رواية صرخات انثي الفصل الثانى و السبعون بقلم آيه محمد رفعت
اتسعت زُرقته بصدمة من رؤيته يجاوره على متن الطائرة، بينما الآخير ينزع نظارته السوداء، ويمرر منديله الورقي يمسحها وابتسامته لا تفارق وجهه، بل أضاف لجملته:
_بقالنا كتير مطلعناش مهمة مع بعض، شامم ريحة افتقادك ليا من مكاني.
تخلى "مراد" عن صبره، نزع حزامه ونهض يلف يده حول رقبته بقوةٍ وإحكام أدهشت الآخير الذي ردد باختناقٍ:
_عيب، في حد يقابل أخوه بعد كل 8 ساعات فراق بالقسوة دي!
تحرر عن هدوئه وصرخ به:
_رحيـــــــم إتقي شري أحسنلك، أنا خلاص مش باقي على حاجة وشكلك كده هتتصفى هنا وقبل ما نتحرك لأي مكان.
حاول أن يخفف حدة يده عن رقبته، متمتمًا:
_إنت أد المسكة دي؟
منحه نظرة ساخرة، وهتف بتحدٍ واثق:
_فك نفسك لو عرفت!
ابتسم في سخطٍ، وهتف مغتاظًا:
_بتستغل إني معنديش خبرة في التعامل مع مسكاتك يعني؟
ضحك وانحنى يهمس له ساخرًا:
_مش مفتقد الخبرة يا اسطورة، مفتقد المصدقية، خليك صادق مع نفسك وللمرة الاولى اعترف إنك ضعيف ومبتقدرش تحرر نفسك من أي تثبيتة بثبتك فيها.
اعتلى الغضب زيتونة عينيه، ومع ذلك منحه بسمة هادئة، وببرود قال:
_على فكرة احنا مسافرين على طيارة 90 في المية منهم سياح راجعه بلدهم، بتختملهم الزيارة بصورة مش تمام عن مصر، يرضيك يا سيادة العقيد؟
رمش بعدم استيعاب، استدار من حوله، فوجد الجميع يتابعون ما يحدث بصدمة وذهول، كان مراد يثبت ركبتيه بمنتصف مقعد "رحيم " المجاور لنافذة الطائرة، بينما ذراعيه تلتف من حول رقبته بحركة خبيرة، فشل الاغلب باحكام عقدته أو حلها من الجهاز، جسده العلوي ينحني فوق رحيم، حتى أخفاه كليًا عن الأعين.
انتزع يديه من حوله، وانتصب بوقفته بشموخٍ يخفي من خلفه غضبه الساخط، عاد يعتلي مقعده المجاور له وقبضته تعتصر ذاتها بغيظٍ.
اعتدل "رحيم" بجلسته، وابتسامة الغموض تحفل على وجهه، استدار إليه "مراد" فوجده يتطلع لمقعد أحد المسافرين القابع على بعدٍ منهما، فسأله بريبة:
_في أيه؟
أرخى رأسه لخلف المقعد، وأغلق عينيه باسترخاء بينما يخبره بجمودٍ:
_نجحنا نلفت الانتباه لينا، مبروك نجاح أول جزء من خطتنا.
عبث بحاجبيه بدهشةٍ:
_خطة أيه؟ ونلفت انتباه مين؟؟
فتح نصف عين يطالعه بابتسامة زادت من قلق مراد حول ما يخطط له أخيه، وخاصة حينما أخبره:
_هو إحنا طالعنا رحلات استجمام قبل كده يا جوكر؟
وتابع وهو يغلق زيتونيته من جديد:
_فكرني أول ما نوصل نروح مكان كويس نعمل مساج وجاكوزي!
******
هرول الشرطي تجاه المقر السري، يقدم تحيته بكامل الوقار، يبلغه باحترامٍ:
_الطيارة جاهزة وفي انتظار معاليك يا باشا.
أشار له "عدي" واستدار يتفرس بمن يجاوره بصمتٍ، وشاحه الأسود مازال يخفي معالمه، لا يبدو منه سوى بندقية عينيه، تنحنح يجذب انتباهه، قائلًا:
_ده أنسب وقت نتحرك فيه، مراد ورحيم نجحوا يشتتوا العين عننا.
مازال الآخير يتطلع أمامه بصمتٍ، بدد غيظ الاخير، فقال بنزقٍ:
_ممكن نتحرك؟!
نهض عن المقعد يتحرك بخطواتٍ رزينة، للطائرة التي تقف على بعدٍ من المقر السري، سحب عدي نفسًا طويلًا ولفظه على مهلٍ، هاتفًا بضجرٍ:
_اختيارات مثالية يا أسطورة، مردودلك وفي وقتها.
رفع قبعة جاكيته الأسود على رأسه، واتبعه للخارج، وفور صعوده للطائرة نزعها عنه، وجلس بمقعده المخصص، لفت انتباه "عدي" عُقاب الذي يعتلي كتف "ليل"، حاول التحكم بصمته مطولًا ولكنه فشل، فتساءل بشيءٍ من السخرية:
_هو الاستاذ عُقاب طالع معانا المهمة دي بردو ولا أيه؟
انتقلت بندقيته إليه، يتطلع له ببرودٍ، شقه صوته النافذ:
_فريقي مكتمل بيه، أعتقد أنا أولى بتحديد مين المهم في فريقي ومين كمالة عدد ولا أيه يا باشا؟
كاد أن يهشم فكيه من فرط ضغطه على أسنانه، سدده بنظرةٍ قاتلة، لاحقها قوله المستهزأ:
_باشا أيه بقى!
وتابع بحدةٍ:
_هو مش المفروض إني أعلى رتبة منك وواجب عليك احترامي ولا أنا بقيت بنسى!
رفع ذراعه يلتقط عُقاب على معصمه، وبيده الاخرى يمررها على جسده ببطءٍ، وردد بعد فترة صمته:
_أنا مش جاي عشان نتنافس على مين رتبته أعلى من التانية، الغريب إنكم تلجئوا لشخص بالنسبالكم بقى خارج عن القانون، فده اجابة صريحة على سؤالك وتأكدلك إن الجهاز معترف باللي أقدر أعمله حتى وأنا براه.
ورفع عُقاب ليجوب الطائرة، بينما تتمركز بنية عينيه تجاه عدي، وهدر برزانة ماكرة:
_لما حد بيخرج من بينا بنصفيه عشان نضمن أن آسرارنا مدفونة تحت التراب، محدش قدر يعمل كده معايا، مش لإنهم ميقدروش علي، لآنهم عارفين إن هيجي وقت يحتاجوني فيه.
ابتسم يردد بتهكمٍ:
_عندك حق، هيجي الوقت يختاروا شخص خارج عن القانون!!
لم يهتز ثبات "ليل" قبالته، بل صحح له باسلوبٍ إستفز عدي:
_وجي نفس الوقت اللي اضطروا فيه يلجئوا لحد خارج مجالنا ، زيك كده يا باشا!
وأضاف ببسمة خبيثة:
_المستحيل لو هيخدم بلدنا وهيكون في الصميم بيتعمل بدون أي نقاش، زي جمعتنا كده يابن الجارحي!
زفر في سئمٍ، وتمتم:
_شكلك أبرد من رحيم زيدان!
*****
ترك عُمران بالأسفل، وهرول للأعلى راكضًا فور أن أخبرته الخادمة بوصول "آيوب" ، اقتحم الغرفة ملتقطًا أنفاسه بصعوبة، انفصل خناقهما، واستدروا تجاه "آدهم" الذي استطاع السيطرة حدة أنفاسه، وقال راسمًا بسمة هادئة:
_آيوب!
جملة "مصطفى" مازالت تشغل خاطره، استدار تجاهه مجددًا متغاضيًا عن وجود آدهم، وسأله بحيرةٍ:
_حضرتك تقصد أيه بكلامك ده؟
تعلقت آعين مصطفى بابنه، يتوسل له أن يتركه يخبره الحقيقة، ولكنه أعرض عن ذلك باشارة رأسه الحازمة، عادت مُقلتيه الحائرة تسكن بأعين آيوب المتلهف لسماع رد سؤاله، ابتلع ريقه الجاف وقال وهو يزيف ابتسامة:
_قصدي إني تقلت عليك، وجبتك على ملى وشك في وقت متأخر زي ده حقك عليا.
شعر وكأن هناك شيئًا غير الذي يخبره به، وكأنه يخفيه عمدًا لوجود "آدهم" بذلك الوقت، رنا إليهما آدهم يردد بتوترٍ:
_آيوب إنت هنا من أمته؟
نهض عن الفراش يقابله، وأجابه:
_لسه واصل من شوية.
واستطرد يوضح له سبب وجوده بوقتٍ متأخرًا كذلك:
_قلقت لما سمعت صوت والدك، فجيت أطمن عليه.
ربت "آدهم" على كتفه بحنان وقال:
_تسلم يا آيوب.
شعر آيوب بتوتر الاجواء بين آدهم ووالده من نظراتهما المتبادلة، فتنحنح بحرجٍ:
_هنزل أشوف عُمران عايزه في حوار كده.
أومأ برأسه له، فهبط للأسفل تاركهما بمفردهما، أسرع آدهم إلى الدرج يتأكد من هبوطه، ثم عاد يعاتب والده بغضب:
_هو أنا مش قولت لحضرتك إننا هنأجل الموضوع ده لبعد امتحانات آيوب، ليه مصر ترجعنا لنقطة الصفر!
تدفق الدمع من عينيه، كيف يخبره بكل ما احتبس بداخله، ردد بصعوبة بحديثه:
_حاضر يابني هصبر ومش هعمل حاجة، بس عشان خاطري متخليهوش يبعد عني تاني يا عمر.
شحب صدى صوته الهادر:
_أنا موافق على أي حاجة، مش مهم يعرف، المهم إني أشوفه قدامي، أخده في حضني وأشم ريحته.
شعوره بالعجز يكاد يقتله، لم يعد بامكانه التحمل أكثر من ذلك، يشعر بأنه ضعيفًا لدرجة أفقدته توازنه، جلس على حافة الفراش، وانحنى يستند بيده على ساقيه، يترك العنان لدموعه، عساها تهون عنه ما يمر به ويجعله بهذا العجز، تألم مصطفى حينما رأه بتلك الحالة التي وضعه بها اجباريا، زحف إليه، أحاطه من الخلف ومال على كتفه، يردد ببكاء:
_حقك عليا والله ما هتصرف بأنانية تاني، متزعلش مني يا عمر، متزعلش مني يا بني!
استدار إليه يضمه إليه وقال بحزنٍ:
_بابا كفايا تزود احساسي بالعجز، كفايا عشان خاطري، والله بعمل اللي بقدر عليه عشان اجمعك بيه،بس بلاش دلوقتي، على الاقل لما يمتحن .
مسح على ظهره وقال:
_ولو معرفش خالص مش مهم، المهم إنك جانبي يا عمر، أوعى تكون الدين اللي هدفعه، وتتخلى عني زي ما اتخليت عن آيوب زمان
وببكاء ردد له:
_كنت مجبور والله، كنت ضعيف ومش أد المواجهة، لكن إنت غيري ومش شبهي يا عمر، أوعى تتخلى عني.
انحنى يقبل كف يده وجبينه بحب، وردد بانكسارٍ:
_كفايا توجع قلبك وقلبي عشان خاطري.
مال على كتفه تاركًا عبراته تتطهر ذنوبه وما ارتكبه من ذنبٍ، بحق أقرب أناسًا لقلبه، سدد فاتورته طوال تلك الأيام ومازال يسدد ثمنها إلى الآن، لم يهنئ يومًا على فراشه، حتى مذاق الطعام كان كالعلقم بفمه، كان يخشى أن تمتليء معدته بالطعام بينما صغيره لا يعلم هل تناول طعامه أم بقي جائعًا!
******
قربها إليه، يرويها من حنان ضمته، بينما ابتسامته لا تفارقه، مضت الدقائق ومازالت ترتكن على صدره، بينما يده تنغمس بخصلاتها، يميل مقبل أعلى جبينها بكل حبٍ، وهو يهمس لها بعشقٍ:
_اللي قولتليه من شوية ده شفى أوجاعي كلها يا فطيمة.
