رواية تعافيت بك الجزء الثالث الفصل الخامس
_حاجة إيه يا سافل اللي هتتقال، يا أخو السافل ؟!"
تفوه "عامر" بذلك بعدما استمع لحديث شقيقه مع زوجته، حتى حرك "عمار" رأسه ينظر له بوجهٍ محتقن، بينما هي توردت وجنتيها بخجلٍ و أخفضت رأسها ثم نطقت بتلعثمٍ:
"طب...أنا هروح أشوف ريتاج....و سارة أكيد حد منهم عاوزني عن اذنكم"
سحبت يدها من يد "عمار" ثم دلفت للداخل بخطواتٍ شبه راكضة حتى اصطدمت بـ "فهمي" حينما دلف الشقة فشهقت بخوفٍ و هي تقول بارتباكٍ:
"أنا آسفة....معلش والله حقك عليا بس....يوه أنا متأسفة"
ضحك "فهمي" رغمًا عنه ثم ربت على كفها و هو يقول بنبرةٍ هادئة حنونة:
"أهدي بس محصلش حاجة لكل دا، دا أنا كنت بدخل ألاقي كورة لابسة في وشي و مخدات الكنب، طب يارتني كنت اتخبط في الحلويات دي من بدري"
ضحكت هي بخجلٍ بينما "عامر" رفع صوته يقول بضجرٍ:
"هو أنتَ مش هتبطل معاكسة، طب دي لسه جديدة معانا مش عاوزينها تفهمنا غلط"
رد عليه "فهمي" بنفس الضجر:
"طول عمري اسمع إن البيت اللي فيه بنات زي الأرض عمرانة بالنبات، جت خلفتي ولدين، سيبوني بقى، قرفتوني"
ضحكت "خلود" ببلاهة فيما اقترب "عمار" يقف حائلًا بينها و بين والده و هو يقول بثباتٍ:
"معلش بقى يا حج فهمي الحتة دي محجوزة و عليها العين، حظ أوفر المرة القادمة"
رد عليه "فهمي" بتهكمٍ:
"بقى كدا !! طب خليها تنفعك يا دكتور عمار....سارة فين ؟!"
اقترب "عامر" يقول بضجرٍ:
"هو أي شقط و خلاص، ما تشوف مراتك يا سيدي، و سيب كل واحد مع مراته"
أتت والدته من الداخل تسأل بتعجبٍ:
"مالك ياض أنتَ و هو، تاعبين سي فهمي ليه ؟!"
_"سـي فهمي ؟!"
رددها كليهما باستنكارٍ لكلمة والدتهما التي قالت بحنقٍ:
"آه يا أخويا سي فهمي، و بطلوا قلة أدب، انتوا بقيتوا سَافلين ليه ؟! بس أنا عارفة انتم عالم مشافتش رباية"
عقدت "خلود" ما بين حاجبيها لا تصدق ما تراه أمامها، فقال "عامر" يعاتب والدته:
"عيب يا سيدة عندنا سواح، متفضحيناش، البت جديدة وسطنا تقول علينا أيه ؟!"
ردت عليه مسرعةً:
"هتقول متربوش، انتوا من ساعة ما نزلتوا تجيبوا لبس العيد من غيري و أنا مبقاش ليا حكم عليكم، ربنا يعوض عليا بقى"
ردت "خلود" عليها بجديةٍ زائفة:
"إيه ؟! نزلوا يجيبوا لبس العيد من غيرك ؟! إيه الانحطاط الأخلاقي دا ؟! أخس عليهم، و ازاي تستكي على حاجة زي دي"
ردت عليها بضجرٍ:
"سكت علشان منكدش عليهم بقى، راحوا هما الخمسة و فالحين بس يقولوا احنا مش صغيرين و اتضحك عليهم و خالد معاهم يلا بقى"
ضحكت "خلود" بصوتٍ عالٍ فقال "عامر" لوالدته:
"أبوس ايدك كفاية و ادخلي شوفي الأكل، الواد عريس جديد"
تحركت والدته و هي تلوح بكفيها معًا بينما "عُمر" أتىٰ ركضًا من الداخل نحو جده الذي حمله بين ذراعيه و هو يقول بحماسٍ:
"حبيبي و حبيب قلبي"
كان يقبله أثناء حديثه بينما "عمر" تشبث به ثم قال بحماسٍ:
"جيبلتي حاجة حلوة و أنتَ جاي يا جدو ؟! و لا نسيت ؟!"
رفع حينها "عامر" كفه بالحقيبة البلاستيكية الممتلئة بالأكياس و الحلويات و هو يقول بسخريةٍ:
"اتفضل يا أخويا، جابلك شنطة في يوم، جابهالي على مدار ٣٠ سنة، أمسك يا ابن المحظوظة"
خطف "عمر" الحقيبة من والده بفرحةٍ فيما قال "فهمي" حينما لاحظ نظرات ابنه الحاقدة:
"أنتَ هتقارن نفسك بيه ولا إيه ؟! على العموم يا عمر الشنطة دي ليك و لماما و لخلود معاكم"
حرك رأسه موافقًا فوجد "عامر" يمسكه من ثيابه من الخلف و هو يقول بضجرٍ من بين أسنانه:
"اقسملك بالله لو خلصت البسكوت من غيري، لأكون بالعك أنتَ"
رد عليه "عمر" بمعاندةٍ:
"طب مش هديك، وريني بقى"
قبل أن يركض قد حمله "عامر" على كتفه بالحقيبة و الأخر يضحك و هو يحرك قدماه في الهواء، فركض به "عامر" نحو الداخل و خلفه "سيدة" و "فهمي" و "خلود" تتابع أثرهم ببسمةٍ هادئة و كذلك "عمار" يتابعها هي حتى التفتت له تقول بنبرةٍ هادئة:
"ما شاء الله، شكلهم حلوين مع بعض، ربنا يحفظهم و يباركلك فيهم، شكلك بتحبهم أوي"
حرك رأسه موافقًا ثم أطلق تنهيدة قوية اتبعها بقوله:
"مليش غيرهم في الدنيا دي، حتى عيال عامر، عيالي و ليهم في قلبي غلاوة كبيرة اوي، أنا كنت بعمل كل حاجة علشان افرحهم و اخليهم يحسوا بالفخر أني ابنهم، و لحد دلوقتي بتمنى كدا"
اقتربت منه تقول بحماسٍ:
"اتطمن، فخورين بيك أوي، و مش هما بس، أي حد بيعرفك بيفتخر بيك و يتمنى كل الناس تكون زيك كدا"
_"حتى أنتِ منهم ؟!
سألها بثباتٍ ينتظر جوابها و قد توقع منها الخجل أو التردد لكنها فاجئته بقولها الثابت:
"خصوصًا أنا أولهم، مش منهم"
ضحك هو لها ثم أشار بابهامه فوجدها تقول بحماسٍ:
"أنا قررت أننا نكون صحاب و ندعم بعض، أنا قررت أعتبرك لوز، و أنا سكر إيه رأيك ؟!"
حرك رأسه لليسار قليلًا و هو يبستم بعيناه لها فوجدها تقول بنبرةٍ مرحة:
"لطالما كنتُ "سكر" بمفردي، هل تقبل أن تكون"لوز" الخاص بي ؟!"
اقترب منها يمسك كفها ثم قال بصوتٍ رخيم هاديء كعادته:
"و أنا يا سكر العُـمر أشيلك العُـمر كله بين جفوني"
ابتسمت باتساعٍ تحاول السيطرة على فرحتها و قبل أن تحتضنه تركها هو و اقترب من "عمر" الذي ركض نحوهما و انتبه له هو، بينما هي تنحنحت بخجلٍ ثم قال بنبرةٍ هامسة:
"غبية و هبلة و قليلة الأدب"
التفت لها "عمار" يقول بخبثٍ:
"خير ؟! بتقول حاجة يا سكر ؟!"
حركت رأسها نفيًا بسرعةٍ كبرىٰ، بينما "عمر" ركض نحوها يعطيها أحد الأكياس التي يمسكها في يده ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"أنا جيبت دا علشان تاكليه لحد ما ناكل سوا الحاجة الباقية، مش هاكلهم من غيرك ماشي ؟! و هأكل عمار كمان"
حركت رأسها موافقةً بحماسٍ فسألها "عُمر" بترددٍ:
"خلود !! ينفع نكون صحاب ؟!"
عقدت ما بين حاجبيها فأضاف هو مسرعًا:
"يعني عادي لو بقيتي صاحبتي زي يزن و علي و فارس و كلهم ؟! و لا مش هينفع ؟!"
اقتربت منه تمسك وجهه بين كفيها و هي تقول بسرعةٍ كبرى:
"طبعًا ينفع و من غير ما تطلب أنا هكون صاحبتك و ربنا يصبرك عليا بقى، أنتَ حبيبي"
حرك رأسه موافقًا ثم احتضنها بشدة و كذلك هي لمعت العبرات في عيناها تأثرًا بموقف الصغير ثم ربتت على ظهره و وقف "عمار" يتابعهما مبتسمًا لهما.
_________________________
حالة الصمت خيمت على الجميع بعدما قامت "سيلينا" أبنة "وئام" بتمزيق إحدى صفحات الكتاب، ثم حركت الصفحة الممزقة بقبضتها تلوح بها أمامهم جميعًا، بينما "وليد" رفع كفيه يضرب رأسه و هو يقول مُرثيًا حاله:
"ياريتك كنتِ قطعتي رقبتي ولا عملتي كدا يا بنت وئام !! يا وقعة اللي خلفوكِ سودا !!"
ركضت نحوه تعطيه الصفحة و تلك البسمة السخيفة ترتسم على وجهها الصغير، فيما سحبها هو من يدها و تشدق بنذقٍ:
"هاتي ياختي ياخد عدوينك يارب"
ضحك عليه البقية فيما ركض نحوه "فارس" و التوتر يكسو ملامحه و نظرته و هو يقول بنبرةٍ مهتزة:
"عـ....عمو وليد.....أنا آسف والله ماكنتش أعرف أنها هتعمل كدا....حقك عليا والله"
اقترب منه "وليد" يربت على رأسه ثم قال بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم له:
"بطل عبط ياض أنتَ، فداكم كل حاجة، براحتك يا حبيبي، و بنت الكلب دي أنا هربيها"
قال سبته و هو يرمق الصغيرة، ثم سحب الكتاب و اقترب من "طارق" يقول بنفس تذمره القديم الملازم له منذ صغره:
"صلحهولي يا طارق، أنتَ بتعرف"
ضيق "طارق" جفناه فوق مُقلتيه و بدا عليه التعجب الممتزج بالحيرةِ و هو يُمعن النظر في وجه الأخر ثم لاح أمام نظره ذكرى تُشبه ذلك الموقف.
