رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل الثالث و السبعون 73 بقلم سهام صادق

رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل الثالث و السبعون بقلم سهام صادق



تجعله يقضي ليلته ساهدًا وحائرًا في أمرها و ردور أفعالها ليجد بالصباح امرأة مختلفة أمامه ، لقد صار عاجزًا على فهمها حتى هذا الكتاب الذي أنهى صفحاته واعتقد أنه وجد فيه ما يستطيع تطبيقه معها تأكد اليوم أنه يحتاج إلى ڪُتبٍ وليس كتابً واحدًا. 

تلاشى ذلك الوجوم الذي ارتسم على ملامح وجهه منذ استيقاظه وهو يرى صغيره يركض نحو المطبخ ثم عاد بزجاجة عصير صغيرة واتجه بها نحو غرفته وقد ارتفع صوتها محذرًا أن ينتبه حتى لا يتعرقل في خُطواته. 

_ اربط رباط الكوتشي زي ما علمتك يا "يزيد". 

أسرع الصغير بتنفيذ ما قامت بتعليمه في عقد رباط حذائه الرياضي. 

_ شوفي كده يا "زوزو" أنا عملتها صح.
 
اقتربت منه وعلى محياها ارتسمت ابتسامة واسعة ثم داعبت خديه. 

_ صح يا بطل ، أنت عملته كمان احسن مني. 

تهلل وجه الصغير وهتف بسعادة. 

_ "يزيد" شاطر، "يزيد" شاطر وبقي اشطر من "زوزو" كمان.
 
ضحكت، فضحك مثلها واخترقت أصوات ضحكاتهم قلبه. 

أغلق "صالح" عينيه مستمتعًا ومع كل حديث يدور بينهما ويتسلل إلى روحه، ينفرج معه ثغره بابتسامة واسعة. 

_ "زوزو" هو أنتِ رايحة امتحان إيه؟
 
سألها الصغير، فابتسمت وهي تنهدم له قميصه.

_ اختبار سواقة، لو نجحت هجبلك حاجه حلوه.
 
صفق الصغير بيديه متحمسًا.

_ هتنجحي يا "زوزو"، أنا هقف جنب بابي وادعيلك تكسبي السباق.
 
فتح عينيه بعدما أدرك أنه ربما يغفو وهو جالس هكذا، ألقى نظرة سريعة على ساعة يده ثم أخذ يُحرك رأسه بيأس ونهض. 

_ ساعة ونص بتجهزوا. 

تمتم بها وهو يتحرك نحو غرفة الصغير وكاد أن ينفلت بقية الكلام من بين شفتيه لكنه وقف يحدق بطريقة وقوفهم إلى أن انتبه على ما يصوبون أنظارهم عليه.

تعلقت عيناه على أحذيتهم الرياضية المتشابهه لترفع عينيها أولًا، فتتقابل عيناهم. ابتسم "يزيد" عندما وجده يقف أمامهم، فأسرع إليه وأشار نحو حذائه. 

_ بابي شوف أنا و "زوزو" لابسين  زي بعض. 

أخذ يُحرك له قدميه بسعادة، فهربت بعينيها بعيدًا عنه بعدما طالت نظرته إليها. 

تنحنح حتى يجلي حنجرته ويخرج صوته بثبات. 

_ الساعة تسعة ونص، لو جاهزين فخلونا نمشي.
 
قالها ثم غادر الغرفة هربًا من تلك البعثرة التي تُحدثها داخله. 

فور أن استقلت جواره بالسيارة، صدح رنين هاتفها.. فتحركت عيناه عليها ثم انطلق إلى وجهتهم. 

أخرجت الهاتف من حقيبتها وحدقت برقم المتصل، تجهمت ملامح وجهه عندما علم بهوية المتصل. 

_ صباح الخير يا "قصي"، أنا رايحة المرور دلوقتي.. اه "صالح" معايا، بجد شكرًا ليك، اه خلاص حفظت اسم الظابط، تمام. 

