رواية حصاد الصبار الفصل الخامس 5 بقلم مريم نصار


 رواية حصاد الصبار الفصل الخامس 

في منزل رمزي
حل الليل بهدوء وتجاوزت الساعة الحادية عشرة مساء. أضواء خاڤتة تنبعث من مصابيح صغيرة معلقة في زوايا المنزل تضفي شعورا بالدفء والسکينة. كان المطبخ ينبض بالحيوية رائحة الشوكولاتة المذابة امتزجت برائحة الخبز الطازج معلنة عن أجواء مليئة بالحب والدفء العائلي.
وقف رمزي بجانب نرمين ممسكا ملعقة صغيرة يساعدها في تزيين الكيكة بينما كانت نرمين تركز على وضع الطبقة الأخيرة بعناية. رمزي الذي طالما أحب اللحظات البسيطة كهذه كان يشارك بحماس في تحضير الحلوى وكأن الأمر يمثل جزءا من طقوس عائلية تجمعهما.

الصالة جلس لؤي على الطاولة الخشبية الصغيرة منهمكا في إنهاء واجباته المدرسية. كانت عيناه تتنقلان بين الدفاتر لكنه بين الحين والآخر ينظر نحو المطبخ بابتسامة صغيرة متحمسا للمفاجأة التي خطط لها مع والده.
بينما كانت نرمين تضيف اللمسات النهائية على الكيكة التفتت إلى رمزي وبدأت الحديث عن يومها بابتسامة مرحة
وماما بقى مقتنعتش بكلام ميرڤت مرات أخويا خالص وقالتلها انتي مجبتيش ليا الهدية متعمدة عايزه تنكدي عليا في يوم زي ده. ميرڤت تحلفلها بأن أخويا اللي صمم ما تجيبش هدايا غير بعد ما يرجع من شغله آخر الشهر علشان يختارها بنفسه ولا حياة لمن تنادي يا سيدي.
رمزي من الضحك صوته يتردد في المطبخ
ينهار أزرق! ده أنا كده نفدت واتكتبلي عمر جديد. جبتلها هديتها من شهر فات. أحمدك يا رب!
ردت نرمين بضحكة خفيفة وهي ترفع عينيها نحوه بلوم ساخر
أحمد ربك إني مش طالعة لماما وإلا دلوقتي كنت خنقتك يا دكتور علشان ناسيني أنت وابنك!
رفع رمزي يده إلى صدره ورقبته بمزاح متظاهرا بالخۏف لكن قبل أن يرد اقترب لؤي من المطبخ بخطوات متحمسة وهو يحمل صندوقا صغيرا ملفوفا بورق ملون. اقترب من أمه وقال بصوت مليء بالبراءة
كل سنة وحضرتك طيبة يا ماما!
نظرت نرمين إلى لؤي باندهاش ممزوج بالفرح. شعرت أن قلبها قد امتلأ دفئا وقالت بابتسامة حانية
طيب يا روح ماما! ليه تعبت نفسك يالؤي
رد لؤي بفخر وهو ينظر إلى والده
أنا ما تعبتش في حاجة. أنا وبابا كنا مخططين من زمان علشان نجيب لك الهديه دي!
توجهت نرمين بنظراتها إلى رمزي وابتسامة امتنان ترتسم على وجهها ثم عادت إلى ابنها لتفتح الصندوق بحذر. داخل الصندوق كان هناك هاتف حديث براقا بأناقته مما جعلها تشهق فرحا. نظرت إليهما وقالت بحب جارف
حبايب قلبي! شكرا بجد الفون يجنن أوي يا رمزي!
اقترب منها رمزي وهمس في أذنها بمزاح خفيف
يعني خلاص نشيل الكياس السودا من المطبخ
ابتسمت نرمين وهي تضربه بخفة على كتفه قائلة
خليهم لوقت عوزه. طول ما أنت ماشي في السليم معايا أنت في أمان!
غمرت الضحكات أرجاء المكان وبدأوا في تجهيز الطاولة للسهرة. رمزي حمل الكيكة من المطبخ ووضعها في منتصف الطاولة بينما أحضرت نرمين طبقا كبيرا من الفشار. جلسوا جميعا على الأريكة معا يشاهدون فيلما عائليا وكانت الأجواء تمتلئ بالحب والسعادة.
كان الليل يمر ببطء وكأن الزمن قرر أن يمنحهم مزيدا من الوقت للاستمتاع بهذه اللحظات التي تشبه قصص الحكايات الجميلة.
كانت زوجة الأب رغم فرحتها بزوجها وحديثه الدائم عن إعجابه بها لا تستطيع أن تكبح مشاعرها السلبية تجاه الصغيرة. هل هى الغيرة أم كراهية متأصلة لأنها ابنة زوجته السابقة لا تفسير واضح لهذه المشاعر التي تملكتها. بعض زوجات الآباء يتعاملن بلا رحمة وكأن قلوبهن قد طمست يملؤها مرض الحقد فزادهن الله مرضا. لم يدركن أن هؤلاء الصغار ملائكة يحبهم الله ورسوله ويستحقون حياة مليئة بالأمان والحب.
فتحت باب المنزل لمصطفى الذي كان يحمل غفران النائمة بين ذراعيه. دخل إلى غرفتها بحرص وبدفء الأبوة وضعها في سريرها بعناية. قام بتغطيتها جيدا وكأنه يحتضنها من البرد ثم وضع لعبتها المفضلة تلك التي تشبه سندريلا بجانبها قبل أن يطبع قبلة حانية على جبينها. وهم بالخروج من الغرفة لكنه لمح زوجته في المطبخ تضع وجبة غفران التي لم تتناولها في البراد.
