رواية طوق النجاة الجزء التكميلى من بك أحيا الفصل الثالث بقلم ناهد خالد
" وقعة الشاطر بألف, ووقعته هو كانت بموته, ظل لسنوات كالطاووس المغرور لا أحد يستطيع لمسه, لا أحد يستطيع الاقتراب منه أو أذيته, وظن أنه سيظل هكذا دومًا, حتى أتى من كسر غروره, وأوقعه في بئر ظلماته, لمسه, واقترب, وأذاه, ونال عقابه, ولقسوة العقاب أن الفاعل من دمه وقريب له حد... حد أنه لم يشك بهِ يومًا"
زفر زفرة قوية وهو يفرد ظهره بعنجهيته المعتادة:
- جيتِ ليه يا ليلى؟ أنا صحيح كان نفسي اشوفك بس تيجي عشان وحشتك وعاوزه تشوفيني مش تشمتِ!
هزت رأسها ضاحكة باستهزاء:
- وحشتني! مشكلتك إنك لسه عايش في الأحلام يا حسن, عايش مع ليلى البت الصغيرة اللي حبتك, وشايف ان بعد كل اللي عملته وعرفته عنك هتفضل تحبك..
تنهدت مكملة:
- حسن, مفيش حد في الدنيا مهما بلغ حبه يفضل يحب على طول مهما يحصل, الحب مهما كبر قادر يتحول لكره متتخيلوش لو الطرف التاني مؤذي, وأنتَ مؤذي ليا ولابني... هحبك ليه تاني؟ خدعتني وكنت سبب في إني اتشل لسنين, وزمان خسرت اهلي عشانك, وبتعمل كل حاجه مقرفة في الانسان.. شغل شمال, شرب خمرة, وفلوس حرام, وطباع زي الزفت, دكتاتوري ومش شايف غير نفسك و.... انا لو فضلت اعدلك مساوئك مش هخلص.
لم يهتز ولم يرف له جفن, وقال بكل برود:
- و تاعبة نفسك وجايه عشان تقولي ده؟
هزت رأسها نافية:
- لا, جيت لسببين, كان عندي رغبة اشوفك هنا, واقولك شوفت وصلت لفين, شوفت نهايتك ايه, نهايتك اللي عمرك ما تخيلت انها تيجي, فكرت نفسك محدش يوقعك, شوفت وقعتك طلعت بموتك, والسبب التاني, اطلبها منك لآخر مرة... طلقني يا حسن, طلقني عشان ماحبش ابدًا أكون ارملتك.
ابتسامة جانبية زينت ثغره وهو يخبرها:
- وانا مش هريحك يا ليلى, وعمرك ما هتنوليها, وهتكوني ارملتي.
- كنت واثقة من ردك, يألف خسارة على حبي واختياري ليك.
انهت جملتها بأسف حقيقي, قبل أن تنظر له لآخر مرة, تقف أمامه لآخر مرة, وتسمع صوته لآخر مرة, والغريب انها لا تشعر انها ستشتاق ولا تشعر بأي حزن تجاه مصيره, بل تشعر ... بالعدل.
**********************
ضم قبضتيه بقوة وقضم شفتيهِ من الداخل كاظمًا غضبه قدر استطاعته, فما يحدث أمامه قادرًا على جعله يهدم المكان فوق رأسهما, والمقصود بهما "خديجة و مصطفى" منذ علم الحقيقة وهو يحذرها من الاقتراب من الآخر, وأن تضع حدودًا بينهما دون أن يشعر بالغرابة, لكنها لم تفعل, ولولا جود فريال معهما الفترة السابقة أثناء سفره لِمَ تركهما سويًا ابدًا, منذُ دقائق وهو يمزح معها وهو لا يمانع من مجرد مزاح, لكن التقارب الذي يراه بينهما والأخص أن "مصطفى" يجلس ملاصقًا لها هو ما يرفضه, وما جعله يرفع رأسه قائلاً بهدوء زائف:
- اعتقد مش المفروض نهزر على الأكل, ولا ايه؟
توترت وابتلعت ريقها بخوف وهي ترى نظرته لها, حتى وإن كان هادئًا فعيونه لا تتصنع الزيف, وهي ترى غضبه الكامن, وتعلم من قبل أن يتحدث أو ينظر لها, وحاولت أن تنهي المزاح مع "مصطفى" لكنها فشلت, تعلم أنه يكظم ضيقه بالكاد, فقالت بهدوء:
- معاك حق, sorry.
