رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل السادس و السبعون 76 بقلم سهام صادق


 

رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل السادس و السبعون بقلم سهام صادق



اختفت جميع الأصوات من حوله حتى ذلك الصوت الذي كان يصدح صداه داخله ليُذكره بذكرى يُعذب بها نفسه كلما أتى ذكراها...قربها منه يمحي ما لم تستطيع أن تمحيه الأيام أو حتى أشهر الأطباء النفسيين وقد توقف عن العلاج النفسي بعدما وجد أنه عليه التعايش مع آلامه. 


اختلطت أنفاسهم وتلاقت عيناهم في صمت لم يكسره إلا صياح الصغير. 


_ يلا يا "زوزو" بوسي بابي زي ما أنا بوسته.

 

جحظت عيناها بنظرة مشوشة لتلتف سريعًا نحو "يزيد" بعدما انتشلت عقلها من حالة الضياع الذي صارت تصيبها مؤخرًا. 


_ يلا يا "زوزو" اعملي زيّى. 


رددها الصغير بحماس وهو يشير نحو خديه، فابتسمت "حورية" واقتربت من حفيدها تهتف مثله.

 

_ يلا يا "زوزو". 


انفرج ثغر "صالح" بابتسامة خفيفة اختفت ورائها نظرة عيناه الخاوية من الحياة. رمقته بنظرة عابسة زادتها فتنة وجعلت قلبه يتساءَل، أين كان عقله عندما عاقبها بذنب لم تقترفه؟


_ خلاص يا بابي بوس أنت "زوزو". 


انتفضت "زينب" مبتعده عنه عندما رأت نظرته إليها وكأنه يُخبرها أنه ينتظر قبلتها له. 


_ قربي بقى يا "زوزو" من بابي.

 

دفعها الصغير بخفة نحو والده مرة أخرى دون يأس، فالتمعت عينين "صالح" وباغتها بإلتفاف ذراعه حول خصرها وسرعان ما كانت تتفاجئ بخطوته الأخرى، إنه يقبلها على خديها. 


_ وأنتِ طيبة يا "زينب". 


اتسعت ابتسامة "صفوان" ونظر نحو حفيده الذي أخذ يصفق بيديه صائحًا بشقاوة. 


_ بوسي بابي بقى يا "زوزو" زي ما بتوسي "يزيد".

 

خفق قلب "صالح" عندما رأها تزم شفتيها وترمقه بنظرة شَزْرًه. 


_ "يزيد" متحالف عليكم النهاردة، فـ نفذوا بقى الأوامر.

 

هتفت بها "حورية" بصوت ضاحك وقد تراقص قلبها فرحًا لرؤيتهم بهذا القرب. 


تنهدت بكبت وهي تنظر نحو ذراعه الذي حاوط به خصرها ،فداعبت شفتيه ابتسامة خفيفة ثم ابتعد عنها حتى لا يزيد من حرجها أمام والديه. 


ابتعاده عنها جعلها تتمكن من إلتقاط أنفاسها براحة. 


_ بابي أنا و "زوزو" و آنه نفخنا البلالين. 


التقط "صالح" يد صغيره ثم نظر إليها وبصوت رخيم هتف. 


_ "زينب".

 

استدارت سريعًا نحوه بعد ندائه لتجده يمد لها يده، دعوته كانت صريحة لها وتحت أنظار والديه. 


حرك رأسه إليها بإماءة خفيفة حتى تقترب منه دون تردد. 


لوهلة ترددت لكن نظرة عيناه الدافئة جعلتها تتحرك نحوه... إنه يُحرك داخلها مشاعر ماتت مع موت والدها.

 

أخفض "صفوان" رأسه حتى لا ينتبه أحد على دموعه وأشاحت" حورية" وجهها عنهم وبصوت مهزوز قالت: 


_ خلونا نستعد بقى عشان نطفي الشمع.

 

_ "زوزو" فين الطربوش بتاعي؟ 


قالها الصغير ثم أسرع نحو المكان الذي وضعوا به قباعات العيد ميلاد. 


_ "يزيد" استنى أنا هجيبهولك.

 

أفلتت "زينب" يد "صالح" و أسرعت وراء الصغير، فضحكت "حورية" قائلة:


_ اوعوا تنسوا الطرابيش بتاعتنا إحنا كمان.

