رواية تعافيت بك الجزء الثالث الفصل السادس 6 بقلم شمس بكرى


 رواية تعافيت بك الجزء الثالث الفصل السادس 

"وقعتُ أسيرًا لعينيكِ وما أنا بفلسطيني لأقاوم، و ظل سؤالًا يؤرقني في ليلي كيف لشخصٌ مثلي اعتاد الانتصار أن يهزم بسبب عينين؟"
_________________________

ارتفعت درجة حرارة الهواء حتى باتت عملية التنفس بالنسبة لـ "خالد" أصعب مما يكون، عقله بات منشغلًا بالتفكير في تلك الرسالة و طريقة تحدث الفتاة نفسها، تبدو و كأنها لم تكن المرة الأولى، زفر هو بقوةٍ فوجدها ترسل رسالةً أخرى محتواها:

"ما ترد عليا يا يونس بقى ؟!"

اتسعت عينيه بدهشةٍ غلفت نظراته و ملامحه، فلاحظ "ياسر" ذلك و سأله متعجبًا من حالته:
"مالك ياض وشك قلب ليه ؟! فيه حاجة ؟!"

حرك رأسه نفيًا وانعقدت ملامح وجهه و ظهر العبوس عليه، فقلب "ياسر" فمه للأسفل ثم سأله بثباتٍ:
"خالد ؟! مالك وشك جاب ألوان كدا ليه ؟! حصل حاجة ضايقتك؟"

تنفس هو بعمقٍ ثم قال يُخفي عنه الموضوع قدر الامكان:

"مفيش، دا واحد معايا في الشغل مطلوب منه ملف يخلصه بس هو في فرح أخوه، عاوزني اعمله و ابعته باسمه هو، هعمله... أكيد يعني مش هقوله سيب الفرح، بس هو ملف مهم"

حرك رأسه موافقًا بتفهمٍ ثم حرك رأسه للجهةِ الأخرىٰ فوجد "يونس" و "زين" يقتربا منهما، انبسطت ملامح وجه "ياسر" و اشار بسبابته نحوهما و هو يقول:

"وصلوا أهُم يلا علشان نطلع و نفطر"

انتبه "خالد" حيث أشار الأخر و هو يطالع ابنه بنظراتٍ ثاقبة يتفرسه كما الصقر بعدما ضيق جفناه فوق عينيه، لا يدري لماذا شعر بشعور غريب عليه، لا يريد أن يخذله ابنه، لطالما كان محاربًا حتى يحصل على ثقته، فلماذا ؟!.

ظل شاردًا نحو ابنه حتى قال "زين" بتعجبٍ:
"إيه يا خالو سرحان في إيه ؟! يلا علشان الطعمية هتبرد و تيتة عفاف بتحبها سخنة"

حرك رأسه موافقًا بعدما انتبه لصوت الصغير ثم زفر بقوةٍ، فاقترب منه "يونس" يسأله عن الهاتف و هو يقول بنبرةٍ هادئة و ثباتٍ:
"هات الموبايل يا بابا، حد رن ؟!"

سأله "خالد" بنبرةٍ جامدة دون أن يعي لنفسه:
"ليه هو أنتَ مستني مكالمة من حد ؟! خير إن شاء الله"

عقد "يونس" ما بين حاجبيه بسبب طريقة تحدث والده، بينما "خالد" انتبه لطريقته فزفر بضجرٍ ثم مد يده بالهاتف له و تحرك بعدما أمرهم باتباعه.

نظر "يونس" في أثره بتعجبٍ ثم تبعه نحو البيت و هو يفكر في طريقة والده التي تغيرت و تبدلت بتلك الطريقة، لكنه ظن أن هناك ما أثار حفيظته أو تسبب في ضجره، بينما "خالد" كل ما وصل لذهنه أن ابنه خالف وعده معه حتى كل ما سيطر على فكره شيءٌ واحد و هو أن:

"الممنوع.... مرغوب" 

لطالما منعه عن "نغم" و محادثتها قرر ابنه ملء الفراغ بأخرى حتى و إن كان سنه لا يتناسب مع أفعاله، تبًا لسن المراهقة و لبداية الشباب التي تلعب في ذهن صغار مثل هؤلاء.
_________________________

في شقة "رياض" وصلها هو و ابنه و حفيده الصغير و معهم وجبة الإفطار المعتادة في معظم البيوت في ذلك اليوم، ثم اجتمعوا حول المائدة جميعهم يتناولون الطعام سويًا و كعادة "رياض" أصر على إطعام الصِغار الثلاثة بنفسه.

تحدثت "خديجة" بحرجٍ منهما بعدما نظرت لـ "ياسين" فوجدت اللامبالاة على وجهه، حينها قررت هي خوض المعركة و اعلامهما بالأمر:

"بابا... ماما....للأسف مش هنبات هنا النهاردة، بس هنقضي اليوم سوا مع بعض، بس بابا عازمنا بكرة و عازم خلود و عمار و أحمد معانا كمان، فأنا بستأذنكم بس نمشي بعد الغدا إن شاء الله"

ظهر الحزن على وجه "زهرة" فورًا بينما "رياض" قال متفهمًا لما قالته:
"براحتكم يا حبيبتي، لو بابا عاوزكم بالنهار كمان مفيش مشاكل"

ردت عليه مسرعةً:
"لأ يا بابا، تسلم يا رب، إن شاء الله هنروح بليل نقضي السهرة معاهم و بكرة كمان و بعدها نروح إن شاء الله"

حرك رأسه موافقًا فيما قالت "زهرة" بقلة حيلة:
"خلاص أمري لله، بس هتتعوض مليش فيه، طالما هما في إجازة يبقى تقعدوا معايا اسبوع ولا حاجة"

ردت عليها "نغم" بقلة حيلة:
"مش هينفع يا تيتة، يزن و جاسمين عندهم حضانة، مش عندهم أجازة"

زفر كليهما عند ذكر شقيقتهما تلك السيرة الغير مرحب بها، بينما قال "ياسين" ساخرًا:

"اهو اتفضلي، تجيبي سيرة الحضانة ينفخوا و يزهقوا كأنك بتكهربيهم، عيال فاشلة"

ردت عليه "جاسمين" بضجرٍ:
"ماهو حرام يعني بصراحة، كله خد إجازة و أنا و هو لأ !! و لسه هنروح مدرسة كمان لما نغم تروح ؟! دا اسمه تـقــ...تـقـعيد ضغطوتـ.... إيه ؟! قول معايا كدا اسمها إيه ؟!"