عاد ينظر لطعامه وهو يسألها:
- عامله ايه في الكلية؟
- الحمد لله.
- مش ناوية تنتظمي شوية؟ يا مبتروحيش يا بتروحي مع فريال كليتها هي!
نظرت لطعامها بارتباك وحرج من ملاحظته الأمر لتقول بخفوت:
- اصلها بعيدة شوية.
نظر لها رافعًا حاجبه الأيسر باستهزاء:
- بعيدة! حاضر هخليهم يقربوهالك.
أُحرجت من سخريته منها أمامهم, لتنظر له بضيق وقد أدمعت عيناها فجأة ورغمًا عنها, فهي اعتادت منه السمع والتفهم وتقديم الحل أو المواساة, لكن أن يسخر من حديثها هكذا!
لم يكن ينظر لها, لتعود ناظرة لطعامها شاعرة بالاختناق خاصًة حين تدخلت "ليلى" تقول:
- بعيدة قد ايه يا خديجة؟
رفعت نظرها لها مانعة دموعها من التكون أكثر بمقلتيها وأجابت:
- ساعة إلا ربع أو ساعة لو في زحمة.
علقت "ليلى" باستغراب:
- ماشي يا بنتي مانتِ بتروحي بالعربية, ساعة مش كتير, بعدين ده مستقبلك وأنتِ طب يعني لازم الحضور عشان تستفيدي.
- فعلاً يا خديجة, مانا مدرستي باخد نص ساعة في الطريق, واهو دي حاجة بروحها كل يوم يعني آخر خنقة, ده انتوا الكليات بتروحوا 4 أيام بس في الأسبوع.
- وقريب ممكن يخلوها يومين بس عشان الكورونا, بيقولوا هيخلوا معظم الكليات وحتى المدارس اونلاين, لو العدوى انتشرت اكتر من كده.
قالت الأخيرة "فريال" التي قررت التدخل في الحديث هي الأخرى, لتقول باختناق:
- مش فكرة مسافة بس, أنا كمان معرفش حد هناك وبتوتر.
وللمرة الثانية تدخل يحرجها بحديثه رغم نبرته التي بدت هادئة:
- أنتِ مش أول واحده تدخل كلية, كل اللي بيدخلوا الكليات مبيكونوش عارفين حد, ولا دي هنعملك فيها ايه هي كمان؟
قطبت ما بين حاجبيها بغضب حقيقي وهي تجيبه بدموع خفيفة:
- مطلبتش منك تعمل حاجه اصلاً, أنا شبعت.القت جملتها الأخيرة ناهضة عن طاولة الطعام الذي لم تمسه سوى ببضع لقيمات لا تُذكر, توقفت حين هدر بها:
- اقعدي كملي اكلك.
لم تنظر له وقد اعطته ظهرها:
- شبعت.
وبحدة كان يقول وهو يضغط على نفسه كي لا يصرخ بها:
- بقول اقعدي كملي أكلك, بلاش شغل عيال.
التفت تنظر لظهره ورأسه المائلة قليلاً جهتها, لتردف باختناق اكثر من الموقف أمام الجالسين:
- هو فين شغل العيال؟ بقولك شبعت.
أعاد رأسه لثباتها وهو يقول:
- ماكلتيش عشان تشبعي, أنتِ اتقمصتِ فقومتي زي العيال اللي بتغضب على الأكل, اقعدي كلي.
ارتفع صدرها بتنفس قوي وهي تشعر ولأول مرة بكل هذا الغضب تجاهه, والجميع ينظر لها, تساقطت دموعها بخنقة لتقول قبل أن تصعد لأعلى دون أن تنتظر رده:
- مش هاكل بالعافية.
ضغط على أسنانه بقوة وهو يسمع صوت اقدامها تبتعد, لم تلقي له بالاً, وفعلت ما أرادته وكأنه لم يتحدث! وهذا ما زاد غضبه تجاه افعالها.
قالت "فريال" ما إن رأتها صعدت الدرج:
- ليه كده يا مراد احرجتها قدامنا, حصل ايه لكل ده عشان تكلمها كده؟
وعقبت "ليلى":
- أنتَ زعلان من حاجة يا حبيبي؟
مسد على كفها المجاور له برفق وهو يجيب:
- أنا كويس مفيش حاجة.