 

اتجهت عينين "صالح" على والديه، فارتبكت "حورية" من نظرته إليهم وحتى تهرب من نظرته لها تحركت وراء "زينب" والصغير في صمت. 


تنهد "صفوان" واقترب منه ثم ربت على كتفه، فعليه أن يستمر بالتظاهر بسعادته المزيفة. 


_ "زينب" و "يزيد" كانوا فرحانين بكل حاجه بيعملوها ليك. 


ارتفع صياح الصغير داخل المطبخ بسعادة بعدما ارتدى القبعة على رأسه. 


_ فين بتاعة بابي يا "زوزو". 


مدت "زينب" يدها بتلك القبعة، فالتقطتها يد "حوريه" لتنظر إليها "زينب" بدهشة وقد عبس الصغير بشفتيه وهتف بتذمر. 


_ آنه سيبي بتاعة بابي.

 

_ لأ إحنا نسيب بتاعت بابي لـ "زوزو" وأنت تلبسني بتاعتي وتلبس جدو بتاعته، إيه رأيك. 


هَـز لها الصغير رأسه رافضًا، فأسرعت "زينب" قائلة حتى تهرب من مأزق أخر يضعوها به. 


_ خليه يا طنط يلبسنا كلنا الطرابيش، هو فرحان بالموضوع ده، صح يا "يزيد". 


أسرع "يزيد" بتحريك رأسه لها، فنظرت "حورية" نحوها بمراوغة. 


_ "زوزو" هو فين الشمع، إيه ده إحنا لسا مطلعناش التورته من التلاجة، ياريت كنت خليت "نعمات" تفضل معانا عشان تساعدنا. 


اتجهت "حورية" نحو البراد، فتحركت "زينب" ورائها. 


_ ارتاحي أنتِ يا طنط.

 

استطاعت "حورية" إلهاء "زينب" والتقطت يد "يزيد" وخرجت به من المطبخ. 


كل شئ أصبح جاهز لا ينقص إلا غلق أنوار الشقة وتشغيل الهاتف على لحن يليق بالأجواء. 


ارتدي الصغير قبعته ومن أجله ارتدى "صفوان" تلك القبعه المضحكة ومثله فعلت "حورية". 


_"زوزو" فين قبعتك أنتِ وبابي. 


تساءل بها الصغير الذي وقف على أحد مقاعد طاولة الطعام، فاستدارت "زينب" إليه قبل أن تتجه لغلق بعض أنوار الشقة. 


ردت "حورية" وهي ترتب له ملابسه. 


_ اكيد على تربيزة المطبخ. 


كادت أن تتحرك "زينب" نحو المطبخ لكن صوته أوقفها. 


_ خليكي أنتِ يا "زينب".

 

تحرك "صالح" نحو المطبخ وقد وجد فرصته حتى يختلي بنفسه قليلًا ويستطيع زفر أنفاسه. 


فور دخوله المطبخ وقعت عيناه على القبعتين، فاقترب من تلك الطاولة الصغيره واستند بكفوف يديه عليها. 


دمعت عيناه عندما لاحت أمامه ذكرى جميلة وقاسية،" سارة" تركض أمامه سعيدة بتلك الحلوى التي اشتراها لها. 


« هاكلها كلها لوحدي ومش هأكل "يزيد" منها عشان هي بتاعة "سارة" وبس ولا اقولك هديله حتا صغيره خلاص» 


« ابعده من حضنك، الحضن ده بتاع "سارة"» 


أغلق عينيه وقبض بكل قوته على سطح الطاولة. 


_ بابي الشمعه هتنطفي، يلا بقي "يزيد" عايز يطفي الشمع.

 

ضحكت "زينب" على قوله ومثلها ضحكت "حورية" وارتفع صوت "صفوان" بمزاح. 


_ بقيت مجرم وعايز تتاكل أكل. 


لقد كان الصغير اليوم هو أساس سعادتهم، تمالك "صالح" نفسه ونظر نحو القبعتين ثم التقطهم وخرج من المطبخ. 


_ "زورو" البسي بتاعتك بسرعه.

 

ابتسمت "زينب" وردت بصوت مشاكس. 


_ علم وينفذ يا "يزيد" باشا. 


اعطاها "صالح" إحدى القباعات، فهزت رأسها رافضة ومدت يدها نحو القبعة الأخرى. 


_ لأ ديه بتاعتك وديه بتاعتي. 


