رواية أنا لها شمس الجزء الثانى ( اذناب الماضي ) الفصل الثالث بقلم روز امين
باللحظةِ الاولى التي اتخذتَ بها قراريَ الحاسمَ بالإبتعادِ عنكِ، كنتُ أعلمُ أنهُ ليس بالقرارِ السهلِ على كِلانا،وكيف للمرءِ أن يتخلى بسلاسةٍ عن خليلِ روحهِ دونَ إختلالِ حياتهِ وفقدانهِ للإتزانِ الكاملِ،لقد رافقَ كُلٌ منا رحلةَ حياةِ الأخرِ منذُ أن كُنا صِغارًا حتى أصبحنا بريعانِ شبابِنا،لطالما كُنتي بعيني كزهرةٍ بريةٍ رائعةَ المظهرِ، طِيبُ عِطرُكِ سابقًا لخطواتِك،و لطالما كنتي الأنثى المفضلةِ لديّ بل الأفضلُ والاروعُ على الإطلاقِ وستبقين،وبرغم يقينى من هلاكِ قلبي جراءَ إبتعادكِ عنه، لكنني اتخذتُ ذاك القرارِ عن قناعةٍ إمتثالاً لكرامتي وعزةِ النفسِ ،قمعتُ مشاعري وضغطتُ على جُرح قلبي بيدي وتركتهُ يتلوعُ وجعًا من شِدةِ الإشتياق،ادعيتُ الصمودَ لأقفَ شامخًا وبيدي كظمتُ صرخاتَ قلبي الذي يئنُ ألمًا لكي أتفادى الإنهيارَ، حاولتُ جاهدًا ألا أرى عيناكِ لكي لا أفقدُ طاقةَ صبري وينزفُ جُرحي من جديدِ وأسرعُ مهرولاً كي أضمَكِ بروحي لإطفئَ نارَ اشتياقى،واليومُ قد عُدتُ، وها أنا الأن أقفُ أمامَ سحرِ عينيكِ لينفجرَ قلبي صارخًا من مجردِ رؤيا من تمكنت من استيطان العقل وامتلاكَ لُبِ القلبِ وثنايا الروحِ.
«يوسف عمرو البنهاوي»
بقلمي «روز أمين»
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
لم تنم بليلتها الفائتة من شدة أنين قلبها الملتاع، تتسطحُ على ظهرها فوق الفراش، تنظر لسقف غرفتها بعينين ثابتتين لا ترمشا إلا قليلاً، وفاهٍ فاغر وكأنها مغيبةً عن الواقع، فمنذُ أن علمت من والدها الغاضب بحضور فارسها المُتَمرِّدُ إلى قصر جدها وهي في حالة يرثى لها، مابين قلبٍ عاشقًا يتتوقُ لوعًا لرؤية الحبيب، وما بين أنثى غاضبة عقلها يرفض تركها من رجلها الوحيد التي فضلته على جميع أبناء جنسه، يا لهُ من رجُلٍ قاسي، كيف له أن يترك ذاك القلب الذي يعلم علم اليقين أنهُ ذائبًا بغرامهِ،تنفست بقوة ثم تطلعت بجوارها لتنظر بشاشة هاتفها تتفقد الوقت، وجدت الساعة لم تتخطى السادسة صباحًا بعد،زفرت وتهيأة للنهوض لتنفض عنها الغطاء وتحركت مهرولة باتجاه الشرفة الملحقة بحجرة نومها،خطت بساقيها خارج الشرفة لتقتحم جسدها قشعريرة بفضل برودة الطقس ،بينما كانت ترتدي منامة من الحرير،رفعت رأسها للسماء وباتت تأخذ نفسًا عميقًا لعل مشاعرها الثائرة تهدأ ولو قليلاً، عادت بذاكرتها لعامٍ مضى، كانا مازالا معها وكلاً منهما روحهُ مرتبطة بالاخر.
عودة لما قبل عامًا من وقتنا الحالي،داخل الحرم الجامعي الخاص بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية، إنتهت من المحاضرة لتخرج إلى الفناء، توقفت لتستدير حين استمعت لصوت ذاك الثقيل المسمى بـ"نبيل"، هو بذاته ذاك الشاب الذي تشاجرا بالماضي من أجله أثناء ممارستها للعبة التنس معه بالمدرسة، إقترب عليها لينطق بنبرة بها بعض التعالي:
-إزيك يا بوسي
بنبرة حادة حدثتهُ بتنبيه:
-أكتر من مرة قولت لك إن إسمي "بيسان"
-هو حبيب القلب بيتقمص لما حد غيره بيدلعك ولا إيه؟!...قالها ساخرًا لتحتد بنبرة ساخطة:
-ملكش دعوة ب"يوسف" يا "نبيل"، أنا بحذرك
لتتابع مستنكرة وهي ترمقهُ بنظراتٍ كارهة:
-وبعدين إنتَ تدلعني بتاع إيه أصلاً؟!
وضع كفيه بجيبي بنطاله لينطق بتعالي وتفاخر يرجع لتباهيه بأموال والده رجل الاعمال الشهير:
-إنتِ مكانك الحقيقي معايا يا بيسان، جنب" نبيل عاطف السرجاوي"،هي دي المكانة اللي المفروض تكوني فيها وتليق بواحدة بجمالك ومركز عيلتك، صدقيني وخليكِ معايا، هنعيش أنا وإنتِ ملوك على الأرض.
ابتسمت بجانب فمها ساخرة قبل أن تقول بتقليلٍ لشأنه:
-أنا وإنتَ!، ده أنتَ لو أخر راجل في الدنيا، مستحيل إني أتخيل نفسي معاك
ابتسم بزاوية فمه ساخرًا قبل ان يقول بغرور:
-فيه مليون بنت غيرك تتمنى العرض اللي بقدمهُ لك ده
أجابتهُ بكبرياءٍ:
-أوكِ، روح بقى قدم عرضك ده لواحدة من المليون، لأني آخر واحدة ممكن توافق عليه
اشتعل داخلهُ لكنه كظم غيظه وهو يقول بملامح متصنعة بالهدوء:
-كل ده علشان خاطر الولد إبن مرات خالك؟!
صُدمت من حديثهِ ليتسع بؤبؤ عينيها وهي تسألهُ باستغراب:
-إنتَ مين قال لك إن يوسف يبقى إبن مرات خالو؟!
قهقه بصوتٍ مرتفع ليرفع قامته لأعلى متباهيًا بحاله:
-إنتِ شكلك مش عارفة إنتِ بتتكلمي مع مين يا بوسي
وبرغم أنه استدرج صديقتها المقربة "علياء "وعلم منها صلة القرابة بين العاشقان، إلا أنهُ حاول إظهار حاله في صورة أكبر من حجمه الطبيعي:
-أنا بعلاقاتي أقدر أعرف أي حاجة أنا عاوزها
إحتدت ملامحها واكفهرت قبل أن تُشير بسبابتها قائلة بتحذيرٍ صارم:
-إبعد عني أنا و"يوسف" وده أفضل لك يا نبيل
لتتابع بتهديد مباشر:
-ولو كنت مسنود على فلوس باباك رجُل الأعمال،إبقى إسأل عن خالو "فؤاد"اللي بيعتبر" يوسف" إبنه، وجدو علام باشا زين الدين
هو بالتأكيد يعلم أفراد عائلتها بالكامل ومكانتهم الإجتماعية المرموقة،حيث تحدث إلى أبيه عنها وعن رغبته بالزواج منها ويعود هذا لاختلافها عن كل بنات حواء اللواتي تعرف عليهن طيلة حياته وواعدهُن، وعلى الفور سعد قلب الرجل حين علم بشخص جدها ومكانتهِ الرفيعة داخل المجتمع،وحفزهُ على مواصلة لفت نظرها لتتقبل به كزوج،رفع حاجبه ليجيبها بتأكيد:
-عارف وسائل كويس قوي، وعلشان كده متمسك بيكِ إنتِ بالتحديد
رمقته باشمئزاز قبل أن تتركهُ وتتحرك بطريقها دون أن تعير لجملته إعتبار، لكنها صُدمت بذاك الذي ولچ لتوه من البوابة الحديدية للجامعة، وما أن لمحها تقف مع ذاك السمج حتى تحولت ملامحهُ لحادة غاضبة، هرولت لتقابلهُ تقطع عليه الطريق كي لا يتشاجرا من جديد، لتسألهُ باستغراب:
-يوسف!،إنتَ مش المفروض عندك محاضرة؟!
ثم استرسلت متعجبة:
-وليه ما اتصلتش بيا وقولت لي إنك جاي؟!