التفتت إليه وهي تقول بابتسامة متكلفة
إيه يا حبيبي معقول غفران نامت بالسرعة دي
عليها مصطفى وهو يفرك جبهته
أيوه متنسيش إنها صاحية بدري للمدرسة وزينب قالت إنها اتعشت معاهم ولعبت كتير.
تقدمت نحوه قليلا تراقب تعبيرات وجهه قبل أن تسأله
مالك يا حبيبي شكلك تعبان.
أجابها بوهن وهو يضع يده على مقدمة رأسه
أبدا شوية صداع كده... لو سمحتي تعمليلي فنجان قهوة يمكن افوق شوية.
طيب يا حبيبي ادخل غير هدومك وأنا هعمل القهوة وأجيلك بيها على الاوضه.
ابتسم لها بخفة وقال
آسف يا حبيبتي هتعبك معايا. بس لو سمحتي تجيبيهالي على المكتب.
توقفت للحظة وقالت باستغراب
المكتب ليه مش كنت هتسهر معايا النهارده
وقال وهو يحاول تهدئة حدة تساؤلاتها
حبيبتي إحنا اتعشينا وسهرنا ورجعنا مبسوطين وانتي المفروض ترتاحي خصوصا إنك حامل. أنا بس عندي شغل لازم أخلصه هركز في رسم باترون جديد وهياخد مني وقت.
رسمت على وجهها ابتسامة باهتة وقالت
آه طيب يا حبيبي. ربنا معاك!
ذهبت إلى المطبخ لتحضر له القهوة بينما في داخلها إحساس بالضيق. طبيعتها الجشعه جعلتها لا تكتفي أبدا بأي شيء فهي تريد كل شيء لنفسها قدمت له القهوة ورأته غارقا في عمله فودعته بهدوء وخرجت من الغرفة. توجهت إلى فراشها وهي تفكر في الغد تتساءل في نفسها ماذا ستفعل مع تلك المسكينة الصغيرة!
يوم غادر مصطفى في رحلة عمل وعند الساعة الواحدة ظهرا عادت الطفلة غفران من المدرسة مرهقة تماما وتشعر بالاعياء الشديد وملأ قلبها خوف كبير. كان والدها قد سافر منذ الأمس ولم تكن تعلم متى سيعود لإنقاذها. بدلت ملابسها بسرعة وركضت نحو تلك المرأة تقلب صفحات كتاب لم تكن تقرأه بالفعل بل تتطلع به غير مكترثه لشئ وقفت غفران أمامها مرتبكة وبلعت ريقها قبل أن تقول بصوت متهدج
أنا غيرت لبس مدرستي بسرعة أهو يا طنط!
رفعت زوجة الأب نظرها نحو الطفلة ببطء زافرة بحنق وجهها متجهم وعينيها تومضان بالڠضب وكأنها قد جمعت كل مشاعر الكراهية والاحتقار في لحظة واحدة ثم قالت بصوت خاڤت لكنه قاسې
شايفة إنك اتنيلتي وغيرتي هدوم مدرستك. دلوقتي تتحركي من قدامي تروحي على أوضتي تكنسيها وتمسحيها وتلمعي الخشب والإزاز. وبعد كده تدخلي الحمام تنضفيه وفي شوية أطباق في الحوض تغسليهم. وأنا هقوم أبص على شغلك ومش عايزة ألاقي أي غلطة فاهمة وإلا أقسم بالله هتنامي زي إمبارح في أوضة الغسيل! فاهمه يابت ولا لأ!
بكت المسكينة دموعها تتساقط بغزارة من عينيها الصغيرة تتألم من التعب الشديد ولم تعد قادرة على تحمل قسۏة كلام زوجة أبيها. حاولت أن تتكلم بحزن أن تلتمس لها العذر لكن الألم كان أكبر من كلماتها.
أنا مش هعرف اعمل كل ده أنا لسه صغيرة الله يخليكي يا طنط انا تعبانه والمس قالتلي لما ترجعي البيت خلي مامتك توديكي للدكتور ومتجيش المدرسة بكرة.
دفعتها زوجة الأب بقدمها في قوة حتى سقطت على الأرض والدموع تكاد ټغرق وجه الطفلة. ثم ارتفعت صوتها أكثر وأردفت بصوت عال متوعد
والله عال! بقى انتي ياحي...وانه بتردي عليا وبتقولي معرفش اعمل ومعملش! ودكتور ايه إللي عايزاني اكشف عليكي عنده دنا بستني اليوم اللي ربنا ياخدك فيه علشان استريح منك تقولي اكشف عليكي قومي يازفته انتي اعملي اللي قولتلك عليه ومفيش غدا غير لما يجيلي مزاج وتخلصي كل حاجه وراكي إيه رأيك بقى قومي.
تألمت المسكينة أكثر حاولت أن تنبعث من مكانها لكنها شعرت بدوار قوي يدور حولها وكأن كل شيء حولها بدأ يختلط وجسدها أصبح ثقيلا لدرجة أن عينيها اغرورقت بالدموع. ثم بدأت تحاول النهوض رغم الألم الشديد لكن خطواتها كانت بطيئة ومضطربة وكأنها لا تستطيع الوقوف على قدميها. تطلعت إلى زوجة أبيها بحسرة وانكسار عيونها مليئة بالحزن وحاولت مسح دموعها بكفها الصغير وتمنت في أعماق قلبها لو كانت أمها بجانبها لتحميها من هذا الظلم.