أنهت المكالمة ونظرت نحو "صالح" الذي ركز أنظاره على الطريق بوجه حانق. 

_ "قصي" كلم ظابط معرفه في المرور، اسمه.. 

لم يتركها لتُكمل كلامها الذي لن يزيده إلا غضبًا. 

_ شكرًا على خدمات سيادة الرائد واهتمامه لكن أنتِ مش محتاجه توصية من حد ولا هو نسي وضع جوزك ومكانته. 

ألقى عليها نظرة سريعه بعد حديثه، فوجدها تُحدق به ليستطرد قائلًا:

_ ياريت متنطقيش اسم الظابط. 

وبتذمر واصل كلامه دون أن يترك لها فرصة للاعتراض والجدال معه. 

_ ساعة ونص بتعملوا فيهم إيه عشان تجهزوا، والبيه الصغير فاكر نفسه رايح سباق عربيات هيشجعك فيه. 

تركته "زينب" يهذى ثم استدارت برأسها نحو الصغير الذي تساءَل عندما رأها تنظر إليه. 

_ "زوزو" هو بابي بيقول إيه. 

لم تجد إلا هذا الرد الذي خرج منها بتلقائية. 

_ بابي بيتخانق مع نفسه يا حبيبي، خلينا إحنا شاطرين نسمع وبس. 

ألجمه ردها الذي لا معنى له إلا أنه فقد عقله، فغمغم وهو يخرج حنقه بالقيادة. 

_ بتتعاملي معايا كأني مجنون يا "زينب". 

التقطت أذنيها ما قاله، كما أسعدها أن تجعله يُجن من أفعالها. 

يده التي عانقت يدها عندما دلفوا إلى مكتب أعلى رتبة لهذا الجهاز التابع للدولة أعطتها شعور لم تظُن إنه سيتولد داخلها معه ليبتسم عندما رأى ابتسامتها. 
... 

_"نائل" هيفضل قاعد في الأوضة كده، أنا مش فاهم من ساعة ما جينا وهو قاعد مع نفسه ولا بيتكلم معانا.
 
قالها "نجيب" وهو ينظر نحو "شاكر" الذي أخذ يرتشف من كوب الشاي ببطء، فأردف "نجيب" بتساؤل. 

_ هو "نائل" ليه ذكريات هنا ولا إيه؟
 
_ اشرب الشاي يا "نجيب" وخلينا نكمل دور الطاولة بتاعنا. 

التوت شفتي "نجيب" بحنق وألقى بزهر النرد حتى يعودوا إلى لُعبتهم. 

_ العب بقى ولا أنت خايف اكسبك تاني. 

وفي الأعلى.....

 كان "نائل" غارق بذكرياته ورغم أن المزرعة تغير بها كل شئ إلا أن رائحة الذكريات مازالت عالقة بجزء منها حفر فيه ذكريات رغم مرور سنين طويلة إلا أنها كانت ملاذه كلما استوحش العالم من حوله.

دمعت عينين "نائل" ونظر نحو صورتها. 

_ مستنيكي تجيلي في الحلم يا "زينب"، ليه بطلتي تجيلي.
 
رفع صورتها نحو شفتيه ليُقَبلها. 

_ عمري ما سامحت نفسي، أنا عارف يا حبيبتي إني ظلمتك وظلمت
"اسامة" حتى "هدى" ظلمتها معايا بس اعمل إيه، عيشت مع ست وقلبي مع ست تانية... 

« اختي لو ماتت، هتكون أنت السبب يا "نائل"، شرد ولادك عشان خاطر نزوة في حياتك» 

« بكلمة مني اقدر اضيع مستقبلك، وأنت عارف كويس إن اقدر اعمل ده، بقى ابن حتت موظف يخون اختنا» 

« بابا، ماما هتموت وتسيبنا، أنا بكرهك، بكرهك يا بابا» 

« هتضحي بيا يا "نائل"، ما هو الفقير دايماً بيضحوا بيه، أنت السبب قولتلك سيبني في حالي، خلتني احبك ليه، ليه» 

أغمض عينيه بقوة لعله يستطيع طرد تلك الأصوات التي تعذبه كلما أخذه قلبه للماضي. 