ونهض عن الطاولة قائلاً:
- أنا محرجتهاش في حاجة يا فريال, مفيش حاجه في اللي قولته يحرجها اصلاً أنا بتكلم لمصلحتها.
ولم ينتظر ردها, بل صعد الدرجات أمامهم لأعلى وهم قلقون من صعوده خلفها هل سيصالحها أم سيزيد الخلاف؟!
*************
وقفت في شرفة الغرفة تستنشق الهواء ليذهب اختناقها, كلما يتردد حديثه في أذنها تدمع عيناها, لكن تأخذ نفس عميق وهي تحدث ذاتها "لن أبكي" فالأمر لا يستحق البكاء, لكنها حقًا حزينة وتشعر بالاختناق, تعلم أن حديثه كان من غضبه لتجاوزها الحدود مع "مصطفى" ورغم هذا لا يحق له محادثتها هكذا امام الجميع, وكيف ينقلب فجأة هكذا؟ لقد كان منذ ساعتين تقريبًا معها, يبثها حبه واشتياقه, يهمس لها بكل كلمات العشق والشوق, وهي لم تبخل عليه بالرد, ولم يتركها بعدها وكأنها ستهرب منه, أو وكأنه يعوض الأيام التي ابتعد فيها عنه, حتى أثناء نزولهما لتناول العشاء كان يمسك كفها بتملك ونظراته تشعرها بالاكتفاء.
استمعت لصوت فتح الباب وغلقه وشعرت بهِ يقترب منها حتى وقف خلفها, لم تستدير وقد قررت تجاهله يجب أن يعلم أنها غاضبة كي لا يكرر الأمر.
ولكن ما لم تحسبه أن يهدر صوته بحدة انتفضت لها:
- بصيلي.
وتلقائيًا نفذت الأمر لتستدير له بأعين قلقة, تنظر له بخوف من تصلب ملامحه وتشنج جسده كما يظهر لها!
رفع أصبعه يحذرها بجمود ونظراته مشتعلة:
- آخر مرة أكون بكلمك وتسبيني وتمشي, وآخر مرة اطلب منك حاجة ومتنفذيهاش.
ورغم خوفها وقلقها قطبت ما بين حاجبيها برفض غاضب:
- أنا مي...
قاطعها بنفس حدته هادرًا:
- سمعتي؟
نظرت له لا تستطيع الايماء ولا تستطيع الحديث, تنظر وكأنه شخص آخر غير الذي عرفته, لم يعاملها بهذا الجمود وهذه الحدة من قبل, ولم ينظر لها كما يفعل الآن! انتفض جسدها حين صرخ بها:
- ردي!
ارتعشت شفتيها وادمعت عيناها بشدة, وأخفضت رأسها تقول بخفوت:
- س...سمعت.
خرج صوتها مرتعشًا ومختنقًا لكنه سمعه, واستدار خارجًا من الشرفة, لتستدير ساندة على السور الحديدي قبل أن تجهش في البكاء وهي تضع كفها فوق فمها كي لا يسمعها إن كان في الغرفة.
ثواني وشعرت بهِ يحيط جسدها بذراعيهِ ويديرها لتصبح في حضنه وهو يهمس لها:
- خلاص متعيطيش.
ارتفع صوت بكائها أكثر, ليعقد حاجبيهِ بغضب من نفسه, منذُ متى وهو يصرخ عليها هكذا! مهما فعلت لم يكن عليه أن يحدثها بهذه الطريقة, "خديجة" لن تتحمل طريقته مع الآخرين, وإذا حاول أن يقسو عليها ولو بقدر صغير هو من سيتضرر كالآن مثلاً! لن يتحمل بكائها أو حزنها ولا نظراتها المعاتبة.
- أنا أسف متزعليش, مش قصدي ازعقلك.
ظلت تبكي لدقائق قليلة وهو يمسد بكفه فوق ظهرها برفق, حتى هدأت فقالت ومازالت في حضنه:
- أنتَ اول مرة تزعقلي كده, وكمان حرجتني قدامهم تحت, أنا عارفة إنك مضايق مني بسبب هزار مصطفى معايا, بس أنا والله كنت بحاول اقصر معاه بس معرفتش.