إلى المطبخ بصعوبة وهي تكاد تنزلق على الأرض ممسكة بالمكنسة بيد مرتعشة متجهة إلى غرفة والدها. وقفت في منتصف الغرفة مرتبكة لا تعرف من أين تبدأ. هي الطفلة الصغيرة التي لا تزال في السابعة من عمرها وليست معتادة على هذه الأعمال الشاقة. حاولت مجاهدة تتذكر ما كانت تفعل السيدة زينب وتقلدها لكنها فشلت في محاولاتها الأولى ومع ذلك جاهدت مجددا خوفا من ڠضب زوجة أبيها القاسېة.
مر الوقت وعندما انتهت من تنظيف الغرفة والمرحاض توجهت إلى المطبخ حيث وقفت على كرسي صغير أمام حوض الصحون وبدأت تحاول جلي الأطباق. ولكن الألم كان يشتد على جسدها ووجنتاها احمرتا من التعب والإرهاق وشعرت بالدوار يزداد. كانت تسعل بشدة وحاولت أن توازن نفسها لكن في لحظة واحدة فقدت توازنها وسقطت مغشيا عليها من التعب.
زوجة الأب صوت ارتطامها بالأرض فزفرت پغضب شديد
الله يخربيتك ياغفران كسرتي ايه يومك مش فايت النهارده!
ثم نهضت وفي داخلها رغبة شديدة في معاقبتها وأخذت تتوعدها في نفسها لكنها عندما رأت الطفلة ملقاة على الأرض مغشيا عليها خيم عليها الصدمة. همست بصوت منخفض
ينهار أسود! ال..البت جرالها ايه الله يخربيتك ياشيخة الله يخربيتك مبشوفش من وراكي راحة.
ذهبت إليها وحاولت إفاقتها بشيء من الجفاء. كانت ترتعد وملابسها مبللة من العرق. حاولت مساعدتها بضجر وظلت توبخها بكلمات قاسېة التي كان وقعها أشد من الألم الجسدي. أخذتها إلى غرفتها ثم أخرجت لها ملابس جافة ونظيفة وبدأت تبديلها لها وهي ما زالت تسبها وتنتقدها بشدة قائلة إنها لا فائدة منها ولا من وجودها في هذا المنزل.
غفران واقفة على قدميها بصعوبة وعيناها تكاد تغفو من شدة التعب ووجهها أحمر من الحرارة. ثم چثت أمام زوجة أبيها في حالة من الترجي والضعف الشديد
ط..طنط اء..أنا تعبانه قوي ومش قادرة أقف على رجليا.
نهضت زوجة الأب وهي تشعر بالضيق والتعب لكنها ردت عليها في قسۏة
اتنيلي بقى لما اشوفلك علاج ياكش تاخديه ونخلص منك!
شعرت غفران بأن كلامها المسمۏم ينخر في عظامها ويترك چرحا عميقا في روحها لكن الألم الجسدي كان أشد من كل شيء آخر. بعد لحظات دخلت زوجة الأب بصندوق مليء بالأدوية وأعطتها جرعة من الدواء لكن هذا لم يكن من باب الرحمة بل خوفا من أن يشك بها زوجها ويكتشف ما يحدث. كانت تعذبها نفسيا فحتى وإن كانت تعطيها العلاج كانت كل تصرفاتها تهدف إلى إحباطها.
ترنحت غفران بعد أخذ الدواء لكنها استمرت في السير نحو سريرها حيث جلست عليه بهدوء جسدها يرتجف بشدة وعيناها تغلقان شيئا فشيئا. ثم دثرت نفسها بالغطاء وهي تهمس في نفسها باسم والدها ووالدتها وكأنها تستنجد بهما لإنقاذها من هذا الچحيم الذي تعيش فيه.
مضى بضع دقائق واتصل السيد مصطفى ليطمئن على زوجته وابنته وأردف قائلا.
الو عامله ايه ياحبيبتي!
إجابته قائلة.
كويسه ياحبيبي بس البيت وحش من غيرك قوي.
ابتسم مصطفى رغم البعد لكن قلبه مشغول بهموم العمل. ثم رد قائلا
معلش يا حبيبتي التأخير ڠصب عني بس خلاص إحنا اتفقنا على البضاعة وهتتشحن بليل وبكرة إن شاء الله توصل المخزن!
اتسعت عيناها في محاولتها إخفاء القلق وحاولت التحدث بطريقة عادية رغم الضغط الذي تشعر به قائلة
أحم... معنى كلامك إنك جاي بكرة
أجابها مصطفى بسرعة وهو يحاول أن يطمئنها
أيوه إن شاء الله بس هطلع على المصنع الأول واطمن على كل الشغل وارجع في الميعاد على الغدا. المهم طمنيني بقى أنتي وغفران عامين إيه
شعرت بحلقها يضيق من كثرة القلق والتوتر فابتلعت لعابها بخفة وارتبكت في حديثها محاولة أن تخفي خۏفها
أ.. أنا كويسه وغفران نايمه نايمه ياحبيبي جت من المدرسة بدري قبل الميعاد بساعه وقالت إنها حاسه بشوية تعب والمس قالتلها متجيش بكرة أنا ادتلها علاج ونامت شويه!