ابتسم"ياسين" بتهكم و هو يجاوبها:
" تعـقيد و ضغوطات....قصدك كدا ؟!"

جاوبته بمرحٍ يتنافى مع ضجرها:

"أيوا هي دي برافو عليك"

ضحكوا عليها جميعًا، بينما "نغم" سألته بمرحٍ هي الأخرى:
"هي خالتو خلود هتروح معانا يا بابا ؟! و لا هييجوا بليل ؟!"

رد عليها بنبرةٍ هادئة:
"خالتو خلود و عمار هيروحوا سوا، ممكن عمار يروح بالموتوسيكل بتاعه و خالتو معاه"

حركت رأسها بتفهمٍ، بينما "رياض" أمرهم جميعًا باكمال الطعام، فقال "يزن" مسرعًا:
"أنا هاكل علشان أكون ظابط، خالو وليد قالي كُل و ذاكر كويس و أنتَ هتكون ظابط، صح كدا يا جدو ؟!"

حرك رأسه موافقًا ثم قال بزهوٍ:
"صح يا حبيب جدو، حفيد رياض الشيخ هيكون أشطر ظابط في الدنيا كلها"

ابتسم "يزن" باتساعٍ بينما "جاسمين" طرأت ببالها فكرةٌ جعلتها تنظر بكامل تركيزها نحو ما تريد حتى تصل لما تريد !!.
_________________________

في بيت "فهمي" جلسوا جميعًا يتناولون الطعام في مرحٍ و بهجة أضافها "عامر" و "عُمر" و معهما "خلود" التي كانت تحمل الصغيرة على قدمها، حتى قالت "سيدة" بضجرٍ:

"سيبيها يا خلود علشان تعرفي تاكلي يا حبيبتي، و لا أنتِ مش عاوزة تاكلي ؟!"

ردت عليها بوجهٍ مُبتسمٍ خالطه الاحراج:
"لأ خالص يا ماما والله، أنا بس اتعلقت بيها شوية و هي ربنا يحفظها روحها حلوة أوي"

ردت عليها "سارة" بمرحٍ:
"أبوها عامر و جدها فهمي و جدتها سيدة و أخوها عمر، هتطلع كشرية لمين ؟!"

سألتها "خلود" بلهفةٍ:
"مقولتيش عمار يعني ؟!"

انتبهوا لها جميعًا حتى هو حاول جاهدًا كتم ضحكته، بينما هي تدرج وجهها بحمرة الخجل من اندفاعها، فقالت "سارة" حتى ترفع عنها الحرج:
"ماهو عمار علطول راسي و هادي، إلا لو كان بقى معاكِ حاجة تانية، بس اللي قدام الكل أنه علطول تقيل و هادي"

حركت "خلود" رأسها بتفهمٍ ثم تصنعت الانشغال مع الصغيرة حتى تهرب من النظرات المصوبة نحوها و خصيصًا هو الذي رفع كوب الشاي يرتشف منه و عينيه مصوبتين عليها لا يحيدهما.

لاحظ "عامر" نظراته فقال مغيرًا للحديث:
"هتمشي امتى يا عمار ؟!"

رد عليه "عمار" بنبرةٍ هادئة:
"بعد الغدا إن شاء الله، ياسين قبل ما يجهز هيكلمني علشان نجهز إحنا كمان"

حرك رأسه موافقًا فسألته "سيدة" بتعجبٍ:
"طب ما كنتوا تخليكم معانا وخلاص، و تروحوا مرة تانية عند حماك، ملحقتش اشبع منكم"

رد عليها هو بثباتٍ بعدما ابتسم لها:
"هروح منك فين يعني ؟! وعد ليكِ مني كام يوم نقضيهم معاكِ أنا و خلود سوا و لو عاوزاني يبقى اجيلك من غير خلود"

ردت عليه والدته تتكأ على حروفها:
"قبلك....خلود تيجي هنا قبلك"

ضحكت "خلود" بفرحةٍ بينما هو كتم ضحكته ثم حرك رأسه موافقًا ثم وجه رأسه نحو "خلود" يغمز لها بينما هي تجاهلت نظراته للمرة التي لا تعلم عددها.

           **********
على الجهة الأخرى بعد تناولهم الفطور، كانت "نغم" تجلس بالغرفة تقوم بالتلوين في أحد الكتب الخاصة بذلك حيث عالمها الخاص الذي يشبه حياتها الملونة، اقتربت منها "جاسمين" تقفز بجوارها و هي تقول بنبرةٍ هامسة:

"نغم !! ينفع أطلب منك طلب؟"

عقدت الأخرى ما بين حاجبيها و هي تحرك رأسها موافقةً، فزاد حماس الأخرى و هي تقول:
"هجيب موبايل بابا و هخليكي تعملي حاجة صغيرة، ممكن ؟!"

نظرت لها "نغم" بكامل اهتمامها فركضت الأخرى من أمامها نحو الخارج حتى قالت "نغم" ببلاهةٍ:

"هي البت دي عبيطة ؟!"

في الخارج كان "ياسين" جالسًا مع والده و معهما "يزن" الذي استقر على فخذ "رياض" يلعب بهاتف جده، ركضت نحوهم "جاسمين" ثم قفزت بين ذراعي "ياسين" الذي ابتسم بيأسٍ ثم طوقها بكلا ذراعيه، ثم طبع قُبلة أعلى جبينها، بينما هي قالت ببراءةٍ:

"بابا....عاوزة تليفونك"

رد عليها بثباتٍ نفىٰ أملها:
"لأ، بتفضلي تهبلي و بلاقيكي لاعبة في كل حاجة فيه، خشي اتفرجي على كارتون و لا مصاص دماء من اللي بتحبيهم"

تحدثت بلهفةٍ:
"مش هعمل حاجة تبوظه، والله هلعب شوية صغيرين، يلا علشان خاطري، مش بتحبني طيب ؟!"

طريقتها و براءتها في الحديث جعلته يبتسم رغمًا عنه و ود في تلك اللحظة أن يأخذها بين ذراعيه و يثبت لها حبه، بينما هي أسبلت عيناها له و حركت رأسها لليسار قليلًا بتوسلٍ جعله يقربها منه ثم قبل رأسها و أخرج هاتفه يضعه في يدها مستسلمًا لها، بينما أمسكت هي وجهه بكفيها و هي تقبله كعادتها عدة قبلات في معظم أنحاء وجهه حتى ضحك هو بيأسٍ ثم أبعدها عنه.