أخذ نفس عميق قبل أن يبعدها قليلاً لينظر لها وهو يقول:
- خديجة, أنتِ قولتِ يمكن يكون اخويا في الرضاعة, وقولتلك إننا حاليًا مش واثقين في ده, ومفيش حد هنلاقي عنده المعلومة دي, فالحل إنك تبعدي عنه وتعملي حدود, مش كفاية سايبك تقعدي قدامه بشعرك, وبجد دي حاجة خنقاني.
تنفست تقول:
- اللي بقدر اعمله بعمله, مبقتش البس بيجامات ولا ترنجات في البيت وكل لبسي فساتين, وبقيت بحاول ابعد على قد ما اقدر, بس الطرحة ملهاش مبرر البسها في البيت, وكمان لما بيقرب مقدرش ابعده على طول عشان ميشكش.
عقب باختناق:
- وأنا متحمل, رغم إني بتحرق من جوايا لما بشوفه قريب منك, بس اكتر من كده مش هقدر اتحمل.
- طب فكر مين ممكن يكون عارف موضوع الرضاعة ده, يعني ممكن عمتي مثلا؟
نفى برأسه:- اكيد لا, هي عمتك دي كانت بطيقهم أصلا عشان تشوفهم ولا تعرف عنهم حاجة.
- طب أم إبراهيم؟
- مش عارف, هو ممكن, لانها ست كويسة ويمكن كانت قريبة من دينا او تعرف عنها حاجة.
- خلاص هسألها من بعيد كده.
صمتت قليلاً ثم أتى في عقلها شيء لتسأله:
- تفتكر مامتك يكون عندها معلومة؟
نظر لها باستغراب:
- أمي أنا؟
- ايوه, مش طول الوقت كانت ماما وكلنا قدامها, يمكن شافتها مرة بترضعني او سمعتها مرة بتقول انها هتروح ترضعني أي حاجة يعني.
رفع منكبيهِ جاهلاً:
- هو وارد, خلاص أنا هسألها من بعيد بردو من غير ما تشك في حاجة.
نظرت لعينيه قبل أن تقول بحزن:
- مراد متزعقليش ولا تعاملني كده تاني, انا بجد اتخنقت وزعلت اوي من طريقتك معايا تحت ومن كلامك معايا هنا.
رفع كفيهِ يمسد خصلاتها بابتسامة:
- حاضر, وانا اتأسفتلك, ومبعملهاش لأي حد دي.
- شكرًا يا عم.
قالتها بابتسامة مرحة, ليرفع حاجبه باستنكار:
- عم؟
- اومال اقولك ايه؟
أردفت بها بعبث لتلمع عيناه بمكر وهو ينحني فجأة لتصبح بين يديه وقد شهقت من المفاجأة, نظر لها بابتسامة ثعلبية وهو يهمس:
- تعالي اقولك هتقولي ايه...
ودلف بها للغرفة ليشبع شوقه الذي لا يقل منها..
************
وقفت السيارة أمام ذلك المبنى القابض للأنفاس, لكنها لم تتبين هويته بعد, ترجلت بمساعدة ابنها الذي مد ذراعه لتستند عليهِ, وقفت تنظر للمكان برهبة وقد تبينت هويته للتو, ارتعشت وتذبذبت نظراتها وهي تسأل "نبيل" بأعين دامعة:
- ليه؟ جايبني هنا ليه؟ أنتَ.... أنتَ قولتلي هشوف ابني, ليه جايبني السجن!؟
ادمعت عيناه هو الأخر تأثرًا وحاول التماسك وهو يقبض على كفها داعمًا:
- ماما, حسن هنا...