اجابها وهو يناظر ذاك الذي يطالعهُ كديكٍ منفوش داخل حلقة مصارعة ويبتسم بسماجة لينطق بجدية:
-محاضرتي الأخيرة اتلغت فجيت أعمل للأستاذة مفاجأة واخدها ونخرج نتغدى مع بعض
حول بصره إليها ليتابع بحدة وعينين تطلقُ شزرًا:
-لكن شكلي جيت في وقت غلط، لأن سيادة السفيرة كانت واقفة مع جنابه
أمسكت كفه لتحثه على المضي قدمًا باتجاه الخارج:
-طب يلا علشان نتغدى،أنا جعانة جدًا ومفطرتش
طالعها بنظراتٍ لائمة لتتابع بمثيلتها متوسلة:
-علشان خاطري خلينا نمشي من هنا
زفر بحدة حين وجد الرُعب يسكن مقلتيها،فهي رقيقة كالنسيم، وأكثر ما يؤرق عليها حياتها ويصيبها بالإرتياب والهلع هو الصوت العالي والشجار،لذا فضل المضي معها للخارج،وصلا لسيارته وفتح الباب المجاور لمقعد القيادة ثم نطق وهو يُخرج هاتفهُ من جيب معطفهِ الرتيب:
-إركبي
استمعت لحديثه بدون نقاش واستقلت المقعد ليغلق هو الباب بهدوء ثم تحدث إلى الحارس الخاص بقصر علام:
-شريف،تعالى على جامعة أستاذة بيسان وخد العربية بتاعتها وصلها الفيلا،أنا هسيب لك المفتاح مع أمن الجامعة
وبالفعل ترك المفتاح مع رجل الأمن الذي يعرفهُ جيدًا ويعلم شخصية "بيسان"وبأن تلك المرة ليست بالأولى، استقل مقعده لينطلق بالسيارة دون الإلتفاف إلى تلك الجالسة بجواره وحدثها بحدة:
-إتصلي على عمتي وقولي لها إنك خارجة معايا
اومأت لتخرج هاتفها ثم تحدثت إلى"فريال"وبدورها رحبت،ظل ناظرًا أمامهُ دون أن يعير لوجودها إهتمام، لم تحزن منه لعدم تقديره لوجودها بل حزنت لأجل غضبه العارم وغيرتهُ الحادة عليها،هي تحبه بل تعشقه حد الجنون وتقدر جيدًا غيرتهُ العمياء عليها،إلتفت ناحيته لتنطق بدلالٍ عل صوتها الذي يعشقهُ وهو حنون يستطيع إخراجه مما هو عليه:
-ها يا چو،هتغديني فين؟
بصوتٍ حاد نطق وهو ينظر أمامهُ دون الإلتفاف لها:
-شوفي عاوزة تروحي فين
تدللت أكثر:
-بس أنا عوزاك تغديني على ذوقك، عاوزة كل حاجة أعملها في حياتي تبقى بموافقتك ورضاك
طالعها يعنفها بنظراته المتعذبة:
-يهمك قوي رضايا يا بوسي؟
-طبعاً يا حبيبي...قالتها بنعومة مؤكدة ليصيح بعينين متألمتين:
-طب ليه مصرة تثيري جنوني،برغم إني نبهتك بدل المرة ألف إنك ما تختلطيش مع اللي إسمه نبيل، إلا إنك مصرة تخالفي كلامي وتخرجي الوحش اللي جوايا
واستطرد:
-تعرفي إني مسكت نفسي بالعافية علشان مجريش عليه واضربه بوكسين في خلقته يشوهوه، يمكن يفهم ويحس على دمه، ويبعد عنك
واسترسل بما أثبت مدى رجاحة عقله رغم حداثة سنه:
-بس طبعاً سيادتك عارفة لو ده كان حصل في كلية عريقة زي دي، كان إيه اللي ممكن يحصل.
تعلم مدى خطورة نتيجة ذاك التصرف الأهوج لو كان فقد عقله وأقدم عليه، فكلية السياسة والعلوم السياسية هي واحدة من أعرق الكليات داخل مصر حيث يتخرج منها أغلب الساسة وصفوة الدولة،لذا الإقتراب من طلابها أو افتعال المشاكل داخل حرمها كي يعرض صاحبه للإحتجاز من قِبل رجال الشرطة،وضعت كفها تحتوي خاصته لتنطق بنبرة حنون تطمأنهُ:
-أنا مش قادرة أفهم إنتَ ليه شاغل نفسك بواحد زي نبيل، الكلام ده كان ممكن يشغلك لو إنتَ مش واثق ومتأكد من حبي ليك، لكن إنتَ عارف يا چو إن مفيش في قلبي ولا هيكون غيرك
طالعها بنظراتٍ تقطرُ عِشقًا ليقول هامسًا:
-أنا مفيش حاجة مصبراني في حياتي على كل اللي عرفته عن ماضي أهلي، وخسارتي لحلم النيابة غير حُبك وعيونك يا بوسي
ابتسمت وتراقصت حولها فراشات العشق جراء كلماته، ليرفع هو كتفيه باستسلام ليتابع:
-بس غصب عني غيرتي بتقتلني لما بشوف الولد ده بيقرب منك
لتحتد عينيه ويهتف بقلبٍ مشتعل:
-ده حول من كلية الحقوق بعد ما عرف إنك مش فيها زي ما كنتي مقررة، ودخل إقتصاد وعلوم سياسة علشانك يا بوسي، وجالي مخصوص كلية الهندسة وقالي شوفت، أنا وهي بقينا في نفس الكلية، يعني القدر بيهيء لنا حياتنا اللي جاية مع بعض
زفرت حين استمعت لحديثه لتنطق بطريقة متذمرة:
-وبعدين معاك يا يوسف، هو انتَ مخرجني علشان ننبسط مع بعض ولا علشان نضيع الخروجة كلها في سيرة البتاع ده!
تنفس بعمقٍ محاولاً تهدئة حاله، لكنه لم يستطع كبح غضبه ليسألها بصوتٍ جاهد بإخراجه هادئًا:
-كان عاوز منك إيه؟
طالعته متعجبة لتزفر قبل أن تجيبه بحدة عل ذاك النقاش عديم المنفعة ينتهي ويرتاح قلبه:
-كان بيسخف وكالعادة اديته في وشه وسيبته ومشيت
ابتسم رُغمًا عنه ليسألها مكررًا المصطلح التي استخدمته للتو:
-اديتيه في وشه إزاي يعني؟
رفعت كتفيها قبل أن تقول بابتسامة:
-صحبتي بتقولها كده، لما تحرج حد بتقول اديته في وشه
قهقه عاليًا من شدة ضحكاته لتتجمد وهي تنظر على ذاك الوسيم الذي يستطيع بضحكة منه أن يأسر قلبها ويسحبها من العالم أجمع ليسحرها بعالمه الخاص به هو وهي فقط لا غير،نطقت وهي تطالعهُ كالمسحورة:
-خليك كده دايمًا يا "يوسف"، الضحك والسعادة لايقين عليك قوى.
تنفس عاليًا حين تذكر حياتهُ الرائعة وضحكاته قبل ذاك اليوم المشؤوم الذي نزل عليه كقنبلة فوق أرضه لتتناثر أحلامه هنا وهُناك وتتوقف ضحكاته وتتجمد،ولولا وجود عيناي تلك الرقيقة ووقوفها بجانبه رغم رفضهُ وثورتهُ على الجميع ودخولهُ بنوبة إكتئاب حادة أثرت بالسلب على إيثار وأدخلتها بنوبة هلع وبكاء هيستيري لا ينقطع ،مما جعل من فؤاد يتحرك سريعًا ويعرضه على طبيبًا نفسي، وبمساعدته والجميع وخصوصًا"علام" استطاعوا إخراجه بصعوبة، وبرغم هذا لم يعد لحياته كما كانت، لكنه مازال يحاول مواصلة الحياة وتخطي تلك الطامة الكُبرى.
تطلع عليها ثم تحدث ونبضات قلبه تنتفضُ وتدق كطبول حرب:
-بحبك يا قلب وعمر يوسف كله
ابتسمت لتسحب عنه عينيها بخجلٍ أسعدهُ،ليعود متابعًا الطريق من جديد
بعد قليل كانا يتناولان أكلتهما المفضلة،تلك الشطائر«البيتزا»، نظر عليها وهي تجفف فمها بمحرمةٍ ورقية لينطق وهو يُشير إلى صَحنها:
-كملي أكلك يا قلبي
أشارت بكفها لتنطق باكتفاء:
-عاوزني أكُل إيه تاني يا چو، أنا أكلت لدرجة إني مش قادرة أتنفس خلاص.