مالت للخلف تقابل عينيه، فضم وجهها بكلتا يديه وقال بابتسامته الجذابة:
_زي مانتِ كلك تخصيني أنا كمان أخصك إنتِ بس، ومستحيل أكون لواحدة غيرك حتى لو كان بارادتك.
تدفقت عبراتها على وجنتها بانهيار، وبوجع لمسه بنبرتها قالت:
_أنا آسفة إني خبيت عليك حاجة مهمة زي دي يا علي، بس غصب عني أنا مش هقدر أجيبلك أولاد، مش هقدر صدقني.
واختبأت بين لائحتها تبكي بانهيارٍ، أبعد علي خصلاتها للخلف وأعادها لمواجهته مجددًا، وبصوته الهادئ قال:
_ليه يا فطيمة؟ مش حابة يكون عندك أولاد مني!
أجابته بصوتها المبحوح عما يكمن داخلها:
_أنا مستعدة أتنازل عن قراري وأرمي الأدوية دي كلها، بس تكون ضامن ليا.
قوس حاجبيه بعدم فهم، وتساءل بفضول لمعرفة ما يكمن داخل رأسها:
_ضامن لأيه يا فطيمة؟
تمعنت برماديته بآنينها الصامت، وهمست له بانكسار:
_إضمنلي لو ربنا كرمنا ببنت إنك هتحميها ومش هتخليها تتعرض للمصير اللي أنا اتعرضت ليه، ولو كرمنا بولد اضمنلي إنه ميكنش زي الديابة اللي نهشت لحمي، أضمنلي ده يا علي وأوعدك أنك لما تقنعني أنا بنفسي هرمي الأدوية كلها حالًا.
شق السكين صدره وانتزع عنه قلبه دون رأفة، ثمة خناجر تستهدف أطرافه دون رأفة، ومع ذلك رسم بسمة باهتة، وازدرد صوته الهادر:
_مش صامن بس عندي ثقة كبيرة في ربنا عز وجل، عندي ثقة إني هقدر أربي ابني كويس، عندي ثقة اني هقدر أقدم الحماية الكافية لبنتي، عندي كل الثقة إني هكون أب مثالي وإنك هتكوني أحلى مامي بالدنيا كلها، لإن مفيس في نقاء قلبك وطيبتك يا فطيمة.
وتابع وهو يعيدها لصدرها بكل حب:
_وبعدين مين قالك إني عايز أولاد دلوقتي، أنا عايز أشغل وقتك كله وميكنش معايا شريك، مش مستعد في الوقت الراهن لكن بعد كده الله أعلم الكلام هيبقى على أيه!
أحاط الأمر ببراعة، بعد سماعه لسبب تخبئتها عنه الأمر، كطبيب يعلم أن حملها الأن ليس القرار الصائب، لذا دعمها دون أن يتطرف لتحليل حالتها، تعلقت فاطمة به ومالت تسترخي، استعدادًا للنوم، بينما تهمس له براحة غمرتها بعد مشقة:
_أنا بحبك أوي يا علي.
غمسها داخل رقبته بحنان وهمس بحب:
_ربنا ما يحرمني من حبك وقربك يا روح قلب علي من جوه!
******
الراحة النفسية التي شعر بها عُمران بمنزل آيوب لا تقدر بثمن، بل كانت السبب الأساسي في اقتناعه بالحاح آيوب عليه بأن ينتقل معه إلى شقة يونس، فشل آدهم بإبقائه برفقته، وحتى لا يحزنه عمران، حمل حقيبة صغيرة من ملابسه وترك أغراضه كاملة بمنزله.
استقرت سيارة آدهم أمام حارة الشيخ مهران، هبط منها آيوب وعمران الذي قال بابتسامة جذابة،ونبرة مرحة:
_تُشكر يا ذوق.
انفجر آدهم ضاحكًا، وقال بتعجب:
_دول كام ساعة لحقت تقلب؟!
ابتسم عمران وشاكسه:
_بمزاجي، كله بيحصل بمزاجي يا حضرة الظابط.
وتابع مشيرًا له:
_يلا ارجع إنت الوقت اتاخر ومينفعش تسيب والدك لوحده وهو تعبان كده.
هز رأسه بتفهمٍ وعاد لسيارته، بينما صعد عُمران برفقة يونس الذي كان بطريقه للصعود لمنزله بعد عودته من العمل متأخرًا اليوم، كاد أدهم يتحرك بسيارته، ولكنه تفاجئ بـ آيوب ينحني لنافذة سيارته ويقول بلهفة:
_إبقى طمني عليه يا آدهم.
احتبست اوجاعه داخل مُقلتيه، وقال يجيبه:
_حاضر يا آيوب..
واضاف راسمًا بسمة صغيرة:
_يلا اطلع الوقت اتاخر جدًا.
أومأ إليه وصعد للأعلى، بينما غادر آدهم على الفور، كان آيوب بطريقه للصعود، بعد أن مر من أمام شقة والده، وبمنتصف مسافته من الدرج، وجد الباب يُفتح وطل من أمامه الشيخ مهران الذي صاح غاضبًا:
_ما بدري يا بشمهندس!
عبث بمقلتيه بدهشةٍ، ما بال والده يحدثه وكأنه فتاة تأخرت بالعودة لمنزلها، والمقلق أنه يعلم أين كان؟
هبط الدرج وإتجه يقابل محل وقوفه، قائلًا باحترام:
_حقك عليا يا حاج، أنا كنت بستنى آدهم لحد ما يرجع، مهو ميصحش أسيب والده لوحده وهو تعبان كده.
خرج عن رزانة اعتاد التعامل بها، ولكنه بشريًا بنهابة الأمر، فقال بعصبية مبالغ بها:
_وتاعب نفسك في الرجوع ليه، خليك جنبه يومين تلاته لحد ما تطمن عليه براحتك.
زوى آيوب حاجبيه بدهشةٍ، لوهلةٍ شعر وكأنه تخبط بالرجوع لمنزل أخر غير منزله، فهمس بذهولٍ:
_بابا!
غلبته مشاعره وخوفه من القادم، كان يعد الساعات لعودته، لا يتقبل أنه ذات يومٍ قد يفارقه، سحب أكثر، من نفسًا يهدئ به البركان القابع داخله، ثم قال بهدوء:
_متتاخرش في الرجوع تاني يا آيوب، وأوعى مهما حصل تبات بره بيتك، ده بيتك يا ابني فاهم؟
مال كل الاشخاص من حوله غامضون اليوم لتلك الدرجة، دنى إليه متلهفًا:
_حضرتك كويس؟!
أخفى ارتباكه وقال بابتسامة زرعها بالكد:
_أنا بخير يا حبيبي قلقت عليك بس مش أكتر.
وأضاف قبل أن يطرح سؤالا أخر:
_يلا اطلع ريح ساعتين قبل صلاة الفجر.
هز رأسه بطاعةٍ رغم حيرته، صعد للأعلى ومازالت نظرات الشيخ مهران تلاحقه، لا يعلم كيف تغلب على السيطرة على أعصابه، طوال تلك الساعات كان يراقب الشارع من شرفته، يخشى ألا يعود آيوب إليه!! يعلم أن كشف الحقيقة اقترب وما باقترابه الا وجعًا يتوسط صدره، وخوفًا يبتلعه بجوفه حتى تلك اللحظة الغير محببة!
****
اختلى عُمران بالغرفة التي منحها يونس له، جلس على سجادته يقيم الليل كما اعتاد، ودعى من قلبه أن يجمد نيران قلب صديقه، كلما استلم رسالة منه على هاتفه يزداد شعور حزنه عليه، اتجه عمران للفراش تمدد من فوفه بارهاق، ولم يعلم كيف غرق بالنوم، حتى شعر، بيد آيوب تحركه وهو يناديه:
_عُمــــــــران! اصحى يلا.
فتح عينيه بانزعاجٍ، وبصوت الناعس قال:
_خير يا آيوب، لسه ساعة عن الفجر بتصحيني ليه!
ابتسم بسعادة وهو يخبره ما يخطط له:
_أنا أخدت مفتاح المسجد من بابا وهنأخد يُونس ونروح نفتح المسجد ونستنى لحد ما بابا يجي يرفع الآذان.
مال على الوسادة بتعبٍ:
_ماشي روحوا وأنا قبل الفجر بدقايق هحصلكم بإذن الله.
جذب الغطاء عن جسده وجذبه بحماسٍ:
_لا ما أنت لازم تكون موجود.
رفع رأسه إليه من فوق كتفه متسائلًا بحيرةٍ:
_ليه يابن الشيخ مهران؟ ناوي على أيه بالظبط!
حرك كتفيه ببراءة وحزن خبيث:
_ده بيت ربنا هكون ناوي على أيه يعني!
واسترسل بابتسامة واسعة أقلقت عُمران:
_نويت والنية لله أسمع الناس صوتك اللي يسحر ده.
اعتدل بنومته بصدمةٍ، وبات متخبطًا باختيار ما سيقول، فردد بذهول:
_عايزيني أرجع للغنى تاني وفي المسجد يابن الشيخ مهران! هي لسعت منك على الفجر ولا أيه؟
أجابه وهو يتجه لخزانة الغرفة، يبحث عن ملابس مناسبة لعُمران:
_مش بالظبط.. متقلقش!
أزاح الغطاء كاملًا ونهض إليه يتساءل بشكٍ:
_أمال أيه؟
واستطرد وهو يجذبه بعيدًا عن الخزانة بغضب:
_وبعدين مالك بهدومي أنا مبحبش حد يلعب في أغراضي الشخصية!
شمل خزانته بنظرة ساخرة، وبفتور قال:
_دي مفهاش أي جلبية بيضة تليق على الطقم اللي هنضربه، يلا مش مهم هجبلك واحدة من عندي ومتقلقش مكوية ونضيفة ومتعطرة وزي الفل.
فقد السيطرة على هدوئه، فأحاط عنقه برفقٍ وهو يهدده:
_هتنطق وتقول بتخطط لأيه تاني ولا أكمل اللي بعمله وتتكل من الدنيا خالص!! أنا ما صدقت أريح دماغ أمي ساعتين كل دقيقة تنطلي!!
وزع نظراته المندهشة بينه، وبين الكف المحاط لرقبته وبحزنٍ قال:
_ الجلبية يا عُمران، الحاجة رقية بقالها ساعة بتكوي فيها، الله يسامحك يا أخي!!
زفر بمللٍ، واتجه لفراشه يريح قدميه بقلة حيلة من مجابهة آيوب بعد نسخته المعدلة الاخيرة التي باتت تقربه لحدٍ صادمًا.
انفتح الباب وولج يونس بابتسامته البشوية يتساءل:
_ها جاهزين يا شباب؟
طالعه عُمران فوجده يرتدي نفس الجلباب الأبيض الذي يرتديه آيوب، وما جعله مذهولًا حينما انضم لهما إيثان يرتدي جلباب أبيض ويهتف بحماس:
_حضرتلك على الفون الابتهال اللي طلبته يا آيوب!
رمش عُمران بحيرةٍ، وهتف باستنكارٍ:
_ابتهال أيه! والواد ده مش مسيحي لابس كدليه!!
أجابه ايثان بضحكة مستفزة:
_أه إنت تقصد الجلبية يعني، شحتها من يونس عشان أجي بنفسي وأتفرج عليك وأسجلك صوت وصورة وإنت بتغني.
_أغني أيه!! أنا مش فاهم أي حاجة؟
لف آيوب يده من حول كتفه الذي يفوقه طولًا وقال:
_ما أنا قولتلك هخلي الناس تسمع صوتك العذب ده، إيثان حضرلك كلمات الابتهال ويونس هيظبطلك الميكرفون بتاع المسجد وكله هيبقى تمام متقلقش.
برق بذهولٍ:
_مقلقش!! إنت أكيد اتجننت أنا مقدرش أعمل كده أبدًا...مستحيـــــــل!
بعد عشر دقائق بالتحديد، انطلق صوت عُمران يردد الابتهال وعينيه متعلقة بهاتف إيثان لدرجة قشعرت بدنه.. فأعاد لسانه قول
«مَوّلاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي..