(منذ عدة سنوات كثيرة)
كان "وليد" في صغره يجلس فوف سطح البيت و "خلود" تتهادى في خطواتها يعلمها كلٍ من "طارق" و "وئام" السير، في حين ذلك كان "وليد" غارقًا في صفحات كتابه الذي يحكي عن أسطورة من أساطير الحروب التي قادها الفارس الشجاع، و حينما قطعت "خلود" مسافةً كبرى دون أن تتعثر في خطواتها، رفع "وئام" صوته مهللًا بقوله:
"موقعتش....مشيت من غير ما تقع يا وليد"
ترك "وليد" حينها كتابه بل مغامرته من وجهة نظره ثم ركض نحوها يسير بلهفةً، بينما هي ركضت لهم في الاتجاه المعاكس، تحدث "طارق" حينها بصوتٍ ظهر به أثر ضحكاته:
"هتمشي الناحية التانية سيبوها لوحدها علشان تتعود مع الوقت"
تحركت "خلود" نحو الطاولة بمفردها تتهادى بخطواتها حتى وصلت عِند الكتاب ثم قامت بتمزيق إحدى صفحاته، حينها شهق "وليد" بفزعٍ فيما ضرب "وئام" كفيه برأسه خوفًا من ردة فعل أخيه، فيما نطق "وليد" بنبرةٍ أقرب للبكاء:
"ليه يا خلود ؟! حرام عليكِ"
ركض نحو الكتاب و هي تقف تبتسم ببلاهةٍ و كأنها حصلت على جائزةً، فيما سحب هو الكتاب و اقترب من "طارق" يقول بتذمرٍ و عينيه تلمع بالعبرات الحارقة:
"صلحهولي يا طارق، أنتَ بتعرف"
أخذه منه "طارق" ثم قام بوضع الصفحة الممزقة بداخل الكتاب و حاول مرارًا فردها حتى نجح في ذلك ثم أخذه و نزل للأسفل و بعد مرور دقائق قليلة عاد من جديد بعدما لصق الورقة وسط الكتاب، ثم اقترب من "وليد" يقول بثباتٍ:
"صلحته....سيبه ينشف و هيرجع تاني، الحمد لله هي قطعته من الجنب"
احتضنه "وليد" حينها بسعادةٍ بالغة ثم قبله على وجنتيه و خطف منه الكتاب.
(عودة إلى الوقت الحالي)
كان "طارق" شاردًا في تلك الذكرىٰ متذكرًا ما مر به الزمن، و دون أن يعي لفارق التوقيت قال بلهفةٍ يحاول بها إرضاء الأخر:
"متزعلش هصلحهولك"
تعجب "وليد" من طريقته فقطب جبينه بحيرةٍ، بينما "طارق" هز رأسه في عدة جهات غير متناسبة ثم تنهد بعمقٍ حينما أدرك فارق السنوات و لم يعقب فقط نظر أمامه يتعجب من سرعة الأيام، حينها أمسك "وليد" الوسادة الموضوعة خلفه يفاجيء "طارق" بضربة قوية بها في وجهه، مما جعله يرتد للخلف فيما ارتفعت ضحكات البقية عليهما، حتى قام "طارق" بالركض خلف "وليد" و هو يقول بنبرةٍ عالية:
"اقسملك بالله لو مسكتك ما هسيب فيك حتة سليمة"
اصطدم "وليد" بـ "عبلة" في وجهه، حينها وقف خلفها يضعها هي في مواجهة أخيها و هو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
"أنا في حماية السوبيا بتاعتي"
رد عليه "طارق" بتهكمٍ:
"بتتحامى في اختي يا سيِّد الرجالة ؟! عيبة في حقك"
رد عليه "وليد" مُبررًا بمزاحٍ:
"دي ست بـ ١٠٠ راجل، إيش فهمك أنتَ ؟! دي الأصيلة اللي طول عمرها سنداني"
التفتت له تقول بفرحةٍ:
"بجد ؟!"
قبل أن ينطق هو تدخل "طارق" يقول بضجرٍ و هو يضرب كفيه ببعضهما:
"أنتِ هطلة يا بت ؟! بيقولك ست بـ ١٠٠ راجل، فرحانة يا متخلفة ؟!"
ردت عليه ببساطةٍ بعدما التفتت له:
"ما توحد الله يا عم !! بيقولك دي الأصيلة اللي طول عمرها سنداني"
اغتاظ "طارق" منها فتركهما و هو يقول بنبرةٍ جامدة إلى حدٍ كبير:
"اشبعوا ببعض، بس مش هسيبه برضه يا أنا يا هو"
في تلك اللحظة صعد البقية دون "أحمد" و "سلمى" و كانت في مقدمتهم "رؤى"
تحدث "وئام" بتعجبٍ:
"اومال أحمد و سلمى فين ؟!"
ردت عليه "هدى" مفسرةً:
"ليلى تعبانة و واخدة دور برد، مش هيعرفوا يطلعوا علشان الهوا، و احنا نازلين هنتطمن عليها"
حرك رأسه موافقًا فيما اقتربت "رؤى" من والدها تمسك يده بفرحةٍ و هي تقول:
"أنا حطيت العصير في الكوباية مع ماما و عمتو عبلة، و موقعتش حاجة"
حملها هو ثم قبل وجنتها بينما قال "زياد" يثير حنق "طارق":
"طب والله أشطر واحدة تصب العصير في الدنيا، دا لو عصير تمر هيبقى كدا مانجا"
ضحك الجميع على كلمات الصغير العابث، بينما أخيه لاخظ نظرات خاله فمال "مازن" على أذن "زياد" يهمس له بنبرةٍ خافتة:
"الحمد لله إنها مشافتش صراع الحماوات دا، أبوها هينفخك في المهر دي خد بالك"
ابتسم "زياد" بسخريةٍ و قال بنفس الهمس:
"سمعته بيقول لجدو محمد إنه هيطلب المهر بتاعها واحد حافظ القرآن كله"
شهق "مازن" ثم قال متحسرًا:
"ياختــاي !! احنا حافظين كام جزء ؟!"
_"جــزء"
قالها "زياد" بسخريةٍ فرد عليه "مازن" ببساطةٍ:
"طب الحمد لله، غيرنا مش حافظ خالص"
رد عليه "زياد" بضجرٍ:
"فوق يا مازن، احنا حفظنا الجزء دا سنة كاملة"
حينها رفع "مازن" أنظاره للأعلى يفكر في الأمر ثم اخفضها بسرعةٍ و هو يقول:
"يعني لو كل جزء في سنة، فاضلنا ٢٩ جزء ؟! بـ ٢٩ سنة، مش كتير والله"
نظر له أخيه رافعًا أحد حاجبيه فيما قال الأخر بضجرٍ:
"بلاش بصة أبوك دي بقى"
ضحك "زياد" رغمًا عنه و كذلك الأخر الذي ضمه إليه يربت على كتفه في حنوٍ بالغٍ لفت أنظار "وليد" على الفور و سرعان ما تعلقت بهما أنظاره و لم يقو على محايدة تلك النظرات، و زادت رجفة قلبه أكثر حينما وضع "زياد" رأسه على كتف "مازن" فحرك الأخر كفه يربت على رأسه و خصلات شعره.
اقترب منهما "فارس" في تلك اللحظة يجلس وسطهما و هو يقول بسخريةٍ:
"خدوني وسطكم ياض منك ليه"
جلس وسطهما فوضع كليهما رأسه على كتفيه، فتحدث "وئام" بسخريةٍ:
"عاملين زي أسدين قصر النيل، و ابني بقى الكوبري بتاع النيل نفسه"
قفزت إليهم "سيلينا" فحملها "فارس" يضعها على قدمه فقال "طارق" بسخريةٍ:
"و الأستاذة إيه بقى إن شاء الله ؟!"
رد عليه "وليد" بنفس السخرية:
"بياعة الورد و الترمس على الكوبري نفسه"
انتشرت الضحكات على سخريتهما فيما قالت "هدى" بضجرٍ:
"هتحلووا على بنتي ؟! هقوم أمسك عيالكم افرمهم، هــا؟!"
قالت كلمتها الأخيرة بتحذير واضح فغمز "وليد" لـ "مازن" الذي غمز له هو الأخر ثم ركض نحوها يسبل عيناه و هو يقول ببراءةٍ:
"خالتو هدى، أنا عاوزة كيكة بالشيكولاتة اللي أنتِ بتعمليها، ينفع ؟!"
قبلته في وجنته ثم قالت بودٍ:
"يا روح خالتو هدى، عيوني ليك"
تحدثت "جميلة" بسخريةٍ:
"إيه دا خلاص كدا ؟!"
رد عليها "وليد" يجاوبها:
"اومال أنتِ فاكرة إيه ؟! دي بوق على الفاضي، هدى لو زعلت نملة متنامش"
ابتسمت هي بقلة حيلة فيما سألت "جميلة" بتعجبٍ:
"هو مش النهاردة الخميس ؟! التوأم دول هنا ليه ؟! مش معادهم عند ماما خديجة ؟!"
ردت عليها "عبلة" بسخطٍ:
"خديجة عملتها و باعتهم، راحت عند حماها، و أنا كنت مخططة أروق الشقة بكرة و هما مش هنا، بس هعمل إيه ؟! نصيبي"
فور انتهاء جملتها أضاءت السماء بضوءٍ غريب عليهم و أول من لاحظه كان "فارس" الذي رفع صوته قائلًا بمرحٍ تخللته الدهشة:
"الحقوا السما بتنور !!"
عقب جملته تلك صوت الرعد العالي الذي فزع الصغار و خصيصًا الفتيات، فقام "طارق" يقول مسرعًا بلهفةٍ حينما وجد قطرات المياه بدأت بالهطول:
"بسرعة على تحت يلا، بسرعة"
جمعوا الصغار مع بعضهم في المقدمة حتى ينزلون قَبلهم، فيما تحدث "وليد" مسرعًا حينما وجد الأمطار تنزل بكثافةٍ:
"خدهم يا وئام عندك و أنا هقفل الكهربا هنا و احصلكم، يلا"
نزلوا جميعهم للأسفل بينما "وليد" تحرك بخفةٍ يغلق الأضواء و ينزع أسلاك الكهرباء من المقابس الكهربائية و قبل أن ينهي مهمته لاح طيفه و هي تختبأ خلف الباب و كأنها تصارع نفسها حتى لا تتسرع، التفت هو بكامل جسده و سرعان ما ابتسم لها، ففهمت هي مغزى تلك البسمة و ركضت على الفور للمنتصف ترقص أسفل المطر.
وقف "وليد" منزويًا يضم ذراعيه على صدره و يراقبها بتمعنٍ و البسمة الصافية تزين ثغره، فها هي كما هي، لم يغيرها الزمن، لازالت تملك روح الطفلة المغامرة لديها، كادت "عبلة" أن تتعثر في خطواتها، لكنه كان الأسرع حينما قبض على خصرها بذراعيه حتى التصقت هي به و رافق تلك الحركة شهقة جامدة خرجت منها بفزعٍ، بينما قال هو بحديثٍ غلفه الخبث:
"أخس على الأرض كانت هتوقع القمر"
تلك الجملة التي قالها لها منذ عدة سنوات ها هو يُلقيها لسمعها من جديد، بينما هي رفعت عيناها نحوه تطالعه بابتسامة هادئة نطقت بها عينيها قبل شفتيها، فمسح بكفيه وجهها ثم قال بنبرةٍ خافتة تعبر عن عاطفته لها و بعينيها التي دومًا تسرق لُبه:
"عِـيونك حَـبايب عِـيوني"
لمعت عينيها ببريقٍ غريب فيما وقف هو يمر أمامه ومضات من الماضي الذي مر به معها و كان أخره في زفافهما، اقترب منها يضمها ثم همس بنبرةٍ خافتة:
"طب والله حاسس إنك وحشاني يا سوبيا....."