ثم تابعت وهي تتطلع عليه بنظراتٍ تهيمُ عِشقًا:
-تعرف يا يوسف، معاك كل حاجة بيبقى لها طعم تاني ومختلف، حتى الأكل
ابتسم ليقول وهو يُمسك مثلثًا من الشطيرة استعدادًا لقطمها:
-بالهنا والشفا يا حبيبتي
أمسكت بالمياة الغازية ترتشف منها وتبتسم، بعد قليل كانت تجاورهُ الجلوس داخل السيارة وهي بقمة سعادتها، فحقًا معه كل شيء مميز ومختلف،وصلا لمكان منزليهما لتتبدل ملامحها حين وجدت ذاك الحانق ينتظرها والسخط يكسو ملامحه، توقف يوسف أمام منزلها الذي يسبق القصر ببضعة أمتار، ليترجل وهي ايضًا بنفس التوقيت، تحدث بهدوء لذاك الواقف يرمقهما بحدة:
-إزي حضرتك يا دكتور
نطق مرغمًا وبحدة:
-الله يسلمك
ثم وجه حديثهُ لابنته:
-فين عربيتك؟!
تحدثت بهدوء لاعتيادها على ذاك الأمر منذ أن أهدت "إيثار" تلك السيارة إلى"يوسف" بعيد ميلاده التاسع عشر:
-الـ bodyguard أخدها من الكلية وجابها هنا، وأنا خرجت مع چو إتغدينا.
رمقها بحدة ليسألها بطريقة جديدة عليها ومختلفة كليًا عما هي معتادة عليه:
-إستأذنتي مني قبل ما تخرجي معاه؟
شعر بتلبكها فأراد التدخل كي يرفع عنها كهل تلك المواجهة:
-إحنا استأذنا من عمتي
-مين عمتك؟!..قالها وهو يرمقهُ بنظراتٍ حادة كالصقر،ليجيبه الاخر وهو يبتلع لعابه:
-عمتي فريال
-أولاً فريال مش عمتك،ولاعمرها هتكون...قالها بجبروت ليُكمل بقسوة وحروفٍ ذات مغزى:
-إنتَ كبرت وكل الحقايق إنكشفت قدامك،والمفروض تتعامل على ده الأساس
قالها بحقدٍ ملمحًا ما علم به الشاب مؤخرًا عن عائلته مما جعل الحزن يقتحم قلبه وما شطرهُ لنصفين ما نطق به متابعًا:
-المفروض كمان إنك تستأذن مني أنا لما تحب تخرج مع بنتي، ولا علشان اللي ربتك واحدة ست فانطباعك إن كل البيوت بتديرها ستات؟!
وبرغم كلماته القاتلة والمقصودة ليبتعد عن ابنته إلا أنهُ تماسك و وقف بقوة شامخًا قبل أن ينطق بحزمٍ:
-أنا اللي رباني سيادة المستشار علام زين الدين وسيادة المستشار فؤاد زين الدين،والإتنين علموني الأصول كويس قوي وعمري ما اتخطاها،وطول عمري وأنا بخرج انا وبيسان لوحدنا،وبستأذن من "فريال" هانم
واسترسل بذات مغزى:
-طالما كلمة عمتي بتزعل حضرتك
وتابع مسترسلاً:
-وعمرك ما اعترضت على ده، بالعكس، حضرتك كنت واخد الموضوع عادي جداً
وتسائل تحت دموع بيسان التي سالت لأجله:
-إيه اللي اتغير علشان كلامك ده؟!
بقوة وصرامة اجابهُ:
-حاجات كتير قوي اتغيرت، وبلاش أقولها علشان مجرحكش
وتابع أمرًا بحدة:
-ومن النهاردة ممنوع منعًا باتًا إنك تخرج مع بنتي او تقعد معاها لوحدكم، حتى لو كان في جنينة قصر الباشا.
اتسعت عينيه وتمزق قلبه ألمًا من شدة ما شعر به من إهانة توجهت له على يد والد الفتاة التي يعشقها، مازاد من إيلام روحهُ هو وجودها أمامهُ لترى عجزه أمام والدها الحقير، لم يعطه حق الرد والدفاع عن نفسه ليجذب نجلته من رسغها ويجرها خلفه بطريقة همجية صدمتها كونها المرة الاولى التي يعاملها بها والدها بتلك الطريقة الغير متحضرة بالمرة، ليتركا الأخر يتلقى خيبةً جديدة تُضاف لخيباته التي تتوالى واحدة وراء الأخرى.
عودة للحاضر
تنفست بألمٍ ينخر بأعماق قلبها ويكاد يفتكُ به، تحركت للداخل كي تغتسل وتبدل ثيابها، بعد عدة دقائق كانت تنزل الدرج لتنضم إلى طاولة الفطار التي تضم والديها وشقيقها، سألها والدها باهتمام:
-عيونك منفخة ليه كده؟
اشاحت بوجهها عنه لتنطق بهدوء:
-مش نايمة كويس
ليه؟!...كلمة حادة وجهها لها لتجيبهُ بتوترٍ:
-كنت بذاكر
لم ينطلي عليه حديثها ولهذا تحدث بصرامة:
-زي ما اتفقنا،مفيش دخول لقصر الباشا النهار دة،إقعدي ذاكري أحسن
نطق الفتى باستغراب:
-بس ده چو جاي النهاردة يا بابي
-فؤاد...قالها حازمًا ليصمت الفتى مستغربًا حالة والده التي تحولت كليًا وكأنهُ تبدل لأخر،تلك المرة تحدثت فريال وهي تقول بنبرة مبطنة بالتحذير:
-ولو جدها سأل عليها يا دكتور ، هترد عليه تقول له إيه؟!
طالعها بجبينٍ مُقطب ليتحدث بقوة:
-دي مشكلتي يا فريال وهعرف أحلها، إهدي إنتِ بس كده وريحي أعصابك المشدودة دي
تنفست لتكظم غيظها منه وتستدعي الصبر على تصرفات ذاك المتحول،وقفت الفتاة لتنطق وهي تتحرك للتأهب للصعود إلى غرفتها من جديد بعدما شعرت وكأن حجرًا ضخمًا يجثو فوق صدرها:
-بعد إذنكم
-رايحة فين؟!
إلتفتت ليتابع والدها بأمر:
-إقعدي كملي فطارك
بكسرة قلب تحدثت بنبرة خرجت مختنقة لتوقف الدموع بمقلتيها:
-مليش يا نفس، ومن فضلك يا بابي سيبني براحتي وبلاش تخنق في روحي أكتر من كده
نطقت جملتها الاخيرة لتسرع مهرولة للدرج ودموعها تسيل فوق وجنتيها من شدة شعورها بالظلم التي تتعرض إليه على أيادي جميع احبتها.
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
بقصر سعادة المستشار "علام زين الدين "تحديدًا داخل الجناح الخاص بذاك الحبيب وتلك العاشقة التي خرجت بطلة رائعة من ملحق غرفة الملابس،فقد ارتدت أفضل ما عندها وتأنقت إحتفاءًا بقدوم نجلها الحبيب إلى القصر اليوم،فسعادتها اليوم لا تُوصف،تطلعت بعينين سعيدتين على ذاك الذي يتوسط الفراش ومازال بالنوم غارقًا،إقتربت من المنضدة لتلتقط جهاز التحكُم عن بعد الخاص بالستائر ،ضغطت زِر الفتح لتنزاح الستائر ويقتحم نور الشمس الغرفة لتتسلط أشعتها الذهبية من خلف الزجاج وتسقط فوق وجه ذاك الغافي الذي تملل لتنكمش عينيه بانزعاجٍ ثم فتحهما رويدًا رويدا ليحجب بذراعه الشمس عن عينيه،نظر أمامهُ ليرى تلك الجميلة المبتسمة وهي تقول بوجهٍ مُبهج كإشراقة الصباح:
-صباح الخير يا حبيبي، يلا قوم بسرعة يا كسلان علشان نفطر مع بابا
فرد ذراعيه وتمطأ بتكاسل وهو يسألها:
-هي الساعة كام؟
-تمانية
تعجب ليسألها:
-وإيه اللي مصحيكِ بدري كده، المفروض النهاردة الجمعة يعني يوم أجازتنا، والكل عارف إننا بنسهر الخميس برة البيت وبنرجع متأخر نكمل سهرتنا هنا في الجناح، وطبيعي بنقوم متأخر
تطلع إلى تلك المبتسمة لينطق بعدما تذكر:
-آه،مش تقولي إن چو جاي النهاردة
اقتربت عليه لتجلس بجواره وهي تقول بسعادة هائلة:
-يظهر إن سهرة إمبارح في أوضة الچاكوزي أثرت على ذاكرة سيادة المستشار.
غمز لها قبل ان يقول بمشاكسة:
-وهو اللي حصل منك إمبارح يخلي الواحد يحتفظ بعقله يا مديرة
نطقت بذهول وعدم استيعاب لما حدث منه بالأمس:
-فيه راجل عاقل يدخل بمراته أوضة الچاكوزي بعد سهرة طويلة برة البيت، وفي عز الشتا والساعة واحدة بالليل يا مفتري.