بينما "يزن" اقترب منه يجلس على قدمه دون أن يتحدث و التصق بظهره على صدر والده، حتى فهم "ياسين" ما يريد، لذا طوقه بذراعيه ثم ربت على خصلاته البنية الكثيفة، بينما الأخر ابتسم أراح رأسه على كتف والده الذي استمر في تحريك أنامله في خصلاته.

في داخل الغرفة ركضت "جاسمين" نحو شقيقتها و تحدثت بنفس الهمس:
"بصي !! اسمعي كلامي و متقوليش لحد خالص ماشي؟"

زاد خوف "نغم" بعد طريقة شقيقتها تلك بينما الاخرى بدأت في سرد ما تريده من شقيقتها التي طالعتها بتعجبٍ من طريقة تفكيرها.
_________________________

في شقة "فهمي" جلسوا سويًا يتحدثون في شتى المواضيع حتى تحدث "عمر" يوجه حديثه لعمه:

"عمار هو أنتَ اتجوزت خلود ليه؟"

رد عليه "عمار" سؤاله بسؤال أخر:
"نصيبي يا أستاذ عمر"

رفع "عمر" طرف شفته العُليا و هو يقول بتهكمٍ:
"بس كدا ؟! ليه خلود يعني؟"

زفر "عمار" بقوةٍ ثم نظر في أوجه البقية وجدها ما بين متحمسة و ساخرة و خجولة، فتنهد بقلة حيلة ثم قال:

"علشان هي خلود يا عمر، مفيش حد بيحب حد بيكون عارف السبب، الحاجة الوحيدة اللي معروفة إن الحد دا هو اللي قلبك شافه، ممكن أقولك بتحب بابا و ماما ليه ؟! عارف الاجابة ؟!"

رد عليه الصغير ببساطةٍ:
"علشان هما ماما و بابا، مش علشان حاجة واحدة"

ابتسم له "عمار" و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"بالظبط، علشان هما ماما و بابا... أنا برضه بحبها علشان هي خلود، اللي بيحب حد مبينقيش حاجة فيه، بس بيحب كل حاجة فيه"

ارتفعت ضربات قلبها بصخبٍ تكاد تجزم أن البقية يستمعون له، بينما "عمر" سأله من جديد:

"طب ليه اتجوزتها ؟! علشان حبيتها ؟!"

رد عليه "عمار" بخبثٍ:
"هي اغرتني بصراحة، لعبت في دماغي و بهدلت افكاري"

سعلت هي بخفةٍ تحاول الهروب من وكر كلماته _ المبهمة_ بالنسبة لهم، فيما أضاف هو مُفسرًا يرأف بحالها:

"أول ما شوفتها قولت بس هي دي اللي تستاهل أني أسهر معاها في بلكونة واحدة، أول ما شوفتها حسيت أني عاوز أكل معاها شاورما، و نركب عَجل سوا"

تحدث "عامر" ساخرًا:
"مروحناش بعيد يعني، أنا برضه لما شوفت سارة حسيت كدا إني عاوز أكل معاها بطاطس بالفراخ"

صدح صوت الضحكات و معها صوت هاتف "عمار" الذي استأذن منهم و ابتعد عن المكان حتى يجاوب على الهاتف، بينما "خلود" قررت الهروب من وسطهم و ملاحقته و على ذراعها "ريتاج" التي تشبثت بها.

وصلت خلفه و هو يتحدث في الهاتف فسمتعه يضحك بصوتٍ عالٍ ثم قال بنبرةٍ لازال بها أثر ضحكاته:

"أنتِ عيون عمار، تؤمري و عمار ينفذ علطول، حاضر اللي عاوزاه هعمله"

صُعقت "خلود" مما سمعته و اتسعت عينيها بهلعٍ و الخيالات الكثيرة تعصف بذهنها، بينما هو أغلق الهاتف ثم التفت لها فوجدها تنظر له بنظرات زائغة و الدمع قد بدا يلمع في مقلتاها، فيما سألها هو باستغرابٍ:

"خير يا خلود ؟! واقفة كدا ليه؟"

أغلقت جفونها بشدة ثم سألته بصوتٍ متحشرجٍ:
"هو أنتَ كنت بتكلم مين يا عمار، و بتقولها أنتِ عيون عمار ؟!"

عقد ما بين حاجبيه و سرعان ما انبسطت ملامحه و سألها بتريثٍ و ثباتٍ:
"و هو أنتِ يفرق معاكِ بكلم مين ؟! غيرانة عليا ولا إيه ؟"

سألته بنبرةٍ جامدة:
"عمار !! أنا مش بهزر، مين دي اللي تطلب و أنتَ تنفذ ؟! و بتقولها أنتِ عيوني ؟! اومال أنا ابقى إيه ؟!"

اقترب منها ثم قربها إليه و هو يقول بنبرةٍ هامسة بعدما لصقها به و لا يفصل بينهما سوى "ريتاج" التي تحملها "خلود":

"أنتِ كل حاجة حلوة لـ عمار، عيب لما تفتكري أني ممكن أعمل حاجة زي دي يا...يا سكر !!"

سألته بنبرةٍ اهدأ تميل للبكاء قليلًا:
"طب كنت بتكلم مين طيب ؟! طالما مامتك برة و أنا هنا معاك، أوعى تكون بقى زهقت مني و بتبص برة، دا إحنا لسه في أول شهر"

ابتسم هو بيأسٍ ثم رفع كفه يحركه على وجنتها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"لأ متخافيش، أنا مش هزهـق منك، و بعدين ثقي فيا شوية عن كدا، مش كل يوم هفضل أبرر"

قبل أن تنطق و تسأله من جديد، كان اقترب منها يقبل رأسها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"كمان شوية هتعرفي، تعالي بقى برة نشوف العالم دي، قبل ما عامر ييجي يخربها علينا"

أنهى حديثه ثم حمل "ريتاج" على ذراعيه و الأخرى تسير خلفه بتعجبٍ من طريقته و حديثه لكنها قررت الصمت حتى يحين موعد إرضاء فضولها. 

على الجهة الأخرى قامت "جاسمين" بتقبيل "نغم" حينما نفذت لها ما أرادته هي ثم قفزت عدة مرات خلف بعضها بفرحٍ.
_________________________

بعد مرور بعض الوقت من صلاة الجمعة في شقة "حسن المهدي"

دلف الغرفة وجد الثلاثة يجلسون بها يشاهدون التلفاز، اقترب بجسده يقف أمام الشاشة يقطع عليهم المشاهدة حتى ظهرت الهمهمات الحانقة المّضجرة من مقاطعته لهم، بينما هو التفت يغلق التلفاز ثم قال بنبرةٍ هادئة:

"قوموا ألبسوا يلا علشان نخرج"

نظروا له بدهشةٍ فابتسم هو ثم كرر جملته بمرحٍ أكثر:

"يلا يا عالم يا غَم، علشان مترجعوش تقولوا أني منكد عليكم، يلا !!"