_"نائل" افتح الباب، "نائل" أنت سامعني.
 
هتف بها "شاكر" وهو يطرق الباب بعصاه.

_ "نائل" لو مفتحتش الباب هنادي حد من الخدم يفتحه...

_ سيبني يا "شاكر" لوحدي.
 
زفر "شاكر" أنفاسه بإرتياح وحرك يده على مقبض الباب. 

_ طيب افتحلي الباب، عايز اتكلم معاك شوية. 

ألح "شاكر" عليه حتى ضجر "نائل" ونهض من على المقعد ليفتح له الباب. 

_ يا راجل قلقتني عليك، من ساعة ما وصلت وأنت قافل على نفسك، معقول كل السنين دي ولسا فاكراها. 

تحرك "نائل" وعاد للمقعد الذي تقابله شرفة واسعة مفتوحة على مساحة خضراء لا يستطيع رؤية آخرها متمتمًا. 

_ ما أنت محبتش في يوم يا "شاكر".
 
امتقع وجه "شاكر" ثم تعالت أصوات ضحكاته واقترب منه. 

_ الحمدلله مكنتش محظوظ زيك وحبيت ست خلتني عايش على ذكراها ومستني اموت عشان اروحلها. 

رمقه "نائل" بنظرة واجمة وأشاح وجهه عنه، أطرق "شاكر" رأسه وأخذ يضرب بعصاه أرضًا. 

_ عارف يا "نائل" أنا حققت كل أحلامي إلا حلم واحد. 

عقد "نائل" حاجبيه وانتظر أن يسمع عن هذا الحُلم الذي ينتظر "شاكر" حدوثه. 

_ نفسي اشوف نظرة حب احفادك ليك، نفسي "صالح" ميبصليش كأني عدوه. 

استدار "نائل" إليه، فوجد الحزن بائِن على ملامحه. 

_ القيود يا "شاكر" السبب. 

هَـز "شاكر" رأسه معترفًا بأن قيوده التي حاوط بها "صالح" هي السبب. 

_ عارف يا "نائل" لكن أنا راجل اتربيت على كده. 

ثم خرجت تنهيدة منه قوية وأردف بعدما تلاقت عيناه بعينين "نائل". 

_ ونفسي في حلم تاني يا "نائل" بيتهيألي أنت زيّي نفسك فيه.
 
ضاقت حدقتي "نائل"، فوضع "شاكر" يده على كتفه وتوهج الأمل في عينيه. 

_ نفسي في حفيد من "صالح" و "زينب"، حفيد نفرح بيه أنا وأنت يا
"نائل". 
... 

نظر إليها بعدما التقطت الرخصة من الموظف المسئول دون جهد ليقترب منها ويهمس جوار أذنها. 

_ كنتي محتاجه بقي واسطة سيادة الرائد. 

رمقته وهي ترفع أحد حاجبيها، فاتسعت ابتسامته.

_ خليها نروح نغير بيانات البطاقة يا آنسة "زوزو". 

ومثلما أخذت رخصة القيادة دون عناء تم استخراج بطاقة شخصية جديدة لها وقد تم تغير خانة الحالة الإجتماعية.

_ مكنتش عايزة اغير الحالة الاجتماعية، ما أنا لسا أنسة. 

تفوهت بالكلام دون نية للشئ الذي وصل إليه لكنه كان مجرد تذمر.

توقف أمامها قبل أن تمتد يدها وتفتح باب السيارة، فرفع الصغير عيناه إليهم، فتنهد قائلًا وهو ينظر نحو "يزيد".

_"يزيد" اركب العربية يا حبيبي. 

استجاب الصغير لأمر والده وأسرع بالصعود إلى السيارة، فرمقته بتذمر.

_ عايزه اركب أنا كمان. 