-بس إنتَ كنت وحش يا إيثو...قالها وهو يغمز بوقاحة مما جعلها تضحك بدلال، جذبها من رسغها لتعتليه وتحدث غامزًا:
-تعالي هنا، إنتِ مين اللي سمح لك تاخدي شاور وتسبيني نايم، ها؟
حاولت التملص من بين قبضتيه وهي تقول:
-بطل شقاوة ويلا خد الشاور بتاعك علشان ننزل نفطر ونستنى يوسف
بدلالٍ تحدث:
-طب نامي في حُضني شوية.
-فؤاد...قالتها بتملل ودلال ليجيبها بهمسٍ:
-عيون حبيبه يا بابا
ابتسمت لتنطق بنعومة أنثوية:
-وحياتي تقوم علشان تفطر معايا
ثم تابعت بحماس وعينين تنطق سعادة:
-عاوزة أدخل المطبخ علشان أعمل ليوسف بنفسي كل الأكلات اللي ببحبها
تلمس بشرة وجنتها الناعمة وهو يقول بابتسامة حنون:
-مبسوط قوي علشانك، وعلشان يوسف أكتر، إن شاء الله تبقى بداية وربنا يهديه، وعلى الاقل يزورنا هنا كتير علشان إخواته اللي متعلقين بيه
إكفهرت ملامحها لتهب من فوقه وبلحظة كانت تقف على الارض،تحدثت باعتراض:
-يزورنا، طب قول ربنا يهديه ويرجع يعيش معانا؟
نفض عنه الغضاء وبلحظة كان يقابلها الوقوف ليحتضن وجنتيها قبل أن يقول بتعقلٍ:
-يوسف مش هيتخلى عن أخته،ده تربية إيدي وأنا أدرى بيه
ثم تابع ناصحًا:
- ياريت تأقلمي نفسك على كده علشان متتعَبيش وتِتعِبيني معاكِ
تملك الألم من ملامحها وارتسم الحزن لتنزل عينيها للأسفل مما جعلهُ يتألم لاجلها فتحدث وهو يتأمل عينيها:
-وحياة فؤاد عندك لتهدي وتسيبي الولد يعمل اللي يريحه، يوسف مبقاش صغير يا بابا، ده راجل ومش أي راجل، يوسف راجل يعتمد عليه وسند لاخته
تنهدت بألم،لا تنكر أنها تحاول جاهدة مؤخرًا الاعتياد على هذا الوضع الذي فُرض عليها، لكن قلب الام لا يستوعب ولا ولن يتقبل بعد، ذاك الذي لطالما رأتهُ ذاك الصغير ذو الستة أعوام والتي حاربت من أجله عالمها بالأجمع.
جذبها لتسكن أحضانه، تنهدت براحة شعرت بها لتستمتع بلمسات يده الحنونة وهي تصولُ فوق ظهرها بنعومة وهمساتٍ بكلماتٍ حنونه من ذاك العاشق جعلتها تدخل في حالة من الاسترخاء، تلاشت بلحظة دخول ذاك المشاغب الصغير الذي اقتحم الباب وهو يقول:
-إنتوا بتعملوا إيه؟!
إنتفضت لتبتعد سريعًا ليتحدث إليها متعجبًا:
-فيه إيه يا إيثار؟!
ابتلعت لعابها خجلاً ليتابع بحدة:
-محسساني إنه قفشنا في وضع مُخل، إنتِ لابسه كامل هدومك وحجابك يا بابا
ثم تطلع على ذاك الذي يربع ذراعيه ليتابع بحدة وغضب طفولي:
-چو قرب ييجي وإنتوا لسه منزلتوش،دي زوزة عملت له الچيلي اللي بيحبه، وأنا كمان بحبه معاه.
تعمد رسم ملامح الجمود رغم لطافة الصغير لينطق بحزمٍ وحدة:
-أنا كام مرة نبهتك وقولت لك مينفعش تدخل على أي حد أوضته من غير ما تخبط وتسمع بنفسك رده عليك؟!
ببراءة أجابهُ وهو يشيح بكفيه بطريقة تمثيلية:
-بس إنتَ بابي وهي مامي، يعني مش حد، مامي قالت لي إني أقرب حد لروحها، يعني أنا روحها
أغمض عينيه يعتصرهما بقوة داعيًا الله أن يلهمهُ الصبر على تصرفات ذاك الصغير الغير محتملة، ثم فتحهما لينطق لتلك التي تقف كالفأر المبتل وتحدث بجدية:
-شوفي لك حل مع إبنك يا إيثار،تعمليه الأصول والأدب من جديد، أو توديه لمتخصص تعديل سلوك،المهم سلوكه يتظبط لأن الوضع بقى غير محتمل
-إهدى يا حبيبي وأنا هتصرف معاه...قالتها لتنظر إلى الصغير بحدة:
-إنزل تحت وإحنا جايين، وصدقني لتتعاقب على شقاوتك دي يا "مالك"
مط شفتيه ليهرول للخارج تحت تذمره لتنطق وهي تتحرك باتجاه الحمام:
-هجهز لك الحمام بسرعة.
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
بتوقيت العاشرةِ صباحًا لمحافظة كفر الشيخ، بإحدى قراها وتحديدًا داخل منزل"غانم الجوهري"، بذاته نفس موقع المنزل لكنه أصبح يختلف كليًا عما كان يسبقهُ بالماضي، فقد تحول إلى منزلٍ فخم يشبه منازل الأثرياء بالبلدة، فقد هدموه وأعادوا تشييدهُ من جديد ثم إبتاعوا أثاثًا عصريًا ليواكب العصر، كل هذا النعيم ظهر عليهم بعدما تخلوا عن قطعة من الارض التي تركها لهم والدهم مقابل مبلغًا مرتفع من المال،وذلك بعدما ارتفع سعر متر الارض لعشرة أضعاف بفضل ذاك الطريق السريع الذي أنشأته الدولة ليفتح مغارة علي بابا بوجه هولاء وغيرهم من أهالي البلدة الذين يملكون أرضًا على حافة الطريق،بداخل غرفة واسعة تمتلؤ بأثاثٍ حديث بألوانٍ مبهرجة،كانت تجلس العائلة بأكملها بصحبة "أيهم"وزوجته"أميرة"ونجليهما، تزوجت جميع بنات عزيز وأيضًا إبنة وجدي
جاور أيهم والدته الجلوس فوق تلك الأريكة المريحة،ليقبل كفها قائلاً بحفاوة:
-وحشتيني يا حبيبتي
-لو وحشاك كنت جيت شوفتني لوحدك، مش تستنى لحد ما أتصل أنا بيك وأقول لك تعالى... قالتها بملامح مكفهرة لتتابع ساخطة:
-ولا أختك اللي ليها شهرين مشفتش وشها
تحدثت أميرة بدفاعٍ عن شقيقة زوجها الحنون:
-"إيثار "غصب عنها يا ماما، من يوم ما يوسف سابها وراح سكن برة مع اخته وهي حالها يحزن، عيونها دبلت من كتر العياط علشانه
هزت رأسها قبل أن تقول بحدة:
-عيل قليل الأصل زي ابوه وجده، مطمرش فيه ربايتها وجريها وشقاها عليه
ليكمل عزيز المتكأ على الأريكة حديثها:
-ده عيل معندوش عقل، حد يسيب العز اللي كان عايش فيه ده كله، ويروح يأجر شقه ويسكن فيها مع اخته
لترد عليه تلك الشمطاء:
-وكل ده علشان خاطر بنت خطافة الرجالة" سُمية" الله يجحمها مطرح ما راحت، ساب أمه علشان بنت السِت اللي خربت بيتها وشردتها هي وهو
اما وجدي الجالس بجوار أيهم فنطق متأذيًا من حديث والدته القاسي:
-خلاص يا أم عزيز، بلاها السيرة دي الله يبارك لك، إذكروا محاسن موتاكم
هتفت تلك السيدة الثلاثينية"رقية" التي ولچت للتو من الباب لتمدد تلك السفرة الارضية«الطبلية المستطيلة»بشكلها الذي يُشبه السُفرة لكنها قصيرة، فقد تزوجها عزيز بعد وفاة تلك الـ"نسرين"بعامين كي يجلب إمرأة لتحمل مسؤولية اولاده وتلبي له احتياجاته كرجل:
-وهي دي كان ليها محاسن يا سي وجدي، دي كانت مخبية بلاوي وربك فضحها قدام البلد كلها
-مخلصنا بقى يا أم "عامر"... قالها وجدي مناديًا إياها باسم نجلها الأول، نتاج زيجةً فاشلة حيث طُلقت بعد عامًا فقط من زواجها ليتزوجها عزيز بعدما تركت نجلها برعاية والدتها، وقد رزقت من عزيز بفتاة أطلق عليها إسم"إيثار"كاعتذارًا منه لشقيقته عما بدر منه بحقها بالماضي
تابع حديثه:
-همي وهاتي الفطار إنتِ ونوارة علشان نلحق نروح نشوف العمال عملوا إيه في الكافيتريا،
النهاردة الجُمعة والشباب كلها أجازة من الشُغل وبييجوا الكافيتريا يطلبوا فراخ وكفتة وكباب
ضحك عزيز ليقول بدعابة:
-بيبروا على نفسهم بعد اسبوع من الشغل والشقى.