لكن مصطفى الذي لا يعلم الكثير عن حالة زوجته الحقيقية بدأ يتوتر فتسارع نبضاته وسأل پخوف شديد
تعبانه ازاي طيب وانتي متصلتيش ليه بالدكتور حمدي! أو كلمتيني وأنا اتصرف! البنت تعبانه مالها يا أحلام!
بعدت عن أذنها الهاتف وزفرت بضيق حقيقي من خوفه الزائد عليها بهذا القدر الذي بدأ يشكل عبئا عليها. ثم أضافت بضجر قائلة
يا مصطفى متقلقش عليها هو تعب عادي من الشمس في المدرسة وأنا ادتلها العلاج المناسب خافض للحرارة وأكيد لو كان الأمر مستاهل كنت اخدتها بنفسي للدكتور متقلقش ياحبيبي صدقني هي هتقوم وهتبقى زي الفل!
تنهد مصطفى واستسلم لكن القلق ظل يراوده فتنهد وقال
ماشي بس أول ما تصحى اتصلي عليا فورا أكلمها وأهم حاجة خليها تاكل كويس وانتي متنسيش علاج الحمل علشان متتعبيش! وانا هكلم صالح يبعتلك زينب تراعي غفران.
وهي تتكلف قليلا ثم قالت بهدوء
حاضر ياحبيبي أهم حاجة بس خلي بالك انت من نفسك وارجعلي بسرعة لأنك وحشتني قوي.
ثم أغلق الهاتف فشهقت أحلام وهي تشعر بتوتر شديد. كانت لا تريد تلك المرأة أن تصعد إليها فهرعت لتخبئة ملابس الصغيرة المبللة نتيجة مساعدتها لها في المنزل ثم وضعتها في المغسلة لتداري آثار أي شيء قد يثير الشك.
في منزل صالح.
أنا طالعة ياصالح عند الست أحلام عايز حاجه!
قالت زينب وهي تلبس الحجاب استعدادا للخروج. أخذ صالح كوب الشاي وتحرك خارج المنزل ليتابع عمله وأجابها قائلا
سلامتك ياست الستات بس متعوقيش علشان نازل أنا وياسر وسط البلد أجيب طلبات سكان الدور الرابع.
إلى المصعد وهي تقول
إن شاء الله حاضر مش هتاخر هطلع أشوف الحرباية وانزل بسرعة!
ثم همت بركوب المصعد بينما صالح كان يضحك عليها صعدت ودخلت المنزل قائلة بكرهة دفين.
مساء الخير ياست هانم!
ردت أحلام عليها ببرود.
أهلا مساء الخير يا زينب.
صكت زينب أسنانها بغيظ مكبوت وأردفت غير مهتمة
سي مصطفى بيه اتصل على سي صالح جوزي وقال اطلع أشوف طلباتك ونطمن على غفران هي مالها كفالله الشړ!
صكت أحلام على أسنانها في غيظ شديد لكنها ردت بصوت مكبوت
مفيش طلبات بس بما إنك هتتولي خدمة غفران يبقى تخشي تشوفي المطبخ وتعمليها أي حاجة تاكلها عشان تعبانه!
شهقت زينب وضړبت يدها على صدرها قائلة بقلق ظاهر
هييييه! اسم عليها تعبانه! لأ دانا أروح أشوفها بسرعة عيني ليها وأعملها كل حاجة من العين دي زاد ومن العين دي ميه بالاذن منك يست هانم.
أشارت إليها أحلام بضجر لتغادر ثم فتحت التلفاز لتشغل ذهنها عن تلك الأمور المزعجة.
نهضت زينب داخل الغرفة بخطوات سريعة قلبها يزداد تسارعا مع كل لحظة وأعينها تبحث في القتامة التي تملأ الغرفة. لم تستطع تحمل رؤيتها هكذا. حين اقتربت صعقټ بمنظر غفران التي كانت تتعرق بغزارة جسدها مرتجف وشديد الحرارة تتنفس بصعوبة وكأنها تكافح لالتقاط أنفاسها. شعرت زينب پخوف لا يوصف همت بالركض نحو صندوق الصيدلية الصغيرة التي كانت تحتفظ بها أحلام بجانب سريرها وسرعان ما فتحتها وأحضرت صندوق الإسعافات.
غفران بكل حب بينما كانت دموعها تملأ عينيها حملت بيدها الدواء وضغطت على شفتيها برفق وهي تحاول أن تخفف عنها.
خدي يانور عيني خدي يابنتي الدوا ده وهتروقي.
فتحت غفران فمها في حالة لا وعي كانت تتصبب عرقا عيونها شبه مغمضة وتتكلم بتهتهة والهلوسة تبدو في كلماتها وكأنها تكافح شيئا داخليا
ماما انتي فين يا ماما تعالي خديني متسبنيش لوحدي ماما مش عايزه بابا عايزاكي انتي!
سمعت زينب كلمات الصغيرة واهتز قلبها المكسور. لم تتحمل ففاضت دموعها وأرادت أن تصرخ في تلك الطاغية التي تتسبب في هذه الحالة. لكن مع كل ألمها فطنت إلى أن غفران تحتاج إليها فمسحت دموعها سريعا وأخذت تطبق الكمادات على جبين الصغيرة بحنان وكأنها الأم التي تحاول أن تداوي چراحها. كان قلبها يتقطع فهي لا تعرف كيف تكمل هذا الدور لكن كل ما استطاعت فعله هو أن تكون لها الأم البديلة لتخفف عنها ذلك الألم وهي تدرك أن قلبها لا يشبه قلب تلك المرأة القاسېة.