حاولت دفعه حتى تصعد السيارة، فأسرع بوضع يده على باب السيارة من الأعلى. 

_ مش عاجبك تغير الحالة الاجتماعية ليه؟ 

كادت أن ترد عليه بالرد الذي دائمًا ما يهدم آماله، فأردف دون أن يعطيها فرصة للحديث.

_ على فكرة عيب في حقي لما تقوليها. 

وبمكر جعل شفتيها تنفرج بإنفراجه واسعة.

_ ما تليني دماغك يا "زوزو" وكفاية كبرياء الستات وارضي عني بدل ما أنا الوحيد اللي حطاه في خانة الأعداء، لو خونتك وانحرفت هتكوني أنتِ السبب. 

نفضت رأسها سريعًا بعدما استطاع بصوته الخافت دغدغت مشاعرها. 

_ أنت بتقول إيه، أنت اصلًا من امبارح وتصرفاتك غريبة. 

اتسعت عيناه ذهولًا بعدما ابتعد من أمامها مغمغمًا وهو يطرق كفوف يديه ببعضهم. 

_ بقى أنا تصرفاتي غريبة. 

أخرجت رأسها من نافذة السيارة بعدما طالت وقفته. 

_ أنت هتفضل واقف تكلم نفسك، عايزين نروح نشتري من المكتبه حاجات المدرسة لـ "يزيد" وياريت نعدي على "عدي" ناخده معانا لأن جدته تعبانه ودكتور "مازن" مشغول. 

استدار سريعًا جهتها عندما ذكرت اسم ذلك الطبيب. 

_ وحضرت الدكتور مشغول عن ابنه ليه، ما أنا يومين اسيب اجتماع مهم عشان اكون معاكم.
 
رفرفت بأهدابها عدة مرات، فعقد ما بين حاجبيه بدهشة وسُرعان ما كانت تبهره كالعادة بردها. 

_ لو مش موافق توصلنا انزل من العربية وأخد "يزيد" ونروح باقي مشاويرنا لوحدينا. 

_ أنتِ مش بتعاقبيني يا "زينب"، أنتِ بتربيني. 

ورغمًا عنها كانت تبتسم وهي تراه بتلك الحالة التي يتحول إليها بعدما يغضب منها. 
..... 

الحياة ليست ناقصة من دون النساء، لا يضيفون لحياتك إلا التعاسة، فلا بهجة يراها فيهن وحتى المتعة التي حلّلها الله فيهن يستطيع أن يُكمل الباقي من عمره دونها، إنه قادر على السيطرة على شهوته ڪرَجُل بالعبادة... هكذا كان يُردد "عزيز" لنفسه بعد كل ليلة يشعر فيها بحاجته لوجود امرأة بحياته وهذا كان لا يحدث إلا بعدما يذكر بعض المقربين منه أمر الزواج وأن الزوجة الصالحة والأولاد نعمة من الله، كان يقتنع أحيانًا ثم يسخر من أرائهم ويسأل نفسه هل رأي بهجة يومًا على ملامح شقيقه؟ حتى والدته يذكر من السنوات القليلة التي عاشها معها قبل وفاتها رغم إخلاصها لوالده إلا أنها كانت امرأة سليطة اللسان ولكن كل شئ انقلب معه وما يراه ويعيشه معها كالنقيض، "عزيز الزهار" الذي كان يعرف نفسه ويعرفه الجميع ليس هو الآن، وقد تحققت دعوة "نيهان" صديقه عندما قال له بمِزاح ذات يوم في إحدى  مكالمتهم الهاتفيه

 « اتمنى أن تأتي امرأة لحياتك تجعلك لا تستطيع تركها والذهاب إلى العمل»

 وقد طرقت تلك الدعوة ذاكرته هذا الصباح، فهو بالأمس قرر عودته للعمل لكن كل شئ تبخر وفضل البقاء جوارها. 

_ شكلي هكون على ايدك تاجر كسول يا "ليلى". 