نفضت كفها منه ورجعت مصطدمه بالسيارة خلفها تهز رأسها نافية بقوة, ودموعها عرفت طريقها لوجنتيها الآن, مالت برأسها قليلاً وهي تقول بصوتٍ باكٍ:
- لا, لا يا نبيل... لا يا بني متوجعش قلبي, أنا قلبي مبقاش فيه حتة سليمة, لا يا نبيل مش بعد 27 سنة غياب عني اجي ازوره في السجن! أنتَ عارف يعني ايه أم متشوفش ابنها 27 سنة! بيعمل ايه هنا يا نبيل؟ اخوك بيعمل ايه هنا!؟
" سميرة السيد" تعيسة الحظ, السيدة التي لم تعش عيشة هنية, في حياة زوجها كان القاضي والجلاد الذي يرتعب له جميع أفراد الأسرة, والذي لم يتوانى عن تذكيرها بأنها لم تكن من نفس مستواه وبأنها فشلت في تربية أبنائها, وبعد موته يهجرها ابنها لسنوات لم يفكر في لحظة منهم أن يسأل عنها, لتعيش بوجع قلبها وحرقته عليه, وحتى بعد أن كانت أسعد سيدة على الأرض منذ ساعة حين أخبرها "نبيل" انه عثر على شقيقه وأنه سيأخذها لرؤيته تأتي لتصطدم بواقع مرير, ألم يُقدر لها الراحة أو الفرح يومًا!؟
- أنا أسف, والله مكنتش ناوي اجيبك هنا, كان اهون عندي متعرفيش عنه حاجه احسن من وجعك, بس... بس هو اللي طلبك, وانا مقدرتش ملبيش اخر طلباته.
ولم تنتبه للجملة الأخيرة, فقط ابتسمت بين حزنها تسأله:
- بجد؟ يعني هو اللي طلب يشوفني؟
اومأ برأسه وملامحه تصرخ حزنًا, لتتجه له وهي تقول بلهفة متألمة:
- خليني اشوفه, يلا.
والآن تقف أمامه وقد حُبس صوتها, وكان أول ما رأته بدلته الحمراء, هزت رأسها بقوة نافية ما تراه, لا, لن يضيع منها ابنها بعدما وجدته, لن تكون مجرد مرة واحدة تراه فيها بعد غياب كل هذه السنوات, تهاوى جسدها فجأة ليسندها "نبيل" فورًا ويركض هو تجاهها ملتقطًا ذراعها ليسندها برفق قبل أن تجلس فوق الكرسي, ركع جالسًا أمام قدميها فقط ينظر لها... كان يعلم, كان يعلم أنه حين يراها سيضعف, ويلين, سيأخذه الحنين لها, لذا لم يرد رؤيتها كلما عرض عليهِ نبيل الأمر رفض.
والصمت ساد, لدقائق لم تُحسب, تنظر له بدموع تجري كالشلال, ووجع يسكن روحها على ابن حملت بهِ وربته على يدها لتفقده مرتان, المرة الأولى حين قرر بإرادته الهجر, والمرة الثانية الآن.. فهل سيموت ابنها وهي على قيد الحياة؟ ويا لوجع قلبها..!
وهو ينظر لها بأعين تحكي الكثير, وكأنه الآن يرى نفسه شابًا يقف أمامها يصرخ بها ويأخذ حقيبة ثيابه مقررًا ترك المنزل وهي تركض خلفه لترجعه, صوتها وصوت شجارهما تلك المرة منذ أعوام يتردد في أذنه الآن, ولوهلة حدثته نفسه... ليته توقف, ليته سمع لها, ليته لم يهجر لربما كان في مكان آخر الآن!
هو كان يحبها, لم تكن كأبيه, كان يكن لها حبًا صادق, ربما كان يثور عليها لمواقفها السلبية تجاه كل ما يفعله والده, لكنه لم يكرهها, يقسم أنه لم يكن لها سوى الحب, لكن غلبته نفسه وغلبه شيطانه ليوسوس له بشق طريقه بعيدًا عن كل من عركله يومًا, وكانت هي وشقيقه أول من ابتعد عنهم, ولأول مرة منذُ خمس وثلاثون عامًا يسأل حسن نفسه سؤال "هل كان مخطأ؟" لطالما اقتنع انه فعل الصواب في كل ما فعله في حياته لكنه الآن بدى مذبذب وبدأت الحقائق تهتز أمامه ولا يدرك هل تلك المبادئ التي وضعها لنفسه هي ما أودت بهِ للهلاك؟؟!
- عملت ايه؟ عملت ايه يا بني؟خرج سؤال "سميرة" ليقطع الصمت, سؤال بنبرة منكسرة واهية بالكاد تستطيع النطق, هز رأسه مجيبًا:
- مش مهم, صدقيني مش مهم, أنا بس طلبت اشوفك عشان اقولك حاجة.