مرور بعض الوقت دخلت زينب بصينية الطعام التي كانت قد أعدتها بحرص. جلست بجانب غفران التي بدأت تستعيد بعض وعيها وابتسمت لها بابتسامة حانية ممزوجة بمزاح.
يلا يافوفا ياحبيبتي مين هياكل كل الأكل ده!
ابتلعت غفران لعابها بصعوبة شعرت پألم في حلقها لكن قلبها تعب من محاولات الرد فقالت بتعب
أنا جعانه قوي يا دادة بس مش هعرف آكل أنا تعبانه!
ثم تراجعت قليلا وابتسمت بصعوبة وعينها مليئة بالدموع وأردفت بصوت خاڤت وحزين
كبدي عليكي يا بنتي ماهي طول ما هي مرزوعه هنا مش هتشوفي يوم عدل والله العظيم وحياة مقصوصي الطاهر ده! لو أعرف إن سي مصطفى هيصدقني كنت قولتله على اللي حساه ومتأكدة منه! بس مستحيل يصدقني هيصدقني إزاي وهي عاملة زي العقربه كل شوية تبين ليه إنها ملاك مفيش منها! ااااه حلها من عندك يا رب وارحم المسكينة دي! يلا يا نور عيني اشربي الشوربة دي وأنا ها أكلك واحدة واحدة. دانا واقفه على حيلي علشان اعملك الشوربة اللي بتحبيها.
تابعت محاولة أن ترفع معنويات الصغيرة بحب كبير مضيفة بصوت حماسي
انتي عارفه إن سي مصطفى بيه والدك هو اللي اتصل علشان أطلع أقعد معاكي وقال كمان إنه راجع بكرة إن شاء الله وكل ده علشان أبوكي بيحبك وبيخاف عليكي. تقومي انتي بقى تعملي إيه تاكلي كل الأكل ده علشان تفوقي وأبوكي يرجع يلاقيكي زي الفل!
ابتسمت غفران بابتسامة ضعيفة لكن قلبها بدأ يشعر بشيء من التفاؤل رغم مرضها. تناولت وجبتها بصعوبة وكأنها تحاول مقاومة مرضها الذي ينهش جسدها وأيضا كانت تحاول مقاومة خذلان الحياة لها أملا أن تصبح أقوى وأن تشعر للحظة بأنها في مكانها الصحيح حتى ولو كانت تتألم.
ظلت غفران تحت رعاية زينب وزوجها حتى عاد والدها مصطفى الذي أسرع بأخذها إلى الطبيب ترافقهم أحلام التي لم يكن يقلقها سوى أن يلاحظ الطبيب آثار الچروح والحروق على جسد غفران. ولكن الطبيب اكتفى بسؤالها عن الأعراض التي تشعر بها ثم وصف لها الدواء المناسب مما جعل أحلام تتنفس الصعداء مطمئنة.
عادوا إلى المنزل حيث أحاطها مصطفى باهتمامه وكأن شعور الذنب بدأ يتسلل إلى قلبه فيما حاولت غفران أن تستعيد شيئا من عافيتها رغم أن الألم لم يكن يغادرها تماما. وهكذا مرت الأيام تحمل معها القليل من الهدوء لكنه كان أشبه بالهدوء الذي يسبق العاصفة.
مضى بضعة أيام.
كان مصطفى يجلس في مكتب منزله والملل يعصف به. كانت تعابير وجهه مشدودة بالضيق وعيناه تبدو كأنها لا تنظر إلى شيء محدد بل تائهة بين الأوراق المبعثرة أمامه. يده تتحرك بتوتر بين الورقة والأخرى يقطع ويلملم الأوراق كمن يحاول الهروب من فكرة مستعصية لكن رغم محاولاته لم يستطع إنهاء عمله. كان يشعر كأن أفكاره قد توقفت وأن شيئا ما يمنعه من إيجاد حل. أخيرا ضړب الأوراق بيده في ڠضب وزفر بضيق شديد ثم نفث دخانه پعنف في الهواء كأنه يحاول طرد كل ما يعكر صفو ذهنه.
أحلام الغرفة فوجئت بتوتره وعينها تتسائل بقلق.
ايه يا مصطفى مالك من وقت ما رجعت من المصنع وانت شكلك مضايق حصل ايه لكل ده
زفر بضيق وبصوت مشحون بالاستياء أجابها
في إن عدا اسبوعين على شغل محمود دويدار ولحد دلوقتي مش قادر أوصل لرسمة ولوجو مميز ينفع يطبع على الطلبية الجديدة.
ردت أحلام باستهانة محاولة تقليص حجم المشكلة
مش مهم لوجو جديد اعمله أي تصميم من شغلك القديم ولا تتعب نفسك!
مسح وجهه بإرهاق وتنهد بعمق ثم أضاف بتهكم
تصميم قديم ايه يا أحلام اللي بتتكلمي عليه! ده شغل معدي المليون غير كده ده أول شغل بيني وبين الراجل ومش عايز أخسره وقبل ما يكون زبون مهم وتقيل. هو راجل محترم وليه سمعته يعني شغله معايا سمعة حلوة هتعلي من اسمي وإسم المصنع عندي! أوووف استغفر الله العظيم.
نظر إليها بحذر وبدت عيناه تركز على ملابسها الأنيقة التي كانت تحمل في طياتها رسائل غير معلنة. كان شكه يتزايد.
