. 


_ أنا موافقتش على جوازي من "سارة" عشان مستقبلي بس، أنا اقتنعت برأيهم لما قالولي في يوم هتتجوز وتكون ليك حياة، بنت عمك مين هيراعيها، ومافيش ست هتقدر تقبل علاقتها بيك حتى لو وضع "سارة" واضح ليها. 


تعالت أنفاسه الهادرة واعتلت شفتيه ابتسامة ساخرة. 


_ "شاكر" باشا بيعرف يرمي الخيط صح ومكنش ده هدفه من الجوازة. 


جحظت عيناها وخرج صوتها مهزوزًا. 

_ إزاي عمل فيها كده، ده معندهوش قلب. 


رفع رأسه ورمقها بنظرة خاطفة ثم عاد لخفض رأسه.

 

_ في قانون "شاكر" باشا، العيلة تأتى في المقام الأول و مافيش حاجه هتربطني بـ" سارة" أكتر، غير طفل، الطفل يكون سليم أو لا مش هتفرق... المهم يعرف يربطني كويس. 


الجمت الصدمة لسانها وحدقته بنظرة خاوية وانتظرت أن تسمع المزيد. 


اِهتز الكوب من بين يديها، فهي لا تستوعب ما فعله هذا العجوز حتى يتم زواج كهذا ... اِحترس بقدر الإمكان أن ينفلت منه كلام مخجل عن ابنة عمه التي استطاع جده أن يجعلها تُطبق ما هو متأكد إنها رأته تمامًا في مشهد ما. 


اغلق جفنيه بضعف عندما تذكر تلك الصورة المشوشة من ذكريات تلك الليلة وكيف رفعت له طرف الثوب القصير الذي ترتديه وجذبته ليفعل لها ما ظنه أنها رأته في تلك المقاطع التي دفعتها إليها إحدى الخادمات ولا يعرف حتى اليوم أن من علمها تلك الأمور هو ذلك الحارس الذي دنس برأتها.


_ كفاية، كفاية متكملش.. مش عايزة اسمع. 


صرخت بصوت مَبْحُوح حتى لا يواصل لها ما صار واضحًا.


_ عمري ما هقول إني مش مذنب يا "زينب"، عمري ما هنسى ولا هبرر جريمتي. 


وتوقف عن الكلام وتقابلت عيناهم وما أصعب أن يخبرها إنه سيحررها منه هذه المره بصدق. 


_ بعد رحلة أسوان هسمع منك القرار الاخير في حياتنا، و متقلقيش الشقة هتكون ليكي وهسافر أنا لفترة عشان أظهر قدام أهلك وأهلي إني راجل سئ. 


سكنت ملامح وجهها بضياع، فنهض من جوارها وأبتسم. 


_ صعب اتخلى عنك لكن مبقاش بأيدي أكتر من كده أفضل رابطك بيا وأنتِ عايزه البعد. 


إنه يحررها منه، يعطيها القرار دون مماطله وقد شعرت هذه المرة بصدقه في أمر انفصالهم... 

سقطت دموعها بعدما أغلق الباب ورائه، لتسقط دموعه هو الآخر عندما أستمع لصوت بكائها. 

...

 

نظرت إليه "ليلى"بحيرة ثم ضاقت حدقتاها بقلق من شروده، فهل يُعقل إنه غاضب منها بسبب كلام "سيف" عن أمر هذا الجار. 

جلست جواره على الفراش تهتف اسمه بصوتها الناعم. 


_ "عزيز" ،أنت سرحان في إيه. 


اغلق عينيه لوهله حتى ينفض عن رأسه ما يؤرق مضجعه ثم ابتسم. 


_ لو كنتي سبتيني شوية زيادة كنت نمت. 


تمتم بها بمقصِد اخجلها وهو يتأمل هيئتها في غلاَلةُ نومها، فلم تعد بحاجة لإرشاداته في اِنتقاء ما يرغب برؤيته عليها. 