ابتعدت عنه ترمقه بتعجبٍ من سهام عسليتيها فيما قال هو بنبرةٍ لعوبة و قد تشكل العبث على مُحياه:
"فاكرة طيب ؟! .....طب ليه بيداري كدا و لا داري كدا و أنا اداري كدا... الله ؟!"
ضحكت "عبلة" بصوتٍ عالٍ و هي تتذكر ذكريات تلك الكلمات ثم سألته بنبرةٍ ضاحكة:
"أنتَ مبتنساش أبدًا ؟!"
تنهد هو بعمقٍ ثم قال بصوتٍ عالٍ نسبيًا بعدما رفعه بسبب صوت المطر:
"لأ مبنساش زي ما أنا مش ناسي و عارف إنك تعبتي و عارف إنك استحملتي كتير و زياد و مازن طلعوا عينك معايا، بس أنا و هما ملناش غيرك أنتِ، اتكتبنا عليكِ"
ابتسمت هي بسعادةٍ بالغة ثم دارت حول نفسها أسفل المطر و كانت هذه هي ردة فعلها على قوله، فيما ضحك هو بيأسٍ ثم وقف يتابعها حتى اقتربت منه و ألقت بنفسها بين ذراعيه حتى ارتفع صوت ضحكاتهما سويًا و كأنهما عاشقين في بداية حبهما.
_________________________
في شقة "حسن المهدي"....
كاد أن يخرج هو و أسرته للخارج لكنه تفاجأ بالمطر و بتلك الأجواء الأوروبية التي غزت وقتهم فجأةً، فوقف في المنتصف بقلة حيلة يطالعهم بيأسٍ، بينما هم ارتسمت على وجوههم خيبة الأمل و خصوصًا "فاطيما" التي قالت بضجرٍ:
"يعني كدا مش هنخرج ؟! إيه الظلم دا بقى ؟! اتصرف يا بابا"
حرك كتفيه بقلة حيلة ثم أضاف:
"اتصرف أعمل إيه يا روح بابا ؟! انزل بيكم في الجو دا كدا و تتعبوا مني ؟! خلينا و أنا هعوضكم بكرة إن شاء الله"
تذمرت الصغيرة و ركضت نحو الأريكة تجلس عليها و قدر ظهر الحزن الجليِّ على وجهها، فنظر هو لـ "هدير" التي قلبت فمها للأسفل ثم قالت بنبرةٍ خافتة:
"اتصرف معاها"
زفر هو مستسلمًا ثم اقترب من الأريكة يجلس على ركبتيه مقابلًا لها ثم رسم إبتسامة على وجهه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"أنتِ إيه اللي مزعلك ؟! مش لو خرجنا كنا هنكون سوا ؟! أدينا سوا أهوه"
ردت عليه بحنقٍ:
"بس أنا كنت عاوزة أخرج"
أمسك كفيها بين راحتيه و هو يقول بنبرةٍ رخيمة:
"و الدنيا بتمطر و كل حاجة هتقفل أهوه، انزل احتاس بيكم يعني ؟! بعدين دا أنا حسن حبيبك، هتبوزي في وشي كدا ؟!"
حركت رأسها نفيًا ثم ابتسمت له فقال هو بمشاكسىةٍ:
"طب إيه يثبت إنك مش زعلانة؟"
ارتمت عليه و هي تقول بحماسٍ و بنبرةٍ مرحة:
"احـضني يا حسن"
ضحك هو بصوتٍ عالٍ و هو يلف ذراعيه عليها، ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"عيون حسن و عمر حسن كله"
ابتعدت عنه تقول بسرعةٍ كبرى:
"يبقى تسمع كلامي و اللي اقولك عليه نعمله، ماشي ؟!"
حرك رأسه موافقًا فركضت هي نحو "علي" تمسك يده و هي تسحبه معها نحو الداخل، فزفر "حسن" براحةٍ، فرفعت "هدير" حاجبيها مستنكرةً، حينها قال هو بسخريةٍ:
"آه....صالحنا الحتة الصغيرة، نروح للحتة الكبيرة"
اقترب من زوجته يسألها بتهكمٍ:
"زعلانة ليه يا حلوة الملامح ؟!"
ردت عليه بلامبالاةٍ:
"لا زعلانة و لا حاجة، أنتَ اللي بيتهيألك، سلامة الشوف يا أبو علي"
رد عليها بتهكمٍ:
"الله يسلمك يا ختي، بس افردي وشك بدل ما أفرده بطريقتي"
_"وريني هتعمل إيه"
قالتها بسخطٍ فاقترب منها هو بخبثٍ ثم طوقها بذراعيه و هو يقول بنبرةٍ خافتة:
"هحضنك، هعمل إيه يعني ؟!"
ابتسمت رغمًا عنها فسألها هو بقلة حيلة:
"مالك يا بومة، مكشرة في وشي ليه، هو أنا عملت حاجة ؟!"
ردت عليه بضجرٍ:
"علشان مبقتش بتقعد معانا، بتيجي من الشغل تاكل و تنام و لو قعدت معانا شوية، فاطيما بتاخدك فيهم، و بكرة هتخترع مليون حاجة تخليك تشتغل، لو إحنا خنقناك عرفني علشان اتصرف"
عقد ما بين حاجبيه و هو يردد خلفها مستنكرًا ما تفوهت به:
"تتصرفي ؟! هتتصرفي ازاي يعني"
حركت كتفيها و هي تقول بغموضٍ:
"هتعرف لوحدك، أصل دي حاجات متتقلش يا أبو علي"
اتسعت عينيه بفزعٍ و حينما أدرك مقصد حديثها الغامض قال مسرعًا بلهفةٍ:
"يا شيخة ربنا ياخد اللي يزعلك، و بعدين عيب احنا ناس محترمة بنقدم خدمات محترمة لـلزباين بتوعنا، عيب يا ست"
ربتت على كتفه ثم ابتسمت له بسخافةٍ و تحركت من أمامه تدخل للأبنائها، فيما وقف هو ينظر في أثرها بتعجبٍ سرعان ما تحول إلى الغموض.
دلفت "هدير" للغرفة الخاصة بالجلوس المُصممة على هيئة الأفلام الكرتونية، وجدت "علي" يبحث عما ستتم مشاهدته، بينما الأخرى كانت تقوم بسكب المقرمشات و المقبلات في الأطباق، سألتهما "هدير" بتعجبٍ:
"أنتم بتعملوا إيه ؟!"
رد عليها "علي" بقلة حيلة:
"هنشغل فيلم كرتون و نقعد ناكل لب و فاكهة، هنعمل إيه يعني ؟!"
حركت رأسها موافقةً ثم قالت:
"طب أنا هدخل أغير هدومي و اقلع الخمار دا قبل ما يتبهدل"
تحركت هي نحو غرفتها، بينما انتظر "حسن" خروجها كي يدلف الغرفة، دلف ثم قال بلهفةٍ لأبنائه:
"بقولكم إيه ؟! ما تيجوا معايا نعمل سندوتشات علشان أنا جعان و أمكم فاشلة مطبختش"
رد عليه "علي" مسرعًا يدافع عن والدته:
"على فكرة ماما مش فاشلة، بس أنتَ اللي قولتلها متعملش أكل علشان هناكل برة، بلاش ظلم"
رفع "حسن" حاجبيه و هو يردد بسخريةٍ:
"ظلم !! و حياة أمك يا علي ؟!"
ابتسم له "علي" فزفر "حسن" ثم فرك وجهه بكفيه معًا و قال بنفاذ صبر:
"خلصوا هتساعدوني ولا لأ ؟!"
تحركت "فاطيما" ركضًا نحوه و لحقها "علي" ثم توجهوا ثلاثتهم نحو المطبخ.
خرجت "هدير" من غرفتها تتوجه نحو الغرفة؛ فوجدتها فارغةً منهم، عقدت ما بين حاجبيها ثم توجهت نحو مصدر الصوت، لتجدهم بالمطبخ يجلسون سويًا، و قد كانت "فاطيما" تجلس على الطاولة الخشبية في المطبخ تهز قدميها و "حسن" يقف أمامها يناولها الطعام داخل فمها و هي تتناوله منه بدلالٍ.
كان "علي" يقوم بفتح الشطائر و يقوم بوضع بعض المكونات بها و "حسن" يعاونه، لكن في الأغلب كان يُطعم صغيرته المُدللة الطعام التي كانت تبتسم بغرورٍ، حتى سألتهم "هدير" بتعجبٍ:
"انتوا بتعملوا إيه ؟!"
التفت لها "حسن" يقول بلامبالاةٍ:
"بنعمل أكل، جعانين ياما"
حركت رأسها موافقةً ثم اقتربت منهم تسألهم:
"طب عاوزين مساعدة ؟!"
قبل أن ينطق أيًا من الصغيرين، اوقفهما "حسن" يقول بلهفةٍ:
"آه....هاتيلنا مخلل من التلاجة و قطعيلنا خيار أو اعملي شوية سلطة صغيرين"
حركت رأسها موافقةً فيما تحدث هو بحماسٍ للصغيرين:
"علي، خد فاطيما و روحوا جهزوا الترابيزة يلا علشان ناكل عليها، و جهز الفيلم"
حرك رأسه موافقًا ثم أمسك كف شقيقته التي قبلت "حسن" قبل أن تخرج من المطبخ، وقف هو يتنهد بعمقٍ ثم ظهر في نظراته الخبث و هو يرمق "هدير" التي اقتربت من الطاولة الرخامية تضع عليها ما تمسكه في يدها و تجاهلت وجوده و انشغلت بتجهيز ما طلبه هو منها، بينما هو انتظرها حتى اقتربت من الطاولة الرخامية ثم وقف خلفها و طوق خصرها بذراعيه ثم أسند ذقنه على كتفها حتى ابتسمت هى تلقائيًا لتلك الحركة ثم دارت برأسها حتى تواجهه، ثم قالت بنبرةٍ صبغتها بالجمود:
"نعم ؟! خير يا أستاذ حسن ؟!"
رد عليها بنبرةٍ خافتة بعدما ابتسمت:
"أستاذ حسن ؟! يخربيت أبو حسن علشان زعلك يا شيخة، دا أنتِ قلبك أسود أوي"
حركت رأسها موافقةً و قبل أن تنطق مُحتجة عليه وجدته يقول بنبرةٍ هادئة بعدما قربها منه أكثر:
"بعدين أنا قولتلك احنا ناس بنفهم و بندلع زباينا و أنتِ أهم زبونة عندنا"
_"لأ يا شيخ ؟!"