قالها بمشاكسه ثم نهض من جِوارها وهو لا يصدق أنه غفىٰ إلى هذا الوقت. اجتذابها لغطاء الفراش حتى تخفي عنه وجهها جعله يقهقه عاليًا. 

_ ما هو بالحركات دي هتخلينا قاعدين في الأوضة. 

أزاحت الغطاء عن وجهها سريعًا. 
خفق قلبه بإستمتاع ونظر إليها بنظرة زادتها خجلا، بتوتر رفعت غطاء الفراش عليها مجددًا. 

_ بتبصلي كده ليه! 

خرج تساؤلها بصوت خفيض، فاقترب منها وعلى شفتيه ارتسمت ابتسامة خفيفة. أسرعت بالإعتدال في رقدتها على الفراش وزادت دهشتها عندما وجدته ينحني نحوها ثم أخذ يمرر يده على أحد خديها. 

_ هتعملي فيا إيه تاني يا "ليلى"
 
والرد كان يحصل عليه منها بعبارة تآسر فؤاده. 

_ كلامك بيخلي قلبي يدق أوي يا "عزيز".
 
واسمه من بين شفتيها يزيده جنونًا بها ولهفة، وموعد الفطور الذي كان يضبط العم "سعيد" ساعته عليه، أصبح ليومين متتاليين وكأنه موعد غداء. 

_ نقول صباح الخير ولا مساء الخير يا بيه. 

هتف بها العم "سعيد" بسعادة عندما رآه يهبط الدرج بوجه مشرق، فابتسم "عزيز" قائلًا:

_ مساء الخير يا راجل يا عجوز. 

اتسعت ابتسامة العم "سعيد" وتهللت أسارير وجه وتساءَل بمكر. 

_ فين ست العرايس مش عوايدها تتأخر كده في الصحيان.
 
ارتفع حاجبين "عزيز" ونظر إليه ضاحكًا. 

_ أه منك يا راجل يا عجوز. 

دمعت عينين العم "سعيد" من فرحته ثم احتضنه. 

_ عيني عليك باردة يا ابن الناس الطيبين، الحمدلله إني عيشت لليوم ده 

ثم ابتعد عنه حتى يُدقق النظر بملامح وجهه. 

_ أول ما شوفت "ليلى" قولت الفرح جاي معاها.

ابتسم عزيز وربت على كتفيه.

_ كنت بتدعيلي من قلبك يا راجل يا طيب. 

افتر ثغر العم "سعيد" عن والتمعت عينيه بسعادة. 
_ الحمدلله عشت وشوفت اليوم ده، عقبال ما أشيل سالم الصغير وأربيه على أيدي. 

خفق قلب "عزيز" بشوق لتلك اللحظة التي ستخبره فيها "ليلى" بحملها. 

صدحت ضحكات "عزيز" بقوة هذه المرة عندما لطم العم "سعيد" على صدره وركض من أمامه نحو المطبخ. 

_ يا خبر يقطعني واقف بتكلم معاك ونسيت الأكل اللي عملته مخصوص ليك. 

_ قولي الأول عملتلي أكل إيه مخصوص يا راجل يا عجوز. 

وقفت "كارولين" أعلى الدرج تستمع إلى صوت ضحكاته لتغلق عينيها مع خروج تنهيدة حارة من شفتيها.

_ إنه يزداد وسامة كل يوم، حتى ضحكته جميلة. 
... 

اقترب "صالح" منها بالأغراض التي يحملها على يديه، وتساءل.

_ محتاجين حاجه تانيه. 

لم ترد عليه بل استمرت بالتحديق به، فضاقت حدقتاه بحيرة. 

_ بتبصيلي كده ليه؟ 

_ شكرًا.. 