ظنته سيعطيها القبعه التي تُريدها لترفع إحدى حاجبيها بدهشة أولًا ثم إستنكار عندما وجدته يضع قبعتها على رأسه وقال وهو يتحرك نحو كعكة العيد ميلاد. 


_ لأ أنا عجباني بتاعتك يا "زوزو". 


أخفت غيظها منه سريعًا، فهي لن تكون فظه مثله خاصة الليلة. 


إنطفأت الأنوار وصدح صوت الهاتف بالغناء، اجتذبت "حورية" بخفة ذراع "زينب" لتقف بالجهة الأخرى ويتوسطهم الصغير بالمقعد وكأن اليوم هو عيد ميلاده هو. 


عيناه لم تكن إلا معها هي وقد اكتشف اليوم شئ جديدًا بها، "زينب" تمتلك بحة صوت جميلة وناعمة بالغناء وتأكد من شئ آخر انتبه إليه في مرات عدة، زوجته طفلة صغيرة تحتاج لدلال والدها. 


وضع "يزيد" يده على كتفيهم ليقربهم منه ونفخ بأنفاس قويه شموع الكعكة وصاح بفرح. 


_ كل سنة وأنت طيب يا بابي. 


ثم ألقى نفسه بحضن والده ولم تشعر "زينب" بدموعها التي ترقرقت في عينيها. 


هنئه والديه مجددًا ولم ينتظر أن تحتضنه مثلهم أو تتعرض لذلك الموقف السخيف الذي وضعها فيه صغيره عند دلوفه للمنزل. 


وجدها ستبتعد عنهم، فأسرع نحوها يجتذبها إلى حضنه هامسًا بصوت لم تسمعه إلا هي. 


_ أمسحي دموعك في حضني يا "زينب". 


اندهشت من رؤيته لدموعها التي انسابت دون إرادتها بعدما داهمتها ذكريات مماثله لعائلة صغيرة كانت هي فرد من أفرادها ولديها جده ووالد يحتضونها. 


_ أنا جيت عشانك، وبحتفل النهاردة بعيد ميلادي عشانك أنتِ.

 

ضمها بقوة إليها، فعادت دموعها تنساب على خديها...إنها تشعر بروح والدها تطوف حولها ورائحة كعكة جدتها التي كانت تصنعها لها في عيد ميلادها. 


اقترب "صفوان" من "حورية" التي خنقتها غصة مؤلمة، فهي كأم فشلت في إحتضان ولدها الوحيد. 


_ ربحتي الرهان يا "حورية". 


ربحت بالفعل رهان تمنت الفوز به وخسرت أمام نفسها كأم أغرتها الحياة والمستقبل وتركت طفلها يتربى على يدين جد يرغب أن يرى حفيده نسخة منه. 


_ مش هنقطع التورته بقى أنا جعان. 


تذمر الصغير وتأفف، وقد تحول هذا البؤس الذي حاوطهم للحظات إلا ضحكات قوية.


_ يا روحي على اللى جعان على طول وعايز يتاكل اكل. 


_ بس بقى يا "زوزو" كفايه بوس على خدودي، خدودي كبرت خلاص.

 

ابتسم "صالح" عندما رأها عادت لروح الطفلة، لينظر "يزيد" نحو والده. 


_ خد "زوزو" بعيد عني يا بابي وخليها تبوسك أنت. 


ضحك "صفوان" بقوة وهتف بدعابة جريئة. 


_ صح يا حبيبي كفايه بوس كده ليك وتوفره لـ بابي بقى.

 

شعرت "زينب" بالحرج من كلامه واندفعت نحو المطبخ تحت نظرات "صالح"، فغمز له والده بطرف عينه وأردف بدعابة أخرى. 


_ قوم بدورك بقى يا كابتن ولا أنت إيه رأيك يا "يزيد". 


رد الصغير سريعًا وهو ينظر إلى جده. 


_ في إيه يا جدو؟ 


_ بابا من فضلك.

 

تمتم بها "صالح" حتى يتوقف والده عن هذا المِزاح الذي جعل "زينب" تهرب من أمامهم، فكتمت "حورية" صوت ضحكاتها وهي ترى "صفوان" يرفع له كلتا حاجبيه بمرح. 