-ربنا يوسع رزقكم يا ولاد منيرة ويزيدكم من خيره... كلمات نطقتها منيرة وهي ترفع كفيها للاعلى في مناجاتها مع الله لتؤكد على حديثها تلك الـ"نوارة"صاحبة الوجه البشوش وهي تحمل بين يديها الطعام:
-يارب يا مرات عمي
ثم نظرت إلى أيهم ونطقت بسعادة وهي ترص الصحون فوق المائدة:
-أما أنا بقى عاملة لك شوية فطير مشلتت يا أيهم، هتاكل صوابعك وراهم إنتَ وأميرة
أجابها بابتسامة:
-تسلم ايدك يا نوارة، بس إبقى إعملي حساب" إيثار"
-ودي حاجة تفوتني بردوا يا أيهم...قالتها لتكمل منيرة على حديثه:
-عاملين حسابها في المشلتت والبط والعسل النحل
قبل يدها مرةً أخرى ليقول:
-ربنا يخليكي لينا يا ست الكُل
نطق وجدي ممتنًا لشقيقته:
-ده أقل واجب ليها يا أيهم،ده كفاية إنها رفضت تاخد ورثها، مع إن كان هيطلع لها مبلغ محترم من الأرض
أكد على حديثهُ عزيز ووالدتها وقفت "أميرة" لتقول وهي تتحرك بجانب نوارة:
-تسلم إيدك يا نوارة، أنا جاية معاكِ أساعدكم.
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
بمنزل الحاج محمد شقيق "إجلال"
كانت تجلس بجوار شقيقها وأنجاله وزوجته تلك الـ"أزهار"
اقترب حفيده البالغ من العمر العاشرة،وتحدث إلى جده:
-جدي،عاوز مية وخمسين جنية أكل بيهم مع أصحابي في كافتيريا "الجوهري"
دبت والدته على صدرها لتقول بذهول:
-مية وخمسين جنية حتة واحدة، ليه يا واد، هتاكل خروف لوحدك؟
تطلع الفتى إلى والدته لينطق ساخرًا من حديثها:
-خروف إيه يا ماما اللي بمية وخمسين جنية،إنتِ قديمة قوي، ده يادوب هاكل بيهم ربع فرخة مشوية وصباعين كفتة وشوية رز على شوية سلطة ورغيفين
هتفت "إجلال"بحقدٍ دفين:
-والله عال يا ولاد الجوهري،الجعانين اللي كانوا بيقضوا عشاهم نوم بقوا اصحاب محلات، ولاهفين فلوس البلد كلها في عبهم، دي القوالب نامت والإنصاص قامت يا ولاد
أطلقت أزهار ضحكة شامتة لتنطق بذات مغزى:
-زمن غدار وملوش أمان يا أم طلعت،لا بيخلي العالي على حاله، ولا الواطي واطي
وأدينا شفنا بعنينا، أكم من الناس اللي كانت فاكرة نفسها فوق الكُل وبيتجبروا
لتكمل قاصدة إياها وأنجالها:
-ربك ذلهم وبقى مفيش أوطى منهم
احتدت ملامحها وامتلئت عينيها بشرارات الحقد لتسألها كأسدٍ جائع قبل أن ينقض على فريسته:
-تقصدي إيه يا" أنهار" بكلامك ده؟
-مقصدش ، بس اللي على راسه بطحة...قالتها لتتأهب الاخرى بالرد لتتفاجأ بشقيقها محتدًا بكلماته:
-ما تخرسي يا ولية منك ليها صدعتونا
إلتزمت كلاً منهما الصمت وباتت تتطلعان على بعضيهما بنظراتٍ فتاكة ليهتف الصبي إلى جده:
-متجيب الفلوس يا جدي علشان أمشي مع اصحابي
ادخل كفه داخل جيب جلبابه ليخرج له النقود فصاحت "إجلال"بحدة:
-إنتَ هتدي له الفلوس دي كلها علشان يروح ينفع ولاد منيرة يا حاج" محمد"؟!
هتف بحدة وكبرياء وهو يناول الفتى المال:
-عاوزاني أسيب حفيد الحاج "محمد ناصف " يبص لاصحابه رعاع البلد وهما بياكلوا، ويتحصر علشان حقدك على ولاد منيرة واللي عملته فيكم اختهم زمان يا "إجلال"؟!
إحتدم داخلها وشعرت بنارًا تسري بوريدها لكنها تحلت بما تبقى لديها من صبرٍ لحين أن تأتي اللحظة الحاسمة، فتبسمت وشعرت ببعضًا من الراحة التي لا يعلم مصدرها سواها وفقط.
❤️❤️❤️❤️❤️
باللحظةِ الاولى التي اتخذتَ بها قراريَ الحاسمَ بالإبتعادِ عنكِ، كنتُ أعلمُ أنهُ ليس بالقرارِ السهلِ على كِلانا،وكيف للمرءِ أن يتخلى بسلاسةٍ عن خليلِ روحهِ دونَ إختلالِ حياتهِ وفقدانهِ للإتزانِ الكاملِ،لقد رافقَ كُلٌ منا رحلةَ حياةِ الأخرِ منذُ أن كُنا صِغارًا حتى أصبحنا بريعانِ شبابِنا،لطالما كُنتي بعيني كزهرةٍ بريةٍ رائعةَ المظهرِ، طِيبُ عِطرُكِ سابقًا لخطواتِك،و لطالما كنتي الأنثى المفضلةِ لديّ بل الأفضلُ والاروعُ على الإطلاقِ وستبقين،وبرغم يقينى من هلاكِ قلبي جراءَ إبتعادكِ عنه، لكنني اتخذتُ ذاك القرارِ عن قناعةٍ إمتثالاً لكرامتي وعزةِ النفسِ ،قمعتُ مشاعري وضغطتُ على جُرح قلبي بيدي وتركتهُ يتلوعُ وجعًا من شِدةِ الإشتياق،ادعيتُ الصمودَ لأقفَ شامخًا وبيدي كظمتُ صرخاتَ قلبي الذي يئنُ ألمًا لكي أتفادى الإنهيارَ، حاولتُ جاهدًا ألا أرى عيناكِ لكي لا أفقدُ طاقةَ صبري وينزفُ جُرحي من جديدِ وأسرعُ مهرولاً كي أضمَكِ بروحي لإطفئَ نارَ اشتياقى،واليومُ قد عُدتُ، وها أنا الأن أقفُ أمامَ سحرِ عينيكِ لينفجرَ قلبي صارخًا من مجردِ رؤيا من تمكنت من استيطان العقل وامتلاكَ لُبِ القلبِ وثنايا الروحِ.
«يوسف عمرو البنهاوي»
داخل الشقة التي استأجرها يوسف ليقطن بها هو وشقيقته، دقت الساعة الحادية عشر ظهرًا، ارتدى كامل ثيابه ونثر عطره الرجولي على جسده بسخاءٍ، تطلع على حالهِ عبر المرآة، إنتفض قلبهُ بقوة داخل صدره عندما تذكر أنه من المحتمل أن يراها اليوم، هي من تملكت من القلب والعقل معًا، لقد نشأ غرامها بداخله تزامنًا مع سنوات عمرهما معًا،تذكر دموعها باليوم الذي تركها به،يا الله،كم كان يومًا كئيبًا بل الأبشع على الإطلاق منذ نشأته،حتى أن حزنهُ في ذاك اليوم فاق صرخات قلبهِ الرافضة حين عَلِم بقصة عائلته، ألمًا قوي إقتحم قلبهُ ليزلزل كيانهُ بالكامل حين لاحت بمخيلتهُ مشهد دموعها وتَأوُّه قلبها النازف وهي تترجاه وتتوسلهُ بكل ما هو عزيزٌ لديه بألا يفعل بهما هذا
عودة لما قبل الشهرين.