قفز "علي" بفرحةٍ كبرى و كررت "فاطيما" فعلته هي الاخرى ثم ركضا نحو الخارج، بينما "هدير" اقتربت تسأله بتعجبٍ:

"بجد هنخرج ؟! أوعى تكون اشتغالة ؟! هزعلك ؟!"

انفلتت ضحكة خافتة من بين شفتيه ثم قال بنبرةٍ هادئة لازال بها أثر المرح:
"لأ يا ستي مش حمل زعلك أنا، يلا البسي علشان أخرجكم، قررت أصيعكم النهاردة"

قفزت هي مثل صغارها ثم اقتربت منه تُقبل وجنته ثم تعلقت برقبته بعفويةٍ كعادته، كل انفعالات جسدها الفرحة و الغاضبة تلقيها بين ذراعيه و كأنها تلقي المياه على النيران، فتخمدها للأبد، بينما هو احتواها بين ذراعيه ثم ربت على ظهرها بحنانٍ أغدقها دومًا منذ أول مرةً اجتمعا بها سويًا.

بعد مرور دقائق قليلة كانت "هدير" ارتدت ملابسها بعدما ألبست صغارها، جلست "فاطيما" في صالة الشقة ترتدي الحذاء الخاص بها و هي تحاول ربط الحذاء لكنها فشلت مع كل المحاولات، حتى وجدته يجلس أمامها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:

"قولتلك مليون مرة، بالراحة يا فاطيما، الدنيا مش هتطير، أنا و ماما موجودين علشان نساعدكم، بطلي جو المرأة المتحررة دا"

حركت رأسها موافقةً و هي تضحك ضحكةٍ واسعة جعلته يبتسم لها ثم رفع قدمها يضعها على فخذه يربط لها الحذاء حتى انتهى هو و قبل أن يقف وجدها تتعلق به و هي تقول بحماسٍ:

"شيلني يا حسن"

ابتسم هو بسخريةٍ ثم قال:
"ما شاء الله نسخة منها حتى في الكلام، هي طول حملها كانت ماسكالي في شيلني يا حسن دي"

فهمت هي أن الحديث عن والدتها لذلك ضحكت بسعادةٍ ثم قالت بحماس طفلة صغيرة:
"أنا أصلا عاوزة أكون زيها علطول، و عاوزة اكون شبهها، و لما أكبر ألبس زيها، و يكون عندي حسن زيك كدا"

عقد ما بين حاجبيه و هو يسألها:
"حسن زيي ؟! زيي ازاي يعني ؟"

ردت عليه بحماسٍ:
"عاوزة يكون عندي حسن زيك ليا لوحدي"

صفعها هو بخفةٍ على وجنتها يمازحها و هي تضحك معه حتى اقترب منهما "علي" يقف مجاورًا لهما، حتى ضمه "حسن" إليه يربت على رأسه وفي تلك اللحظة خرجت "هدير" من الداخل تركض بمرحٍ امتزج بالحماس و هي تقول:

"يلا يا حسن علشان خاطري، هنتأخر كدا يلا بسرعة"

رمقها بتعجبٍ من أفعالها و هو يقول:
"يا بت اعقلي بقى !! دا عيالك معملوش كدا، اكبري يا هدير"

اقتربت منه بدلالٍ و هي تقول:
"يعني أكبر و أبقى نكدية يا أبو علي ؟؟ ما تخليك فريش كدا معايا"

أشار بنظراته نحو صغاره و هو يقول محذرًا:

"طب خلي بالك أنتِ مين معانا"

انتبهت هي لوجودهما فابتعدت عنه تقول بجديةٍ مبالغ فيها:
"آه معلش نسيت والله، الضغوطات كتير معلش"

رمش هو ببلاهةٍ ثم قال بنفاذ صبر:
"يا رب صبرني"

نزلوا سويًا بعد مشاكستهم لبعضهم يركبون السيارة و بعد مرور القليل من الوقت وصل بهم الحديقة الموجودة في المنطقة الخاصة بسكنهم، تلك الحديقة القديمة مكانه المفضل الذي شهد على سهرهما سويًا في الليل، تم تطويره حتى أصبح مكانًا مناسبًا لجميع الأسر بمختلف الأفراد.

نزل بهم و دلف الحديقة ثم جلسوا على إحدى الطاولات و تحدث هو بنبرةٍ هادئة:
"طبعًا عارف طلبكم، هروح أجيبه و أجي حد عاوز حاجة تاني غيره ؟!"

حرك الثلاثة رأسهم نفيًا فتحرك هو من المكان ثم توجه نحو وجهته المحددة، وقف أمام ذلك المحل الشهير و هو يقول بسخريةٍ:

"الله يرحم....مالها القُرص أم عجوة بكوباية الشاي أنا مش فاهم ؟! دونتس....أيس كوفي....دا أبوكم لو شاف قهوة بلبن بيعتبرها كابتشينو"

حدث نفسه بسخريةٍ و هو يتذكر ما يحبه صغاره الثلاثة، و إن وضعت "هدير" في حد الاعتبار فهي أصغرهم عقلًا، لذا يعاملها كما يعامل الصغيران، اقترب من العامل يُدلي أمامه بطلباته المحددة لكلٍ منهم حتى هو أيضًا ثم عاد لهم من جديد فوجد الحماس في وجوههم و انفعلات جسدهم يتتوقون لتلك الحلوى المفضلة دون مللٍ حتى و إن كانت معتادة لديهم، و أولهم كانت "هدير" التي تتأهب لذلك المذاق الشهي.
_________________________

في شقة "خالد" كانت زوجته و شقيقته برفقتها تقومان بتحضير وجبة الغداء و معهما في المطبخ "زينة" تعاونهما و في الخارج جلست "يسر" بين كلٍ من "عفاف" و "ميرفت" تلعب في هاتفها.

كان "خالد" برفقة "ياسر" في الشرفة يتحدثان سويًا و عقل الأول لازال شاردًا في تلك الرسالة التي وصلت ابنه، أما "يونس" ففي غرفته كان جالسًا برفقة "زين" يلعبان سويًا إحدى الألعاب الإلكترونية فوجد رسالةً تصل لهاتفه من نفس الفتاة.