مَن لي ألوذ به ألاك يا سَندي؟
أقُوم بالليّل و الأسّحار سَاهيةٌ
أدّعُو و هَمّسُ دعائي.. بالدموع نَدى
بنُور وجهك إني عائد و جل..
ومن يعد بك لَن يَشّقى إلى الأبد..
مَهما لقيت من الدُنيا و عَارضها..
فَأنّتَ لي شغل عمّا يَرى جَسدي..
تَحّلو مرارة عيش رضاك..
و مَا أطيق سخطاَ على عيش من الرغد..
من لي سواك..؟ و من سواك يرى قلبي؟
و يسمَعُه كُل الخلائق ظل في الصَمد..
أدّعوك يَاربّ فأغّفر ذلّتي كَرماً..
و أجّعَل شفيع دعائي حُسن مُتَقدّي
و أنّظُر لحالي..في خَوّف و في طَمع..
هَلّ يرحم العَبّد بعد الله من أحد؟
مَوّلاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي..
مَن لي ألوذ به ألاك يا سَندي؟»
وما أن انتهى حتى سقط أرضًا، فاقدًا كل قوته، مهما بدى قويًا، صلبًا، حتمًا ستأتي لحظة ضعف تضربه في مقتلٍ!
*****
نهضت باكرًا ترتب المنزل، وتعد الطعام كعادتها كل صباحٍ قبل ذهابها للمركز، انتهت ليلى من صنع الطعام وولجت لغرفة نومها لتبدل ثيابها، كانت تود الذهاب برفقة زوجها كعادتها كل يومٍ، ولكنه اضطر أن يتجه للمركز منذ ساعتين لحالة ولادة طارئة.
ارتدت فستانها البنفسج، ووقفت تبحث عن شالها الصوف فور أن شعرت بالبرودة، رفعت رأسها للخزانة العلوية وهي تردد بحيرة:
_أنا كنت شايلاه فين؟ ممكن أكون حطيته هنا ونسيته بالزهايمر اللي عندي ده.
جذبت المقعد الخشبي، قربته بمسافة معقولة من الخزانة، صعدت ليلى فوقه تحاول الوصول لحقيبة السفر التي تحوي على بعض من ملابس الشتاء الثقيلة، سحبتها بكل قوتها للخلف، فاختل مقعدها سقطت أرضًا والحقيبة من فوقها، اجتاحها الألم بشكلٍ جعلها تصرخ بجنونٍ.
أبعدت الحقيبة عن نصفها السفلي، وهي تبكي بوجعٍ اجتاح ساقيها وبطنها، أحاطت موضع جنينها وهي تردد بانهيار:
_ابني!! لأااا.
أصابها ذعرًا من أن يكون مسه ضرًا، بكت بوجعٍ وهي تحاول النهوض على ساقيها لتبحث عن هاتفها، ولكنها فور أن احتملت عليها سقطت أرضًا من جديد.
زحفت أرضًا حتى وصلت لحقيبتها، أخرجت هاتفها واتصلت بيوسف على الفور، ولخيبة أمالها هاتفه خارج نطاق التغطية.
تركت الهاتف عنها وبكائها يزداد، كلما ازداد الألم بحدته، لم تجد ملجئ سوى شقيق زوجها، زحفت ليلى وبصعوبة فتحت باب شقتها، واصلت الزحف حتى وصلت أمام شقة سيف المجاورة لها، ضمت موضع جنينها بألمٍ، فسكبت النيران من فوقها فور أن لمحت بقعة الدماء تحتل فستانها بوضوحٍ، ازداد نحيبها ومع طرقات استغاثتها على باب شقة "سيف" .
تململ بمنامته على صوت طرق باب شقته، انتفضت زينب عن فراشها تتساءل بقلق:
_مين اللي بيخبط بالشكل ده؟
هز كتفيه بحيرةٍ، نهض يرتدي ملابسه وهو يجيب:
_هشوف مين وراجع.
انقبض قلب زينب، فأسرعت إليه تمنعه من الخروج:
_متفتحش يا سيف مين اللي هيجيلنا الساعه 6 الصبح ومرنش الجرس ليه، أنا خايفة!
مرر يدها على طول ذراعها بحنان:
_حبيبتي مفيش حاجه تستدعي القلق ده، يمكن حد من سكان العمارة ابنه تعبان ولا حاجة، أنتِ ناسية اني اتعينت رسمي خلاص.
وابعدها عنه قائلًا بتحذير:
_خليكِ هنا هخرج اشوف مين وراجعالك.
هزت رأسها إليه، وفور خروجه اختبأت خلف باب الغرفة تراقب ما يحدث باهتمام، فتح سيف الباب ليرى من الطارق؟ فصعق حينما وجد زوجة أخيه تجلس أرضًا، تضم بطنها بشكلٍ أثار ريبته.
رفعت ليلى رأسها إليه ببطءٍ، وبصعوبة رددت وهي تحارب الدوار الذي انتابها:
_الحقني يا سيف، ابني!
انحنى إليها يتساءل بلهفةٍ:
_أيه اللي حصل؟
اجابته بينما عينيه تتغلق استسلامًا للغشاوة:
_وقعت، ابني أرجوك!
هرولت زينب للخارج فور أن رأت ما يحدث، مالت إليها تساندها وهي تناديها بذعرٍ:
_ليلى!
ركض سيف للداخل يجذب هاتفه، يحاول الوصوب لاخيه أكثر من مرة، زفر بغضب حينما وجده خارج نطاق التغطية، سحب مفاتيح سيارته واسدال الصلاة الخاص بزوجته، وخرج يركض إليهما.
منحها ما بيده وقال:
_البسي بسرعة يا زينب لازم ننقلها المركز.
أومات له ونهضت ترتديه فوق بيجامتها الحرير، بينما انحنى سيف يتفحص نبض ليلى بقلق، لطم وجنتها وهو يناديها بخوف:
_ليلى سامعاني!! ليلى فووقي.
جحظت عينيه صدمة فور أن رأى فستانها المبلل بالدماء، على الفور حملها وصرخ بزينب من خلفه:
_حصليني يا زينب، أنا مش هعرف امشي وأسيبك هنا لوحدك.
بالرغم من أن حديثه يبرهن علمه بما يحدث لها، ويوضح خوفه الصريح من تركها بمفردها لهذا الشيطان، الا ان الحالة المربكة جعلتها لا تعي ما يقول، سحبت زينب باب شقتها وهرولت للجهة الاخرى تسحب باب شقة ليلى، واتجهت للاسفل من خلفه.
وجدته يضعها بالمقعد الخلفي للسيارة، فصعدت جوارها، تحرك بهما سيف وتطلع لها بالمرآة يخبرها بحزمٍ:
_خلي رأسها تحت وحاولي ترفعي رجليها عشان نقلل النزيف.
على الفور نفذت ما طلبه منها، بينما اسرع سيف تجاه إحدى الصيداليات، تركهما بالسيارة وهبط للداخل، وعاد اليهما بعد دقيقتين، فتح الباب الخلفي وانحنى تجاه زوجة أخيه.
وجدته زينب يملأ أكثر من إبرة، ويجمعهما بواحدة ضخمة، فسألته بقلق:
_سيف إنت بتعمل ايه؟ إحنا لازم نتحرك للمركز حالا النزيف مش راضي يقف.
اجابها وهو يجذب ذراع ليلى باحثًا عن وريدها:
_مش هستنى لحد ما نوصل ليوسف، هحاول أوقف النزيف، على الأقل لحد ما نوصل المركز، والا هتكون للأسف اجهضت.
هزت رأسها بتفهمٍ بينما دموعها تتساقط عن مقلتيها وهي تتطلع إلى ليلى بشفقةٍ، نجح سيف بحقنها بالوريد، كأنها خضعت لجرعة كاملًا بتأثير ما فعله،تركها وعاد لمقعده يسرع من القيادة للطريق الرئيسي، حتى يصل للمركز الخاص بـ "علي الغرباوي"، وبينما هو يقود عاد يسأل زينب:
_النزيف وقف؟
تفحصتها جيدًا، وأجابته ببكاءٍ:
_لا لسه بتنزف، سوق بسرعة يا سيف!!
زاد من سرعته القصوى، وهو يسارع للوصول للمركز البعيد عن منزلهما ما يقارب الخمسة وأربعون دقيقة، وبينما هو يسابق الزمان لنجاة زوجة أخيه إذ يعترض طريقه سيارتين تحاوطان سيارة سيف بشكلٍ ملحوظ.
اتقبض قلب زينب المتنبأ بتلك الاحداث كل يومٍ تقريبًا، ابتلعت ريقها مرارًا وهي تجاهد لخروج صوتها المرتعش:
_هو فيه أيه يا سيف؟
لم يجيبها بل لكم الدريكسيون وهو يصيح بعصبية بالغة:
_مش وقتك يا حيوان.
سحب هاتفه وأرسل برسالة نصية، قبل أن يخبئه داخل قميصه، بينما يتابع قيادته لنجاة زوجة أخيه وابنه، فاذا بسيارة ثالثة تشق الطريق فجأة، على ما يبدو بأنها كانت تنتظره هنا، تاركة زمام الامور للسيارتين التي اجبرته على اتباع طريقهما.
صرخت زينب بجنون وهي ترى ما يحدث:
_سيف في أيـــه!!
تلاشى صوتها عن حنجرتها فور أن انفتح باب السيارة الثالثة وخرج منها أسوء شيطان مقتته بحياتها، لم يكن مجرمًا عاديًا أبدًا، بل مجرمًا نجح بالفرار من حكم الاعدام الذي تلاقاه بمصر، وبالفرار من أكثر من دولة نال بها أحكام دولية، لم يكن شخصًا يسهل التغلب عليه بالمرة، وها هو الآن بمواجهة سيف.
تحرر لجمة لسانها الثقيل هاتفًا بحروف مرتجفة كحال جسدها:
_يمان!
❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️
كابوسها يتجسد أمام عينيها، يتحرك عن صورته الملصقة على الحائط الأسود، ليصبح حيًا أمامها، لطالما كانت تراه بمنامها وما أبشع أن تستكين بنومٍ كان هو زائره، لم تحظو بالراحة الا بقرب زوجها الحبيب منها، الذي يؤكد لها أن ما تراه ما هو الا وهمًا، وأن ذلك اللعين قد مضى وعبر ولن يعود مجددًا، وها هو يخالف كل الأقاويل، ويقف أمام السيارة يطالعها بخيلاءٍ .
مالت "زينب" على المقعد الأمامي ، تتشبث بقميص "سيف" الأسود، تجبر لسانها المتحجر لينطق:
_سيف، يمان!
بقيت نظرات المحتقنة تطالع من يقف قبالته بغضبٍ، وكلما ازداد تشبث زوجته به خوفًا، كلما تصاعدت أدخنة النيران داخله، تلك الحرب اجبارية، عليه أن يخوضها ضد هذا الحقير، عليه أن ينتهي منه وللأبد ، حتمًا ستكون هناك خسائر، وإن كانت روحه هو فلا بأس، ولكن روح معشوقته ثمنًا لن يجازف بدفعه، والأغلى عليه زوجة أخيه الحبيب وما تمتلكه برحمها المعرض للخطر، فتح سيف المزلاج الأمامي، ساحبًا أخر أبرة إحتفظ بها، يجازف بتلك اللحظة ، وهو يعلم ذلك، ولكنه لن يخذل "ليلى" التي لجأت إليه، لن يواجهها حينما تستعيد وعيها بأنه فشل بالحفاظ على حياة جنينها، مرر ما يحمله لزينب وقال ومازال نظراته للأمام حتى لا يجذب الانتباه إليه:
_زينب فوقي واسمعيني، الحقنة دي لازم ليلى تأخدها وحالًا، لاننا مش هنقدر ننقلها للمستشفى.
عبثت بمقلتيها بعدم فهم لما يخبرها به، تبلغه بأن الموت يحوم من حولها، ويخبرها بأن تحقن ليلى بتلك الآبرة الغريبة، صمتها المطول جعل سيف يصيح بحزم:
_زينب ركزي في اللي بقولهولك، أنا هنزل وهشتت انتباه عنكم، اديها الحقنة وافتحي الكرسي لورا فاهماني يا زينب!
التقطتها منه تتفحصها بدموع جعلت عينيها كالغشاوة:
_دي أيه يا سيف؟
رد عليها بقلة حيلة:
_مفيش قدامي اختيار تاني.