قالتها باستنكارٍ و تهكمٍ، فيما أضاف هو مُجددًا:
"و الله، و بعدين بما أني ابن سوق و فاهم، عندنا قانون بيقول إن الزبون دايمًا على حق، و أنتِ معاكِ كل الحق فيا"
ابتسمت بسمتها الهادئة و سألته:
"بجد ؟!"
_"والله بجد، أنتِ ليكِ حق فيا أكتر من نفسي، ازعلك إزاي يا حلوة الملامح ؟!"
ضحكت بفرحٍ مثل الصغار بينما هو قبل رأسها ثم قربها منه حتى تضع رأسها على كتفه و قال بنبرةٍ رخيمة:
"أنا لو قصرت مع نفسي و الدنيا كلها بس أنتِ مينفعش أكون معاكِ كدا، حقك عليا أنا"
ابتسمت هي بفرحةٍ ثم التفتت حتى تقوم بتكملة ما كانت تفعله، بينما وقف هو خلفها يمسك كفيها و يحركهما و حينما نظرت له بتعجبٍ، أضاف هو مُفسرًا:
"هساعدك....دي فرصة حلوة أهوه مش هتتكرر، حسن المهدي بقى طباخ على إيديكم، دُنيا"
قبل أن تنطق هي دلفت "فاطيما" تقول بحنقٍ تحتج على عدم مجيئهما:
"كل دا !! أنا جوعت و الفيلم علي عاوز يشغله"
اقترب منها "حسن" يضعها على كتفيه ثم قال أمرًا لزوجته بعدما ألبس حديثه وشاح الجدية:
"يلا يا هدير بطلي دلع، عاوزين ناكل، حصلينا يلا"
خرج من المطبخ بعد حديثه و ابنته على كتفيه تهز قدميها بينما "هدير" نظرت في أثرهما و قالت بغموضٍ:
"حرباية صغيرة و اللي قاهرني مش هقدر أتكلم، ماهو أنا أمها"
بعد مرور دقائق دلفت لهم الغرفة تحمل الأطباق في يدها فوجدتهم يرتصون على الأريكة بجوار بعضهم و مكانها فارغًا بجواره، اقتربت منهم تقفز على الأريكة فتأوه "حسن" بصوتٍ عالٍ ثم قال:
"إيه دا يا ست !! بتنطي على دبابة ؟! دي كنبة يتيمة"
ابتسمت هي و بررت له موقفها بقولها:
"ما صدقت لقيت مكاني فاضي، يلا يا علي شغل الفيلم يا حبيب ماما"
قام "علي" بالضغط على زر التشغيل فقالت "فاطيما" بضجرٍ:
"هو إحنا مش ورانا غير الجميلة و الوحش ؟! أنا تعبت منه"
نظر "حسن" إلى "هدير" و ابتسامة هادئة تُزين ثغره، فوجدها تبتسم هي الأخرى، حينها قال بنبرةٍ هادئة:
"معلش...أصل الجميلة حبت الوحش...."
توقف عن التكملة ثم مال على أذن زوجته يقول هامسًا بنبرةٍ هادئة:
"و هدير حبت حسن"
انفلتت ضحكة خافتة من بين شفتيها بينما هو قام بالاعتدال في جلسته حيث كان في المنتصف و على يساره "هدير" و على يمينه "فاطيما" و يجاورها "علي" فقام "حسن" بفرد الغطاء عليهم جميعًا ثم قام بتقليل الإضاءة إلى أخرى خافتة ثم أطمئن بنظره عليهم و فرد ذراعيه يضمهم إليه حتى أخذت "فاطيما" الشطيرة الخاصة به تعطيها له حتى يأكل و كذلك أعطت الباقي تزامنًا مع بداية الفيلم الكرتوني، و كذلك "هدير" التي جلست تتابع الفيلم بنظراتٍ ثاقبة بكامل تركيزها.
نظر "حسن" للشطيرة في يده بتعجبٍ ثم وزع نظراته لهم من جديد، لازال لا يصدق أن بيته أصبح هكذا، زالت عتمته و حل محلها الضوء، و راح صمته و باتت أصوات المرح تُخيم على أرجائه، تلاشت وحدته و ظهر مكانها الونس، أكثر الأماكن التي كرهها، بات الآن كنفه الآمن، حيث الهروب من بشاعة العالم للدفء وسطهم، تنهد هو بعمقٍ فسأله "علي" حينما انتبه لشروده:
"مش بتاكل ليه يا بابا ؟! الأكل مش عاجبك ؟! سرحان في إيه"
رد عليه "حسن" مبتسمًا:
"لأ الأكل زي الفل يا علي تسلم ايدك يا غالي، سرحت شوية بس"
سألته "فاطيما" بسرعةٍ:
"سرحت في مين ؟!"
وزع انظاره من جديد على الثلاثة الذين يترقبون إجابته و خصيصًا زوجته، و عند رؤيته لفضولها قال بصوتٍ رخيم:
"هيكون في مين يعني ؟! فيكم يا ونس العمر"
زفروا بارتياحٍ شديد، فيما قال "علي" بنبرةٍ هادئة:
"ربنا يخليك لينا طول العمر يارب يا بابا ؟!"
تحدثت "فاطيما" هي الأخرى:
"يارب تفضل علطول معايا و تجيبلي كل الحاجات الحلوة اللي عاوزاها يا بابا"
ضحك هو بصوتٍ عالٍ ثم احتضنها بين ذراعيه و سرعان ما ترددت الكلمة على سمعه، فرددها هو مستنكرًا:
"بابا! هي العيال دي جت امتى؟"
_________________________
في شقة "رياض" أغلقوا الشُرفات و الأبواب حتى تتم تدفئة المكان، ثم جلسوا على الطاولة يتناولون الطعام جميعهم في جو المرح و المشاكسات حتى نطق "رياض" يحذر الصغار:
"بقولكم إيه كل واحد يخلص طبقه و النايب بتاعه، مش عاوز دلع، ماشي ؟!"
حرك الثلاثة رأسهم بموافقةٍ فوجه حديثه لـ "خديجة" و هو يقول بثباتٍ:
"و حضرتك طبعًا مش لازم آكد عليكِ، عمالة تخسي و شكلك ضعف"
ردت عليه "خديجة" بنبرةٍ خافتة:
"باكل والله بس جريي وراهم هو اللي مخسسني، اتطمن يا بابا"
نظر لـ "ياسين" و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"و الاستاذ ياسين برضه كُل علشان تقدر تدي العيال دي حقوقهم، كلوا يا جدعان متزهقونيش"
تحدثت "زهرة" بضجرٍ:
"اقسملك بالله ما في حد هيزهقنا غيرك أنتَ، كُل يا سيدي و سيبنا ناكل احنا بقى"
ابتسم لها باستفزازٍ، بينما قالت "نغم" بنبرةٍ هادئة:
"إحنا هناكل لما حضرتك تاكل....بس تقعد معانا و نغني كلنا إيه رأيك ؟!"
اقترب منها يقبل وجنتها ثم قال بحماسٍ:
"بس كدا ؟! نغومة تؤمر و رياض ينفذ علطول من غير تفكير هو أنا عندي أعز منكم ؟!"
**************
بعد مرور بعض الوقت من تناولهم للطعام جلسوا جميعًا في غرفة الجلوس بجوار بعضهم و قد قام "ياسين" بتشغيل المدفأة و جلس بجوار زوجته و "زهرة" بينما "رياض" أخذ الثلاثة بين ذراعيه، حتى سألته "جاسمين" بمرحٍ:
"هنعمل إيه بقى ؟!"
قبلها على رأسها ثم قال بمرحٍ:
"هنغني و نفرح و نلعب كلنا، بما إن المطرة مكملة برة كدا"
صفقت بكفيها معًا فقال هو:
"ها حفظتوا إيه بقى ؟! اوعوا الواد ياسين يكون بوظ ذوقكم في الأغاني ؟!"
رد عليه "ياسين" بفخرٍ:
"لأ والله خالص، طب سمعوا جدو يا عيال أنا حفظتكم إيه ؟"
رفع "ياسين" رأسه بشموخ يستمع لكلمات أبنائه التي وصلت لأذانه بسرعةٍ كبرى و هي:
"أديني حب أكتر....أديك الشوق يا سكر....أديني حب أكتر أديك الشوق يا سكر....الجو هادي خالـ...."
قبل أن يكملوا الغناء تلاشت البسمة من وجوه الحاضرين و سعل "ياسين" عدة مرات متلاحقة و "خديجة" تربت على ظهره و هي تحاول كتم ضحكتها، فيما سأله "رياض" بتهكمٍ:
"إيه دا ؟! إيه دا يا روح أبوك؟"
رد عليه "ياسين" بنبرةٍ مهتزة:
"مش أنا والله، معرفهمش، غني عدل ياض منك ليها بدل ما أطلع جناني عليكم"
زفر الثلاثة بضيقٍ ثم أعادوا الغناء من جديد بقولهم:
"في الأول جرجرتك....من خيبتك خدرتك.....في الأولـ....."
اندفع "ياسين" نحوهم يحاول الإمساك بهم، لكنهم اختبئوا في جسد "رياض" و هو يُضلل عليهم بذراعيه وسط صرخاتهم العالية، فقالت "زهرة" بنبرةٍ ضاحكة:
"على الله تمد إيدك على حد منهم، مالكش دعوة بيهم، فاهم ؟!"
ضيق جفناه ثم قال بغموضٍ:
"ماشي....ماشي يا صيع، لينا بيت يلمنا حاضر، و خصوصًا أنتِ يا برص يا صغير"
وجه حديثه لـ "جاسمين" التي راقصت له حاجبيها و هي تتشبث بوالده، بينما قال "رياض" بسخريةٍ:
"و هما هيعرفوا الأغاني دي منين يا هندسة ؟! أكيد دا ذوقك المنحدر"
رد عليه "يزن" مسرعًا:
"لأ والله يا جدو، عرفناهم من مازن و زياد لما بنروح هناك بنشغلها و نرقص سوا كلنا"
سألته "نغم" بهدوء:
"طب هنغني إيه يا جدو ؟!"
فكر قليلًا بعد سؤالها ثم جاوبها بنبرةٍ هادئة:
"بصوا، إحنا نمشيها نظام لعبة، يعني كل واحد فينا يفكر في حد و يقوله أغنية، تمام، و أنا اللي هسأل، ولا اقولكم ؟! أنا هخلي كل واحد فيكم يقول أغنية لواحد تاني، تمام ؟!"
حركوا رأسهم بموافقةٍ فقال "رياض" لزوجته بنبرةٍ هادئة:
"يلا يا زهرة دورك، غنيلي و لا علشان متبقاش كوسة، يبقى نخليها لخديجة، هتدي خديجة أغنية إيه ؟!"