زفر هو بقوةٍ ثم قال موجهًا حديثه لـ "زين":
"برضه لسه بتبعتلي، أعمل إيه يا زين ؟! أعمل بلوك و خلاص ؟"

رد عليه "زين" بحيرةٍ:
"مش عارف يا يونس، مش أنتَ قولت إنك مش هترد عليها، يا عم ما كنت خليته يضربها و خلاص"

زفر "يونس" بضجرٍ ثم قال:
"فيه ولد يضرب بنت برضه ؟؟ بس هي عبيطة، افتكرتني بحبها، دي هبلة يا زين !!"

ضحك "زين" بسخريةٍ فقال "يونس" بقلة حيلة:
"بص أنا مش هرد و هقولها بابا خد مني التليفون، لو هي مش عارفة إن كدا عيب، أنا عارف، بس أنا مش عاوز حد يزعل مني"

رد عليه "زين" مسرعًا:
"طب اعملها بلوك، و هي مش هتبعت تاني خالص و كدا أحسن، أقولك ؟! نسأل عمر هو ممكن يعرف يتصرف"

تنهد "يونس" بضجرٍ ثم أخرج رقم صديقه "عُمر" الذي أجاب على الهاتف فورًا و هو يقول بمعاتبةٍ:
"قاعدين مع بعض من غيري ؟! طب يا رب عمو خالد ينكد عليكم"

رد عليه "يونس" بتهكمٍ:
"طب ما عمار معاك و خلود كمان، و معاك جدو فهمي، تعالى نبدل"

وكز "زين" الأخر في يده و هو يقول:
"يابني قوله على موضوع زميلتك"

حرك رأسه موافقًا ثم قال:
"بقولك يا عُمر، ناني بعتتلي رسالة النهاردة، أعمل إيه ؟!

رد عليه الأخر بعبثٍ:
"اديها بلوك يا عم، ولا اقولك اديني رقمها أحسن"

تدخل "زين" يقول بضجرٍ:
"لم نفسك يا صايع، عيل قليل الأدب"

زفر "عمر" ثم قال بضجرٍ:
"خلاص يا عم زين، خليه يسيب رقمها و عمو خالد يعرف و يضربه، يونس !! دي بت رخمة و احنا بنشوفها في المدرسة كانت بتكلمك ازاي، مش هما قالولنا عيب ؟! حد يقولها هي"

تنهد "يونس" بعمقٍ ثم قال:
"أنا همسح الرقم خالص و لو هي بعتت تاني أنا هقول لماما و خلاص، هي شكلها رخمة أوي"

وافقه الأثنين بينما هو قرر أن ينهي ذلك الموضوع حتى يصل لنهايته و هو يفكر أن مبادئه التي تربى عليها لم يقو على مخالفتها حتى و إن وضع نصل السكين على رقبته.
_________________________

مر الوقت سريعًا حتى بدأوا بتجهزوا للرحيل كلٍ منهم إلى وجهته، في غرفة "عمار" ارتدى قميصًا من خامة الجينز باللون الأسود و أسفله سترة قطنية "تيشيرت" باللون الأبيض و بنطال باللون البيج و حذاء باللون الأبيض، ثم وضع ساعته في يده و مشط خصلاته حتى بدا في كامل أناقته و وسامته الهادئة المتواضعة.

دلفت "خلود" الغرفة حتى تطلب منه أن يتعجل فيما يفعله لكي يذهبا سويًا، و حينما طالعته بما يرتديه، اقتربت منه تقف أمامه و تثني على مظهره:

"إيه السكر دا يا لوز ؟! حلو اوي الطقم دا، كدا هتتعاكس مني و أنا بغير،"

ابتسم هو لها ثم قربها منه حينما وضع ذراعيه خلف ظهرها حتى اصبح في مواجهة بعضهما و ظهر التوتر عليها، بينما قال هو بنبرةٍ خافتة:

"طب ما أنا بغير أنا كمان، و أنتِ عمالة تحلوي و تزيدي حلاوة يا سكر، شوفيلنا حل بقى في جمالك"

ابتسمت هي له فيما قال هو بنفس الهدوء:
"لسه عاوزة تعرفي مين عيون عمار ؟! و لا خلاص وثقتي فيا؟"

ردت عليه هي بسرعةٍ:
"أنا واثقة فيك على فكرة و مش بشك فيك، بس احنا صحاب، فيه صحاب بيخبوا على بعض ؟! بغض النظر يعني أني مراتك حبيبتك ؟!"

ابتسم هو بظفرٍ ثم أخرج تنهيدة قوية من جوفه وقال بصوتٍ رخيم:
"بصي !! هي قالتلي متقولش لحد، و أنا قررت أني مقولش، بس أنتِ هتعرفي يعني كمان شوية، مش فاضل كتير"

زفرت بقوةٍ ثم حركت رأسها بقلة حيلة و قالت بيأسٍ:
"و أنا علشان واثقة فيك مش هسأل لحد ما أعرف....بس متراهنش على فضولي و صبري كتير"

قلب عيناهُ و كأنه يفكر في حديثها، ثم حرك رأسه موافقًا يستسلم لحديثها ثم اقترب منها يهمس في أذنها بقوله:

"Seni seviyorum, Kholoud"

ابتسمت هي بنفس السعادة التي تبتسم بها في كل مرّةٍ، بينما هو كان يحاول تشتيت تفكيرها و صرفه عن الموضوع، خاصةً أن نظراتها تتهمه بما لم يفعله هو.

طرق باب الغرفة و صوت "عامر" من الخارج يقول بضجرٍ:
"خلص يا عم روميو، ياسين اتصل و لبس عياله و نازلين، انجز يا عموري"

قالها بتهكمٍ جعل "عمار" يعض شفته السفلى بغيظٍ بينما "خلود" كتمت ضحكتها ثم قالت بنبرةٍ خافتة:
"يلا يا عمار بدل ما أخوك يفضحنا، يلا كفاية كسوف لحد كدا"

فتح "عمار" الباب و زوجته خلفه فقال "عامر" بسخريةٍ:
"مش عاوزين شقاوة عند الناس، عيب كدا، نقعد مؤدبين و بلاش قلة أدب"

رد عليه "عمار" بضجرٍ:
"فيه إيه ؟! ناقص تقولي متتنطش على الأنتريه، إيه الهم دا"

صفعه "عامر" بخفة يمازحه ثم قال بنبرةٍ لعوبة:
"جيبتلك بقى جاتوه !! يرفع راسك قدام حماك، عاوزك ترفع راسي هناك يا عموري"

ضحكت "خلود" ببلاهةٍ فيما ضرب "عمار" كفيه ببعضهما و هو يرى انسحاب أخيه.