أخذ نفسه وهي تنظر له بإمعان ونظراتها تجري فوق ملامحه علّها تطفئ اشتياقها رغم يقينها أنها لن تفعل:
- أنا عمري ما كرهتك, ولا عمري قصدت اقسي عليكِ, أنا ... أنا بس كنت فاكر إني بعمل الصح, مش عارف إن كان فعلاً كان الصح ولا لأ, بس اللي اعرفه إني مكنتش هعيش لو مكنتش مشيت في الطريق اللي مشيت فيه, تمردي كان هيقتلني لو حاولت اقتله, كنت متمرد على حياتي والطريقة اللي انتوا عاوزنا نعيش بيها, ولو مكنتش طلعت براها كنت هموت بردو...
وفجأة سيطرة عنجهيته عليهِ من جديد, وأسكت كل صوت عاقل بداخله وهو يكمل:
- أنا مش ندمان على شغلي ولا على كل طريق اخترته, ولا ندمان على أني رفضت اقابلك لما نبيل شافني اول مرة من سبع سنين, عشان لو كنت قابلتك كنت هرجع افتكر اللي بيخلينني اتمرد اكتر واتعب, كنت هفتكره, ابويا وكنت هفتكر اللي عيشته زمان وأنا مكنتش عاوز افتكر أي حاجة من دي تاني, وأنتِ كنتِ هتعملي زيه وتفضلي تنصحي فيا وترجعي تعامليني زي العيل الصغير زي ما هو كان بيعمل.
سحبت كفيها من بين كفيهِ وهي تردد بصدمة:
- يعني أنتَ شوفت نبيل من سبع سنين! عارف طريقي من سبع سنين! ورافض تشوفني, رافض تريح قلبي! وأنتَ متعرفنيش إنك عرفته مكانه؟
وجهتها جملتها الأخيرة ل "نبيل" الذي قال بضيق:
- أنا بقالي سنتين بكلمه عشان ييجي يزورك او يخليني اقولك, مكانش هينفع اقولك من نفسي عشان هتعوزي تشوفيه, خوفت يرفض يشوفك او لو شافك يضايقك بكلامه, خوفت عليكِ والله.
نظرت مرة أخرى ل "حسن" تسأله ببكاء ارتفع صوته:
- جبت القسوة دي منين يا حسن؟
ادمعت عيناه طفيف وهو يجيبها:
- منه, من كل اللي عمله معايا, عرف يقسيني يا ما...
قاطعته صارخة بهِ:
- اوعى, اوعى تنطقها, مش عاوزه اسمعها منك.
قوت نفسها وشدت جسدها ووقفت بجبروت تظهره مرة أخرى, والمرة الأولى كانت يوم قرر ترك المنزل, وهذه المرة تعيده, وقف أمامها, لتشير ل نبيل وهي تقول وقد توقف بكائها فجأة:
- ده, نبيل.. فاكره يا حسن؟ نبيل الضعيف, التابع, اللي كنت بتقول ماشي ورا ابوك من غير ما يفكر, اللي كنت بتقول انك هتبقى احسن منه, شوفت هو فين وأنتَ فين؟ هو بقى عنده شركة وشغله كويس والناس بتحبه وتحترمه, وامه دعياله ليل ونهار, وأنتَ .... وأنتَ هنا, أيا كان اللي عندك بره, أنتَ في الآخر هنا, لسه معمي ومش شايف من فيكوا الخسران؟ ياريتك كنت سمعت نصيحتي زمان وبقيت... بقيت ضعيف زيه.
- خلصوا يلا الزيارة وقتها خلص.
صدح صوت العسكري من على الباب ينبههم, لينظر لها "حسن" للمرة الأخيرة قبل أن يقول:
- متزعليش مني, دي آخر مرة هنشوف بعض فيها, ويا ريت لو تشوفي مراد يمكن تعرفي تعملي معاه اللي معملتهوش معايا.
أتى صوت "نبيل" يقول بيأس:
- لسه زي ما نتَ يا حسن, بتراوغ في الكلام, أنتَ متأكد إن ابنك بقى نسخة منك.
التوى ثغره مبتسمًا بمكر لا يناسب الموقف ابدًا, لكنه لم يحب "نبيل" يومًا:
- مش ابني, ما شابه اباه فما ظلم.