أصبحت رؤيتهُ لوجه ذاك الـ"ماجد"تثير إشمئزازه وتورق عليه حياته،وما عاد فيه تحمل سخافاتهِ أكثر من ذاك، بالإضافة إلى وضع شقيقتهُ المُزري، فمنذُ أن علم بوجودها وذهب لرؤيتها التي صدمته، فما كان يخطر على باله أن تكون تلك هي حالة شقيقته، تأثر كثيرًا وبات يضغط على حاله في البحث عن فرص عمل اكثر عبر الإنترنت ليزيد من فرصة كسبه للمزيد من المال من أجل انتشال تلك البائسة والنأي بها من مستنقع العَوز الذي حيت بداخله منذُ نشأتها،إنغمس في المذاكرة وتطوير ذاته بالإضافة إلى العمل كي يشغل كل وقته،إنعزل في غرفته وبات يقضي بها معظم وقته أثناء تواجدهُ في المنزل كي يقلل من فرص رؤية ماجد وأيضًا بيسان،مما جعل حالة إيثار تتأثر سلبًا من عزلته، استطاع جمع المال من عمله وبلحظة قرر الرحيل،قام بتأجير مسكن في منطقة متوسطة الحال وقرر إخبار مالكة القلب،ذهب إليها في الجامعة،فذاك هو المكان الوحيد الذي يستطيع أن يراها به دون قيود،هاتفها ففرحت كثيرًا وانتظرته،وصل إلى الجامعة وجدها تنتظرهُ بلهفة داخل الفناء،هرولت عليه لتنطق بحبورٍ ظهر جليًا بمقلتيها الساحرتين:
-يوسف، أنا مبسوطة قوي إنك طلبت تقابلني، أخيرًا هتفوق وتبطل تاخدني بذنب بابي
مع كل كلمة تنطقها كانت تزيد من إيلام روحه وأنين قلبه الذي إمتلأ شروخًا وما عاد فيه الإحتمال، أكملت لتزيد من عذاباته:
-إنتَ وحشتني قوي يا يوسف
واسترسلت بقلبٍ يفيضُ غرامًا ويُترجمُ ذاك الشعور ليظهر جليًا بعينيها:
-بص لي يا يوسف، عيونك وحشتني قوي
إنتفض قلبهُ صارخًا يئنُ ألمًا مطالبًا إياها بالرحمة والكف عن تلك الكلمات التي ما تزيد روحهُ إلا مزيدًا من الوجع، بحث عن صوتهِ كثيرًا وترجاهُ كي يظهر ولا يخجلهُ، ليمتثل لأمره قائلاً:
-إحنا لازم نتكلم يا "بيسان"
-أول مرة تقول لي يا "بيسان" وإحنا لوحدنا!... قالتها بحزنٍ وخيبة أمل لتتابع بحيرة:
-مالك يا "يوسف"، فيك إيه يا حبيبي؟
كلماتها جالدة للذات، نظراتها كصرخاتٍ تنزل على جسدهِ تُشعل نارهُ، بلحظة فكر بأن ينصاع لنداء قلبه ويشق صدرهُ ليخبأها داخله ويرحل مهرولاً تاركًا عالمهُ المظلم ذاك،ويحيا معها حياة العاشقين، ينهلُ من شهد غرامها ويُسقيها من كأس عشقهِ العظيم، لكن العقل والضمير متيقظان ويقفان لذاك القلب بالمرصاد، بصعوبة أخرج صوتهُ بعدما حسم أمره:
-تعالي نتكلم برة في العربية
سعد داخلها ومَنت حالها بأنهُ عاد معتذًرا عن كل ما مضي من الإبتعاد اللعين الذي قرره منذُ ما يتخطى الستة أشهر، أمسكت كفهِ سريعًا وضمتهُ بين راحتها لتنطق وهي تتعمقُ بمقلتي ذاك الذي انتفض جسدهُ بالكامل من إثر لمستها معلنًا العصيان على ذاك العقل الجاحد، رُغمًا عنه أطبق أناملهُ يحتوي كفها وترك لجام قلبهُ ليستمتع بلمساتها الأخيرة، وصلا للسيارة لكنه توقف أما الباب الخاص به ولم يفعل ككُل مرةٍ كان يهرول بها ويفتح لها الباب حتى تجلس براحة ويطمئن على وضعيتها ثم يغلقهُ بهدوءٍ كي لا يزعجها بصوته، وقفت تتطلع على ذاك الذي ناظرها بملامح جامدة وهو يقول:
-إركبي يا بيسان
تنهدت وتحركت بساقين متثاقلتين تجر بهما أذيال خيبتها، استقلت بجواره لتجدهُ يتطلع أمامهُ متمركزًا بمقلتيه في نقطة اللاشيء، تلاشت حدسها المتشائم لتسألهُ بنبرة متفائلة رغم ما تشعر به من أعاصيرٍ قادمة:
-مش هتتحرك، تعالى نروح الكافية بتاعنا ونشرب الكابتشينو اللي بنحبه
نظر للأمام وبمنتهى القسوة تحدث:
-مش هينفع، إحنا هنتكلم هنا، وبعدها هتنزلي وتاخدي عربيتك وتروحي على بيتك.
توقف لوهلة ثم ابتلع لعابهُ يجاهد بإخراج الكلمة التي خرجت حروفها كأنها تصرخ بأعلى صوتها:
-وتنسيني للأبد.
فغر فاهها ببلاهة، لم تستوعب ما نطق به، تشوش عقلها وكأنهُ رافضًا تصديق ما وصله، نطقت بحروفٍ متقطعة:
-أنساك إزاي يعني، هو فيه إيه يا يوسف؟!
تطلع عليها بجمودٍ حارب ليستطيع الصمود عليه، تابعت وهي تهز رسغهُ علهُ يستفيق:
-يوسف، إنتِ بتخوفني بكلامك ده، أرجوك إتكلم وطمني
تنهد بقوة لينظر بعينيها قائلاً بما نزل على قلبها ليشطرهُ بدون رحمة:
-أنا جاي أحلك من أي وعد وعدتهولك في يوم من الأيام، حكايتنا خلصت لحد كده
-إنتَ بتقول إيه؟!... قالتها بهلعٍ لتتابع وهي تهزهُ من كتفه بقوة:
-فوق يا يوسف،فوق وشوف إنتَ بتقول إيه
أخذ نفسًا مطولاً ليتماسك ثم تحدث ناطقًا:
-أنا فايق كويس قوي وعارف أنا بقول إيه، قراري أخدته بعد تفكير عميق، ولقيت إن ده أنسب حل ليا وليكِ، أنا أخدت شقة بعيد، وهنقل فيها النهاردة، هعيش فيها أنا وأختي، والقصر أنا مش هرجعه تاني.
صرخت ودموعها شرعت بالهطول كأمطارٍ غزيرة بليلةٍ شتوية شمسها غائب:
-مش هسمح لك تدمر حلمنا علشان أوهام في دماغك، حرام عليك بقى
-دي مش أوهام، فوقي بقى، ده الواقع اللي عايشينه...كلمات نطقها بنظراتٍ حادة ليتابع بصياحٍ مرتفع أرعبها وأصاب جسدها بالإنتفاض:
-إنتِ فاكرة إيه؟ سهل قوي بالنسبة لي لما أجي واقولك خلاص، إحنا لازم نسيب بعض، أنا بموت من جوايا وأنا بنطق الكلمة
ليتابع مسترسلاً بألم:
-بس خلاص، الواقع بيقول إن حكايتنا خلصت لحد كده.
مالت برأسها ونطقت وقلبها يتمزق:
-وأنا المفروض أعمل إيه الوقت، أضغط على زرار النسيان جوايا وأنزل من عربيتك ناسية كل حاجة كانت بينا؟!
وتابعت بوجعٍ وهي تبتسم ساخرة مشيرة بكفها:
-ذكريات سنين طويلة بقى، وحب عُمره قد سنين عمري،مشاعر اتخلقت جوانا ومواقف عشناها زودت ارتباطنا ببعض
تابعت بدموعها المنهمرة:
-لمسات ونظرات زودت من ارتباط روحنا، وكلام هيج جنون حبنا لبعض،أحلام حلمناها وصدقناها وسعينا نحققها، المفروض إني أضغط على زرار واعمل delete لكل المشاعر دي؟!