_ معلش يا حبيبي. 

قالتها ثم أسرعت بتقبيل خده، فنفرج ثغره بابتسامة خفيفة بعدما ابتعدت عنه واخفضت رأسها. 


_ حبيبي وبوسة على الخد يا "ليلى"، محظوظ أنا برضاكي عليا النهاردة. 


صدح صوت ضحكتها برقة، فهي تعلم أن قبلتها لم تعجبه. 

_ متطمعش أكتر من كده. 


اعتدل "عزيز" في تسطحه على الفراش ورفع كلا حاجبيه. 


_ لأ ، أنا طماع وعايز جرعة من السكر. 


أسرعت بوضع يديها على عينيها حرجًا، فقهقه عاليًا وقد وصل صوت ضحكاتهم لكارولين التي أصبحت تتلصص عليهم من وقت لآخر. 


_ على فكرة أنت أكلت النهاردة طبق ام علي، فالسكر زيادة وحش عليك. 


حدجها بنظرة مدهوشة ثم لطم كلتا يديها حتى تتوقف عن جذب طرف قميصها القصير وتترك له حرية التمتع بما يظهره له. 


_ مين قالك بقى إن السكر الزيادة وحش عليا. 


_ شئ بديهيّ يا "عزيز"

ضحك حتى دمعت عيناه، فما الذي ستفعله به أكثر من هذا؟

_ "عزيز" هيموت منك يا "ليلى" 


ردت بلهفه وهي تضع يدها على شفتيه. 

_ بعد الشر عليك يا عزيز، بلاش تقول كلمة موت حتى لو هزار. 


ذعرها عليه من قول قاله بمزح اخترق فؤاده الذي لم يعرف تلك المشاعر إلا معها.


_ بتخافي عليا يا ليلى. 


_ وهخاف على مين غيرك، أنت أغلى حد عندي دلوقتي يا عزيز. 


لم يجد للكلام معنى بعد حديثها الذي أَزَال عن عقله ما يُرهقه، اجتذبها إلى صدره وضمها بين ذراعيه. 


_ قوليلي اخبيكي بعيد عن العيون إزاي ، هتخليني أناني في حبك يا "ليلى" 


وابتعد عنها حتى يتمكن من رفع وجهها إليه. 


_ نفسي في طفل منك يربطنا ببعض أكتر. 


لم يتركها لتستوعب ما تفوه به ولم يعطيها فرصة لتخبره عن رغبتها بالعمل... فكل شئ كان يضيع وسط عاصفة حبهم الجنونية. 


تاهت بين قبلاته ولمساته، إنه يحاوطها بجرعات الحب التي تُسكر قلبها. 


بالصباح وقف عزيز أمام المرآة بوجه صار يومًا بعد يوم ينبض بالحياة ثم أخذ يُدندن بلحن أغنية قديم تسلل إلى أذنين "ليلى"، فـ فتحت عينيها الناعستين بسعادة. 


_ صباح الخير. 

استدار "عزيز" نحوها وتوقف عن الغناء. 


_ صباح الخير يا حببتي. 


_ هجهز بسرعة عشان اخصرلك الفطار. 


تآوهت بخفوت بعدما مدت يدها لتلتقط مئزرها، فشعر بالضيق من نفسه.. فجنونه بها ينسيه أحيانًا أن يكون مُراعيًا لها. 


تحرك إليها واجلسها على الفراش رابتًا على خدها بحنان. 


_ متتعبيش نفسك وكملي نوم أنا هفطر في المعرض لأني اتأخرت. 


وقد ضاعت فرصتها هذا الصباح أيضًا من إخباره عن أمر رغبتها للبحث عن عمل. 


ترصدت "كارولين" وقت خروجه وعندما وجدته يغادر أسرعت ورائه. 


_ سيد  عزيز" 


التف" عزيز" جهتها بوجه جامد، فهتفت وهي تفرك كفوف يديها ببعضهم. 


_ إذا لن ازعجك أرغب بالذهاب إلى مكان قريب من..