_ هو أنا قولت إيه غلط، ابنك بنفسه بيقولك خلي مراتك تبوسك وكفايه اكل في خدوده.. ولا أنت مش عجبك البوس من الخدود يا كابتن.

 

_ بـابـا. 


خرج صوته بضيق وأشاح وجهه عن والده ، فهتفت "حورية" وهي تتحرك من أمامهم. 


_ خلاص يا "صفوان" بقى، "زينب" بتتحرج من الكلام ده، أنا رايحه اجيبها من المطبخ. 

... 


أنهى "عدنان الهتيمي" تلك المكالمة الهامه ونظر نحو "مراد" الذي تظاهر بعدم إهتمامه. 


_ الخواجة مستعجل وبيسأل على وقت التنفيذ. 


رفع "مراد" ساقيه ومددهم على المنضدة الصغيرة التي أمامه وأخذ يُحرك قدحته حول إصبعه. 


_ وبتبلغني ليه يا "عدنان" باشا، أنا شغلي بقى بعيد عن شغلك. 


_ "مراد" بلاش اسلوبك ده معايا. 


اعتدل "مراد" في جلوسه ثم نهض وتحرك من أمامه واتجه نحو مقعد والده وجلس عليه. 


_ النص بالنص يا "عدنان" باشا. 


_ موافق. 


هتف بها "عدنان" دون تفكير واقترب منه قائلًا:


_ قولي امتى التنفيذ. 


توقف "مراد" عن تحريك تلك القداحه ثم أشعلها. 


_ ومن امتى بنقول ساعة الصفر يا باشا، عمومًا قريب أوي... المهم دلوقتي خلينا نتكلم في ترتيبات فرحي مع بنت المستشار. 

... 


وضعت "حورية" يدها على قلبها بعدما انتهت رقصتها مع "صفوان" الذي مازحها. 


_ مش قولت كبرتي يا دكتوره ومبقتيش أد الشقاوة. 


انفلتت ضحكة صغيرة من "زينب" وقد فهمت الآن أن المزاح الثقيل من صفاته. 


_ والله أنا كبرت وأنت لسا شايف نفسك صغير يا دكتور.

 

حرك "صفوان" يده على جسده الذي يفتخر بليقاته.


_ ما أنا لسا فعلًا شباب يا دكتوره. 


وانقضت هذه الليلة ببهجتها ولـ أول مرة تشعر "زينب" بإنتمائها إلى عائلة زوجها. 


أغلق "صالح" الباب وراء والديه ثم أفلت تنهيدة طويلة من بين شفتيه وعندما استدار بجسده وجدها تقف أمامه بهديتها. 


_ نسيت اديهالك، اتمنى تعجبك.

 

ابتسم والتقط منها الهدية ثم فتحها، لتتجمد ملامح وجهه عندما رأى صورة قديمة له بزي الطيران وقد وضعت إطار الصورة في مجسم يشبه شكل الطائرة.


_ عجبتك؟


تساءَلت بقلق عندما رأته يحدق بالمجسم دون أن ينطق بكلمة. 


_ شكلها معجبتكش، أنا معرفتش اجيبلك إيه هدية تناسبك قولت يعني..


قطع كلامها باجتذابها إلى حضنه. 


_ دي أجمل هدية جاتلي.

 

ورغم أنها فتحت جرح من جروحُه إلا أنها ستكون الهَدية الأجمل لديه. 


_ بجد عجبتك؟ 


قالتها وهي تحرر نفسها من بين ذراعيه ولا تعلم لِما هذه الليلة يحضنها كثيرًا. 


أومأ برأسه ورسم على محياه ابتسامة عريضة. 


_ أكيد عجبتني أنتِ عارفاني صريح. 


هَـزت رأسها مؤكدة كلامه على نفسه.

 

_ صريح جداً وتقريبًا أنا فهمت النهاردة أنت شبه مين.

 

قطب جبينه، فأردفت وهي تضع يدها على شفتيها حتى لا تضحك بعدما تذكرت أفعال والده. 


_ دكتور "صفوان". 


ارتفعت إحدى زوايا شفتيه وصحح لها خطأها بإستنكار. 


_ ده مش طبع دكتور "صفوان"، ده طبع "شاكر" باشا ما أنا اتربيت على ايده.

 

لم تعقب على حديثه وقد اعتلت الحيرة ملامح وجهها. 


_ تصبحي على خير يا "زينب".