هتفت بها ثم التقطت منه الأشياء التي يحملها، فابتسم وتحول لطفل صغير يحاول إرضاء والدته ولأول مرة يتأكد أن كلمة واحدة ربما تغني عن مِئَة حديث. 
كانت سعيدة وهي تراه يعامل "عُدي" بلطف ويشتري له مثلما يشتري لـ "يزيد" بل ويسأله عن الأشياء التي يفضل رسمتها على أدواته المدرسية. 
وكلما كان يستدير جهتها حتى يسألها عن الأغراض التي تريدها كان يجدها تنظر إليه بنظرة هادئة لا يستطيع تفسيرها لكنها تشعره بالسعادة. 
....
 
_ "سعيد" قالي إنك عايزنى يا "عزيز" بيه. 

تنهد "عزيز" وأشار إليها أن تجلس. 

_ اقعدي يا "عايدة" وبلاش "عزيز" بيه لو كنت بتقبلها زمان فدلوقتي لأ. 

_ مينفعش يا "عزيز" بيه ، المقامات محفوظة. 

_ لا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. 

تمتم بها "عزيز" ثم أطرق رأسه. 
_ مقامات إيه بس المحفوظة، ده انتوا ليكم جميل فوق راسي.. كفاية وقفتوا معايا السنين ديه كلها.  

ابتسمت "عايدة"، فأبتسم وأدرف بصوت رخيم يحمل إمتنانًا. 

_ ده غير طبعًا "ليلى"، انتوا أهلها وأهلها فوق راسي.
 
_ ربنا يكرم اصلك يا "عزيز" بيه. 

حرك " عزيز" رأسه بيأس، فأسرعت "عايدة" قائلة:
_ مهما حاولت تخلينا نتعود نشوفك بالصورة الجديدة مش هنعرف، ده محتاج زمن صدقني. 

_ خلاص يا "عايدة"  مش هعترض على النقطة ديه لكن ليا رجاء عندك اتمنى متاخدهوش بحساسية. 

اخفضت" عايدة" رأسها، فاشاح وجهه وأخرج زفيرًا طويلًا وحاول أن يرتب كلماته لتنظر إليه وعلى محياها ارتسمت ابتسامة صغيرة.

_ أنا عارفه أنت عايز تقول إيه يا "عزيز" بيه ، من بكره هتيجي بنت تانية تساعد "ضحى"... جيه الوقت اللي المفروض أرتاح فيه فعلًا. 

شعر "عزيز" بالضيق من نفسه عندما أستمع لنبرة صوتها الحزينة، فنهضت معتذرة منه. 

_ عن أذنك. 

أرادت الذهاب إلى المسكن حتى تختلي بنفسها قليلًا لكن ظهور "ليلى" أمامها جعلها تبتسم وقد تحركت "ليلى" إليها بلهفة. 

_ ريحة الأكل تجنن في المطبخ، امتى عمي و "شهد" هيجوا عشان ناكل سوا؟ 

توترت "عايدة" ورفعت يديها تربت بهما على خديها. 
_ هو إحنا كل يوم هنقعد ناكل معاكم. 

_ خلاص نيجي أنا و "عزيز" نتغدا معاكم النهاردة، إيه رأيك يا "عزيز"؟ 

نهض "عزيز" من على المقعد الجالس عليه بالحديقة واقترب منهن. 

 _ وفيها إيه لما نتجمع كل يوم كــ عيلة واحدة على الغدا يا "عايدة". 

ضغط "عزيز" على أحرف كلمة " عائلة" لأنه بالفعل يراهم هكذا ولا يريد لهم إلا الراحة وحفظ مكانتهم. 

وأجتمعت الأسرة لليوم التالي على طاولة طعام واحدة وأدركت " عايدة"مقصد "عزيز" من وراء أن تأتي فتاة أخرى لخدمتهم، فعندما اقتربت منهم بوعاء الشربة، نهضت "ليلى" من على الطعام وأسرعت إليها حتى تلتقط منها الوعاء ثم أخذت تسكب للجميع بـ الأطباق ليرمقها "سيف" بنظرة لم تنتبه عليها "ليلى" لكن عينين "عايدة" التقطتها. 
....
 