ابتسمت "خديجة" بخجلٍ لها بينما "زهرة" تابعتها بنظرها و تلقائيًا ابتسمت لبرائتها ثم قالت بحماسٍ:
"الأغنية اللي كانت بتيجي على النت دي و كنت بشوفها، استنى"
سكتت عن الحديث ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
"بالصدفة تقابل بنت جميلة و تخطف قلبك خطف، من نظرة تشقلب كلّ حياتك قبل ما تنطق حرف......بحس خديجة كدا بنوتة جميلة جميلة بس سبحان الله تشد كل القلوب قبل العيون، مأظنش فيه حد شافها و محبهاش"
لمعت العبرات في عينيها فرفعت أناملها تمسحها، فقال "رياض" بتهكمٍ زائف:
"نكدتي على البت و على أبونا، ارتاحتي يا زهرة ؟! طيب"
ردت عليها "خديجة" بنبرةٍ مختنقة:
"شكرًا يا ماما، ربنا يعلم غلاوتك عندي نفس غلاوة ماما بالظبط"
ردت عليها "زهرة" بنبرةٍ هادئة:
"أنا عمري ما هنسى إنك كنتي لسه والدة يزن و جاسمين و وقفتي معايا في عمليتي و شيلتيني و مكنتيش بتروحي و كمان مراعية ابني و عياله التلاتة، يمكن ربنا مكرمنيش ببنوتة، بس رزقني بيكِ، مين عالم مش يمكن تكون بنت قليها قاسي عليا ؟!"
اقتربت منها "خديجة" تقول بنبرةٍ هادئة:
"اللي عملته دا واجبي و حقك عليا، أنا معملتش حاجة اتفضل عليكِ بيها، أي بنت اصول مكاني كانت هتعمل كدا، و بعدين إيه زي بنتك دي، مش بنتك أنا و لا إيه ؟!"
احتضنتها "زهرة" بقوة و هي تقول بحماسٍ:
"من غير ما تقولي بنتي و حبيبتي كمان"
ابتسمت "خديجة" لها ثم وضعت رأسها على صدرها و هي تبتسم بينما "ياسين" نظر لهما بحبٍ يفيض من عينيه لهما.
تحدث "رياض" بضجرٍ زائفٍ:
"طب علشان نقطع وصلة النكد دي، أنا هدي زهرة أغنية و هقولها اتقي ربنا فيا و بزيادة حس بيا"
ضحك عليه الجميع فيما رفعت "زهرة" حاجبيها فتحدث "ياسين" مسرعًا:
"طب بالله عليك !! هي اللي تتقي ربنا ؟! دي الست قربت تهاجر مننا حرام عليك"
نظر له "رياض" بسخريةٍ فقالت "جاسمين" بضجرٍ:
"خلصونا !! هنغني ولا ندخل ننام الجو ساقعة أوي"
وكزها "ياسين" في قدمها ثم قال بقلة حيلة:
"هنغني ياختي عقبال ما نغنيلك في فرحك و نخلص"
_"يارب يا خويا"
قالتها بنفس طريقته حتى أوشك على الفتك بها لكنه تذكر أنها تجلس بين ذراعي والده، لذا آثر الصمت على تلك "الدمية" الصغيرة، بينما "رياض" قال بنبرةٍ هادئة:
"يلا هنغني حاجة احنا حافظينها، بس هنسأل خديجة الأول، لو هتدي ياسين أغنية، تديله أغنية إيه ؟!"
نظرت له "خديجة" بخجلٍ من الموقف برمته لكنها استجمعت بعض الشجاعة و قالت بنبرةٍ هادئة تحاول اخفاء خجلها:
"ياللي ابتديت الحب معاك.....عمري الحقيقي ابتدا وياك....ياللي ابتديت الحب معاك....عمري الحقيقي ابتدا وياك"
ابتسم "ياسين" بسعادةٍ بالغة ظهر أثرها من خلال نظراته التي تعلقت بها، بينما بدأ "رياض" الغناء و هو يأمر البقية بمشاركته الغناء، حتى أيدوا قراره بالموافقة و بدأ هو الغناء و جميعهم يصفقون معه:
"ياللي ابتديت الحب معاك....عمري الحقيقي ابتدا وياك....ياللي ابتديت الحب معاك.....عمري الحقيقي ابتدا وياك...احلو....احلو....احلو....احلو...احلو....احلو....احلو عمري.....احلو عمري....احلو عمري في غمضة عين....لما اتقابلنا إحنا الاتنين.....احلو عمري في غمضة عين....لما اتقابلنا إحنا الاتنين..."
كانوا جميعهم يتشاركون الغناء و هم ينظرون لبعضهم و معهم الصغار بصوتهم الهاديء و قد بدت عليهم الموهبة منذ صغرهم، فاسترسلوا في الغناء بنفس الهدوء:
"و بعد أول لُقا علطول....لقتني من أشواقي بقول....لا حد بعدك يملى عيوني....و لا حب غير حبك يرضيني....لا حد بعدك يملى عيوني.... و لا حب غير حبك يرضيني....ياللي ابتديت الحب معاك....عمري الحقيقي ابتدا ويــاك"
صفقوا بعد نهاية الأغنية ثم عادوا للغناء بأغنيات مختلفة في تلك الجلسة الممتعة، بينما "رياض" وزع انظاره على الجميع يشعر بسعادةٍ غريبة عليه كليًا وسطهم خصيصًا أن أسرته كانت ضئيلة الحجم، و الآن زادت و زادت معها السعادة.
_________________________
في شقة "أحمد الرشيد"
كانت صغيرته "ليلىٰ" تأنِ من كثرة التعب و الوخز في جسدها بسبب حرارتها المرتفعة، بينما "أحمد" كان جالسًا على فراشها و هو يحتضنها بين ذراعيه و يمسد بكفه على وجنتها و هي ترتجف بسبب بكائها، اخفض رأسه يسألها بنبرةٍ هادئة:
"لسه تعبانة ؟!"
حركت رأسها موافقةً بوهنٍ، بينما هو تابع قسمات وجهها فوجد اللون الأحمر يغزو وجهها و السخونة الشديدة تبدو عليها و خاصةً من خلال نظراتها الزائغة و الدموع التي تلمع في محجريهما بدون سبب، تنهد هو بثقلٍ ثم قال بصوته الرخيم:
"مش ليلى حبيبة بابا ؟! و بتسمع الكلام ؟! و اتفقنا سوا أنها تاخد العلاج علشان تخف ؟! تيجي ناخد العلاج أنا و أنتِ؟"
حركت رأسها نفيًا و هي تبكي ثم أشارت على موضع رأسها حيث مكان الآلم، بينما هو تنهد بثقلٍ لا يعلم ماذا يفعل معها، و إذ به تفاجأ بـ "سلمى" تقترب منهما و في يدها الدواء ثم جلست على ركبتيها أمام الصغيرة و هي تقول بنبرةٍ هادئة:
"علشان خاطري خدي العلاج طيب و أنا مش هديهولك تاني، علشان بابا ميروحش يديكِ حقنة، ماشي ؟! و بابا هياخد العلاج معاكِ، يلا علشان تلعبي تاني معاهم"
نظرت لوالدها بضياعٍ فقبلها على وجنتها ثم داعب خصلاتها الملساء و هو يحرك رأسه موافقًا، اقتربت من والدتها تفتح فمها لها بخوفٍ و اضطراب من مذاق الدواء، بينما "سلمى" ابتسمت لها ثم أعطتها الدواء بلطف و هدوء و "أحمد" رفع رأسها للخلف حتى لا تتقيأ الدواء كعادتها.
انتظر حتى ابتعلت الدواء و ظهرت بوادر البكاء عليها لذا انتفض واقفًا من على المقعد ثم دار بها في الغرفة يمسد بكفه على ظهرها حتى أمسكت الدُمية الخاصة بها حينما اقترب "أحمد" من الرَف، أمسكتها بيدها ثم وضعت رأسها على كتفه و كفها الأخر كانت تحركه على ذقنه بنعومة كالحرير.
تابعتهما "سلمى" بأنظارها و البسمة الهادئة تزين وجهها، لم تصدق أنه يحصل على الأمتياز في كل الادوار التي واجهها، لم تصدق "سلمى" أن "أحمد" ينجح في دور الأب بتلك الطريقة، أحيانًا تشعر أنه الأب لها و لابنتها، لاحظ هو نظراتها الموجهة نحوه، فسألها بتريثٍ خبيث:
"عينك الله يعينك، هتاكلينا يا ست أنا و بنتي"
ابتسمت له ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
"ياريت أعرف آكلكم، مقطقطين أوي سوا، بس أنا كنت سرحانة فيك"
اقترب منها يجلس مقابلًا لها و ابنته على ذراعه تمسك دُميتها و تلعب بها، فيما سألها بكامل تركيزه:
"سرحانة فيا أنا ؟! ليه ؟!"
ردت عليه بوجهٍ مُبتسمٍ:
"منكرش أني كنت ساعات بخاف منك إنك تطلع مش قد المسئولية، و ساعات كنت بقول إنك أكيد هتزهق، بس طلعت سوسة و شاطر في كل الأدوار، سواء الصاحب أو الزوج أو الأخ أو الحبيب، بس أكتر حاجة فاجئتني علاقتك بـ ليلى"
داعب هو وجنة الصغيرة ثم تنهد بعمقٍ و قال بنبرةٍ هادئة:
"الفكرة أني عمري ما اتخيلت نفسي كدا، بس أنا فاكر حسن و وليد قالولي إيه كويس، قالولي إن اللي خربها و عاشها طول و عرض لما تجيله فرصة يثبت نفسه، هيمسك فيها، و آه أنا خربت الدنيا خروج و سهر و سفر، و حاجات أنا بنسى أني عملتها، منكرش ساعات بفكر هل هقدر أكمل كدا و لا هييجي يوم و أزهق، بس لما بركز بلاقيها سنة الحياة، مشوار اتكتب علينا كدا بكل حاجة فيه، و الله اللي عاوز يعيشه بمزاجه حلو و يشوفه فرصة، هيقدر يعمل كدا، و اللي عاوز يندب حظه و يعيش نفسه في هم و غم هيعمل كدا بسهولة"
عقدت ما بين حاجبيها و لم تفهم مقصده فسألته عن حديثه و أجابها هو مفسرًا:
"يعني أنا لو عاوز أشيل نفسي فوق طاقتها هفضل أقول أنا اللي عملت كدا و أنا اللي اتجوزت بدري و أنا و أنا....و حاجات كتير أشيل نفسي الهم بيها، بس في نفس الوقت أنا أقدر أشوف الحلو و أتمتع بيه، زي أني معايا واحدة بنت حلال و بحبها و عمرها ما قصرت معايا حتى لو زعلنا مع بعض، و معايا بنت و غيري بيتمنى النعمة دي، يبقى ليه انكد على نفسي في حاجة ربنا كتبهالي أصلًا و شايلي رزقي ؟! إحنا ليه بنحارب في حاجة أصلًا بيد ربنا و ما علينا غير اننا نسعى علشان نستحقها ؟! اللي يفهم الدنيا صح، هيعرف إن ساعات الراحة بتكون في التعب نفسه، و أنا راحتي كلها في تعبي علشانكم أنتم"
دون أن تتحدث اقتربت منه تضع رأسها على صدره و هي تتنهد بعمقٍ فحركت "ليلى" كفها تمسد على رأسها ثم سألته بنبرةٍ خافتة:
"هي ماما واوا ؟!"