 

اتجه نحو غرفته ثم تذكر شئ أراد شكرها عليه، فالتف إليها. 


_ كل حضن كنت بحضنه ليكي النهاردة كنت محتاجه ويمكن بسببه قدرت أكمل أصعب ذكرى بتمر عليا. 


ألجمها ما قاله لتقف مكانها تنظر إليه بنظرة حائرة، فما الذى يقصده من وراء كلامه. 


تثاءبت وهي ترفرف بأهدابها ثم نفضت رأسها حتى لا تركز في تفاصيل لن تزيدها إلا حيرة. 


_ متفكريش يا "زوزو" كتير، عيشي اللحظة وخلاص..

 

خرج تثاءبها هذه المرة بصوت مسموع، فأسرعت بوضع يدها على فمها وقد بدأت تشعر بثقل جفنيها. 


_ هدخل اطمن على "يزيد" الأول وبعدين اخد شاور سريع واحضن المخده وأنام. 


وها هي هذه الليلة تمضي لتعانق بالفعل وسادتها التي أصبحت تحتضن أوجاعها وانفلتت منها تنهيدة طويلة وهي تغلق عينيها. 

... 


أطرق "عزيز" بالقلم الذي يضعه بين أصابعه على سطح طاولة مكتبه وقد صارت ملامح وجهه متجهمه كلما استعاد عقله نظرة ابن شقيقه إلى ابنة "هارون".


 زفر أنفاسه ثم ترك القلم من يده ونهض من وراء مكتبه ليتحرك قليلًا بالغرفة. 


_"سيف" طول عمره شايف "بيسان" زي "نيرة"، معقول "سمية" تكون نجحت في اللي عايزه توصله.

 

غامت عيناه بالكره والوعيد، فما الذي ينتظره من امرأة أفصحت له عن خيالها المريض به وهي بين ذراعين شقيقه. 


_ إلا ابن اخويا يا "سمية". 


اتجه نحو هاتفه يلتقطه وتوقدت نيران الغضب داخل مقلتيه. أتاه صوتها الذي يبغضه كصاحبته. 


_ وحشتك ولا إيه يا "عزيز"، تعرف كنت لسا بفكر فيك. 


أعقبت قولها بقهقه عالية ثم نفثت دخان سيجارتها. 


_ كل يوم بكتشف قد إيه أنتِ ست قذرة يا "سميه"، اخويا الله يرحمه دّخل حياتنا شر مش عارف اخلص منه. 


تجمدت ملامح وجهها وأظلمت عيناها بالحقد، فأردف بوعيد. 


_ لو استخدمتي ابن اخويا في ألاعيبك الخبيثة، هكون أنا سبب دمارك واوعي تنسي سرك يا "سمية"، ولا أنتِ تقتلي القتيل وتعيشي حياته وتسرقي حق مش حقك.

 

أنهى المكالمة واتجه نحو طاولة مكتبه يقبض على سطحها بقوة. 


_"بيسان" لأ يا "سيف" إلا "بيسان". 


دارت "سمية" حول نفسها، فكلما تناست الماضي أتى هو ليذكرها به، التقطت تلك المَنفضة التي للتو دهست فيها سيجارتها وألقتها نحو الجدار صارخة. 


_ هعرف اوجعك إزاي يا "عزيز". 

.... 


أطلقت "زينب" زفرة طويلة بعدما أنهت تنظيف المنزل وقد عرضت عليها "حورية" قبل رحيلها ليلة أمس أن تُرسل إليها إحدى الخادمات لكنها صارت نسخة من جدتها لا تحب أحد أن يتدخل في شئون منزلها. 


نثرت من المعطر الذي بيدها في أرجاء الشقة وسُرعان ما ارتسمت على شفتيها ابتسامة راضية، فرؤيتها للمكان حولها نظيف يعطيها شئ من الراحة... هي الآن سيدة منزل نظيفة وتطهي الطعام ببراعة. 


_ لو كنتي عايشة يا "زوزو" لحد دلوقتي كنتي فرحتي بيا، أنا بقيت شبهك في كل حاجه يا تيته. 


أغلقت عيناها وأخذت تدعو لها بالرحمة ولوالديها. 


_ ربنا يرحمكم، كان نفسي تكونوا معايا أو كنتوا اخدتوني معاكم. 


دمعت عيناها ثم هزت رأسها حتى تتوقف عن البكاء وأخذت تفرقع أصابعها. 