بعد مرور بعد الوقت من نزول "عمار" و "خلود" أوقف دراجته النارية أمام بناية لم تتوقعها هي، فسألته بتعجبٍ:
"هو إحنا وقفنا هنا ليه يا عمار ؟"

رد عليها بنبرةٍ هادئة:
"دي أوامر من القيادات العليا، ثواني و هتعرفي كل حاجة، اتعلمي تصبري، دا أنتِ متجوزة واحد معملش حاجة غير انه بيصبر"

ضحكت "خلود" ضحكة مكتومة حتى وجدت "جاسمين" تركض من المصعد نحوهما و هي تقول مهللةً:
"عمار !! وحشتني اوي"

نزل من على الدراجة ثم اقترب منها يحملها بين ذراعيه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"عيون عمار، وحشتيني اوي"

احتضنته هي بينما "ياسين" خرج من البناية و حينما وجدهما أمامه قال بدهشةٍ:
"عمار ؟! جيت هنا ليه ؟! مش قولت هتمشي من برة برة ؟!"

رد عليه مفسرًا بينما "خلود" اقتربت من شقيقتها تذكر اسمها بلهفةٍ و شوقٍ إبان حديث الأخر:

"جاسمين هانم طلبت مني أجي أخدها علشان عاوزة تركب الموتوسيكل، و أنا عيوني لجاسمين، دي من ريحة الحبايب"

رد عليه "ياسين" بنفس الدهشة:
"أصلًا ؟! كلمتك ازاي دي ولا قالتلك امتى ؟! هو أنا مخلف جِنية ؟!"

رد "عمار" بمرحٍ:
"و أحلى جِنية كمان، المهم خد معاك الجاتوه و أنا هاخد الحلويات دي معايا"

تحدث "يزن" بلهفةٍ:
"عاوز أروح معاه يا بابا على الموتوسيكل، علشان خاطري"

ردت عليه "خديجة" بلهفةٍ:
"لأ أنتَ كنت بتكح امبارح كتير يا يزن، علشان الهوا و صدرك خليك في العربية أحسن، طالما عاوز تبقى ظابط يبقى خلي بالك من نفسك"

تحدث "عمار" بسخريةٍ:
"طب هو فيه ظابط بيلبس سويت شيرت أحمر كدا ؟!"

رد عليه "يزن" بسرعةٍ:
"وأنا بجيبه بابا قالي عادي، بابا مش عادي ظابط يلبس أحمر"

_"آه يا حبيبي عادي....بس ظابط إيقاع"

ضحك البقية عليهما فسأله "يزن" ببراءةٍ:
"طب هو ظابط الايقاع دا ماسك حرامية برضه ؟!"

تدخل "عمار" يقول بسخريةٍ:
"لأ يا حبيبي، دا ماسك وسط البلد"

رحل "ياسين" و الصغيرين بينما "جاسمين" جلست أمام "عمار" على الدراجة النارية و قبل أن يبدأ القيادة قالت بضجرٍ:

"أنا عاوزة خوذة زيكم، كدا الهوا هيبهدلني و شعري هيكون بايظ"

ردت عليها "خلود" بضجرٍ:
"هو أنتِ فيكِ حاجة علشان تلبسي خوذة يا شبر ونص أنتِ ؟! خلتيني ظلمت الواد يا مصيبة، بس هقول إيه، اللي بنعمله في الناس هيطلع علينا"

ضحك "عمار" رغمًا عنه ثم قال بجديةٍ زائفة:
"خلاص بقى !! أنا مش واخد معايا اتنين ضراير، خدي يا جاسمين الخوذة بتاعتي أهيه"

أعطاها لها ثم ساعدها في ارتدائها بينما هي احتضنته قبل أن يبدأ القيادة ثم قالت:

"أنا بحبك اوي يا عمار"

رفعت "خلود" حاجبيها معًا ثم قالت بنبرةٍ خافتة وصلته هو:
"ابقى خالتها و مربياها و قليلة الأصل تحب في جوزي، يارتني كنت غيرتلك و أنتِ صغيرة"

التفت "عمار" برأسه نحوها و هو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
"أنا قولت طالما هي خلود الصغيرة أهو ألحق اشوف النسختين مع بعض، و الحق اللي ضاع من غير ما أشوف الأبداعات دي"

ضحكت هي رغمًا عنها فيما قالت الأخرى بضجرٍ:
"يلا يا عمار سوق بقى، أنا عاوزة أوصل قبل بابا و ماما"

حرك رأسه بيأسٍ ثم بدأ القيادة و "خلود" تتمسك به من الخلف و "جاسمين" تفرد كلا ذراعيها و هي تضحك بسعادةٍ بالغة.
_________________________

في شقة "خالد" و خاصةً بعد رحيل البقية و خلو الشقة عدا من سكانها، دلف غرفة "يونس" الذي كان جالسًا بمفرده بعد رحيل العائلة، حاول التحكم في نفسه و طريقة حديثه، لكن رغمًا عنه سيطر الجمود عليه و هو يقول:

"يونس !! عاوز اتكلم معاك"

حرك رأسه موافقًا فدلف "خالد" و أغلق الباب خلف ثم جلس بجواره و هو يقول بنبرةٍ هادئة إلى حدٍ ما:

"هو أنتَ بتكلم حد على تليفونك يا يونس ؟! بنات يعني ؟!"

اتسعت عينيه بدهشةٍ و هربت الكلمات من طرف لسانه، فأضاف والده من جديد:
"من غير لف و دوران أنا شوفت رسالة و كانت من غير قصد، وصلت و أنا شوفتها بس الاسم لفت نظري، ناني مين يا يونس ؟!"

تنهد "يونس" بعمقٍ ثم سأله بثباتٍ:
"طب أنا هسألك سؤال واحد بس، واثق فيا ولا لأ ؟؟ و يهمني اعرف الإجابة منك"

رد عليه "خالد" مسرعًا:
"أنا لو مش واثق فيك مش هيكون دا رد فعلي، كان زماني واخد رد فعل تاني، بس أنا عارف ابني و علشان كدا بكلمك زي أي اتنين صحاب"

ابتسم "يونس" له ثم قال:
"و أنا علشان تربيتك ليا هقولك كل حاجة، بس كان يهمني اعرف أنتَ شايفني ازاي"

سأله "خالد" بكامل اهتمامه:
"هيفرق معاك أوي أشوفك ازاي"

حرك رأسه موافقًا و قال مؤكدًا:
"يهمني أشوف أبويا اللي مربيني واثق فيا ولا لأ، يهمني إنك متتهمنيش بحاجة أنا معملتهاش، إنك تفتكرني وحش يا بابا دي حاجة تزعلني أوي، أظن دا كلامك صح ؟!"