بلهفة فتحت "أشرقت" الرسالة التي أرسلها إليها "مراد" وكان محتواها إنه عاد من سفريته وينتظرها بالشقة. ترددت في بداية الأمر لكن بعدما أتتها الرسالة الأخرى حسمت قرارها وقررت الذهاب إليه.
شعرت بالأختناق عندما وقفت أمام باب الشقة ثم دست المفتاح به ودلفت.
بخطوات ثقيله تحركت وأخذت تهتف باسمه.

_ "مراد".. 

ظهر إليها "مراد" وهو يحمل بيده كأس من الخمر واقترب منها.

_ حببتي وحشتيني... 

صدمها ما قاله ، فآخر مرة تقابلوا فيها تشاجروا وقد جرحها بحديثه الذي مازال صداه يتردد داخل أذنيها.
حضنها وأرد تقبيلها، فدفعته عنها بضيق.

_ دلوقتي وحشتيني، طبعًا بعد ما بابا بعت ليكم الشبكة وحسيت إني هضيع منك رجعت. 

حدجها وهو يترنح ثم عاد يرتشف من الكأس الذي بيده.

_ أنا سفرت شغل يا حببتي وأول ما رجعت طلبت نتقابل ... خلينا نحدد ميعاد الجواز. 

ضاقت حدقتاها للحظات، فاقترب منها.
_ انسي كل الكلام اللي قولته. 

تغيره المفاجئ جعلها تقف أمامه مندهشة لتشعر بيديه تتحرك ببطء على جسدها، فارتجفت وأسدلت جفنيها. 

_ إيه رأيك نتجوز أول الشهر الجديد. 

لغت عقلها ولفت يديها على عنقه وصاحت بفرحة. 

_ بجد يا "مراد". 
_ بجد يا عيون وقلب "مراد". 

وببضعة كلمات ومهارات يمتلكها جعلها للمرة الثانية تقضي ليله أخرى في حضنه وكان حريصًا تمامًا على تكرير العلاقة بينهم هذه الليله لعلها تُثمر بشئ سيكبلها به ويخضعها أكثر إليه. 
...... 
نظرت إليه "زينب" بسعادة، فهو صدق بكلامه وقام بفرش الجزء الأخر من الشقة التي ضموها لشقتهم. نظرتها السعيدة نحو هذا الأمر أضاعت الأمل الذي شعر به معها ليلة أمس.

_ مش هقدر أنقل كل حاجتي هناك... 

ثم أسرع بتوضيح السبب الذي اقتنعت به. 

_ لو حد جيه يزورنا من أهلك أكيد هيشكوا في علاقتنا كأزواج. 

_ عندك حق. 

ابتسم عندما أستمع لردها، فغمز لصغيره حتى يُنفذ ما اخبره به. 

_ "زوزو" غمضي عينك، بابي عملك مفاجأة حلوه. 

استدارت "زينب" نحو "يزيد"، فأشار الصغير نحو عينيها حتى تغلقهما.. واليوم كان بالنسبة لها يوم المفاجأت، مكافأة حصلت عليها من المعهد الذي تعمل به، وفرش أثاث الشقة وها هي المفاجأة الأخرى التي اخبرها بها الصغير. 

_ إيه رأيك؟ 

تقابلت عيناها بعينيه بعدما سألها لتدور حول نفسها بتلك الغرفة التي تم فرشها بكل الوسائل التي ستساعدها على تحضير دروسها والأسترخاء فيها. 

_ أنت عملت كل ده أمتى؟ 

قالتها "زينب"وهي تقترب من أرفف تلك المكتبة التي أحتوت على بعض الكتب ثم أتجهت نحو كرسي الأرجوحة المزدوج وجلست عليه. 

_ مش مهم عملت ده كله امتى، المهم عندي إن المفاجأة عجبتك يا "زينب". 

نظرت حولها ثم اتسعت ابتسامتها. 

_ عجبتني اوي الاوضة، ديه تشبه أوضة أحلامي. 
وبروح طفلة سعيدة اندفعت إليه وعانقته. 