قالت برعشة ازدادت بها:
_سيف الحقنة دي خطيرة، لازم يتعملها فحوصات بالمركز قبل ما تاخدها!
شدد عليها بصرامة وهو يحل حزام السيارة عنه:
_نفذي اللي بقولك عليه، أنا المسؤول.
نزع عنه الحزام وفتح باب سيارته وما كاد بالخروج، حتى تمسكت بيده باكية:
_رايح فين!
أبعد يدها عنه وقال:
_زينب نفذي اللي قولتلك عليه، متخافيش أنا جنبك.
نجح بسحب يده منها، وأغلق باب السيارة ثم إتجه يقف قبالة ذاك اللعين الماكر، كبتت زينب صرخاتها بانهيارٍ، لا تعلم كيف سحبت الأمبول وملأت الآبرة الطبية، حاولت السيطرة على رعشة يدها لتفعل ما أراد سيف، لقد منحها وقت قصير لتتمكن من انقاذ ليلى، مهما كان ما تواجهه زينب بتلك اللحظة لا ذنب لها فيما تخوضه.
وقف "سيف" بوجهه بشجاعةٍ، يطالعه ببرودٍ جعل الأخير يهتز توترًا منه، ولكنه تصنع قوته بكل عنجهيةٍ، وقال:
_ذكي إنت أوي ومش همك كل اللي عملته الفترة اللي فاتت عشان تبعد، مصمم تتحداني والنهاردة الرد هيكون بموتك!
ارتخت شفتيه بابتسامةٍ ساخرة، لحقت نبرته:
_تقصد لعب العيال اللي كنت بتعمله؟ بالعكس أنا كنت مستمتع جدًا بجو الشبح الأهبل اللي عملته ده، بالعكس أنا أشفقت عليك وكنت عايز أحطلك ملاحظاتي على غباءك وأنا براجع تسجيلات الكاميرات كل يوم.
ودث سيف يديه بجيب بنطاله واستطرد بحزن مصطنع:
_صعبت عليا وإنت بتحاول تقصر فيا، بس متقلقش زينب اتقصرت ما أنت عارف قلب الستات رهيف، ده مش تقليل منك بالعكس، ولا حافز إنك تصلح غلطك المرة الجاية، لان للاسف معتش في مرة تانية.
وبجمودٍ استطرد:
_النهاردة يا هكون أنا القاتل يا مقتول، مش هسيبك تخرج من هنا حي!
تعالت ضحكات "يمان" بصخبٍ، جعل زينب تصمم أذنيها بيدها فور انتهائها من حقن ليلى، لا تريد حتى سماع صوته اللعين، فنحت شرفة السيارة وراقبت ما يحدث؛ فصعقت حينما وجدته يسلط مسدسه بوجه زوجها، ويصيح بانفعالٍ نجح سيف باشعاله داخله:
_مش هتلحق لاني هقتلك في أرضك، زينب ليا أنا وعمرها ما هتكون لغيري سامــــع!
فتحت باب السيارة، وهرولت مسرعة تقف أمام سيف كالحاجز الواقي، تدفعه بكل قوتها للخلف وهي تهمس ببكاء:
_سيف!
اهتز رأس يمان بشكلٍ مرضي وهو يراها تحاول أن تفديه بروحها، بينما جذبها سيف من خلفه يعنفها:
_أيه اللي نزلك من العربية، ارجعي .
دفعها للخلف لتعود، ولكن إشارة يمان كانت الأسرع، فالتف من حولهما رجاله، تراجعت زينب للخلف وهي تراقب اقترابهم منها بذعرٍ، حتى ارتطمت بسيف الذي ضمها بحمايةٍ.
_شايف رجالتي اللي حوليك دول مستنين إشارة واحده مني علشان يخلصوا عليك بس أنا مازلت واقف قدامك بديلك فرصة أخيرة انك تفكر وتعقلها!
تحررت الكلمات من فم "يمان" ببطءٍ قاتلٍ متعمدًا غرس الخوف بغريمه الذي يجابهه بكل كبرياء وصلابة تضرب الأخر في مقتلٍ، وكأنه غير عابئ بتهديده وبرجاله المسلحين.
ارتعش كفها الصغير المتمسك بقميصه، تختبئ من خلف ظهره باكية، مرتابة لما سيحدث لها ولمن أحبته بصدقٍ، فتحرر "سيف" عن صمته راسمًا بسمة باردة اتبعت قوله الثابت:
_لو فاكر إنك كده خوفتني فأنت صعبان عليا.. كنت فاكر إن شخص باجرامك تاجر أسلحة وهارس سكك قطاع الطرق دول هيكون عنده رجولة وشجاعة تخليه يتباهى بقوته هو مش بقوة رجالته، فلو لسه محتفظ برجولتك واجهني راجل لراجل ونشوف وقتها كفة مين الرابحة فينا!
تمسكت به زينب بقوة هامسة له:
_سيف خرجني من هنا مش عايزة أشوفه يا سيف.
إلتقطها لاحضانه أمام نظرات عين يمان الملتهبة، فرفع سلاحه يصوبه تجاه رأس سيف الذي لم يهتز له شعرة ليعود لتهديده:
_طلقها والا رصاصتي هتصفيك مكانك.
أعادها لخلف ظهره، واقترب يقف قبالته وجهًا لوجه:
_بموتي، مش هفترق عنها الا بموتي! وحتى بعدها مش هتقدر تفصلنا عن بعض لإني عايش جواها.. هتقدر تطردني من قلبها اللي اختارني أنا!!
استفزته كلماته بشكلٍ كبيرٍ، فصرخ برجاله وهو يتجه لسيارته:
_هاتوهم.
فور أن صرح بأمره دفعوهما الرجال تجاه السيارة، فما كان من سيف الا أن يضمها ليبعد أيدهم عنها، حتى صعد بالسيارة عنوة، فتحركت بهما خلف سيارة يمان.
تركزت نظرات سيف على سيارته بقلقٍ، وهمس بصوتٍ خافت:
_يارب تفهم الرسالة يا يوسف!
*****
تسلل من جواره، يرتدي جاكيته الرياضي، وسحب محفظة نقوده، ثم ارتدى حذائه الرياضي، وخرج من شقة يونس، بعدما عاد برفقتهم من صلاة الفجر، غفى لساعتين ونهض الآن يتمشى بالحارة، يريد أن ينعش رئتيه بالهواء المنعش، واضعًا بأذنيه سماعته الباهظة، يستمع لصوت الشيخ "عبد الرحمن مسعد"، صوته الدافئ يجعله يشعر بارتياحٍ يداهم كل خلية من جسده.
ركض" عُمران" مسافة طويلة تاركًا العرق يتصبب على جبينه، يود أن يغسل روحه من الداخل مثلما يبلل وجهه، نجح بالهروب من حصار آيوب ويونس لمعرفة ما يحزنه لتلك الدرجة، حتى أنه يتهرب من نفسه من الاجابة عما يضيق بصدره، التقط هاتفه مكالمة هاتفية، تفحصها باستغراب ودهشة حينما وجدها زوجته، حرر زر الاتصال ومازالت سماعته على أذنيه، فقال ببسمة جذابة وهو يرتكن على سياج النيل:
_حبيب قلبي صاحي بدري كده ليه؟
اتاه صوتها الحزين:
_لو كنت حبيب قلبك زي ما بتقول مكنش هان عليك تبعد وتفترق عني كل ده يا عُمران.
استند بذراعيه على السور يجيبها بحب:
_روح قلبه وحياته إنتِ يا مايا، أقسملك بالله غصب عني يا حبيبي، أنا تعبان ومحتاج أكون لوحدي، عايزك تقدري ده؟
انهارت باكية وهي تردد:
_طيب أنا غلطت في أيه؟ خايفة أكون وجعتك انا كمان عشان كده سبتني زيهم ومشيت.
ردد بحنان وعشق:
_عمرك ما وجعتيني يا مايا، إدتيني كل حاجة حلوة أمتلكها في حياتي، ادتيني حبك وقلبك ووقت ضعفي قوتيني، وقت انكساري كنت سندي، كنتِ بميت راجل رغم رقتك، وثقتي فيا في وقت أنا نفسي كنت شاكك فيها!
وابتسم وهو يستطرد:
_ وفوق كل ده ادتيني أغلى حاجة، البيبي اللي في بطنك، بعد كل ثانية عشان اشيله بين ايديا، عندي فضول أعرف هيطلع يشبهني ولا يشبه القمر اللي نور ليلي!
شهقاتها تصل إليه، فجعلته يأمرها بغضب:
_وقفي عياط وحالًا، مش هسمحلك تنكدي على الولد يا هانم!
ابتسمت رغمًا عنها، فتابع يمازحها:
_اهدي كده يا بيبي، ده أنا مسافر مكملتش تلات أيام على بعض، هتخلي فريدة هانم تديكي دروس قوة المرأة واستغنائها عن الرجل!
ضحكت حتى أشرقت وجهه ببسمته الجذابة، فردد بمرحٍ:
_هو ده اللي يعلي الأنسولين طبيعي، الصوت ده كفيل يغسل قلب عُمران الغرباوي من جوه!
كفت عن الضحك وقالت بصوت بحت نبرته:
_أنا عايزة أجيلك مش عايزة أقعد هنا، مصر وحشتني.
تبسم وأخبرها بمكر:
_مصر بردو اللي وحشتك يا بيبي، ما تيجي صريحة طيب عشان أقابلك بنص الطريق!
تنحنحت بحرجٍ، وقد ارتسم له صورتها الآن وهي بقمة خجلها، وبتوتر شديد قالت:
_إنت اللي وحشتني أوي.
أجابها بعشقٍ:
_كأنهم تلات سنين في بعدك يا مايا، مش فارقلي أي حاجة في اللحظة دي غير قربك!
وأضاف مبتسمًا:
_حاسس إني حبيب قلبي كبر بالتلات أيام دول عما سبته، قوليلي طيب كبر ولا لسه مش باين عليكِ؟
هتفت باستنكار:
_كل ده ومش باين عليا؟!
ضحك يمازحها:
_مش باين صدقيني، كأنك أكلة ومتقلة شوتين، متحمس أشوفك بشكل الحوامل على وش ولادة يا بيبي!
رددت بحماسٍ:
_بسيطة أجيلك يا عُمران!
ضحك بصوته كله، وقال يشاكسها:
_حبيب قلبه بقى شقي وبيتخابث على باباه، طيب ينفع كده يا بيبي!
زمت شفتيها بسخطٍ، فابتسم وقال بجدية:
_هخدك يا مايا، بس الأول خليني أظبط قصر الغرباوي القديم عشان يكون جاهز ليكِ يا حبيبي.
تساءلت باستغراب:
_قصر الغرباوي!! إنت ناوي على أيه عُمران؟
أجابها بهمس مغري:
_ناوي نستقر هنا أنا وإنتِ وعلي.
نقلت سعادتها بصوتها الحماسي:
_مش مصدقة اللي بسمعه معقول، حاسة إني اتلخبطت في الرقم!
ضحك بصوته الرجولي، وقال يشاكسها:
_ولو طلبتي مية رقم هجاريكي على أي وضع يا قمراية، أنا لئيم وأعجبك.
شاركته الضحك وقالت باستنكار:
_فين جوزي يا معلم رجعهولي لو سمحت؟؟؟!
رد عليها بخبث:
_نادي عليه بقلبك وهيخرجلك على طول يا بيبي، أصل صوتك سره باتع، بيحضر شخصية بتلبسه مخصوص عشان عيون حبيب قلبه.
ابتسمت وقالت بحبٍ:
_أوعدني إنك متبعدنيش عنك أكتر من كده.
اتاها صوته الجادي يخبرها:
_مقدرش أبعدك عني، إنتِ حتة مني مش اللي في بطنك بس.
وأضاف ببسمة هادئة:
_يالا يا بيبي اقفلي ونامي شوية، ده معاد نومك، ارتاحي واطمني ، عُمران الغرباوي لو بعد عن عشه ميت ألف ميل، عمره ما يتغرب عنه ولا يطول بعده، هنتجمع وقريب أوي يا مايا أوعدك.