انتي لابسة كده ورايحة على فين! بتهايألي معندكيش كشف النهاردة
هزت أحلام رأسها بلطف محاولة إخفاء أي تعبير آخر.
أيوه ياحبيبي عارفه لكن ماما لما كلمتها في التليفون كان صوتها مش عاجبني وسألت بابا قالي إن ضغطها عالي جدا من الصبح بسبب أخويا اللي مش عايز يرجع من بلاد بره ده وكنت داخلة أستأذنك لو ينفع أروح أطمن عليها ومش هتأخر لكن لو مش عايز خلاص هعتذر من بابا مفيش مشكلة.
بتهكم ظاهر لكنه شعر بضرورة الموافقة فقال
لا الف سلامة عليها وروحي واطمني عليها وآسف أنا فعلا مشغول جدا ومش هقدر أجي معاك. لو عايزة تستني لبليل مفيش مشكلة هخلص اللي ورايا وأجي معاك.
ابتسمت أحلام ابتسامة رقيقة فقالت
لأ ياحبيبي أنا عارفه إنك مشغول خليك انت وأنا هروح وأرجع بسرعة مش هتأخر. وغفران في أوضتها بتلعب باللعب بتاعتها!
هز رأسه مبتسما ثم قبلت أحلام وجنته برقة وودعته بابتسامة خفيفة ثم خرجت من الغرفة.
ظل مصطفى في مكانه مسح وجهه بإرهاق وأخذ يهز قدمه بتوتر بينما كانت أوراقه المبعثرة على المكتب تبدو وكأنها تحمل ثقل أيامه المتوترة. نظر إليها من بعيد ثم عاد إلى الجلوس على مكتبه محاولا استجماع أفكاره. ومع كل دقيقة تمضي كان يزداد إحساسه بالضياع. ثم أخذ قلمه بيده مرة أخرى محاولا أن يتوصل إلى فكرة جديدة لكنه لم يقتنع بأي شيء منها.
ألقى القلم جانبا في يأس وقال
أنا هروح أعمل فنجان قهوة لازم أركز لازم أوصل لتصميم بأسرع وقت. يارب يعدي الطلبية دي وتتم على خير.
هم بالذهاب خارج غرفة المكتب ثم مشى في الردهة التي كانت تسودها سکينة شبه مطلقة لكن حين اقترب من غرفة غفران لاحظ أن الباب مفتوح جزئيا. وقف أمامه لحظة وأخذ خطوة إلى الوراء. كان صوتها الهادئ يصل إلى أذنه ولكن كان هناك شيء مختلف في هذا الهدوء. شعر بشيء غريب في صدره فتحت شجونه الفضولية فجأة.
عدة خطوات نحو الباب ثم توقف مذهولا حين رأى ابنته جالسة على الأرض تركز اهتمامها على شيء ما. عقد حاجبيه وبدا على وجهه التوتر وهو يقترب منها أكثر. وعندما اقترب بما يكفي فوجئ بما تفعله ابنته!
كانت غفران جالسة في ركن هادئ من الغرفة ظهرها للباب مطمئنة أن زوجة أبيها ليست موجودة. في يديها لوحة صغيرة أعدتها خصيصا لنفسها وعينيها ټغرق في عالمها الخاص. أطلقت ليديها العنان تلمس الفرشاة بألوانها بكل خفة وحذر وترسم صورة صادقة لعالمها الداخلي. كان القفص الذي رسمته أمامها قفصا صغيرا بلون بني داكن بأبواب مفتوحة حيث يطير منه عصفور صغير بأجنحة مرهقة نحو السماء لكن مليئة بالأمل. كان العصفور يمثلها يمثل حريتها المفقودة. عينيها تنغمر في تفاصيل الصورة وتجد نفسها في كل خط وكل ظل فهي العصفور السجين والقفص هو منزلها حيث شعرت بالحصار الدائم من قبل تلك المرأة التي لا تعرف للرحمة طريقا.
من الحزن الذي يطفو على تفاصيل اللوحة إلا أن شيئا ما فيها كان ينبض بالجمال الحقيقي. شعرت بشيء يشبه الفخر يداعب قلبها لكنها لم تلاحظ حضور والدها خلفها إلا بعد أن سمعته يتنهد من إعجاب. كان مصطفى يقف خلفها ينظر إلى اللوحة بانبهار.
غفران!!! مش معقول! إيه ده! أنت بترسمي حلو قوي!
شهقت غفران في مفاجأة وشعر قلبها ينبض بشدة لكن ارتباكها جعلها تقف فجأة وتخفي اللوحة خلف ظهرها وعيناها تتنقلان بين الأرض والسماء تبحثان عن كلمات تبقي كل شيء في مكانه.
جثا مصطفى أمامها ويداه تصلان إلى كتفيها برفق ليجعل عينيه تلتقي بعينيها مباشرة. ابتسم بحنان وكان هناك شيء في عينيه ينبض بالفخر والمحبة.
الحلوة بتعرف ترسم بالجمال ده وعندها موهبة وأنا معرفش! طيب ليه
رفعت عيونها للحظة ثم غطت وجهها بيديها قليلا وعينيها غارقة في مشاعر مختلطة. ماذا ستقول له هل ستخبره بالحقيقة هل سيصدقه أم سيتعاطف معها لكن ماذا لو كانت الحقيقة ستدمره أنت الذي جلبت هذه المرأة إلى حياتنا والتي جعلتني أخفي كل شيء جميل في داخلي! كانت تلك أفكارها لكنها لا تستطيع أن تصارحه بها الآن.