حرك رأسه موافقًا و عينيه ثابتتين على وجه ابنه الذي قال بتوترٍ:
"بص هي بنت زميلتي في الفصل، كان فيه ولد بيتخانق معاها و كان هيضربها و أنا حوشت عنها عادي يعني، و مليش علاقة بيها، و كان معايا عمر و زين، هي بقى فضلت تشكرني و قالتلي إنها مش هتنسى الموقف دا و فضلت كتير تعتذر ليا و خلاص أنا كبرت دماغي"

سأله "خالد" من جديد:
"ها كمل و بعدين ؟!"

رد عليه يجاوبه:
"بعدها لقيتها بتيجي تسلم عليا و لما تشوف عمر أو زين في الحوش تسألهم عني، و خلت واحد زميلي يديها رقمي علشان عاوزة تشكرني تاني، أنا مليش دعوة بيها والله بس هي علطول تيجي تسلم عليا و تسألني عامل إيه و في الفصل بتقعد تبصلي هي و صحابها و غيرت مكاني بسببها، بعدها فضلت تبعت في رسايل كتير و تقولي أنها فخورة بيا و أنها عاوزانا نكون صحاب و هي مش عندها اخوات، بصراحة عمر و زين عرفوا، بس أنا بطلت أرد عليها و لما تيجي تسلم عليا بعمل نفسي مش شايفها، بس هي علطول مصممة تكلمني بس والله مش برد عليها خالص، حتى الموبايل اهو شوف بنفسك"

مد يده بالهاتف لوالده لكنه رفض ثم قال بنبرةٍ ثابتة:
"مش هشوف حاجة، أنا واثق فيك، كمل بس لحد الأخر"

حرك رأسه موافقًا ثم قال:
"بس بتفضل تقول أني وحشتها، و عاوزة رقم يسر علشان تروح عيد ميلادها و حاجات كتير بعمل نفسي مش شايفها، و كل ما أجي أقفل التليفون أو أعمل بلوك اتكسف، بخاف تتحرج و في نفس الوقت أنا حاسس أني مش مرتاح كدا، خايف أقول لحد ابقى أنا وحش، اصلا عمر و زين عرفوا بالصدفة، و أنا سجلتها أصلًا علشان الجروب بتاع الفصل كلنا فيه و أنا مسجل الأسماء كلها و هي مكانتش تعرف رقمي غير لما زميلي قالها، بس أنا مش بكلمها والله"

تنهد "خالد" بقوةٍ ثم قال:
"طب و أيه السبب اللي يخليك متكلمهاش ؟! ما ممكن ترد عليها"

رد عليه بحكمة:
"لأ مش ممكن، علشان أنتَ قولتلي إني عندي أخت بنت، و أني مش هرضى إنها تكلم حد كدا، و بعدين هكلمها أقولها إيه، إذا كنت أنا مش فاهمها و مش حاببها ؟!"

وضع "خالد" يده على كتفه ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"أنا هقولك هي إيه، هي واحدة مراهقة شايفة نفسها بدأت تكون آنسة، لقت واحد شهم دافع عنها و قصة شبه الأفلام اترسمت في خيالها، بالنسبة ليها بقيت يونس الجامد الشهم، بس هي متعرفش إن دا حرام و غلط، و لأ سنكم مش صغير، أنتم في اعدادي، يعني اخطر سن بيمر عليكم هو دا، أنتَ عاقل و متربي و مع ذلك احترت، فيه غيرك هيسلم للشيطان و يفرح إن بنت عاوزة تكلمه، و هي شافت الطريق غلط من بدري، غلطك هنا واضح و معروف يا يونس"

_"أنا غلطت ؟! في إيه طيب؟"

سألها بلهفةٍ حينما ذكر الخطأ أمامه، فقال "خالد" موضحًا مقصده:
"غلطت إنك سيبت الباب مفتوح من الأول، من أول مرة كان لازم تقول لأ و تعمل بلوك أو تكلمها بجدية و تقولها إنك مش هينفع تكلم بنات علشان دا ضد أخلاقك"

رد عليه بلهفةٍ:
"عملت كدا والله، و قولتلها، لقيتها اعجبت بيا أكتر و قالتلي إني لُقطة"

رفع "خالد" حاجبيه مستنكرًا و هو يقول بسخريةٍ:
"يا بنت العبيطة ؟! دي مُصممة، بعدين أنتَ ليه مسميها ناني ؟!"

ضحك "يونس" رغمًا عنه ثم أضاف:
"والله هي مصممة، و دا اسمها والله، هي متسجلة كدا في الكشف، و كل ما أبعد الاقيها بتحاول تاني، بس بصراحة البلوك دا أنا خوفت أعمله، حسيت أني بحرجها"

حرك والده رأسه نفيًا ثم قال:
"الباب اللي الشيطان بيدخلك منه كويس هو باب الذوق، يقولك مد إيدك و سلم على الست علشان متكونش قليل الذوق، يقولك متعملش بلوك علشان متبانش قليل الذوق، يقولك رد على رسالتها علشان متكونش قليل الذوق، كل دا بيفتح معاه باقي الابواب، مرة مع مرة تلاقي الطريق بقى سهل عليك، و الغلط أسهل يا يونس، صدقني لو من أول مرة قفلت الباب هترتاح، لكن طول ما أنتَ سايبه موارب كدا، هتلاقي بيتفتح تاني و تالت و بيفتح معاه حاجات كتير أوي تخالف مبادئك، عارف إن كلامي ممكن يكون كبير على الموضوع دا، بس أنا بكلمك عن اللي جاي بعد كدا، و أظن أنتَ عارف نفسك في إيه"

حرك رأسه موافقًا ثم أخرج الهاتف أمام والده يرسل لها بثباتٍ:
"معلش يا ناني مش هينفع أكلمك تاني، لو سمحتي كدا غلط و عيب احنا لسه صغيرين"

قبل أن يقوم بحظرها وجدها متواصلة و قد أرسلت له في التو:
"يا يونس أنا عاوزة نكون صحاب، أنا معجبة بيك أوي"

ذُهل هو من جرأتها و صراحتها لكنه اتخذ قراره و قام بحظرها ثم تنهد بعمقٍ فوجدها تهاتفه بعدما حظرها من تطبيق المراسلات، فتح عينيه على وسعهما، فقال "خالد" بسخريةٍ:

"أنا لو حد كان اتمسك بيا كدا من صغري كان زماني الأول على العالم"

رد عليه "يونس" بقلة حيلة:
"طب أعمل إيه طيب ؟!"