حرك رأسه موافقًا و هو يجاري الصغيرة التي مدت يدها بدميتها لوالدتها حتى تؤازرها، فرفعت "سلمى" رأسها بسرعةٍ كبرىٰ و حينما رآت نظرات الصغيرة حملتها على ذراعيها تقبلها ثم شددت عناقها لها، بينما "أحمد" تحرك نحو الفراش يجلس عليه و عينيه تتابعهما و البسمة الهادئة تزين ثغره، لم ينسى أن هناك أوقات مرت عليهما عصيبة و خصيصًا في فترات دراسة زوجته لكن كليهما تحمل و أصر على التمسك بالأخر.
أرجع رأسه على الوسادة حتى نام مكانه دون أن يشعر بذلك، بينما "سلمى" حملت ابنتها و اقتربت منه تجلس بجواره و وضعت ابنتها في المنتصف بينهما، ثم فردت ذراعها تحاوطهما و كأنها تحميهما من التعب، خاصةً أن "أحمد" ظهر عليه بوادر التعب، أما هي فاعتادت تخبئة خوفها و قلقها، لكن الآن تود البكاء خوفًا من أي أذى قد يلحق بهما، مسحت دموعها ثم قالت بنبرةٍ خافتة:
"ربنا يخليكم ليا يا رب"
_________________________
استمر الليل في السير حتى وصلنا بعد منتصفه، كان "ياسين" جالسًا على فراشه في غرفته بشقة والده و "خديجة" على الأريكة تقوم بصنع شيئًا ما، أما هو فكان يتابع هاتفه و يهاتف أصدقائه، بينما أولاده في الغرفة التي خصصها لهم "رياض" و قام بتجهيز كافة الأشياء التي قد يحتاجونها.
تنهدت "خديجة" بعمقٍ ثم اقتربت منه و هي تبتسم له بتوترٍ فسألها هو بتشككٍ:
"خير شكلك عاوزة تقولي حاجة !! و شكلك متوترة"
حركت رأسها موافقةً ثم قالت:
"بص !! هما ٣ حاجات فأنا هأمن نفسي و أبدأ باللي يعصبوك و بعدها أختم باللي يفرحوك، تمام؟"
حرك رأسه موافقًا و لازالت عينيه مُثبتتين عليها، فتنهدت بعمقٍ ثم قالت بصوتٍ مهتز:
"بابا عازمنا يوم السبت بتاع بكرة دا، كان المفروض يعزمنا يوم الجمعة بس اتفاجأ بخلود عند عمو فهمي و احنا هنا، و هو كان عامل حسابه و أنا اتهورت معاه و قولتله اننا هنروح يوم السبت"
زفر هو مستسلمًا ثم قال بسخريةٍ:
"يعني زي ما روحنا عند جدو رياض هنروح عند جدو طه ؟! و دي علقة محترمة يومين ورا بعض، بس مش مشكلة"
ردت عليه بحذرٍ:
"لأ ماهو دي مش المشكلة، المشكلة في حتة تانية خالص"
طالعها بتعجبٍ فوجدها تقول بلهفةٍ:
"بص العقبة جاية أهييه، إحنا هنبات هناك مع بعض، احنا و خلود و أحمد و المفروض عمار"
_"نبات فين يا أختي ؟!"
سألها مستنكرًا بنبرةٍ جامدة فقالت هي بتوترٍ:
"يوم الجمعة بليل اللي هو بكرة هنروح عند بابا نبات هناك و نقضي السبت مع بعض، أنا واقعة في ورطة والله و أنا وعدت بابا أني هعمل كدا"
زفر هو بقوةٍ ثم سألها بجمود:
"خديجة أنتِ بتدبسينا ؟! طب افرضي مثلًا عندي شغل و لا مش هعرف أروح يبقى الحل إيه ؟!"
ردت عليه بقلة حيلة:
"أعمل إيه طيب ؟! لقيته متعشم أوي و نفسه يجمعنا و معانا خلود و هي عروسة، قولتله أنا هتصرف، و كان غرضي أهون عليه، متزودش ضيقي بقى"
مسح وجهه بكفيه معًا ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"ماشي يا خديجة، بكرة بعد الغدا هنمشي و أروح اوصلكم حاضر"
سألته بحذرٍ:
"بجد ؟! يعني مش هتديني دروس في كيفية التعامل ؟!"
طالعها بسخريةٍ و لم يعقب، فأضافت هي بنفس الحذر:
"طب ممكن أقولك على الحاجة التانية و اللي هي أصعب من اللي جاي كله ؟!"
سألها بفزعٍ من حديثها:
"هو لسه فيه أصعب من كدا ؟!"
حركت رأسها موافقةً ثم قالت:
"عاوزاك تقنع عمار علشان خلود خايفة تكلمه، بتقولي خايفة يحسبها غلط و يفتكر أنه ملزم يروح عندنا زي ما هي راحت عندهم"
ضرب وجهه بكفيه معًا ثم سألها بنبرةٍ جامدة:
"ثانية بقى !!! هو أنتِ قولتيلها تفاتحه في الموضوع أصلًا"
حركت رأسها موافقةً فأغمض عيناه بضجرٍ و قلة حيلة، بينما هي طالعته بحذرٍ لا تدري ماهو القادم.
*************
على الجهة الأخرى فاتحته "خلود" في الموضوع بحذرٍ و هي تتوقع منه الكثير، ربما يغضب و ربما يرفض و ربما يثور، لكنها تفاجئت به يتنهد بعمقٍ ثم سألها بنبرةٍ جامدة:
"و هو أنتِ خايفة تتكلمي معايا ليه ؟! هعضك مثلًا ؟!"
حركت رأسها نفيًا ثم قالت بنبرةٍ ثابتة:
"خوفت تفهم غلط يا عمار، خوفت تحسبها بحط عيلتك قصاد عيلتي و بصراحة لما حطيت نفسي مكانك فكرت فيها كدا، خوفت بقى أنتَ تفكر كدا بس أنا غصب عني اتفاجئت و حضرت حاجات كتير اقنعك بيها، بس أنا مش بعرف أخدع حد"
زفر هو بقوةٍ ثم سألها بتعجبٍ:
"هو أنتِ ليه بتخافي مني ؟! أنا عمري ما أفكر آذيكي حتى، ليه علطول بتفترضي فيا الوحش ؟"
ردت عليه مسرعةً تنفي التهمة عن نفسها:
"أنا مش بخاف منك و مش بفرض فيك السوء، بس ردود الأفعال بتختلف، و أنا معرفش أنتَ هتفكر إزاي في الموقف دا علشان كدا كلمتك و أنا خايفة، عاوز تشوفني وحشة، براحتك دي مش اول مرة يعني حد يشوفني شخص وحش"
زفر هو بقلة حيلة ثم جلس بجوارها يقول بنبرة هادئة:
"و أنا مش شايفك وحشة أبدًا، و مش فاهم أنتِ ليه يا خلود مصممة إنك مليانة عيوب و عمالة تزودي على نفسك هموم ملهاش أي لازمة، أنا متفاجيء من طريقة كلامك اكتر من الموقف نفسه، بتكلميني و كأني و اقفلك بالحزام مثلًا، بتحسسيني بالذنب في حاجة مليش علاقة بيها"
نزلت دموعها فورًا و هي تقول بصوتٍ مختنقٍ:
"أنا أسفة والله بس أنا اتصرفت بناءًا على تفكيري و على كلام خديجة، مش قصدي أقول إنك وحش أو بتخوفني، بس أنا خوفت تفتكر أني جيت و ساعدت مامتك علشان تروح معايا عند بابا و ماما"
زفر هو بقلة حيلة ثم رفع ذراعه يضمها إليه و يربت عليها بحنوٍ بالغٍ، بكت هي كعادتها ثم قالت بصوتٍ مختنقٍ:
"عارفة أني ممكن أكون ضايقتك، بس أنا غبية و متسرعة بس مش ظالمة، لو أنتَ زعلان قولي"
رد عليها بقلة حيلة:
"أنا مش زعلان منك بس زعلان علشان أنتِ مصممة تاخدينا في حتة كلها سدود و تتعاملي فيها، افترتضي أني هزعل و أني هلومك و اني وحش و دماغي بتفكر غلط، مع أني أطيب من كدا بكتير و لو كنتي كلمتيني من غير خوف كنت هقولك أني فرحان أني هروح معاكِ بصفتي جوزك و حبيبك و دي هتكون أول مرة ادخل بيتكم و أنا ليا كامل الحق فيه بعدما خدت حقي منه، أنتِ اللي غاوية نكد اعملك إيه ؟!"
مسحت دموعها ثم رفعت رأسها تطالعه بعينين دامعتين و هي تقول بصوتٍ متحشرجٍ:
"طب أقولك على حاجة ؟! أنا عمري ما عرفت أعيط قدام حد خالص، غير مرات قليلة اوي و عمري ما قدرت أقول أنا حاسة بأيه علشان علطول بيقولولي أني جامدة و مفيش حاجة بتهمني و أني قوية، بس....."
توقفت عن الحديث و أخفضت رأسها للأسفل فرفع وجهها بكفه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"اتكلمي.... أنا معاكِ و سامعك"
تنفست بعمقٍ ثم قالت بنفس الصوت المختنق:
"بس معاك كل حاجة مختلفة، حاسة إن فيه خلود تانية أنا ماكنتش أعرف حاجة عنها جوايا، خلود بتحس و تقدر و كمان عندها استعداد تعيط و تشارك اللي قدامها كل حاجة، بس دا معاك أنتَ بس، لكن حد تاني مش بعرف، علشان كدا بكون خايفة بحركة غباء مني أخسرك، و أنا يعز عليا و على قلبي خسارتك"
تنهد "عمار" بعمقٍ ثم جلس أمامها على ركبتيه يحتضن كفيها بين كفيه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"و أنا عليا أني أفضل ماسك فيكِ و مخسركيش أبدًا، دوري أني أطمنك و أكون معاكِ دايمًا، صحيح مش علطول هيكون نفس رد فعلي ثابت، بس أنا هحاول علطول أني أحطك قدام كل حاجة، لو فعلًا عاوزانا نكون صحاب مش مجرد اتنين متجوزين و خلاص، يبقى تكلميني بصراحة و من غير فروض و لا خوف الدنيا بسيطة بس احنا بنصعبها على نفسنا، مش كدا يا....يا سكر ؟!"
قال كلمته الأخيرة بمزاحٍ جعلها تضحك رغمًا عنها ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
"كدا يا....يا لوز"
اعتدل في وقفته فوجد هاتفه يصدح برقم "ياسين"، عقد ما بين حاجبيه و هو يقول بتعجبٍ:
"ياسين !! غريبة بيكلمني دلوقتي ليه ؟!"