رفع مصطفى ذقنها بيده بلطف ورغم كل شيء كانت لمسة يده تؤكد لها حبه الكبير. سألها بصوت خفيف ممزوج بالحنان
إيه يا حبيبتي مش عايزة تقولي لبابا حبيبك ليه خبيتي عليا إنك بتعرفي ترسمي وبالجمال والروعة دي كمان! وياترى من إمتى بقى
أحست بشيء في قلبها يضغط على صدرها لكن محاولة تفكيرها السريعة جعلتها تجد حلا لن أخبره عن ماما أحلام سأقول شيئا أقل ألما. ردت بارتباك
أنا برسم من زمان بس محدش يعرف علشان... علشان...!
علشان إيه يا حبيبتي
اتكلمي أنا سامعك!
شعرت بالحيرة ولكنها أجابت سريعا
علشان ده سر مخبياه ليا... أنا بحب أرسم لوحدي حتى طنط... قصدي ماما أحلام متعرفش أني بحب الرسم!
تفاجأ مصطفى ووجهه أصبح مليئا بالتساؤلات
طنط انتي تقصدي مين بطنط دي يا غفران
خشيت غفران أن يكون قد شك في شيء لكن سرعان ما أجابت بسرعة حتى تتجنب المزيد من الأسئلة
قصدي قصدي على طنط زينب اتلخبطت بس محدش يعرف خالص أني بحب الرسم. انت زعلان مني يا بابا
ابتسم مصطفى وأخذ اللوحة منها بين يديه ونظر إليها لبرهة. نظرته كانت مليئة بالإعجاب وعيناه تلمعان بفخر شديد. ثم ابتسم ابتسامة واسعة وأخذ ابنته بين ذراعيه. قبلها بحنان على وجنتها وقال
أنا كنت هزعل فعلا منك لو معرفتش بموهبتك الجميلة دي. أنا مبسوط أوي إن طاقتك بتطلعيها في حاجه مفيدة زي الرسم ودلوقتي يا أغلى غفران عندي انت متتصوريش إنك حليتيلي مشكلة كبيرة في شغلي قد إيه. وعايز أطلب منك حاجة ممكن استعير الرسمه الجميلة دي في شغلي
ضحكت غفران من قلبها وكانت السعادة تضيء وجهها. وبسرعة هزت رأسها وقالت بحماس
بجد عجبتك! حلوة يا بابا
دي تحفة والله حلوة قوي! ولك عندي مفاجأة كبيرة! هجيبلك كل أدوات الرسم في أوضتك هنا وهخليها مش ناقصها أي حاجه من أدوات الرسم كلها إيه رأيك
غفران فرحا وصفقت يديها بحماس شديد وعانقته وقلبها يغمره البهجة. ضمھا الأب بحب وقال
ها يا رسامتنا العظيمة موافقة أني أخد رسمتك دي ولا إيه وعلشان نكون متفقين هتكون ليكي نسبه في الصفقة وأصلا المصنع كله تحت امرك ودلوقتي الصفقة دي ممكن تتم بفضلك أنت. وافقي بقى ياغفران هانم!
ضحكت غفران وملأ قلبها بالسعادة من هذه الكلمات الصغيرة التي كانت تعني لها الكثير. وافقت على الفور وهي تشعر بأنها أخيرا وجدت شخصا يقدر موهبتها.
ثم بعد ذلك قام مصطفى بتصوير الرسمه مع بعض التعديلات التي اقترحها وأرسلها عبر الهاتف لصديقة محمود دويدار الذي أعجب بها كثيرا ووافق على الفور. تم الاتفاق على كل شيء وكان ذلك بداية لتغيير في حياتهم.
مرور شهرين أمام العقار وقفت سيارة مصطفى الجديدة التي اشتراها مؤخرا لزوجته. كانت السيارة حديثة وأنيقة تعكس بذخا واضحا في اختيارها لكنها لم تبدو قادرة على تعويض التوتر الذي كان يشوب الأجواء. هبطت أحلام من السيارة وكان واضحا من تعبير وجهها أنها تحمل هما ثقيلا. كانت خطواتها ثقيلة وكأنها تجر خلفها أعباء العالم فبدا عليها الضجر التام. دخلت المصعد بدون أن تلقي نظرة حولها بينما كان مصطفى ممسكا بيد غفران برفق. ساروا معا بهدوء داخل المصعد بينما كان صالح وزوجته يراقبون المشهد بعيون مليئة بالاستفهام.
زينب بلغة محملة بالسخرية
يووه شوف الولية ماشيه كأنها مش شايفانا! جاك حش وسطك يا بعيده!
زفر صالح وهو يحاول أن يخفف حدة الموقف وقال بهدوء
يا ولية واحنا مالنا دع الخلق للخالق مش يمكن مضايقه من حاجه! الله أعلم بالعباد.
لكن زينب لم تتوقف بل أكملت بتعليق أكثر تهكما
مش دي يا خويا مش دي! دي عامله زي الشيطان يتحر ق ويرجع تاني! وبعدين إيه اللي هيضايقها جوزها جابلها عربية جديدة بسم الله ما شاء الله يعني مبقرش والله! أنا بس بقولك إنها زي الدادابان لا بتكل ولا بتمل! قادر يخلصنا منها!
نهرها صالح بتصميم وقال
وبعدين وياكي بقى! هتفضلي تزمي في الست دي كتير! اسمعي يازينب! من هنا ورايح مش عايزك تتكلمي على حد لا بالخير ولا بالشړ.