قال جملته الاخيرة وأغلق الهاتف مبتسمًا بتلك الراحة التي تعتريه الآن، أعاد الهاتف لجاكيته ومضى بطريقه للحارة، فوقف بمنتصفها يحاول تذكرة الطريق الذي مضاه برفقة آيوب للمخبز ولتلك السيدة التي تعد الفلافل الشهية، وبالفعل وصل إلى المخبز أولًا، اشترى الخبز الساخن واتجه للسيدة التي تقابله، اقترب من محل وقوفها وقال بتعابيره البشوشة:
_صباح الخير والجمال كله يام عزت.
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجه العجوز، وهي تتأمل ذلك الوسيم، فإذا بها تجيبه، وهي تعيد طنجرة الفول لمحلها:
_صباح النور يابشمهندز، طالع لوحدك على الصبح من غير صاحبك ليه؟ مش خايف تتوه في الحارة؟
ابتسم "عُمران" حتى لمعت رماديته، وقال وهو يرفع الكيس البلاستيكي لها:
_لا أنا ميتخافش عليا، حتى شوفي روحت لعم عباس واداني عيش طازة.
وتابع وهو يشير لها عما أمامها:
_عايز بقى فول وطعمية وبيتنجان بالدقة الرهيبة زي اللي إدتيه لآيوب امبارح.
تهللت أسارير المرأة فرحًا، بعدما أشاد ذلك الأجنبي بما تعده يدها، على الرغم من أنه أقسم لها أنه مصريًا أبًا عن جد الا أن حالها كأغلب ممن تعرف عليه بحارة الشيخ "مهران" بما يطلقون عليه باللفظ العامي (خواجة) .
جذبت الأكياس تضع له ما طلب، قائلة ببسمةٍ هادئة:
_بس كده عنيـــا، وهتوصي بيك كمان عشان إنت من طرف ابن الغالي.
بابتسامته وطريقته الأنيقة قال:
_تسلم عنيكِ يا ست الكل.
حمل منها الأغراض ومنحها نقود من فئة المائتين جنيهًا، فقالت وهي تشير لصبي يلعب برفقة مجموعة من الأطفال:
_هخلي مصطفى يفك ويجبلك الباقي.
أشار لها وهو يتجه للمغادرة:
_لا خليه لمصطفى.
وغادر تاركًا الابتسامة مرسومة على وجه ذلك العجوز، بينما صعد هو قاصدًا شقة يونس حيث بات مقر الشباب بالاوانة الأخيرة، طرق وانتظر حتى فتح له يونس، فقال باستغرابٍ وهو يتفحص ما يحمله:
_عُمران!! إنت كنت فين؟
وتابع وهو يتفحص ما يحمله:
_وأيه كل اللي معاك ده!!!
ناوله الأكياس التي يحملها هادرًا بانزعاجٍ:
_طب شيل مني الأول وبعدين حقق معايا!!!
حمل عنه ما يحمله، مطلقًا ضحكة صاخبة لم يستطيع منعها:
_معقول!! البشمهندس عُمران سالم الغرباوي نازل بنفسه يجيب عيش وفول وطعمية!!
ربع يديه أمام صدره يمنحه نظرة ساخرة:
_وأنا مش بني آدم ولا أيه يا معلم يونس، مش بيقولولك معلم بردو!!
تمادى بضحكه وهز رأسه متمتمًا:
_ورد عليا ناس أشكال وألوان، بس في تركيبتك العجيبة دي مشوفتش، لا قادر أحدد إنت خواجة ولا مصري ولا نظامك أيه!! بس في المطلق إنت عاجبني!!
جذب الأطباق يوزعها على الطاولة المستديرة قائلًا بعنجهية الطاووس داخله:
_ده الطبيعي مجبتش جديد!!
انفرط بموجة من الضحك، ومال يتساءل بدهشة:
_حقك يا عم الطاووس، بس أنا اللي هيجنني ازاي إنت أخو دكتور علي؟
ترك الجبن الذي يحمله ونصب عوده يشمله بنظرة تقييمية:
_زي ما أنت ابن عم آيوب!!
قاطعهما صوت إيثان الذي يردد بنعاس:
_أنا شامم ريحة طعمية وعيش سخن! معقول يا يونس نزلت وعملتها!
قدم له يونس الفلافل وهو يخبره:
_لا ده الخواجة اللي نزل بنفسه يلم الشمل!
جحظت عين إيثان صدمة، فاخذ يوزع نظراته بينه وبين ما يحمله بين أصابعه، وما كاد بالحديث حتى أتاهم صوت جرس المنزل.
خرج آيوب من الغرفة يفرك عينيه بنومٍ:
_انتوا واقفين وسايبن الجرس يضرب!!
واتجه يفتح الباب فاذا بجارتهم تناوله قدحًا من الحليب، وكيسًا بلاستيكيًا مغلقًا، قائلة بحبور:
_ده لبن صابح والجبنة قريش اللي وصى عليها البشمهندس.
أسبل بدهشةٍ وهو يعود برأسه لمحل عُمران الذي يتناول قطعة من الخيار ويتابعهما بصمتٍ، فردد إيثان بصدمة:
_صاحبك هيعمل انقلاب في الحارة يا آيوب!!!!
*******
قاد سيارته تجاه الموقع الذي أستلمه برسالة نصية من أخيه، حاول الوصول إليه كثيرًا عبر المكالمات الهاتفية، والرسائل ولكنه لم يستطيع، فترك المركز واتجه للموقع وقلبه يخفق توترًا لما قد يراه، وصل "يوسف" للموقع المحدد، لمح سيارة أخيه تصطف بمنتصف الطريق بعشوائية رسمت القلق على ملامحه، وجعلته يهرول مسرعًا تجاه السيارة.
تفقد المقعد الأمامي بلهفةٍ، فلم يجده بالداخل، انتصب بوقفته يعيد الاتصال به، فلمح ضوء يتسلل من مقعد السائق، والهاتف على ما يبدو على وضع صامت، وبينما كان بمحاولاته لفتح الباب محكوم الانغلاق تسلل له صوتًا يئن بالخلف، انعكست اهدافه لفتح الباب الخلفي، والقلق ينهشه كالوحش المفترس، نجح يوسف بفتح باب السيارة، لتضربه صدمة جعلته متجمد محله حينما وجد زوجته تغفو باهمالٍ على الاريكةٍ الخلفية، فستانها ملوث بالدماء ووجهها شاحب يميل للاصفرار.
مال إليها يناديها بفزعٍ:
_ليــــــــلى!!!
التقطت صوته على الفور، فجاهدت لفتح عينيها الملطخة بالكُحْلَ الأسود، وغمغمت بتعبٍ شديد:
_يوسف.
ساندها حتى جلست جواره، وأخذ يتفحصها وهو يتساءل بصدمة:
_أيه اللي حصل؟ وأيه الدم ده؟؟؟
همست له بارهاقٍ ويدها تشدد على كفه، بينما تبتلعها الغمامة بين ذراعيها:
_ابني يا يوسف، ابني!
رددتها وفقدت الوعي على الفور، بينما سن السكين يمزق صدره دون رأفة، لطم وجنتها برفق وهو يصيح بها:
_ليلى فوووقي، سيف فين وأيه اللي حصل؟ جاوبيـــني!!
لم تتمكن من اجابته، لقد فقدت الوعي كليًا الآن، استعاب عقله ما أخبرته به للتو، لقد ذكرت ابنها، والدماء تلك التي تلطخ ملابسها، انتفض يوسف بجلسته إليها يمددها وهو يفحصها برعبٍ، مرر يده على جبينه وهو يردد بارتباكٍ:
_إنتِ لازم تتنقلي المركز فورًا.
وأضاف بقلق:
_طيب وسيف؟
مال على النافذة يقول بعجز:
_أعمل أيه يا رب!!
سحب هاتفه بعد ان اعتصر رأسه، وضعه على أذنيه وما أن استمع لصوت المتصل به حتى صاح بفزع:
_دكتور علي، يمان الكلب شكله هاجم سيف.
استمع لما قال وأضاف:
_معرفش حاجة، أنا لقيته باعتلي لوكيشن مكان، بتصل بيه من ساعتها مكنش بيرد، سبت شغلي وجيت جري على هنا ملقتش غير عربيته ومراتي جواها وبتنزف، أنا لازم انقلها للمركز حالا، بس مش قادر اتحرك وأنا مش فاهم ايه اللي حصل لسيف!!
رد عليه علي بصرامة:
_ابعتلي اللوكيشن وروح بمراتك على المركز بسرعة.
أغلق يوسف الهاتف وارسل الموقع إليه، ثم حمل ليلى وأسرع لسيارته، وضعها ووقف يتطلع لسيارة أخيه بقلبٍ منشطر، ما بين انقاذ زوجته وما تحمله بأحشائها إن كان ما زال على قيد الحياة، وما بين أخيه الذي يعد بمثابة ابنه الاكبر.
انتشله صوت ليلى المئن من دوامته، فرفعت يدها تتشبث بكفه وهي تردد ببكاء:
_بطني بتتقطع ، مش قادرة.
أغلق عينيه بقوةٌ، وحسم قراره، صعد جوارها وقاد سيارته بسرعةٍ فائقة حتى وصل بها للمركز، ولج بها مسرعًا لغرفة العمليات، يعيد فحصها على الاجهزة، تأكد له أن النزيف قد انقطع منذ فترة، وعلى ما بدى له أن الفستان ملوث منذ وقتٍ بعيد، شك بأنها تلقت الآبر المطلوبة لحالتها، فكشف عن معصمها ليتأكد ظنونه من رؤية آثرها.
مرر يديه بخصلاته السوداء وهو يردد بحيرةٍ:
_اخدت الحقن دي أمته وازاي؟
همهمت ليلى مجددًا بتعب، فأسرع إليها يميل على رأسها، يسألها برجاء:
_ليلى فوقي عشان خاطري، قوليلي أيه اللي حصل؟ سيف فين؟
رفعت جفنيها الثقيل بصعوبة، وما أن رأته حتى بكت بصوتٍ مسموع، وسألته برعب من سماع اجابته:
_ابني؟
أعاد خصلاتها خلف حجابها، وانحنى يقبل جبينها وهو يخبرها بحزن على حالها:
_مش هقدر أحدد دلوقتي، بس الحمد لله الحقن اللي اخدتيها وقفت النزيف.
تعالت شهقاتها بانهيارٍ، وهمست له بتعب:
_إعمل أي حاجة يا يوسف، مش عايزة أخسره عشان خاطري!
ازاح دموعها وقال بابتسامةٍ هادئة:
_هعمل كل اللي أقدر عليه يا ليلى، بس في الأول وفي الأخر اللي ربنا عايزه هو اللي هيكون، لو لينا نصيب فيه هتعدي مرحلة الخطر دي، ملناش يبقى ده الصالح لينا يا حبيبتي.
هزت رأسها بخفوتٍ، ومازالت تبكي بتأثرٍ، فقال يجذب انتباهها:
_ليلى حبيبتي جاوبيني، سيف كان معاكي صح؟
زوت حاجبيها تحاول تذكر ما حدث، فطرح سؤالا اخر:
_طيب أيه اللي حصلك وخلاكي تنزفي كده.
أجابته ببكاء اعتراها فور تذكرها ما حدث:
_كنت واقفة على كرسي بطلع شال صوف من الخزنة لاني بردانه، غصب عني وقعت والشنطة وقعت على بطني، حسيت بوجع رهيب حاولت أتصل عليك بس تليفونك كان مغلق، فخبطت على سيف وزينب.
وأضافت وهي تلعق شفتيها الجافة بوجعٍ:
_بعدها مش فاكرة أيه اللي حصل، أخر حاجة فاكراها كانت زينب وهي جنبي في العربية وسيف كان بيسوق،وبعدها محستش بنفسي.
نغز قلبه بعنفٍ،لقد تأكدت شكوكه بالكامل، اختفاء أخيه وزوجته لا يعني الا احتمال واحد...يمان!
*****
اجتمعوا جميعًا على مائدة الطعام التي أحضرها "عُمران"، وشرعوا بتناوله، ارتشف يونس من كوب الشاي الساخن قائلًا بمزحٍ:
_مين يصدق إن اللي محضرلنا الفطار الملوكي ده هو نفسه الخواجة.