طالعها بعينين تتلألأُ بداخلهما دموع القهر والخزلان لتتابع بضعفٍ ودموع وهي تهز كتفيها مستسلمة:
-طب قولي إنتَ يا "يوسف"، أعمل إيه؟
-ده نصيبنا ولازم نرضى بيه... قالها باستسلامٍ طارق على شخصيته القوية ولا يليق به،لتصرخ باعتراض:
-ده مش نصيبنا،ده قرارك الأناني اللي أخدته لانك ضعيف ومش قد المواجهة
اتسعت عينيه ليصيح بحدة معترضًا:
-أنا مش ضعيف
بحدة مماثلة عارضته:
-لا ضعيف، وطلعت مش راجل كمان زي ما كنت فكراك يا يوسف، لأن مفيش راجل بيتخلى عن وعد إداه لواحدة سلمت له قلبها وأطمنت على نفسها وهي معاه
هتف بحدة تنمُ عن مدى ما أصابهُ من غضبٍ جراء حديثها المهين لهُ كرجل شرقي حُر:
-أنا لو مش راجل بجد، مكنتش قتلت نفسي في الشغل علشان أقدر أتحمل تكاليف العيشة أنا وأختي لوحدنا، لو مش راجل، كنت سيبت اختي لكلاب الشوارع تنهش فيها وأنا عايش مرتاح وملك زماني في قصر علام باشا.
أشارت على حالها تسألهُ بذهولٍ وعدم استيعاب:
-طب وأنا يا يوسف، مفكرتش فيا زي ما فكرت في أختك وفي معاملة بابا ليك؟!
بكلماتٍ جادة وملامح وجه جامدة أجابها:
-فكرت، ولقيت إن أبوكِ عنده حق في تفكيره، هو من حقه يطمن عليكِ مع راجل من عيلة محترمة.
-هترضاها عليا يا"يوسف"!، هتتحمل تشوف"بيسان" مع راجل غيرك؟!
برغم كلماتها المميتة والذي أشعلت داخلهُ وحولتهُ لجحيمٍ مُستعر إلا أنهُ تظاهر بعكس ما يدور وتحدث ببرودٍ قاتل:
-ربنا يوفقك مع الإنسان اللي يستاهلك بجد
ذهول وحالة من النُكران وعدم الإستيعاب سيطرت عليها وشلت جميع حواسها، صمتٍ رهيب دام لبضعة دقائق.
-إنزلي يا بيسان.
شهقت من شدة ذهولها لكلمتهِ ليتطلع أمامهُ ويقول بنبرة ضعيفة أظهرت كم الألام الساكنة روحه:
-إنزلي بقى...نطقها بصوتٍ يئنُ وجعًا لترتفع شهقاتها ليدفع بيده فوق عجلة القيادة وبات يدق عليها بصراخٍ كمجنون:
-إنزلي، يلا إنزلي وانسيني، إنزلي بقول لك.
إتسعت عينيها وصاحبتها انتفاضة قوية لجسدها لتمسك بمقبض الباب بيدٍ مرتعشة وتفتحة لتهرول هاربة ودموعها تتدفقُ كشلالاتٍ فوق وجنتيها جعلت من كل المارة ينظرون عليها باستغرابٍ وشفقة،كانت تجفف دموعها بكفيها معتقدة بأنها ستتوقف،هرولت على السيارة لتفتح بابها بارتباكٍ ويد مرتعشة، وأخيرًا ارتمت فوق مقعدها لتتوارى خلف زجاجها المفيم من أعين الجميع التي ألحقت بها تتفرسها.
«عودة للحاضر»
إعتصر قنينة عطرهِ بقوة ولولا صلابة زجاجها لتحطمت وتحولت لأشلاء مزقت راحته، تنهد والألم يعتصر قلبه ثم زفر محاولاً طرد ذاك الشعور المرير، يشعر بالحقارة لتخليهِ عنها لكنه ليس بالرجل الذي يفرض حالهُ على أحد، يكفيه شعورًا بالرضا أنه احتوى شقيقتهُ ليرحمها من قسوة الزمن، ومَن منا يستطيع الحصول على كل ما يريد، فهكذا هي الحياة، تنتزعُ منا أشياءًا لتمنحنا أخرى بالمقابل.
خرج من غرفته ليقف في البهو وهو ينادي:
-زينة، لو جهزتي يلا علشان ما نتأخرش على الناس
فُتح الباب وخرجت منه وكأنها كانت تنتظر ورائه، كانت ترتدي ملابس عصرية لائقة أظهرتها بصورة رائعة، فقد عرضها على إحدى خبراء الأزياء لتنتقي لها ما يناسبها من حيث تناسق الجسد ولون البشرة ولم تنسى احتشامها والحجاب، تطلع عليها وقال بابتسامة لطيفة:
-زي القمر يا زينة
ابتسمت وشعرت ببعضًا من الراحة التي غابت عنها منذُ أن علمت بتلك الزيارة وضرورتها ليوسف، أقبل عليها وتمسك بكفها لينطق محاولاً طمأنتها:
-متقلقيش، الناس اللي رايحين عندهم دول، لُطاف جدًا، أنا متأكد إنك هتحبيهم وهما كمان هيحبوكِ
تبسمت لتقول بهدوء كعادتها:
-أهم حاجة عندي إنك تكون مبسوط يا يوسف
أمسك ذقنها بحنوٍ ليقول:
-أنا مبسوط طول ما أنتِ مرتاحة يا زينة.
لطالما كانت كلماتهُ داعمًا عظيمًا يبثُ داخلها شعور الراحة والثقة بالنفس والإطمئنان.
تحركت بجواره وبعد قليل كانا يلچان بالسيارة داخل القصر،تطلع أمامهُ ليُذهل لرؤية إنتظار الجميع له واصطفافهم وكأنهم ينتظرون تشريفة لأحد الشخصيات الهامة بالدولة،توقف بالسيارة بمكانها المخصص ليرى شقيقتهِ رائعة الجمال "تاج" وهي تهرول عليه لتلقي بحالها داخل أحضانه تتنعمُ بدفئها الحنون وهي تقول:
-يا چو وحشتني يا حبيبي
إبتسم بقوة ليضمها وبات يقبل رأسها قائلاً:
-يا حبيبي إنتِ كمان وحشتيني جدًا
وصل ذاك العابث الصغير ليهز بنطالهِ متسائلاً باعتراضٍ وتذمر:
-وأنا مش وحشتك ولا إيه يا چو؟
قهقه على ذاك المشاغب لينحني بطولهُ الفارع ويلتقطه يثبتهُ بأحضانه ليزيد من قبلاته الشغوفة ويقول:
-ده إنتَ أكتر واحد بتوحشني في الدنيا كلها
أشار إلى زينة قائلاً بطفولية:
-إزيك يا "زينة"، مامي قالت لي أعاملك بلطافة علشان مش أتعاقب
كظم فمهِ لينطق بمداعبة:
-إسكت يَلاَ، كلامك بيعمل مشاكل
ابتسمت زينة على الصغير لتقول بهدوء:
-إنتَ جميل قوي يا"مالك".
-وإنتِ كمان.
بات يتطلعُ بعينيه باحثًا عنها بلهفة بين جميع الحضور، أصابهُ الإحباط عندما تأكد من عدم وجودها، أقبلت عليه والدته التي احتضنته بحبورٍ تجلىّ بعينيها، وباتت تربتُ على ظهرهِ بحنان وهي تقول:
-نورت بيتك يا حبيبي
لتبتعد قليلاً تحتضن وجنتيه متلهفة وهي تقول:
-وحشتني يا چو، وحشتني قوي يا حبيبي
بلهفة لا تقل عن لهفتها تحدث وهو يحتوي ذراعيها بكفيه:
-إنتِ كمان يا قلبي وحشتيني قوي،طمنيني عليكِ يا ماما
هتفت بسعادة وعينين تتلالأُ بهما دموع الفرح:
-أنا بخير لما شوفتك قدامي يا يوسف
إلتفتت إلى تلك التي تقف وشعرت بحرجها،أقبلت عليها لتحتضنها وهي ترحب بها بحفاوة وسعادة:
-نورتي يا"زينة"،إزيك يا حبيبتي.
لطالما وضعتها بخانة المظلوم وأشفقت عليها وعلى الطريقة التي أتت بها إلى الحياة، لكن تعاطفها تضاعف بعدما ذهبت إلى منزل"حُسين "ورأت بعينيها تلك الحياة البائسة التي نشأت وكبرت بها
كانت تتمسك بذراع يوسف وتتطلع على تلك الدخيلة بحدة وتقييم لهيأتها قبل أن يوجه يوسف إليها الحديث:
-مش هتسلمي على" زينة" يا" تاجي"
يناديها بـ تاجي كنوعًا من الدلال والغنچ ونسبها إليه كونها الفتاة الوحيدة بالمنزل والتي لاقت من الجميع دلالاً لو قام توزيعهُ على بلدةٍ بأكملها لكفى وفاض.
تنهدت بثقلٍ وبابتسامة متصنعة تحدثت:
-إزيك.