ردت زينب بدهشة
طيب استنى بس! هي كانت عند الدكتور أطلع أعرف إذا كانت حامل في عقرب ولا حرباية!
فقال صالح محاولا إنهاء الحديث بتصميم
انجري على بيتك يا زينب وبلاش تقلبيها غم فوتي قدامي يا ولية!
في منزل مصطفى في غرفة الجلوس
وضعت أحلام حقيبتها على الطاولة بحركة ثقيلة بينما تجمدت ملامح وجهها عاكسة حالة من الضجر الداخلي. جلست بصمت على الأريكة وكأنها لم تعد قادرة على مواصلة الحديث. كان الهواء في الغرفة ثقيلا وكأن كل كلمة قد تخرج منها ستزيد من الجفاء بينهما. كان مصطفى يراقبها بصمت وهو يشعر بشيء من الضيق من موقفها لكنه في نفس الوقت يحاول أن يكون لطيفا معها. أشار إلى ابنته غفران بأن تذهب لغرفتها فانصاعت غفران دون أن تعترض فتوجه مصطفى بجلسة هادئة إلى جانب زوجته وقال محاولا التخفيف عنها
يا أحلام هتفضلي متضايقه كده كتير! إذا كنت أنا مش زعلان انتي بقى إيه اللي مزعلك
مسحت أحلام دموعها في محاولة لتخفي أوجاعها وقالت بصوت منخفض
كنت عايزة أجيبلك الولد يا مصطفى بس للأسف طلعت بنت!
تعجب وقال باستنكار
استغفر الله العظيم! كلام إيه ده بس يا أحلام! إيه للأسف دي! انتي هتعترضي على أمر ربنا ولا إيه! وبعدين البنات دول نعمة وفيهم حنية الدنيا على أهلهم استغفري ربك ومتزعلنيش منك!
تنهدت أحلام وعيناها مليئة بالدموع ثم قالت بصوت متعب
أنا مش معترضة يا مصطفى كل الحكاية أني كنت عايزة ولد يشيل اسمك! فين الغلط في ده
رد بابتسامة هادئة محاولا تهدئة الأجواء
حبيبتي مفيش غلط ولا حاجة! وسيبك من أفكار زمان دي. يشيل اسمك ومعرفش إيه! وبعدين الحياة قدامك طويلة تبقى جيبيلي بدل الولد اتنين وتلاتة إنما غفران وياسمين هيفضلوا رقم واحد عندي!
تعجبت أحلام رغم اختناقها وقالت بدهشة
ياسمين! إنت هتسميها ياسمين يا مصطفى
ابتسم وقال بحب
أيوه يا حبيبتي! أنا من زمان كان نفسي أسمي أول بنت ليا ياسمين ولما نجوى الله يرحمها خلفت كانت والدتي مټوفية قبلها بسنتين ونجوى صمتت وقالت إنها هتسمي بنتنا غفران على اسم والدتي! ومقدرتش أقول لها لأ. دلوقتي انت هتحققيلي أمنيتي دي. لكن لو مش عايزة وعندك اسم تاني حباه نسميه وبعد كده هتجيبيلي ياسمين تانيه وتالته كمان.
أحلام على أسنانها محملة بالغيظ كانت تشعر بخيبة أمل من الحمل الذي لم يحقق رغبتها في إنجاب الولد. في داخلها كان الرفض يزداد لكنها فكرت بسرعة في أنها ستنجب الكثير وتلد الأولاد في المستقبل! ثم تنهدت قائلة
لأ يا مصطفى مفيش أي اسم عندي وخلاص نسميها ياسمين... ياسمين المهدي! وبكره لازم اجيب الولد اللي بحلم بيه.
بعد مرور عدة أشهر
كانت أحلام تقود السيارة ببطء محاولة التغلب على ألم غامض بدأ يتصاعد في بطنها. لم تكن تدرك أنه ألم المخاض فقد بدا كألم حاد مفاجئ يتنقل بين ظهرها وبطنها كأمواج عاتية تضربها بلا رحمة. قبضت على عجلة القيادة بقوة محاولة التركيز على الطريق أمامها لكن الألم كان يزداد شدة مع كل دقيقة وكأنه يحكم قبضته عليها.
أنفاسها تتسارع وشعرت بالعرق يتصبب من جبينها. ما هذا الألم هل يمكن أن يكون المخاض لكن لا ما زال الوقت مبكرا! فكرت لكنها لم تكن واثقة. كلما حاولت إقناع نفسها أن هذا مجرد توتر اشتدت التقلصات وكأنها تنذرها بأن شيئا كبيرا على وشك الحدوث.
في لحظة من الفزع والتشتت تزايد الألم حتى أفقدها القدرة على
السيطرة على عجلة القيادة. انحرفت السيارة فجأة واصطدمت بمركبة أخرى في حاډث مروع. تردد صوت الاصطدام في المكان وعم الصمت بعدها.
كانت أحلام فاقدة للوعي رأسها مستند إلى المقود والدم يسيل من چرح عميق في جبينها. أثار الحاډث فوضى من حولها بينما بقيت هي غارقة بين ظلام عميق لا تشعر بشيء سوى خفقات قلبها البطيئة. الألم الذي بدأ يأخذها في طريق الولادة كان حاضرا لكن وعيها كان غائبا تماما مخلفا جسدا ضعيفا يصارع بين الحياة والمو ت.
 

تعليقات



×