ردت عليه بتوترٍ:
"علشان يقنعك بالعزومة و يقولك على موضوع البيات كمان"
ردد خلفها مستنكرًا:
"يقنعني ؟! هو أنا اتفضحت خلاص ؟! روحي ربنا يسترك"
حاولت كتم ضحكتها فيما تحرك هو نحو شرفته يتحدث في الهاتف و بعد مرور ثوانٍ قليلة عاد لها من جديد و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"بكرة بعد الغدا إن شاء الله هنروح عند باباكِ، حاجة تاني ؟!"
حركت رأسها نفيًا فوجدته يقترب من الفراش و يستعد للنوم، فسألته بنبرةٍ جامدة:
"هو أنتَ هتنام و تسيبني ؟!"
حرك رأسه موافقًا فوجدها تقفز بجواره و هي تقول بلهفةٍ:
"لأ أنا مش هعرف أنام دلوقتي، علشان خاطري اقعد معايا و كلمني"
مسح وجهه بكفيه ثم تنهد بقوةٍ و فتح ذراعه حتى اقتربت منه تضع رأسها عليه براحةٍ فرفع كفه يُمسد على خصلاتها حتى سألته بتعجبٍ:
"عمار أنتَ بتعمل إيه ؟!"
_"بنيمك يا خلود، عاوز أنام ياما قبل الفجر علشان اعرف انزل أصلي، نامي بس ربنا يهديكِ"
كان ذلك حديثه الذي قاله بقلة حيلة فيما قالت هي بحماس:
"أقولك !! أحكيلي أي حاجة، أي حدوتة تخليني أنام، كدا أنا هنام أكيد"
تثاءب هو و وضع كفه على فمه ثم حرك رأسه موافقًا حتى وجدها تتشبث به بحماسٍ فطوقها هو بذراعيه ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"فيه مرة واحد كان غلبان أوي عمره ما كان ليه في أي حاجة في الدنيا، لو طال يمشي جوة الحيط كان هيعمل كدا، راح مرة مع أخوه علشان كتب كتابه و كان لسه عيل مراهق في تانية ثانوي، كان فاكرها مناسبة زي أي مناسبة عادية هتعدي و تخلص و يرجع عادي، بس اللي حصل خالف كل التوقعات"
توقف عن الحديث فوجدها ترفع رأسها و تسأله بلهفةٍ:
"إيه اللي حصل ؟! جراله حاجة؟"
حرك رأسه موافقًا ثم تابع حديثه:
"جراله حاجات كتير، طلت واحدة خدت قلبه من مكانه، كانت أول مرة هو يبص لحد و أول مرة عينه تتعلق كدا، لو قولنا إنه عمره ما بص لبنت، يبقى دي البنت الوحيدة اللي قدرت تخليه يخالف مبادئه، منسهاش، لسه فاكر كل تفصيلة فيها لحد دلوقتي، واحدة واحدة صاحبنا غرق فيها و بقى يدخل يشوف صورها و يبدأ يتابع تحركاتها، و الشيطان بدأ يلعب عليه لعبة صح، حلله الحرام في عنيه"
شهقت هي بخوفٍ و سألته بحذر:
"أوعى تقول إنه أذاها يا عمار ؟!"
اخفض بصره نحوها ثم حرك رأسه نفيًا بينما تنهدت هي براحةٍ فأضاف هو:
"جاله طوق نجاة على هيئة أخوه و قاله أنه حرام يبص في صورها و حرام يعلق نفسه بيها لأن سنه صغير، و لازم يركز في حاجة من الاتنين يا يبني نفسه و يتعلم علشانها، يا يسلم لشيطانه و يغويه و في كل الحالات تضيع منه، كان قدامه طريقين، واحد صعب أوي و التاني سهل، لو بصينا على النتايج هنلاقي إن السهل كان ممكن يوصله ليها و يخليها معاه، بس نهايته هتكون فراقها للأبد، و لو بصينا للصعب رغم أنه طريق طويل و مليان حواجز بس نهايته خير و أكيد جبر لقلبه، تفتكري هو أختار أنهي ؟!"
فكرت قليلًا ثم قالت بتشككٍ:
"حاسة إنه اختار الأسهل ؟!"
حرك رأسه نفيًا ثم قال ببسمةٍ هادئة:
"صاحبنا اختار الأصعب، اختار الفراق و البعد و اختار الغيبة، عمل كل حاجة تضمن أنها تكون ليه بس بحلال ربنا، كلم أخوها و كلم أخوها التاني و عرف أخواته علشان يتابعوه قبل ما يغلط، راح لشيخ في الجامع و سأله ازاي يحافظ على قلبه و على حبه، سلمها لله و طلب منه يحفظهاله، بقى يصلي قيام الليل علشان يدعيلها قبل ما يدعي لنفسه، خاف عليها تشيل ذنوب بسببه هو، عمل كل حاجة تخليه راجل يعتمد عليه إلا إنه يروح يكلمها من ورا أهلها، أو يخليها تغلط بسببه، صاحبنا دا حارب نفسه و رباها على الصبر علشان ينول الجبر"
تأثرت هي من حديثه و استنتجت أن القصة تخصهما سويًا، بينما هو تنهد بعمقٍ ثم أضاف:
"رغم نجاحه و تخرجه و فرحته بكل حاجة وصل ليها، بس لسه اليوم اللي قعد فيه قدام باباها يطلب إيديها متنساش و مراحش عن باله، مكانش مجرد واحد بيطلب الجواز، دا كان واحد بيسترد ضلعه من تاني، واحد كل ما يشوفها قصاده ما يصدقش نفسه و يردد حاجة واحدة بس"
رفعت رأسها من جديد تطالعه باستفسارٍ من خلال نظراتها فجاوبها هو بنبرةٍ هامسة:
"ألَّم تَكُن تِلكَ التيِّ تَمنَيْتُ فَقَط مُجاورَتُها و التَحدثُ مَعها ؟ هَا هِي لَـك و مَـعكَ و بِجِوَارَك و أصبحتْ دَارها هِي نَفسُها دَارَك"
تنهد هو بعمقٍ بينما هي أغمضت عيناها تَغُط في ثباتٍ عميق و أخر ما وصل لسمعها هي تلك الجملة التي حفظتها في قلبها قبل سمعها، تابعها هو حتى تنهد براحةٍ ثم رفع الغطاء يدثرها به جيدًا و يعدل وضع نومها بين ذراعيه و هو فقط يفكر في كيفية بثها الشعور بالاطمئنان لنفسها قبل الأخرين.
_________________________
أغلق "ياسين" الهاتف مع "عمار" ثم زفر براحةٍ حتى سألته "خديجة" بتوترٍ:
"ها قالك إيه ؟! اصدمني يلا"
رد عليها بقلة حيلة:
"مقالش حاجة الواد، طلع متفهم و مقدر و اتفاجيء انكم مكبرين الموضوع و ظنين فيه السوء"
تنهدت هي بعمقٍ و كأن هناك همًا أُزيح عن قلبها فقال "ياسين" بسخريةٍ:
"شوف ازاي ؟! تدبسنا و تورطنا و في الأخر تطلع منها زي الـ ٢٠ جنيه من المحفظة"
ردت عليه هي بحنقٍ:
"فيه إيه هي أول مرة يعني ؟؟ ما أنا علطول مدبساك، أعيش و أورطك و تعيش و تلم ورايا"
رفع حاجبيه و هو يقلد طريقة حديثها بقوله:
"تعيش و تلم ورايا..."
وكزته في كتفه فسألها هو بعدما تذكر بقية حديثها:
"خدي هنا !! كان فيه حاجة تانية قولتي انها هتفرحني، هتاكليها عليا يا كتكوتة ؟!"
حركت رأسها نفيًا ثم قالت بحماسٍ:
"لأ طبعًا، دا أنا عملاها مخصوص علشانك، غمض عينك بس"
رد عليها بخبثٍ:
"لأ بوسيني علطول مش لازم أغمض، أنا عادي يعني"
وكزته في كتفه و هي تقول بضجرٍ:
"اتلم أحسنلك !!"
اغمض عيناه بعدما زفر بقلة حيلة، فيما وضعت هي القماشة نصب عينيه ثم قالت بنبرة صوتٍ ظهرت بها البسمة:
"فـتـح يا مـهـلبـيـة"
قبل أن ينفذ ما تريد قال بقلة حيلة:
"والله العظيم ما هيوديني في داهية غير المهلبية بتاعتك دي"
قال حديثه ثم فتح عيناه حتى وقع بصره على تلك القماشة "الطارة" التي تميزت هي بصنعها، رفرف بأهدابه عدة مرات فسألته هي بحذرٍ:
"إيه رأيك فيها ؟! عجبتك ؟!"
خطفها من يدها يمرر أصابعه عليها حيث كانت القماشة باللون الأبيض و الخيط المستخدم باللون الأسود و معه بعض الألوان الأخرى منها اللون السماوي، أضافت عبارة في منتصف الطارة و أسفلها اسمه كما اعتادت كتابته دومًا و في الأسفل ثلاث زهرات باللون السماوي و أسفل كل زهرة حرف من حروف أبنائها.
مرر بصره عليها مرة و أخرى و أخرى و في كل مرة تأسره التفاصيل، وقع بصره على العبارة التي زينت الطارة في المنتصف فوجدها صعبة إلى حدٍ ما، لكنه جاهد لقراءتها و هي:
"كَيْفَ أَكُفُ عَن كَفَ مَن أَكفَاني في كَنفه كِفايةً، فمن الكِفاية كَفُكَ أكفاني و كَفاكَ"
قرأها بتلعثمٍ واضح التقطه هي و كتمت ضحكتها حتى لا تحرجه، بينما سألها هو بتعجبٍ:
"معلش يا ست الكل، أصل محسوبك طول عمره ساقط عربي و ماشي فيه بالزق، انزلي بالترجمة"
كتمت ضحكتها على سخريته ثم قالت مفسرةً بنبرةٍ ضاحكة:
"يعني ازاي الأيد اللي كفتني من حمايتها و كنفها ابعد عنها، علشان من كفاية العالم دا كله الايد دي كفتني و كفته معايا، معناها يعني إن أنا مش هبعد عنك"
ابتسم هو بسعادةٍ و أشرق وجهه في ثوانٍ و هو يتابع الطارة في يده، فأضافت هي من جديد:
"أنا حطيت ٣ وردات و كل وردة تحتها حرف من حروف ولادنا، حسيتها كدا أحسن، بس أنا علشان آخر حاجة عملتها كانت في ولادة يزن و جاسمين، قولت أني أول ما أرجع أعمل تاني يكون ليك أنتَ، بتفائل أوي"
قام هو بطي "الطارة" ثم وضعها في جيب سترته البيتية، ثم رفع ذراعه يضمها إليه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"ربنا يباركلي فيكِ و يقدرني و أفرحك علطول أو على الأقل أفضل أنا سبب راحتك، زي ما أنتِ علطول سبب راحتي كدا، شكرًا إنك علطول مخلياني مسنود عليكِ، أمي بقالها خمس سنين مش قادرة تنسى إنك شيلتيها و رفضتي أني أنا اساعدها، لحد دلوقتي أنا لسه مرديتش الدين دا ليكِ"
ابتعدت عنه تعاتبه بنظراتها و هي تقول بنبرةٍ هادئة:
"فيه واحدة بترد دين لبنتها ؟! و لا فيه واحد بيرد دين لمراته اللي المفروض أنها نصه التاني يا ياسين ؟! اللي عملته دا كان واجب عليا، هي قالتلي إني بنتها و أنا لا يمكن أتخلى عنها، ريح نفسك و بطل كلامك اللي يزعل دا"
تنهد هو بعمقٍ ثم ضمها إليه من جديد و قبل أن ينطق سمع طُرقات على باب غرفته فزفر بضجرٍ ثم قال بسخريةٍ:
"قومي افتحي لضرتك"
ضحكت "خديجة" بيأسٍ ثم تحركت من جواره تفتح الباب فوجدت الصغيرة تطالعها ببراءةٍ زائفة، سألتها "خديجة" بثباتٍ:
"نعم !! جاية ليه ؟! مش قولنا ننام في اوضتنا احنا مش صغيرين ؟!"