التهم إيثان الفول وصاح بتهكمٍ:
_شكله كده نزل هنا يبطط الكام عضلة اللي فرحانلي بيهم دول بالزيوت!
تناول عمران ما بيده وهو يطالعه ببرودٍ، مزقه حينما قال:
_بتهزرش مع واحد بيعشق ريحة الحديد، عشان هتكح ضروسك من أول ضربة يا كابتن إيثو.
وأضاف وهو يلوك الخبز المغموس بالباذنجان:
_أنا سمعت إنك عندك جيم، خلينا نروح بعد الفطار ونشوف مين فينا اللي مش محافظ على عضلاته، ولا أيه رأيك؟
اجابه بتحدٍ وعنجهية:
_نروح منروحش ليه؟! أنا صحيح بقالي شهور مبفتحهوش بس وماله نفتحه لاجل عيونك يا خواجه.
مال يونس إليه يدعي السعال بينما يهمس له:
_ايثان بلاش.
لكزه بغضب:
_اقعد على جنب يا عم يونس، الخواجه بتاعكم ده شايف نفسه أوي، خلينا أنزله على التراب.
ردد يونس ساخطًا:
_أنا خايف عليك لتنزل إنت التربة!
دفعه بعيدا عنه بغضب:
_كل جرجير وفكك مني يا يونس.
جذب حزمة الجرجير يتناولها باستفزازٍ:
_رغم إنك اللي في أشد الحاجة ليه بس وماله.
على بعد منهما حيث يجلس آيوب جوار عُمران الذي لاحظ شروده وتعلقه بالهاتف من أمامه باهتمامٍ، فتساءل وعينيه تراقب إيثان:
_قالب وشك يابن الشيخ مهران؟
ترك الهاتف من يده وقال بغيظ:
_سيف بلكني من كل حتة تاني، أنا ما صدقت إن الدكتور يوسف أقنعه يشيل البلوكات، أعمل أيه تاني معاه غُلبت!!
سحب كويه يرتشفه وعينيه تتابع إيثان، وتنحنح بخشونة:
_بلكك بسبب اللي وصله عنك.
عبث بمقلتيه بعدم فهم، واستدار يسأله بذهولٍ:
_وصله أيه مش فاهم.
وضع الكوب وقال ببسمة ساخرة:
_الكابتن غشيمو صورلك وإنت لازق فيا ويعتبر نايم في حُضني!
برقت جفونه بصدمةٍ، وقبل أن يتخذ أي رد فعل تساءل:
_وإنت عرفت منين؟
أجابه وهو يتناول طعامه ببرودٍ:
_شوفته وكنت مرهق من السفر فسيبته بمزاجي.
منحه نظرة مشككة، فترك عُمران الكوب عن يده وقال:
_يدوب أغير هدومي وأنزل أقضي كام مشوار كده قبل ما أروح للحاجة آشرقت، كل يوم بأجل عزومتها لما شكلي بقى زبالة.
وتابع ببراءةٍ مصطنعة:
_مش عايز حاجه يا بوب؟
هز رأسه باستسلام، فنهض يجذب قطعة من الفلافل مرددًا بتلذذٍ:
_أممم... تعرف لو رجعت لندن هفتقد لطعمية أم عزت.
وتابع ببسمة خبيثة:
_بفكر أفتحلها فرح في لندن، بس تفتكر سيف هيسمحلك تعدي هناك بعد خيانتك ليه؟
هشم أسنانه غيظًا، فضحك عمران واتجه يشير لايثان بحزمٍ مصطنع:
_يلا عشان نهضم زيت الطعمية يا كابتن ايثو، بس ياريت تجيب يونس معاك لاني مبسندش حد أنا.
قالها واتجه للاسفل، كبت يونس ضحكاته، بينما تمرد ايثان بغيظٍ:
_يسند مين؟ يقصد أيه الخواجه ده يا يونس؟
رد عليه وهو يحبس ضحكاته بصعوبة:
_ميبقاش عقلك مقفل أُمال، ده خايف عليك يجيلك تروما ولا تشنج عضلي ولا حاجة، فعايزني معاك زيادة آمان ليك، شكله ابتدى يحبك يا إيثووو.
وزع آيوب نظراته المحتقنة بينهما، والغضب يجوب فيروزته حتى تحرر عنه قوله المتعصب:
_إنت بعت لسيف أيه يا إيثان؟
شتت انتباهه بما قال، فتعالت ضحكاته وهو يقول:
_بعتلك ورقة الطلاق ولا لسه!
وأضاف بتسلية:
_ده أنا خدت ليكوا شوية لقطات إنما أيه لوز.
دفع آيوب زجاجة المياه فأصابته بوجهه، وصاح بانفعال:
_أنا منبهك إن سيف عقله صغير ومع ذلك عملتها، ناشي يا إيثان مردودلك، الأيام جاية مش رايحه.
وتركه وغادر ونظرات عينيه المحتقنة تعبر عما يجوب داخله.
******
اجتمع "علي" و"أحمد الغرباوي" بمكان سيارة سيف، ولحق بهما "يوسف"و" جمال" الذي علم بالأمر منه، لحق أحمد بعض من الحرس الخاص به، وقفوا جميعًا بحاولون العثور على أي دليل أو إشارة توصلهم إليه.
ركل يوسف عجل السيارة بقدمه وهو يصرخ بهلعٍ:
_هيكون أخدهم على فين؟؟
ربت أحمد على كتفه وقال بشفقة:
_اهدى يا يوسف، الحرس بيلفوا حولين المكان ولو لاحظوا حاجة غريبة هيكلموني على طول
أكد علي لهم وهو يدقق بالخريطة التي يمتلكها:
_هما مستحيل يلحقوا يبعدوا عن هنا خصوصًا إنه مش هيجازف ويعدي من طريق رئيسي ومكشوف.
رد جمال بتأكيدٍ:
_عندك حق يا دكتور علي، اللي زي يمان ده حويط ومش ممكن يجازف وهو مطلوب من القانون.
ارتكن يوسف على مقدمة السيارة، وهدر بحزن:
_أنا السبب،كان عايز يسافر مصر ورا آيوب من زمان وأنا اللي منعته، لو جراله حاجة عمري ما هسامح نفسي.
أحاطه علي بنظرة حزينة، وقال:
_إنت مربي راجل يا يوسف، لا الحقير ده ولا عشرة زيه يقدروا عليه.
أضاف أحمد بتأثر:
_إن شاء الله هنوصله قبل ما يأذيهم.
ونطق بحماس حينما رن هاتفه:
_الحارس بيتصل.
حرر زر الاتصال وفعل السماعة الخارجية ليستمعوا جميعًا لصوت الحارس يقول:
_سيدي لقد عثرنا على ثلاث سيارات دون لاوائح أرقام مرخصة، أمام مصنع مهجور بالجوار، أعتقد أنهم قد يكونوا بالداخل.
جذب علي الهاتف من يد أحمد وهدر:
_حاصروا المكان من جميع الجهات وتأكدوا إنهم بالداخل، إن لزم الأمر تدخلوا على الفور لحين وصولنا.
_حسنًا سيدي.
أغلق علي الهاتف وأسرع لسيارته ولجواره أحمد، وصعد يوسف جوار جمال بسيارته، لتنطلق السيارتين للوجهة المحددة.
******
ابتعدت للخلف ومازال يدنو منها، عينيها تبرقان في صدمةٍ وخوف، تتطلع تجاه الباب الموصود بهلعٍ، وبهمس خافت تخشى حتى أن يستمع له من يقف أمامها رددت:
_سيف!
صرخت ألمًا فور أن تلقت لطمة من يده الخشنة، صارخًا بكل عصبية:
_متنطقيش إسمه قدامي يا *****، كنتِ فاكرة إني هسيبك تتهني معاه يا ***، أنا هدفعك التمن غالي يا زينب، هخليكي تقولي حقي برقبتك، هندمك على كل لحظة فكرتي في حد تاني غيري، هروبك من المغرب ولجوئك للحقير اللي زمان رجالتي قتلوه بره ده هدفعك تمن روحك.
زحفت للخلف وهي تهز رأسها بجنون، عينيها تنتقل لباب الغرفة المتهالك، وبخفوتٍ تردد:
_سيف!
تخشى أن ترفع صوتها، تخوض أبشع مرحلة من التعب النفسي، وهي تراه ينفرد بها بغرفة بعيدة عن مكان زوجها، قلبها يتآكل كالصديد حينما دفعها أمامه وأمر رجاله بقتله على الفور.
تمسكت بأملها المتردد وباتت تردد بتوسل:
_سيف، تعالى!
انحنى إليها يجذبها من حجابها وهو يصرخ بعصبية بالغة:
_اخرسي متنطقيش اسمه يا ***، خلاص هو أخد اللي يستحقه، هترجعي تاني زي الكلبة ليا، والمرادي مش هتعرفي تهربي لانك لو عملتيها هوريكي العذاب شكله ازاي يا زينب، هتجوزك غصب عنك وعن اللي يتشددلك.
_هتعملها ازاي يا حيلة أمك!
قالها من يقف خلفه، يحمل بيده عصا حديدية يملأها الدماء، ألقاها سيف أسفل قدمي يمان ومسح فمه المنسدل بالدماء، على ما يبدو كان بمعركة مصيرية نهايتها انتصاره الساحق على فئرانه، أزاح الدماء عن فمه وقال بسخرية:
_كان بودي أقولك خليك شهم وأطلب الاسعاف لرجالتك مهما كان انتوا واكلين عيش وملح مع بعض، بس أنا ميخلصنيش أوجب معاهم وميوصلكش واجبي.
ارتسمت بسمة السعادة على وجهه، تلبستها قوة غريبة جعلتها تدفعه بكل ما أؤتت من عزم وهرولت تجاهه، ضمها سيف إليه وسألها بقلق:
_عملك حاجة؟
فهمت معزى سؤاله، فعدلت من حجابها وهي تشير له بالنفي، قبل رأسها وعينيه تواجه ذلك الذي يشتعل من فرط الغيرة والحقد.
أبعدها سيف عنه وأمرها بصرامةٍ:
_خليكِ هنا ومهما حصل أوعي تخرجي بره الاوضة دي سامعه؟
ارتابت زينب لامره، لأول مرة يكون حادًا لتلك الدرجة، أومأت له بخوف وتراجعت للخلف، بينما اتجه سيف إليه وانحنى يجذبه من تلباب قميصه، فناوله يمان لكمة قاتلة بحجارة تمسك بها بيدها، تفادها سيف وضرب يده بالحائط حتى سقطت الحجارة، وفجأه بعدد من اللكمات القوية، حتى غرق بدمائه وسقط أرضًا ينزاع الدوار الذي هاجمه، انحنى سيف وجذب ساقه ثم سحبه للخارج وقال دون أن يستدير لها:
_نفذي الا قولتلك عليه وأوعي ألمحك بره.
وبسخريةٍ قال:
_ورايا عملية تخصص حرج غير مسموح للنساء بالتواجد فيها!
رفرفت باهدابها بعدم فهم، بينما انفلت قلب يمان وردد بذعرٍ حينما وجد سيف يغلق باب الغرفة على زوجته ويدنو منه بالعصا:
_إنت هتعمل أيه؟
اجابه ببسمة واسعة:
_ولا حاجة، هبعزقلك الحمقة الكدابة اللي مخليك تحس إنك راجل وإنت متساوش في سوق الرجالة 2 سنت!
وانحنى إليه يستند على ذراعيه مدعيًا التفكير:
_بس قبل ما أبدأ بالعملية الدقيقة دي لازم تعرف حاجتين، الأولى متعتبرش سر والتانية سر حربي هيتدفن مع اللي هيتدفن هنا.
وتابع وهو ينزع قميصه الاسود الملطخ بالدماء ببطءٍ استنزف رعب غريمه الذي يحاول الزحف للخلف بكل قوته:
_السر الاول واللي ميعتبرش سر إني للأسف دكتور أطفال والسر التاني آني بخاف من الحقن جدا وعمري ما مسكت مشرط.