_ لأ يا "زوزو" متعيطيش، أمسحي دموعك بسرعة وخدي نفس عميق. 


طبقت ما قالته لنفسها ثم ابتسمت لتزم شفتيها بعد لحظات. 


_ هو اتأخر في النوم لحد دلوقتي ليه، غربية ده منضبط في مواعيده حتى فنجان القهوة بتاعه نضيف يعني مصحيش من امبارح. 


انفلتت شهقة قوية من بين شفتيها واتسعت عيناها ذعرًا. 


_ معقول يكون حصله حاجه. 


ولطمت جبينها حتى تعود إلى رشدها وتفيق من حماقتها. 


_ أنتِ هبلة يا "زوزو" ما "يزيد" دخل اوضته الصبح ، بس إزاي لحد دلوقتي نايم وإحنا داخلين على الضهر. 


استمرت بالتحرك حول نفسها إلى أن تنهدت بضجر. 


_ طيب اروح أشوفه ولا اعمل إيه دلوقتي.. لأ أنا هروح اعمل فنجان قهوه يظبط دماغي.

 

اتجهت نحو المطبخ ثم وقفت عند عتبته لتزفر أنفاسها بحنق. 


_ روحي بصي عليه يا "زوزو" ده تليفونه من الصبح بيرن وهو مش بيرد ولا سمعت ليه حتى صوت.

 

ترددت بالبداية حتى لا تظهر له اهتمامها لكنها اعتادت أن تكون الأكرم والأكثر عطاءً وحُبً هذا ما تعلمته من جدتها. 


طرقت على باب غرفته عدة طرقات وانتظرت أن تسمع صوته لكن لم تجد إلا السكون. 


_ "صالح" ممكن ادخل لو أنت سامعني، أنت مصحتش ليه لحد دلوقتي.

 

هتفت بها مرارًا ليفتح عيناه بصعوبة ثم رفع جسده وابتلع ريقه مغمغمًا بصوت خافت اسمها. 


_ "زينب".

 

تراجعت إلى الوراء ثم نظرت نحو الباب وعزمت أمرها، ستدخل عليه الغرفة لترى ما به، فربما يكون مريضًا. 


سقط برأسه على الوسادة، فهو ليس لديه قدرة على النهوض لرؤيتها، دلفت إلى الغرفة بحذر حتى لا تزعجه لو كان نائمًا وبهمس رددت اسمه. 


_"صالح" ،"صالح" أنت صاحي.. 


تحركت نحو الفراش الواسع لكن فجأة تيبست في مكانها عندما انتبهت على عدم إرتدائه إلا بنطاله وجزعه العلوي عاري. 


استدارت سريعًا بجسدها، فهذه ليست المرة الأولى التى تراه هكذا لكنها لا تستطيع رؤيته بهذا المظهر...

فتح عيناه ورفع رأسه ونظر إليها بضعف. 


_ "زينب" من فضلك ممكن ماية. 


نبرة صوته المهزوزة جعلتها تلتف إليه واقتربت منه، أغلق عينيه مجددًا فتساءلت بقلق. 


_ "صالح" هو أنت تعبان؟ 


_ ماية من فضلك.

 

نظرت إلى كوب الماء الفارغ الموجود على الكومود ثم هرعت  إلى المطبخ. 


_ حاضر هجيبلك ماية بسرعة. 


عادت إليه وهي تحمل كوب الماء وحدقت به وهي لا تعلم بخطوتها الأخرى، فهل تقترب منه لتساعده بإرتشاف الماء أم تمد يدها له. 


_ "صالح" الماية أهي.

 

خرج آنين خافت منه وحاول الإعتدال لكن ضعف جسده خانه، إنه قضى ساعات الليل يُعاني من الحمى. 


_ أنت تعبت فجأة كده إزاي. 


شعرت بالذعر عندما وجدته لا يستطيع رفع جسده وإلتقاط كوب الماء منها، فأسرعت إليه. 


_ أنا هساعدك، استنى.

 

رفعت جسده بعناء أنهكها لتهتف به حتى يفتح عيناه ويرتشف الماء منها. 


_ اشرب الماية.

 

ارتشف الماء من يدها، فانتفض جسدها من حرارة جسده المرتفعة. 


_ أنت سخن كده ليه.

 

_ خليكي جنبي يا "زينب". 