اقترب "نبيل" حتى وقف أمامه تمامًا ليقول بتوعد:
- مش هنسيبه يا حسن, مش هنسيبه يكون زيك, واللي معملنهوش زمان معاك هنعمله معاه.
وبتحدي سافر عقب:
- ابقى قابلني, او اقولك ابقى تعالي على قبري وقولي أنا كسبت ياحسن وابنك بقى .... بقى ضعيف زيي.
- هجيلك, هجيلك يا حسن.
واستمرت النظرات المتحدية بينهما, حتى قطعتها "سميرة" وهي تتجه ل"حسن" تحتضنه بصمت, وهو بادلها بنفس الصمت, حتى أتى العسكري ليأخذه ونظراته تودعها...
تهاوت فوق الأرضية ليمسك بها "نبيل" سريعًا, وضعت كفها على قلبها بوجع وهي تقول بتقطع:
- اب...ابني...حس..حسن...ابني.
وسقطت في دوامتها السوداء بعد أن خارت قواها وعقلها لا يستوعب أنها لن تراه مرة أخرى.
************
بعد أربعة عشر يومًا...
20 نوفمبر 2020 ....
تعلقت بهِ تحدثه بدلال وهي تحيط عنقه بذراعيها وتقف على أطراف أصابعها لتحاول الوصول لمستواه, وهمست:
- خليك معايا النهاردة, مش معقول كمان يوم اجازتك هتخرج!
قربها له أكثر بذراعيهِ المحيطان لخصرها, وقبل وجنتها بحب قبل أن يبادلها همسها:
- قولتلك ساعتين وراجع, مش هتأخر, أنا نفسي اقعد معاكِ أكتر منك.
تمسحت بهِ كالهرة وهي تسند رأسها على كتفه:
- طب اجل مشوارك, خليه يوم تاني يا مراد.
تنهد وهو يشرد بعينيه بعيدًا:
- صدقيني مش هينفع, أنا أجلته كتير, كتير اوي.
ثبتت قدميها في الأرضية وهي تبتعد عنه تسأله:
- أنتَ رايح فين؟ شكل المشوار ده تقيل على قلبك؟
اومأ مبتسمًا بهدوء:
- عشان كده لازم اخلص منه.
- رايح فين؟
عادت تسأله بإلحاح وفضول, ليجيبها بهدوء:
- رايح لابويا.
تجمدت في مكانها وكأنها لم تظن أنه سيزوره يومًا! ابتلعت ريقها وهي تسأله:
- وليه مش عاوزه تروح؟
راوغها يجيب:- مش حابب اشوفه في الوضع ده.
ذمت شفتيها بحزن فبالأخير هو والده, وبالطبع صعب أن يراه في السجن وقد قارب على تنفيذ حكم الإعدام, اقتربت خطوة تحتضنه وكفيها يمسدان على ظهره بمواساة:
- معلش يا حبيبي قوي نفسك, أنا عارفه ان الوضع صعب بس ده قدره, أنا بجد مصدومه ومش عارفة ازاي كل الجرايم دي ظهرت فجأة كده!
احتضنها بالمثل لتظهر نظرته هادئة ومسترخية وكأنها لا تتحدث عن والده, ومع جملتها الأخيرة نمت ابتسامة ساخرة على شفتيهِ وأدها حين ابتعدت عنه تكمل وهي تحتضن وجهه بكفيها:
- مش في ايدك حاجه تعملهاله, بس خليك قوي واعرف ان للأسف هو خد جزاءه, هو غلط وكان لازم هيتعاقب على اللي عمله, ربنا قال بسم الله الرحمن الرحيم "كل امرئ بما كسب رهين" يعني كل شخص لازم هيتحاسب على افعاله, واكيد عقابه في الدنيا هيخفف من عقابه في الآخرة.
اومأ برأسه ولم يعقب, لتبتسم له وهي تعدل خصلات شعره بلطف:
- هستناك, وهعملك المكرونة بالبشاميل اللي بقيت تحبها, و بليل هيكون لينا سهرة خاصة.
قالت جملتها الأخيرة بأعين عابثة, ليضحك فجأة غير مصدقًا نظراتها التي اكتسبتها منه, واقترب هو هذه المرة محيطًا رقبتها بكفيهِ وهو يقول:
- بقيتِ شقية, وده خطر على قلبي اللي مش ناقص.