ورفع العصا للأعلى وهو يستطرد ببسمة خبيثة:
_ها تحب نبدأ بالتخدير ولا من غيره؟
ودنى إليه هاتفـًا بجدية مضحكة:
_انا بقول إن اللي أكلته جوه عامل الواجب معاك ومبنجك فمش هتقرفني.
جذبه سيف من ساقه مجددًا كالجرذ الذي يفر من شبلٍ خرج عن حدود غابته، منحه نظرة قاتمة، مخيفة وقال بخشونة لازعة:
_عاملي فيها مجنون ليلى بروح أمك، علاجك عندي هخليك مش بس تكره اسم مراتي هخليك تكره تشوف أي ست قدامك يا ***
وانهال عليه بأول ضربة أصابته في مقتلٍ وجعلته يصرخ كالنساء، بل بكى بشكلٍ جعل زينب تنتفض من الداخل رعبًا مما يفعله سيف بالخارج.
ثلاثون دقيقة استغرقهم لينتهي من عمليته الجراحية كما أشاد بها، ليعود بعد دقائق إليها وهو يرتدي قميصه، بحث عنها فوجدها تختبئ خلف مكتب متهالك، لم يبقى منه سوى ألواحًا من الخشب، كانت زينب تطالعه بذعرٍ، وخاصة حينما أشار لها بيده لتخرج، ابتلعت زينب ريقها بارتباك، ونهضت تطل من خلف لوح الخشب، تسأله بتوتر:
_هو راح فين؟
ادعى اندهاشه من سؤاله والتفت من حوله يتسائل :
_هو مين يا حبيبتي؟
بصعوبة أجبرت لسانها على نطق:
_يمان!
زم شفتيه معًا وقال بحيرة:
_هو إحنا نعرف خنزير بالاسم ده؟
ورفع كتفيه ببراءة:
_معرفهوش، إنتِ تعرفيه؟؟
هزت رأسها بالنفي والذعر يتلألأ داخل مقلتيها، فأشار لها وهو يكبت ضحكاته بصعوبة:
_واقفة بعيد ليه طيب، قربي عشان نطلع من المكان ولا انتي عاجبك القعاد هنا؟
هزت رأسها وهرولت اليه:
_لا لا.
ابتسم وهو يحتويها بين ذراعيه، فخرج برفقتها للخارج، استدارت زينب تجاه يمان المتمدد أرضًا باهمال، يحيطه بركة من الدماء بشكل جعل حدقتيها تتوسعان بصدمةٍ.
لف وجهها اليه وتابع الخطى بها هادرًا ببسمة هادئة:
_تفتكري هنلاقي تاكسي ياخدنا من هنا ولا نسرق عربية من بتاعت الكلاب دول؟
وأضاف مازحًا:
_فكري كويس لاني ضهري ملوح من واجب الرجالة ومش هقدر أشيل!
ابتلعت ريقها برعب وتمتمت:
_ها!
مال يقبل حجابها وهو يردد بضحك مكبوت:
_مفيش يا زينب بسلك الحنجرة.
وأضاف بتنهيدة:
_أحسن حاجه اننا هنروق من مقالبه الرمة اللي شبهه، عاملي فيها شبح بروح أمه!
وتابع بنوبة من الضحك:
_عُمران الغرباوي طبع عليا بس بأمانه عنده حق، الاشكال دي ميمشيش معاها توب الدكتور المحترم، عايزة الوش الخصوصي بتاع الطاووس الوقح، ابقي فكريني ارنله واشكره على الدروس اللي أخويا الغلبان نفسه مقدمهليش.
وهمس بسخط:
_الاحترام اللي رباني عليه مكنش هينهار قدامهم من أول قلم!
توقفا عن المضي قدمًا فور ان وصلت سيارات الشباب ومن خلفها الشرطة، ركض يوسف إلى سيف يضمه إليه وهو يردد بقلقٍ:
_كنت هموت من القلق عليك، طمني انت كويس!
قالها وهو يتفحصه جيدًا، عاد سيف يضمه من جديد وهو يخبره بحنان:
_أنا كويس يا يوسف، المهم طمني على ليلى، قولي إنك وصلتلها!
هز رأسه والحزن ينبلج على ملامحه، وخاصة حينما تساءل سيف بلهفة:
_طمني.
همس له بألمٍ:
_الحقن اللي ادتهالها وقفت النزيف مؤقتًا، حاليًا مش هقدر أحكم، بكره هيبان.
ردد بأمل وتمني:
_إن شاء الله هيكونوا الاتنين بخير.
هز رأسه بخفة، بينما دنى إليه جمال يردد ببسمة جذابة:
_حمدلله على السلامة يا دكتور سيفو.
بادله البسمة باحترام:
_الله يسلمك يا بشمهندس.
دنى علي من زينب يسألها باهتمام:
_انتِ كويسة يا زينب؟
اكتفت بالايماءة له وعينيه تفترش الارض، اقترب احمد اليه يشير على سيارة الاسعاف التي تنقل المصابين واحدًا تلو الآخر، فردد بفضول:
_أيه كل ده! هو أيه اللي حصل بالظبط؟
اتجهت الأعين لسيف الذي هز رأسه في أسف وقال:
_اتقلبت بيهم العربية جوه المصنع المهجور، قضاء وقدر.
خرج المسعفون بيمان الذي ينسدل الدماء من جميع أنحاء جسده، وضعوه بالسيارة وانطلقوا، فاتجهت الابصار إليه، فهز رأسه وقال:
_سقف الاوضة وقع عليه، قضاء وقدر.
تعالت ضحكات أحمد وردد بعدم تصديق:
_طلعت حكاية يا سيف وأنا اللي مفكرك طيب وعلى نياتك!
ضحك وشاكسه بتسلية:
_محدش دخل حياته عُمران سالم الغرباوي وفضل طيب وعلى نياته الا يوسف أخويا، أنا أخدت درس احترافي منه.
لكز أحمد علي وصاح:
_شوفت أخوك وعمايله ضيع سيف!
ضحك يوسف وقال:
_بالعكس لولاه الله أعلم كنا هنوصل نلاقي إليه، أنا لأول مرة أكون ممنون لوقاحة الطاووس.
احتل الألم نبرة صوت جمال حينما أضاف:
_عُمران دايما بيأثر في اللي حوليه.
ابتعد علي عنهم يتفقد هاتفه، دقائق وعاد اليهم يخبرهم:
_آدهم بيشدد عليك يا سيف انك ترجع نصر باقرب وقت.
ردد أحمد بثبات:
_وأنا معاه وجودك هنا ممكن يجبرك تدخل في تفاصيل القواضي اللي مرفوعة على الحقير ده، ومش انت وبس وزينب كمان.
ضم يوسف كتف شقيقه وقال بخوف:
_أنا مش هستنى أصلًا حالا هخليه يحضر جوازه ويسافر حالا.
رد عليه سيف باعتراض:
_مش هسافر قبل ما أطمن على دكتورة ليلى يا يوسف،وبعدين حجز أيه اللي هحجزه في يوم ده.
تدخل علي قائلًا:
_لو على السفر متقلقش أنا هقدر أحلهالك،عمران عنده طيارة خاصة الاجراءات مش هتاخد وقت.
أصر يوسف بخوف عليه هادرًا:
_اسمع كلامي يا سيف،اطلع حالا على شقتك لموا الحاجات المهمة ودكتور علي هيكون معاك.
تدخل جمال بالحديث قائلًا بعتاب:
_انت نسيتني ولا أيه يا يوسف؟
زوى علي حاجبيه باستغراب:
_هو انت مسافر يا جمال؟!
رد عليه بحرج:
_عمران هرب مني وأنا هروح وراه.
استغل علي انفردها بعيدا عن عمه الذي يعاون زينب على الصعود لسيارته وسيف لجواره، وسأله بدهشة:
_طيب ومراتك يا جمال؟
سكن الألم مُقلتيه، حتى فارت مرارته، وأجابه:
_حاسس إنها محتاجة لوقت عشان تقدر تسامحني، ومش هتقدر تعمل ده وأنا في وشها.
واستطرد بآنين يذبحه:
_رفضها انها تسامحني وكرهها ليا مطفي جزء من النار اللي جوايا يا علي، لكن مسامحة عمران السريعة وحمايته ليا بعد كل اللي عملته فيه ده اللي دبحني، لو كان عاملني بقسوة ورفضني كنت هكون مرتاح لاني أستحق.
انهمرت دمعة من عينيه وهو يخبره:
_عمران وجعني بسمحاه ليا، محتاج أبعد وأفصل عن كل ده بس وهو معايا.
ربت على كتفه بتفهم، وفاه إليه:
_طيب مش حابب تاخدها معاك، يعني انت شايف إنها لو فضلت هنا هتكون بأمان؟
تمعن برماديته بنظرة منكسرة، وقال بوجوم:
_ولما كانت معايا حققتلها الأمان! آه يا علي هي بعيد عني وفي أمانة يوسف ومراته بأمان، أنا لو فكرت أديها الجواز او أخدها معايا مصر، أكون بحكم على نفسي بالفراق الابدي بيني وبين ابني، صبا لو رجعت مصر، هتحرمني من ابني فعلا ومش هعرف أطوله، لكن بوجودها هنا بحافظ على الفرصة الوحيدة اللي فاضلالي، بحاول أتمسك بيها وأخليها تسامحني بس اللي عملته ميشفعش له سماح.
منحه ابتسامة هادئة وقال بأمل:
_هتسامح وهتغفر بس أكيد محتاجة وقت.
رد عليه بتفهم:
_عارف وعشان كده بديها كل الوقت وأنا بعيد.
وتابع وهو يتجه لسيارته:
_هروح احضر شنطتي وجوازي، وهقابلك بعد ساعتين في المطار زي ما اتفقنا.
*****
شعر بحركة خاطفة جواره، تسللت يده أسفل وسادته ليتنزع سلاحه، وقبل أن يصل له تفاجئ بذراعيه يقيدان باحكامٍ بسلسال من الحديد، يلتف من حول رقبته، يصل لأعلى الفراش، وينتهى أطرافه بتقيد قدميه، احتقنت زيتونية عينيه بغضبٍ، واتجهت لمن يجاور فراشه على أحد المقاعد، يتابعه بنظرة تشفي وبسمة انتصار، كز على أسنانه بغيظٍ وهدر:
_أيه اللي إنت مهببه ده، فكني!
ظهر على وجه الجوكر بسمة تسلية، ووضع قدمًا فوق الاخرى مرددًا بجمودٍ:
_كنت عايز تعمل سونا وجاكوزي فقولت أهيئلك أنا الاجواء المناسبة.
وتابع ساخرًا منه:
_هخليك تكتشف جانب يسعدك معايا بديل عن جو التوابيت اللي إنت عايش فيه ده، بس مع اختلاف بسيط إن اللعبة لعبتي، بدايتها ونهايتها في إيدي أنا!
تمدد باستقامة وقال وهو يسترخي:
_لما تخلص فقرة الساحر دي ابقى صحيني.
نهض إليه مراد يجذبه بعنف من تلباب قميصه:
_رحيم يا زيدان متخلنيش أصفيك وقتي ومفيش حد هيحميك من غضبي، انطق وجاوبني لو مش احنا اللي هنعمل المهمة دي أمال مين اللي هيعملها،بالعربي كده قولي احنا طالعين ستارة لمين؟
اتسعت ابتسامة رحيم الشيطانية وهمس له بفحيحٍ خبيث:
_اللي عمرهم ما اتفقوا ولا هيتفقوا في يوم.
حرر رقبته بصدمةٍ، جعلته يزدرد ريقه الهارب بصعوبة،مردفًا:
_ده هزار سخيف؟
******
فتح الباب وولج يبحث عنه، بالشقة بأكملها، فتح الحمام فوجده يستكين بالمسبح الصغير، مغلقًا عسليته باسترخاء، ربع ليل يديه أمام صدره وتابعه بسخط، حتى ردد ومازال مغلق العينين:
_أخدت كام صورة؟
وأضاف ومازال يسترخي بجلوسه:
_انت بتتخطى حدودك معايا وده أنا مسمحتش بيه لحد.
فتح عسليته يطعنه بنظرة صارمة واستطرد:
_حوار اللثام الغريب اللي لبسه ال24ساعة تداري بيه وشك ده مش واكل معايا، بس مضطر أقبل بيه زي ما أنا مستحمل شخصيتك اللي مش مبلوعة دي.