نبرة صوته الواهنة أرجفت قلبها، فوضعت يدها على جبينه. 


_ حرارتك عالية أوي،"صالح" افتح عينك. 


_ أنا كويس، خليكي أنتِ بس جنبي... 


نهضت من جواره قبل أن تسمع بقية كلامه الذي أخذ يغمغم به. 


_ هكلم طنط "حورية"، أنت محتاج دكتور. 


قالتها وتحركت إلى خارج الغرفة حتى تبحث عن هاتفها لتقف في منتصف الردْهة تضع كلتا يديها على رأسها بتوتر. 


_ فين التليفون ، أيوة على ترابيزة السفرة أنا حطيته 

... 


أغلق "سيف" الملف الذي بيده بعد أن حصل على توقيع والدته على بعض الأوراق ، نهض وفي عينيه رأت "سمية" ما رغبت في حدوثه. 


_ فيه حاجه عايز تقولهالي أو تسألني عنها؟ 


تَجَلَّى الخبث بوضوح في نبرة صوتها لكنها كانت تجيد إظاهر صورة أخرى لها. 


_ لأ مفيش حاجه. 


ابتسمت وتظاهرت بإنشغالها في مطالعة العقود التي أمامها لتسمع تنهيدته ثم استدار بجسده إليها متسائلًا. 


_ هي "بيسان" مش هتيجي النهاردة؟ 


ردت "سمية" دون أن ترفع عيناها عن الأوراق. 


_ لا يا حبيبي هي واخده أجازة النهاردة عشان ترتاح شويه.

 

_ هي تعبانه؟ 


هتف بها سريعًا، فتراقصت السعادة في عينين "سمية" وشعرت بالشماتة نحو "عزيز" لكن أخفت سعادتها ورفعت رأسها بجبين مقطب.


_ ما تتصل بيها وأنت تعرف يا "سيف".

 

ارتسم الحنق على ملامحه لتنهض من وراء طاولة مكتبها واقتربت منه. 


_ عمومًا هي مش تعبانه بس في عريس متقدم ليها، فلازم ترتاح وتستعد للمقابلة، الحياة مش كلها شغل في شغل.

 

اخترقت كلمة «عريس» أذنيه ولا يعرف لِما شعر بالضيق فجأة عندما أخبرته سبب تغيبها عن العمل، فهو دائمًا ما يرى "بيسان" في صورة "نيرة" شقيقته. 


التشتت الواضح في عينيه شجعها على بث سمومها. 


_ عمك بقى يتخاف عليه، البنت دي اكلت عقله، أنا من امبارح مصدومه، بقى أنا بنت زي دي تسلم عليا من طراطيف صوابعها لولا احترامي ليك و لـ عمك كنت عرفتها مين هي "سميه". 


أشاح وجهه عنها، فهو يكره سيرة "ليلى" وكل يوم يزيد كرهه لها. 


_ بكره "عزيز" يندم إنه سلم نفسه لواحده اتربت في بيت ناس أغراب عطفوا عليها وانتشلوها من تربية الملاجئ. 


تجهمت ملامح "سيف" واشتعلت حدقيته كرهًا. 


_ أنتِ قولتي بكره يندم ويفوق من الوهم اللي عايشه، فخليها تعيش وتعيّشه يومين. 


كاد أن يتحرك ويغادر الغرفة.


_ اسمع كلامي والعب عليها ساعتها هتكشف لـ "عزيز" معدنها، ما هي متجوزة عمك عشان فلوسه لكن أنت بشوية كلام حلوين هتلاقيها ظهرت على حقيقتها، دي واحدة سلمت نفسها لعمك قبل الجواز ولا أنت صدقت إنه اتجوزها وهي بنت.

 

ازداد وجهه تجهمًا وغادر الغرفة تحت نظرات عينيها التي برقت بنيران الحقد.


...


وضعت مكعبات الثلج في طبق الماء وأسرعت إلى غرفته إلى أن تأتى والدته كما أخبرتها بالهاتف. 


وجدته غارق في عرقه ويغمغم بكلام لا تفهمه... نظرت إلى صدره العاري ثم هزت رأسها حتى تترك خجلها جانبًا، فهو الآن مريض وبحاجة إليها. 


وضعت الوعاء جانبًا واتجهت نحو الخزانة لتلقط أول قميص بيتي وقعت يدها عليه. 