ردت عليها بضجرٍ:
"جدو نايم و حاضن يزن و تيتة خدت نغم و حضنتها، طب و أنا يرضيكي أنام من غير حضن"
_"آه يرضيني عادي"
تفوهت بها "خديجة" بلامبالاةٍ جعلت الصغيرة تشهق ببلاهةٍ، بينما "خديجة" ابتسمت لها ثم حملتها على ذراعيها حينما رق قلبها لها ثم أغلق الباب بقدمها.
جلس "ياسين" على الفراش يراقب تلك "الدُمية" التي قفزت بجواره عدة مراتٍ بحماسٍ فيما قال هو بصوتٍ عالٍ:
"بس يا بت السرير هيبوظ منك، قولت نبطل شقاوة و تنطيط، خير أي رياحٍ طيبة أتت بكِ إلى هنا"
كان يحدثها بسخريةٍ بينما طالعته هي بوجه مشمئز مما لا تفهمه و تدريه بحديثه، فجلست "خديجة" بجوارها تُمسد على خصلاتها، بينما قالت الصغيرة ببراءةٍ:
"أنا قولت أجي أنام هنا في حضنكم، بدل ما هما مش حضنني هناك، كدا أنا غلطت يا بابا ؟؟"
حرك رأسه نفيًا بسخريةٍ بينما جاهدت والدتها لكتم ضحكتها، فنامت هي في المنتصف تضع قدمًا فوق الأخرى، فقال "ياسين" بحنقٍ و هو يدفع قدمها:
"بطلي ألاطة ياختي و نامي عِدل، حاطة رجل على رجل ؟!"
زفرت هي بقلة حيلة قفزت تقف أمامه و هي تقول بنبرةٍ جامدة:
"أنا عاوزة و مش بعرف أنام غير كدا، هعمل إيه يعني ؟! بطل تستزهـ.....تستـ....تسهزقنـ...، قول معايا كدا اسمها إيه ؟!"
سألها بحذرٍ:
"قصدك أني بستهزءك يعني و مخليكِ مالكيش لازمة ؟!"
حركت رأسها موافقةً ثم أضافت مؤكدةً:
"أيوا هي دي، برافو عليك"
ضحكت "خديجة" بصوتٍ عالٍ و لم تقو على الصمود أكثر أمام تلك الصغيرة المشاكسة، بينما "ياسين" قام بعض سبابتها التي تُشهرها في وجهه حتى صرخت هي بصوتٍ عالٍ و قالت من صراخاتها:
"سيب ايدي بدل ما أروح اصحيلك باباك، سيب ايدي بقى"
لم يتركها و كذلك لم يضغط على اصبعها، انما استمرت هي في سحب اصبعها لكنه لم يترك لها الفرصة حتى ابعدت هي خصلاتها الثائرة عن وجهها ثم قالت له بتحدٍ:
"طب والله هصحيلك جدو و أقوله تعالى شوف ابنك اللي مـ...."
قبل أن تكمل حديثها ترك اصبعها ثم سحبها من سيارتها القطنية و هو يسألها بنبرةٍ جامدة:
"ابنك اللي إيه يا بت ؟! كملي كدا علشان أقوم أعملك كورس إعادة تربية يا روح أمك !!"
وزعت انظارها بينه و بين والدتها التي نظرت بها بتحذير من التكملة، فقالت هي ببراءةٍ:
"تصدق مش هينفع علشان أنتَ بابا ؟!"
ضغط على سترتها أكثر يقربها منه حتى قالت هي بتيهٍ:
"كنت هقوله تعالى شوف ابنك المهلبية مش عاوزني أنام في حضنه، يرضيك ؟!"
رفع حاجبيه مستنكرًا قولها و أفعالها التي لا تتناسب مع عمرها، بل و ذكاؤها الغريب بينما هي ارتمت عليه تعانقه بشدة ثم قبلت وجنته اليسرى عدة مرات و كذلك جبينه حتى ضحك هو مستسلمًا لها ثم أبعدها عنه و ألقاها على الفراش و طلب من "خديجة" بنبرةٍ ضاحكة:
"امسكي أيدها بسرعة يا خديجة"
أمسكت "خديجة" ذراعي الصغيرة بينما "ياسين" استمر في تحريك أنامله في بطنها و قدمها "يدغدغها" و هي تضحك بصوتٍ عالٍ تتوسلهما بالتوقف، لكن صوت ضحكاتها، كان مثل الطرب في أذانهم حيث جعلهما يزدادا فيما يفعلاه فيها خاصةً أنها لم تكف عن المزاح دومًا.
_________________________
في صباح اليوم التالي يوم "الجمعة"....
استيقظت "خديجة" مُبكرًا و كعادتها قامت بتشغيل القرآن الكريم و أشعال البخور في الشقة و قامت بتحضير الفطور حتى استيقظ البقية و امتلأ البيت بالأصوات المبهجة، بينما "رياض" كعادته كل يوم جمعة يقضونها معه يمر عليهم جميعًا يرحب بهم و يناولهم الحلويات بيده و خصيصًا "خديجة" تلك التي ازدادت مكانتها لديهم مع مرور السنوات.
بعد تناول الفطور ارتدى "رياض" عباءته البيضاء و كذلك "ياسين" و "يزن" فوقفت "زهرة" أمامهم تقول بحماسٍ:
"الله أكبر ربنا يحفظكم و يبارك فيكم و يبعد عنكم العين"
اقترب منها "ياسين" يقبل رأسها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"ربنا يخليكِ أنتِ لينا يا زوزو"
اقترب منها "يزن" يقبل كفها ثم قال مثلما قال والده:
"ربنا يخليكِ لينا يا زوزو، أنا بحبك اوي اوي"
ربتت على خصلات الصغير، فقال "رياض" بنبرةٍ ضاحكة:
"ربنا يخليكِ لينا يا زوزو، أنا بحبك أوي أوي"
ضحكت رغمًا عنها فاقتربت منهم "جاسمين" تقول بضجرٍ:
"أنا عاوزة أجي أصلي معاكم تحت في الجامع، اشمعنا أنا ؟!"
ردت عليها "نغم" بهدوء:
"علشان احنا بنات بنصلي في البيت، تحت فيه زحمة كتير أوي تعالي صلي معايا هنا و ماما و هتصلي معانا"
حركت رأسها موافقةً على مضضٍ و قبل أن تقف بجوار شقيقتها قالت لوالدها:
"بابا.... هاتلي أيس كريم و أنتَ جاي"
رد عليها بضجرٍ:
"البعيدة مش بتحس ؟! الجو السقعة دا مش واكل معاكِ بحاجة ؟! المطرة اللي مطرت دي مش مخلياكِ سقعانة ؟!"
حركت رأسها نفيًا فعض هو شفته السفلى حتى وجدها تركض نحوه و هي تقول بلهفةٍ:
"هات بوسة بقى قبل ما تمشي"
حملها على مضضٍ يقبلها ثم فعل المثل مع "نـغم" التي ابتسمت له بسعادةٍ ثم قبلته هي.
نزل الرجال و بقيت النساء في البيت، فقالت "زهرة" بحماسٍ:
"يلا ألبسوا علشان نصلي سوا يلا"
ركضت الفتاتين و هي تتبعهما نحو الداخل، بينما "خديجة" وقفت تراقبها و هي تبتسم باتساعٍ و تحمد ربها على ما هي عليه
_________________________
في الأسفل تقابل "رياض" مع "فهمي" و أبنائه و حفيده، و ذهبوا جميعًا نحو المسجد.
بعد نهاية الصلاة و خروجهم من المسجد تحدث "ياسين" بتعجبٍ:
"اومال فين ياسر و خالد ؟! ماجوش هنا ولا إيه ؟!"
رد عليه "عامر" مفسرًا:
"لأ خالد عزمهم كلهم عنده و قال علشان يكونوا كلهم سوا النهاردة، و أنا و عمار روحنا لميمي الصبح اتطمنا عليها و غيرنا و جينا على هنا"
حرك رأسه موافقًا ثم سأل الأخر:
"هتمشي معايا بليل و لا هتروح لوحدك أنتَ و خلود ؟!"
رد عليه بحيرةٍ:
"لسه مش عارف والله، بس علشان معطلكش يعني، روح أنتَ و أنا هروح بالموتوسيكل و خلود معايا"
حرك رأسه موافقًا بتفهمٍ ثم وقفوا مع بعضهم يتحدثون في شتى المواضيع.
***********
على الجهة الأخرى خرج "خالد" و "ياسر" و معهما الصغار من المسجد، فقال "خالد" لابنه بنبرةٍ هادئة:
"طبعًا يونس هيروح يجيب الفطار و معاه زين لحد ما أروح أجيب أنا باقي الحاجة للبيت، صح ؟!"
حرك رأسه موافقًا على مضضٍ ثم قال بقلة حيلة:
"مشوار كل جمعة، اللي هو أصعب من فتح عكا صح ؟!"
رد عليه "ياسر" بنبرة ضاحكة:
"والله معاك حق المطعم كله فوق بعضه بس الراجل عرفك مش هيوفقك يلا وزين معاك
رد زين بلهفة :
طب خلوا تليفوناتنا معاكم عشان متتسرقش في الزحمة زي عمو اللي اتسرق المرة اللي فاتت
انتبه له يونس ثم مد يده لوالده وكذلك زين ثم تحركا نحو المطعم وتحرك الاخرين نحو وجهتهما المحددة
وقف خالد يجلب بعض الاشياء من محل البقالة حتي وصلت رسالة لهاتف ابنه لم ينتبه هو وظنه هاتفه وقرأ الرسالة من الشاشة الخارجية فوجده رقم فتاة مسجل باسم ناني والرسالة محتواها:
وحشتني اوي يا يونس الاجازة رخمة من غيرك هشوفك امتي؟
صعق خالد مما رآه والدماء احتقنت في وجهه وجف حلقه لم يصدق ما يراه هل في هذا العمر وتصله رسائل مثل هذه؟ فماذا اذا وصل للمرحلة الثانوية؟! شهق بقوة واغلق الهاتف وهو يحاول الوصول للأمر ويضع في جميع الاعتبارات براءة ابنه