قبل أن يجاوبه والده اتخذ قراره و قام باغلاق المكالمة فأعادتها هي من جديد، حينها قال "خالد" بجدية زائدة:

"لو هي لسه مُصممة اديني رقمها، مهما كان برضه دي زي بنتي و عاوزة حد ينصحها أو يحتويها"

نظر له "يونس" بهلعٍ سرعان ما تحول إلى الضحكات العالية و قد شاركه والده تلك الضحكات و كليهما يضحك على الموقف الغريب و على جرأة الفتاة.
_________________________

في الحديقة كان "حسن" جالسًا يراقب أولاده بنظراته و هما يلعبان سويًا و البسمة الهادئة تزين ثغره، لاحظت "هدير" نظراته لذلك سألته بمرحٍ و هي توكزه في مرفقه:

"سرحت بعيونك لفين؟ أيوا أنا جنبك و هعيشلك سنين"

ضحك هو رغمًا عنه ثم وجه بصره نحوها و هو يقول بصوته الرخيم:
"فكرتيني بأحلى يوم في حياتي، اليوم اللي قررت اتخلى عن هبلي و أعلن خوفي قدامك"

ردت عليه بيأسٍ تخللته الضحكات:
"برضه خوفك؟! هتفضل خايف كتير كدا طيب ؟! هنتطمن أمتى ؟! لما نشوف احفادنا ؟!"

حرك رأسه نفيًا ثم قال ببساطةٍ:
"أنا مش عاوز أبطل الخوف دا، علشان اكيد معناه اني بطلت أحبكم، و دا لو على رقبتي مش هيحصل يا هدير، خوفي زاد أكتر بكتير من الأول لما شوفت علي و فاطيما في حياتي، قولتلك إن اللي بيحب لازم يخاف، و أنا طالما حبيت يبقى بخاف"

حركت رأسها موافقةً بتفهمٍ لما يُقال بينما هو شرد بها يتذكر هيئتها القديمة و ماهي عليه الآن، و قد زاحمت البسمة الهادئة ملامحه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:

"لسه فاكر أول مرة جينا هنا سوا فيها واحنا صحاب، و لسه فاكر اول مرة لما اعترفتلك، و لسه فاكر كل لحظة كانت السبب إنها نكون سوا مع بعض، بس اللي مش فاكره خالص هو هدير القديمة، فيه هدير جديدة قدامي مخلية قلبي فرحان بيها"

كانت تتابعه بعيناها بينما هو قال بنبرةٍ هادئة:
"هدير اللي قدامي دي أحلى حاجة في الدنيا، منكرش أني كنت بحب هدير القديمة برضه، بس اللي معايا دي أغلى و أعز إنها تتقارن بحد حتى لو بنفسها"

اقتربت منه تلتصق به و هي تقول بنبرةٍ خافتة:

"يعني كان هيحصل إيه لو قولتلي كدا في البيت ؟! ردود افعالي سافلة يا حسن و مش عاوزة اشبهك"

حاول كتم ضحكته قدر المستطاع لكنه فشل في ذلك، بينما هي ابتسمت له ثم قالت بمرحٍ:

"مش خسارة فيك حضن و بوسة لما نروح إن شاء الله، بس فكرني"

رد عليها بسخريةٍ:
"هو أنتِ بتخرجي من حضني يعني ؟! دا أنا بقيت مقسم نفسي بينك و بين فاطيما، لما العيلة كلها عرفت موضوع احضني يا حسن، بقت شُهرة ليا"

ضحكت هي بملء صوتها بينما هو قال بهدوء:
"سبحان الله الواحد كان كل أمله بس إن يلاقي حد يطبطب على كتفه، ربك كرمني من وسع في الموضوع دا"

انتبه هو لحديثه لذلك قال مسرعًا:
"هدير !! هاتي العيال و تعالوا هنروح مشوار مهم، بقالنا كتير مروحناهوش، يلا"

عقدت ما بين حاجبيها بينما هو تحرك من جواره ركضًا نحو صغاره، فضربت كفيها ببعضهما و هي تقول:
"احفظنا يا رب، أنا قولت ملبوس محدش سمع مني....بس عسل"
_________________________

في بيت شباب الرشيد خاصةً فوق سطح البيت كان الشباب يجلسوا مع بعضهم و كذلك الصغار حولهم.

كان "مازن" يتصفح هاتفه فوجد صورًا لاحتفال أحد أصدقائه بيوم ميلاده وسط رفقائه، لم يدري لماذا شعر بغصة في حلقه و انقباضة في قلبه لذلك ازدرد لُعابه بتوترٍ، و قام بفتح الصور فوجد جميع اصدقائه و زملائه بالدراسة مع بعضهم في ذلك الاحتفال بدونه.

لاحظ "زياد" نظراته و العبرات التي ظهرت و لمعت في مقلتيه فاقترب منه يسأله:
"مالك يا مازن ؟! أنتَ عاوز تعيط ؟! فيك إيه ؟!"

رفع "مازن" رأسه يطالع شقيقه و بمجرد التقاطه نظراته القلقة عليه، انفجر في البكاء و هو ينتحب بشدة يشعر بمرارة الخذلان للمرة الأولى في عمره الصغير، احتضنه "زياد" و هو يربت على ظهره و اقترب منهما "فارس" يسأله بخوفٍ:

"مالك يا مازن ؟! مين زعلك طيب؟! حد جه جنبك ؟!"

انتبه البقية لما يُقال بينما "مازن" احتضن شقيقه و هو يقول بصوتٍ متقطعٍ من البكاء:
"زعلوني يا زياد، كنت فاكرهم صحابي و أنهم هيخلوني معاهم، بس طلعوا كدابين، أول مرة أزعل كدا و أحس إن قلبي بيتكهرب"

عبارات رغم صغر سنه وصف بها الشعور المقيت الذي يشعر به للمرة الأولى، و كأنه لأول مرة يتذوق تلك المرارة في حياته، بينما البقية انتابتهم حالة ذهولٍ من حديث الصغير الذي تسبب بحزنهم.

تعليقات



×