_ "صالح" ممكن تتعدل براحه معايا، خليني ألبسك التي شيرت.

 

جاهد على فتح عينيه ثم رفع يده ومررها على خدها، أرخت جفنيها وهتفت بصوت هامس مذبذب. 


_ خليني اساعدك قبل ما دكتورة "حورية" تيجي.

 

تعالت أنفاسها بصوت مسموع واشتعلت وجنتيها خجلًا عندما وجدت يديه تتحرك هذه المرة على خصلات شعرها وقد التقط مشبك شعرها.

 

_ أنتِ جميلة أوي يا "زينب"، ليه كنتي من نصيب راجل مهزوم من نفسه زيّ. 


ازدردت لعابها، فسخونه جسده ووضعهم بهذا الشكل الحميمي حرك داخلها شعور باتت تفهمه. 

باغتها بإلتقاط إحدى يديها ليضعها على موضع قلبه، فارتعشت يدها عندما لمست صدره العاري. 


_ ده بقى يدق عشانك يا "زينب". 


ترقرقت عيناها بالدموع وهتفت بعتاب تعلم أنه لن يتذكره. 


_ أنت السبب في كل ده، أنا كنت فرحانه أوي بيك.. كنت بقول لنفسي معقول أنا محظوظة كده عشان حظي يكون مع واحد زيك، أنا كنت فرحانه اوي يا "صالح" وأنا بفرش كل جزء من شقتنا خلتني اوهم نفسي إني هكون عروسه سعيده. 


_ أنا آسف، أنا آسف يا "زينب". 


خارت قوة جسده الذي ازدادت حرارته لتنهمر دموعها على خديها. 


_ عايزه أسامحك، أنا موجوعه منك لأني حبيتك.

  

لا تعرف كيف صرحت بها لكنها الحقيقة، هي أحبته...ربما لأنه رَجُلًا وسيمًا للغاية، ربما لأنها رأت فيه حنان والدها أو ربما هواه قلبها دون إرادته وسقطت في نفس الشئ الذي سقطت فيه جدتها.. حُب ندفع من أجله الثمن ونتذوق مرارته. 


ولاَحّ طيف جدتها أمامها، فاندفعت الدموع من عينيها بغزارة عندما تذكرت دعوتها لها، ألا تكون في حياة رَجُلًا كـ دواء يُعالج به ندوبه. 


حدقت به بعدما استسلم جسده للنوم وتنهدت بأسى ثم مسحت دموعها العالقة بأهدابها. 


قاومت رغبة قلبها الذي أراد الهرب من أمامه ومدت يديها نحوه حتى تتمكن من رفع جسده قليلًا ومساعدته. 


ذهبت إلى المطبخ حتى تضع مكعبات أخرى من الثلج تسأل نفسها لماذا تأخرت السيدة "حورية" عليها. 


جلست جواره على الفراش وبدأت في وضع الفوطة المبللة على جبينه. 

كررت الأمر لمرات، فبدء آنين صوته يرتفع وأخذ يهتف باسم امرأة لا تعرف إلا اسمها. 


_ "سارة". 


واصلت ما تفعله بعقل شارد لتتجمد يدها فجأة على الفوطة وقد اخترق أذنيها ما أخذ يُردده ، لوهلة ظنت أنها لم تسمع ما يغمغم به بشكل صحيح لكنها تشعر أنها سمعت هذه الكلمة من قبل. زاغت عيناها عليه عندما بدأت تتذكر متى سمعت ما يتفوه به وهو بهذا الوضع وبصعوبه تساءَلت: 


_ اغتــ.صبت مين ؟

 

حدجها "صالح" بنظرة باهته ثم التقط يدها وقبض عليها بقوة وكأنه يخشى ضياعها منه. ارتعشت أهدابها ونظرت إليه بصدمة. 


_ أنت تقصد "سارة"؟ 


أغلق عينيه سامحًا لدموعه بأن تتحرر وبـ لسان ثقيل وذهن غائب من أثر الحمى التي أصابته ليلة أمس أنفلت الكلام من بين شفتيه.

 

_ كنتي عايزه تعرفي "يزيد" جيه إزاي.. ، أنا اغتــ.صبت "سارة" يا "زينب". 


وبكلمات متقطعه أردف. 


_ هو السبب ضيعها وضيعني... 

الفصل السابع والسبعون من هنا

تعليقات



×