_ شكرًا يا "صالح". 

وكلمة الشكر هذه المرة رافقتها قبلة أمتنان وضعتها على خده. 

وبعد تلك الليلة التي سهر فيها ثلاثتهم مستمتعين بالأثاث الجديد، أتى هذا الصباح الذي تحولت فيه ابتسامتها للنقيض عندما رأت رسالة "جيلان" التي ذكرتها بأمر شقة والدها. 
تحول نشاطها لفتور وأنشغلت عن الصغير وأخذت تفكر في أمر المال. 
لم يقطع تفكيرها الطويل بهذا الأمر إلا قدوم "حورية". 

_ كنت قريبة منكم قولت أجي أشوف حبيب قلبي. 
ركض الصغير إليها، فأسرعت بضمه. 

_ ليه تعبت نفسك يا طنط. 
قالتها" زينب" وهي تنظر نحو عُلبة الحلوى التي تُفضلها. 

_ عارفه إنك بتحبي البسبوسة بالقشطة يا "زوزو". 

ابتسمت "زينب" لتذكرها أمر كهذا بل جاءت بها من أفضل متاجر الحلويات. 
قبلتها "زينب" على كلتا وجنتيها ثم عانقتها بود. 
_ شكرًا يا طنط... 

لم تُعلق "حورية" على أمر فرش الشقة الأخرى إلا بالمدح وإنها كانت فكرة صائبة عندما قاموا بشرائها.
 
_ تسلم ايدك يا حببتي. 
قالتها  حورية" بعدما انهت آخر رشفة من كأس العصير. 

لم تعرف" حورية" كيف تبدء بالكلام لتتساءل" زينب". 

_ هي الشبكة في المزرعة وحشه يا طنط، أصلي مش عارفه اتواصل مع جدو. 

ردت "حورية" وقد وجدت أخيرًا ما يستطيعون الحديث فيه قليلًا. 
_ أه يا حببتي. 

اخذت" حورية" تخبرها عن المزرعة والأجواء بها واقترحت عليها أن تقضي بها عطلة منتصف العام لكن "زينب" لم تتحمس لمعرفتها بوجود الجد "شاكر" هناك. 
ومع إستمرار حديثهم عن العائلة والذكريات تعمدت" حورية" أن تذكر أمامها أن بعد أيام سيكون عيد ميلاد "صالح" ثم وصفت لها بحنين شعورها كأم عندما حملته بين ذراعيها لأول مرة وضمته لحضنها، أخبرتها بالكثير من التفاصيل عن طفولته وأعطتها بعض الصور الخاص به لكنها غفلت تمامًا أن تخبرها بتلك الذكرى التي صار يحملها هذا اليوم، فمنذ وفاة "سارة" وأصبح أكثر الايام قتامة بالنسبة له ، يوم يكره تذكره بل ويختفي فيه نائيًا نفسه بعيدًا عن الجميع.

_ هو بيحب يحتفل بعيد ميلاده يا طنط. 

انفلت هذا السؤال من شفتي "زينب"، فتهللت أسارير "حورية" وبرقت عينيها بسعادة. 

_ لو منك أكيد هيحب يحتفل بي. 

ارتبكت "زينب" واطرقت رأسها خجلًا، فحديثها أَحْيا داخل قلبها شعور صارت تخاف منه ، ربتت "حورية" على يدها. 

_ احتفلوا بي انتوا التلاته. 

تعلقت عينين "زينب" نحو  يزيد" الذي أندمج في تلوين رسمته. 

_ اتأخرت على مشواري، الكلام ديما بياخدني معاكي. 

نهضت" حورية" ثم ضمتها لحضنها بحنان وغادرت وقد توهج الأمل في عينيها.
اِلتهت زينب بعد ذلك في أمر شراء شقة والدها الذي لا تملك لشرائها إلا نصف المبلغ لكن إقتراح حماتها كان يدور داخل رأسها، هي تُريد أن تشكره على ما فعله لها...

تعليقات



×