ابتسمت بحلاوة وهي تهمس له:
- مش عيب أكون شقية مع جوزي حبيبي, وبعدين انا أي حاجة فيا بتعلمها منك.
وابتسامته الساحرة ظهرت وهو يعقب:
- لا وأنتِ تلميذة شاطرة اوي, وبتتعلمي بسرعة.
انهى جملته مختطفًا قبلة سريعة منها قبل أن يبتعد وهو يقول:
- مش هتأخر..
وابتسمت تودعه بسعادة وهي كل يوم تقع في حبه أكثر..
**********
- لسه فاكر تيجي؟ ده أنا طالب اشوفك من يوم ما جيت هنا, افتكرت تيجي وباقي أسبوع على تنفيذ الحكم.
قالها "حسن" وهو يدلف للغرفة ليجد "مراد" أمامه جالسًا واضع رجل على أخرى, لم ينهض ولم يهتم وهو يجيب وما زال جالسًا:
- كنت مشغول, وكنت مسافر مع ماما عشان عمليتها.
جلس أمامه, وللعجب! بنفس الكبرياء وضع رجل فوق أخرى! وأصبحا الآن كأنهما نسخة من بعضهما!
- عرفت, أصل ليلى جت, عشان تشمت فيا.
كان يعلم بقدوم والدته فلم يتفاجأ, فقط تجاهل يسأله:
- ها, عاوزني في ايه؟
قطب ما بين حاجبيهِ مستغربًا:
- أنتَ مكنتش هتيجي تزورني؟
ببرود تام قال متجاهلاً الإجابة:
- بصرف النظر, أنتَ اللي طلبتني يعني اكيد عاوز تقولي حاجه.
نظر له "حسن" متفحصًا:
- أنتَ ليه مقومتش محامي؟
- عشان قبل ما اعمل أي حاجة رجالتك المخلصة قاموا بالواجب.
وتغاضى "حسن" عن تلك النقطة ليقول ما طلبه من أجله قبل أن تنتهي مدة الزيارة:
- اسمع يا مراد, لازم تعرف مين عمل كده وتدفعه التمن غالي, أنا في الأول شكيت فيك بس بعد كده قولت مستحيل تعمل فيا كده, لازم تعرف مين قدر يوصل للورق ده, وقدر يلبسني التهمة صح, حتى الطعن اللي قدمناه اترفض ومفيش مجال إني اطلع منها, لانه زي ما عمل معايا هيعمل معاك, وأنتَ لو وقعت امبراطورية حسن وهدان كلها هتقع, أنا عارف إنهم حجزوا على كل أملاكي بس أنتَ كان ليك أملاكك اللي باسمك محدش يقدر يقرب منها, كمان مكانتك في المنظمة مينفعش تروح, وعلى فكرة, غالبا هيخلوك مكاني ودي فرصة اوعى تضيعها, عشان كده لازم تدور وتعرف مين الخاين.
قرص "مراد" أنفه بأصبعيهِ بخفة قبل أن ينفي برأسه قائلاً بهدوء:
- متقلقش محدش هيقدر يوقعني ولا يمسك عليا حاجة.
اعترض "حسن" قائلاً:
- بلاش الغرور ده, أنا قولت زيك, ووقعت.
أنزل قدمه ليعتدل في جلسته واستند على ركبتيهِ بكوعيهِ وهو يقول بابتسامة ملتوية:
- تؤ, مبقولش كده غرور, بس مين هيوقعني؟ اللي وقعك؟
صمت ينظر له لثواني قبل أن يستقيم مرجعًا ظهره للوراء وابتسامته اتسعت يقول بانتصار:
- محدش بيوقع نفسه يا حسن بيه!
خفتت أنفاس "حسن" ورفع سبابته يشير له بصدمة جلية:
- أنتَ! أنتَ اللي وقعتني يا مراد؟ أنتَ!!!
لقد شك مسبقًا, ولكن الـتأكد نقرة أخرى تمامًا, وكم الوجع الذي شعر بهِ حين أجابه "مراد" لم يشعر بهِ في حياته سابقًا:
- ايوه انا, مين غيري كان يقدر يوقع الشاطر حسن!
وفجأة هجم عليهِ "حسن" ممسكًا إياه من قميصه وأصبحا كأسدين يتقاتلان في غابة...!!