 

حاولت تذكر اسم المعرض الذي ظلت ليلة أمس تبحث عن مكان مشهور قريبًا منه. 


_ هناك متجر يقع بالقرب منه، في حي المعادي. 


تنهدت بعدما استطاعت تذكر اسم الحي دون فشل، فنظر حوله بضيق. 


_ "سيف" مأخدكيش معاه ليه. 


كانت تتوقع هذا الرد، فهذا الرجل تعلم أن الوصول إليه صعبًا. 


_ إنه غادر باكرًا وأخبرني أن اذهب معك، إذا لم ترغب بأخذي سأخد سيارة أجرة لكني لا أعرف الكثير هنا، أنا اسفه. 


زفر "عزيز" أنفاسه بنفاذ صبر وأشار إليها أن تصعد السيارة. 


... 

لم تستطيع "زينب" تناول طعام فطورها الذي جهزه لها قبل مغادرته إلى العمل. تنهدت بفتور عندما تذكرت قراره أمس. 


_ ما يمكن ده احسن يا "زينب" 


شعرت بحاجتها إلى البكاء، فنفضت رأسها سريعًا حتى لا تبكي. 


_ لا متعيطيش، أياكِ يا "زينب" تعيطي


كادت أن تنخرط في البكاء لكن رنين هاتفها صدح فجأة. 

ظنتها "جيلان" أو ربما تكون السيدة "حورية" لكن وجدت سما هي المتصلة. 


_ "زينب"، يا وحشة فينك، عايزه أقابلك النهاردة ولا شكلك نسيتي عزومتنا. 


ابتلعت "زينب" لعابها وابتسمت، فهي بحاجة هذه اللحظة لأحد ولن تجد غير "سما". 


_ وأنا كمان عايزه أقابلك يا "سما" و محتاجاكي. 


انْتاب القلق قلب "سما" بسبب صوتها. 


_ طيب نتقابل في الكافيه بتاعنا المفضل ولا أجيلك أنا، شكلك يا "زوزو" اتحسدتي، ده أنا مش عايزه اقولك على شياكة و كاريزما جوزك النهاردة وهو بيتكرم في المطار، لما أقابلك هحكيلك عن الصحفية اللي عملت معاه اللقاء، الكابتن إظاهر  ليه معجبين من زمان ظهروا مع جوازه. 


بخفوت انفلت الكلام من شفتي "زينب" وأخذت تردد كلام "سما". 


_ كان عنده تكريم النهاردة، معجبين. 


توقفت "سما" بسيارتها عند أحد المتاجر الخاصة بشراء ملابس للرجال. 


_ "زوزو" أنا مش سمعاكي كويس صوتك بيقطع فجأة ليه.. هبعتلك صور التكريم أول ما أقفل وبعدين هكلمك تاني. 


حملقت "زينب"بشاشة الهاتف بأعين ثاقية وانتظرت رؤية تلك الصور...

.... 


غادر "صالح" المبنى الإداري الخاص بمقر عمله بعدما استطاع اِنتشال نفسه بصعوبة من تهنئة رؤسائه وزملائه. 

وضع الهاتف على اذنه منتظرًا رد من يُهاتفه. 


_ "إيهاب" معلش  ربع ساعه وأكون عندكم، أسف على التأخير وبلغ إعتذاري لمدام "جيلان". 


اقترب من سيارته الموجودة بالجراج وصعدها بعجالة وكاد أن يتحرك بها ليجد من تقف أمامه وتنظر إليه بتحدي. 

ترجل من السيارة بضجر. 


_ أنا مش فاضي للعب العيال.


ارتفعت زاوية شفتي الواقفة بإستنكار، فهذا هو صالح لم تتغير نظرته إليها. 


_ العيلة الصغيرة كبرت يا كابتن ومن شوية كانت بتعمل معاك لقاء صحفي.. 

َ

الفصل الثامن والسبعون من هنا

تعليقات



×