جلس ليل على حافة الخزانة العالية يطالعه ببرودٍ جعل عدي يمنحه نظرة ساخطة وهدر:
_فجأتني انك أطرش!
زفر ليل بسئم وقال:
_باشا هو احنا هنبدأ شغل امته أنا بمل بسرعة.
جذب المنشفة الطويلة يجفف بها المياه المنسدلة فوق بنطاله وصدره العاري، نهض يقابل المرآة، يتفحص ذقنه بنزقٍ، سحب عدي احدى حقائبه يستخرج منها أدواته الخاصة بالحلاقة وقال بجمود:
_شكلك نسيت الشغل من كتر ما اجازة تقاعدك طولت.
واستدار إليه يخبره ببسمة استهزاء:
_لما يجي الوقت المناسب هعرفك.
وتابع وهو يعود للمرآة:
_اسحب الباب في ايدك وياريت متدخلش الكائن بتاعك ده أوضتي مرة تانية، والا أنا مش مسؤول عن أي رصاصة طايشة تطوله.
رفع يده يلتقط عُقاب على ذراعه، وضعه على كتفه وقال بسخرية:
_بس ابقى خد بالك من ايدك يا باشا وإنت بتعملها، عقاب أسرع من الرصاصة!
وغادر والابتسامة تعتلي ثغره من أسفل الوشاح، بينما راقبه عدي ببسمة جذابة، وعاد يستكمل ما يفعل هامسًا:
_شكلي هستلطف الكائن الغريب ده هو وصاحبه المزعج!
******
_مسحملكش تقول على أجهزتي خردة إنت فاهـــــــم!
قالها ايثان بغضبٍ، لعمران الذي يتفحص المكان بعدم رضا، ثبت رماديته عليه وقال بازدراء:
_هو ده الجيم اللي صدعت من كتر عزومة التحديات بتاعتك، أنا ازاي دخلت هنا اصلًا!
ربت يونس على صدر ايثان وراح يهدئه:
_اهدى يا إيثو الخواجة ميقصدش.
ردد آيوب بشماتة:
_لا عمران يقصد ونص، إنت رافع نجمك أوي وعايز اللي يقذفك يجيبك الأرض.
طالعه يونس باستغراب وتساءل:
_مالك انت التاني يابن الشيخ مهران؟
قال من بين اصطكاك اسنانه:
_الكابتن المحترم مصورني وانا نايم جنب عمران وبعتها لسيف وكعادته بلكني!
ضحك ايثان وقال من خلف يونس:
_وانت زعلان ليه مش مفضل الخواجة عليه متوقع رد فعله يكون أيه يعني؟
استند عمران على حافة جهاز الماشية وقال ساخرًا:
_الظاهر إنك محتاج تركن في بيتكم كام يوم جنب السيدة الوالدة تراعيك، إنت فعلا محتاج رعاية عشان تكون قادر إن تقف وتتكلم بدون ما تتهز زي فرقع لوز كده.
وتابع لايوب يشير له:
_بينا يا آيوب صلاة العصر هتفوتنا، خلي الكابتن يشوف أكل عيشه على الاجهزة الخربانه دي، ده إن حد عبره ودخله حتة!
لحق به يخبره بغيظ:
_هو إنت فاكر إن نوعية الاجهزة بتاعتك دي حد من اللي هنا هيقدر على اشتراكها كل شهر! ده الخردة اللي مش عجباك دي بلم حقها بالتقسيط كل تلات شهور، وبسبب كده الجيم حاله وقف ومبقاش ماشي زي الاول.
جذب جاكيته الرياضي يضعه على كتفه وقال يتحداه:
_ولو خليتهولك يشتغل أفضل من الاول ومش بس كده هتكسب من وراه عشر أضعاف.
حك لحيته بدهشة، وقال:
_وماله ورينا شطارتك.
ظنه سيتراجع بعد قبوله التحدي ولكنه تفاجئ به يفنح يده ويطالبه:
_هات المفتاح، وطول الفترة الجاية مالكش دعوة بالجيم.
وزع ايثان نظراته بين يونس المندهش وآيوب المبتسم بشماتة، وسحب المفاتيح ووضعها إليه، فوضعها عمران بجيب بنطاله وأشار لآيوب:
_بينا نلحق صلاة العصر.
خرجوا معًا واتبعهما يونس، فحاول ايثان ايقافه متسائلًا باستنكار:
_ناوي على أيه الخواجة ده؟
سحب كفه منه وقال بنزق:
_أنا اللي مبقتش عارف ولا فاهم إنت ناوي على أيه؟
اجابه ببسمة بلهاء:
_استغل الخواجة وأفتح بوتيك بس لما أعلم عليه بواحدة الاول، خلينا نتفرج على خيبته التقيلة مع أهل الحتة والجيم.
منحه نظرة ساخطة وهتف:
_الظاهر آن خيبتك إنت اللي هتسمع يا إيثو!
******
قرر أن ينهي رحلة عذابه اليوم، هو غير مقدر لها، حمل "جمال" الحقيبة، وصعد للأعلى، وقف أمام بابها مترددًا بالطرق أم بالمغادرة، ولكنه فعلها وطرق الباب.
ظنت بأن ليلى كعادتها مرت عليها باكرًا قبل ذهابها للعمل، فتحت الباب وهي تردد ببسمة واسعة:
_في معادك يا دكتور.
تجمدت البسمة على وجهها فور أن رأته أمامها، كانت تظن أن ما فعلته به سيجعله لا يأتي مجددًا، وبرؤيته الآن أمامها زرعت فيها جزء من السعادة، تمعنت به بنظرة شاردة، وكأنها باتت تكتشف جانب جديد منه، ملامحه الهادئة، عينيه بالرغم من انطفاء بريقها الا أنها مازالت تجذبها.
تلاشت جاذبيته من أمامها، تجمد شوقها المنصهر، ومشاعرها تجاهه، التحفت برداء القوة الذي لم تعهده من قبل، لتواجهه بكل كبرياء وعنجهيةٍ أنثى سبق أن اختزلها الوجع والآنين:
_جاي ليه يا بشمهندس؟ خير؟
تنهد بقلة حيلة أمامها، وقال بانهاكٍ اختزل روحها داخله:
_لحد أمتى يا صبا؟ كفايا أرجوكِ!
تجاهلت نص حديثه، ورددت بثباتٍ وقوة، ويدها تتربع أمامها:
_سبق واتكلمنا قبل كده، إن وجودك هنا مش مستحب، فراجع هنا على أي أساس!
مرر يده على وجهه بعنفٍ، وبمحاولة عسيرة استعاد هدوء أعصابه المهدورة، وهتف بهدوءٍ زائف:
_راجع عشان ابني يا صبا!
وتابع في محاولةٍ لاستمالتها:
_ ابننا اللي مالوش أي ذنب في اللي أنا عملته، بتعاقبيه على أيه فهميني؟
تعالى صدرها هبوطًا من فرط انفعالاتها المتعصبة، فصاحت بحدةٍ وغلظة:
_متتكلمش في حوارات أنا سبق وقفلتها يا بشمهندس، أخر مرة جيت لحد هنا قولتلك لو عايز تشوف ابنك تعمل أيه بس الظاهر إنك غاوي تضيع وقتك ووقتي!
كور يده بغضب جنوني، وهدر بعصبيةٍ بالغة:
_اللي طلبتيه مني ده مستحيـــــل أعمله فاهمـــــــه!!
جابهته بشموخٍ، وقوة:
_لا هتعمله، لإن دي الطريقة الوحيدة عشان تشوف ابنك.
اقترب منها وقد شعت عينيه بلهيبٍ حارق، كاد أن يحرقها بأرضها:
_صبا أنا عارف إني غلطت بس بلاش تدمري اللي بينا بطلبك ده.
دفعته عنها بقوةٍ للخلف، وباصرارٍ عجيب هدرت:
_اللي عندي قولته، لو عايز تشوف ابنك تعمل الDNA، وتجبهولي في ايدي وقدام عيني، وقتها هسمحلك تشوفه يا بشمهندس، غير كده فأنا بعتذر عندي شغل ومش فاضية!
غامت بعينيه بعواصفها، فقال مستنكرًا سبب شجاعتها:
_وإنتِ فاكرة إني لو عايز أدخل وأخده منك حالًا، هتقدري توقفيني؟
حلت عقدة ذراعيها وطالعته بشراسةٍ غاضبة:
_متقدرش يا جمال، هقتلك لو قربت لابني.
منحها ابتسامة ساخرة، وبسعادة قال:
_ياريت تبقي ريحتيني.
وتركها ومضى تجاه باب الغرفة الموصود، بينما الاخيرة تجوب من حول ذاتها كالمجنونة، لمست يده مقبض الباب، فتحه وما كاد بفتحه حتى صرخت به بغلظة وصوتًا مبحوح:
_جمـــــــــال.
استدار خلفه؛ فصعق حينما وجدها تسلط السكين على رقبته وتصرخ بجنون:
_أقسم بالله لو قربت من ابني لأكون قاتلة نفسي هنا وقدامك حالًا.
وبرعشةٍ قالت:
_اخرج بره أحسنلك،أنا مبهددش.
رمش بعدم استيعاب لما تفعل، فدنا منها بخطوات بطيئة ويده تمتد لها هاتفًا بحزمٍ:
_صبا بطلي جنان وإرمي السكينه دي من ايدك، أنا مش بالقسوة اللي تخليني أحرم طفل من أمه،أنا بس عايز أشوفه قبل ما أسافر.
جحظت عينيها صدمة، جعلت السكين يسقط عن يدها ورددت بلسانٍ ثقيل بينما عينيها تتجه لخارج الشقة لمحل حقائبه:
_مسافر!
أومأ لها وقال بوجومٍ:
_حاسس إني بتخنق هنا وبخنقك معايا، هريحك مني كام يوم لحد ما نستقر على حل للي احنا فيه ده.
منحته بسمة منكسرة وهتفت:
_هتهرب يعني!
وتابعت وهي تقترب منه:
_ولا مش قادر على بعد صاحبك؟
تعمق بعينيها المتألمة، يحاول أن يستكشف ما بها، انقلب سكون وجهها لغضبٍ، فصرخت بانفعال:
_إنت أيه يا أخـــــــي!! إنت مفيش عندك دم، إنت مستحيل تكون بني آدم إنت حقير.
أغلق عينيه بقوةٍ يحتمل ما تقول، بينما تتابع هي بغضب:
_كل اللي يهمك زعله، طيب وأنا!!
قابلها بنظرة منكسرة، فكورت يديه ورطمت صدره بقوة وهي تصرخ فيه:
_بعد كل اللي عملته فيا ومش شايف غيره، إنت حقير يا جمـــــــــال.
لم يدافع عن ذاته، وقف قبالتها مثلما فعلها بالمرة السابقة، تركها تفعل ما تشاء، حتى خارت قواها وجلست أرضًا تتطلع ليدها الحمراء من فرط ما بذلته، بينما مازال يقف كما هو.
اتجه بخطواتٍ آلية للخارج جذب الحقيبة وإتجه ليغادر، فتح باب المصعد وما كاد بالصعود حتى تصنم محله فور أن تسلل له صوت بكاء الصغير، تمزق قلبه شوقًا لرؤيته، مال بجبينه على باب المصعد المفتوح، وعينيه تنهمر منها الدموع، انخفض بصره لصبا التي تحتل الأرض وتطالعه بألمٍ، قرأت بمُقلتيه كل ما فشل بقوله.
أزاحت دموعها ونهضت تحتمل على الحائط، حتى انتصبت بعودها تطالعه بنظرة غامضة، صدرها يعلو وينخفض من فرط انفعالها، وبقوة قالت:
_مستعدة أجبهولك تشوفه حالا، ومش بس كده أنا موافقة أرجعلك بس بشرط.
لوح له الأمل من بعيدٍ، فاتجه لها يسألها:
_شرط أيه؟ أنا مستعد أحققلك كل شروطك.
تمعنت بعينيه جيدًا وقالت:
_تقطع علاقتك باللي كان السبب في كل ده.
زوى حاجبيه بعدم فهم:
_تقصدي مين؟
طالعته بصلابة وهتفت:
_عمران!