برغم الشعور بعدم التقبل الذي وصل لديها من تلك المراهقة إلا أنها عذرت تفكيرها كونها فتاةً صغيرة وتحدثت بابتسامة بشوش:
- الله يسلمك يا" تاج"
أما ذاك الخلوق زين فتحدث باحترام:
-أخبارك إيه يا "زينة"
فجميع اشقائه تعرفوا عليها بالسابق أثناء زيارة شقيقهم، أجابته بابتسامة:
-أنا بخير الحمدلله يا "زين"
-عامل إيه يا بطلي في المذاكرة؟...جملة قالها يوسف بحفاوة لذاك الرزين الذي عدل من وضع نظارته الطبية قبل أن يقول بجدية ووقار يسبقان سنوات عمره القليلة:
-كويس جداً يا چو، بتبع نصايحك في المذاكرة
-ربنا يبارك فيك يا حبيبي...قالها ثم نظر لشقيقته"زينة" يتمسك بكفها ويتحرك للأمام كي لا تشعر بوحدتها، توقف ليُقبل على "علام" الذي فتح ذراعيه يستقبلهُ بحفاوة:
-الندل اللي نسي جده خلاص
احتضته بقوة ليقول بتأثرٍ:
-مش علام باشا اللي يتنسي، حضرتك علامة بتثبت وتستوطن جوة عقل أي حد يشوفك ولو مرة، فمابالك باللي عاش واتربى جوة حُضنك يا حبيبي
تأثر بكلماتهِ لدرجة أنه كاد أن يوشك على البكاء،لكنهُ تماسك وضمه من جديد ليشتم رائحته العطرة التي تتوق إليها، نطق بعتبٍ عليه:
-كده يا يوسف، تسيب حبيبك بعد ما كبر وعجز وبقى محتاج لك تسنده في شِيبته
ثم ابتعد تحت تأثر كل من حوله ليتابع وهو يخبط على وجنته بخفة:
-ده أنا كنت بقول لنفسي إنك هتبقى عكازي يا ندل
-وأنا روحت فين بس يا باشا، أنا تحت الأمر ورهن إشارتك...ليتابع بصدقٍ وعينين متأثرتين:
-في أي لحظة تحتاجني رن لي، هتلاقيني تحت رجليك في ثانية.
ربت عليه ليميل على وجنته يقبلها باشتياق مما أسعد قلب يوسف، لتجذبهُ تلك الحنون التي تشوقت هي الاخرى وطال انتظارها لاحتضانه:
-هو دلع جدك "علام" هينسيك تيتا ولا إيه يا چو
-حبيبة قلبي وحشتيني...احتضنها بقوة لتبتسم بسعادة وتقول:
-إنتَ اللي وحشتني جدًا يا "يوسف "
استقبل علام الفتاة قائلاً:
-إزيك يا "زينة"، عاملة ايه يا بنتي
-الحمدلله حضرتك
استقبلتها أيضًا عصمت بترحيبٍ عالي اسعد قلبها وبث بداخله الطمأنينة
-إزيك يا حبيبي... قالتها فريال وهي تقبل خديه بحفاوة، فقد تربى على يدها واتخذتهُ كنجليها تمامًا، نطق بسعادة:
-الله يسلمك، إزي حضرتك
لكزته بكتفهِ بقوة قبل أن تهتف باعتراض:
-إيه حضرتك دي يا ولد، نسيت أيام ما كنت لسه بشورت وبتقولي
وقلدت صوت طفولته:
-تعالي إلعبي معايا لحد ما جدو علام ييجي من الشغل يا عمتو
أطلق الجميع ضحكاتهم تحت غضب" ماجد" وحدة نظراته المصوبة كسهامٍ نارية إلى زوجته التي تجاهلتهُ تمامًا لتحول بصرها إلى تلك المجاورة لـ إيثار:
-إنتِ زينة؟
أومأت بصمتٍ وخجل لتتابع الاخرى بانبهار:
-ده أنتِ طلعتي جميلة قوي يا زينة، زي القمر يا حبيبتي
وأقبلت تقبلها تحت شعور الفتاة بالإطمئنانِ والراحة من قِبل تلك الحنون.
أما "ماجد" فأقبل باسطًا كفه إلى "يوسف" كي لا يدع الجميع يلاحظون العداوة،فهو شخصًا شديد الذكاء يتمتعُ بالخبث والدهاء معًا" وتلك العادات طارئة عليه نتيجة حقده مما حدث من مستجدات مؤخرًا،كخسارته الكبيرة بحلم ابنته الوحيدة واستيلاء إيثار ووضع يدها على جميع أملاك العائلة من وجهة نظره وما تبثهُ والدته من سمومٍ داخل نفسه،فلطالما عامله أمام الجميع بمنتهى اللُطف، بينما ينتهز فرصة إنفرادهما ويمارس عليه شعور القوة ليقهرهُ ويُشعرهُ بالضعف، ويقوم بالتقليل منه كي يجبرهُ على الإبتعاد مرغمًا عن "بيسان":
-إزيك يا يوسف
-الحمدلله يا دكتور...نطقها بقامة مرتفعة ليشيح عنه نظرهِ سريعًا لعدم تقبلهُ للنظر إليه مؤخرًا
ظهر فؤاد حيث كان بالداخل يعمل على بعض الملفات الهامة لتخبرهُ العاملة، بابتسامة سعيدة فتح ذراعيه ليقبل عليه الآخر بلهفة ويرتمي بأحضانه مستندًا برأسهِ فوق كتفه مثلما كان يفعل دومًا، فلطالما كان له السند والدفيء والعون بعد الله،تحدث وهو يشدد من تمسكه به وكأنهُ يتمنى الرجوع إلى الماضي وطفولتهِ البريئة:
-إزيك يا أنكل، وحشتني
ربت فؤاد على ظهرهِ بحنان قبل أن ينطق بصوتٍ متأثر:
-عامل إيه يا حبيبي
ابتعد قليلاً وتحدث:
-أنا بخير الحمدلله، وحشتني مناقشاتنا وقعدة الجنينة بالليل
ابتسم له وتنهد متأثرًا قبل أن يقول:
-تعالى كل يوم يا حبيبي وإحنا نقعد زي زمان، هات أختك وتعالي، ده بيتك يا چو
اومأ بابتسامة فقال فؤاد من جديد:
-مجهز لك ماتش هنلعبه مع بعض بالليل، ومش هرتاح غير لما اغلبك النهار ده
-وأنا مستعد للهزيمة لخاطر عيونك يا باشا...قالها وهو يتحرك بجواره ليقول فؤاد بمشاكسة:
-بس يَلاَ يا بكاش،كل مرة بتقول فيها كده وبردو بتهزمني،ومش أي هزيمة، ده بيكون فوز ساحق
بدعابة تحدث:
-ما أنتَ اللي مبتعرفش تلعب يا باشا، لا وفاكر لي نفسك حريف
تشاركا القهقهة ليجد من تهرول إليه لتحتضنهُ بحفاوة قائلة:
-كده تيجي من غير ما تسأل عليا يا يوسف؟
-والله يا حبيبتي كنت لسه هدخل لك
- سماح المرة دي، أما انا بقى عاملة لك طاجن مسقعة باللحمة المفرومة، هتاكل صوابعك وراه
-طول عمري وأنا بعشق أكلك يا وزة... قالها بدلال لتبتسم ثم تحدثت إلى فؤاد:
-شايف الناس اللي كلامها زي البلسم يا باشا
وربتت على صدرها بكف يدها لتتابع بفخرٍ وهي تهز رأسها:
-تربيتي.
اتسعت عينيه ليتحدث بذهولٍ:
-بقى المحترم ده تربيتك إنتِ؟! يا شيخة إتقي الله
اتسعت عينيها ليتابع وهو يُشير إلى "مالك":
-المتشرد اللي هناك ده هو اللي تربيتك
وتابع مسترسلاً وهو يربط على كتف الشاب متباهيًا:
-لكن الباشمهندس تربية علام باشا.
-شايف يا يوسف الباشا بيعاملني إزاي؟
نطق بمشاكسة:
-الباشا بيحبك يا عزة، علشان كده بيحب يناغشك
ابتسمت لتقول بلهفة:
-هروح أكمل تقطيع السلطة وارجع لكم، مش هتأخر عليكم
-لا خدي راحتك على الأخر يا عزة...قالها فؤاد ليقهقه يوسف تحت تذمر تلك العزة
إقتربا على الجميع ليتفاجيء يوسف بذاك الراقي "علام"وهو يحتوي كتفه بذراعه ويسحبه إلى المقاعد قائلاً بكثيرًا من الحميمية والود:
-تعالى يا باشمهندس علشان تحكي لجدو على كل أخبارك
-هنحكي ونتكلم للصبح يا باشا...قالها بابتسامة مرحة ليتابع مسترسلاً وهو يتطلع لساعة يده الفخمة:
-نصلي الجمعة الاول لأن الخطبة خلاص هتبدأ بعد كام دقيقة
تحدث فؤاد المحتضن نجليه زين وتاج:
-يلا الكل يدخل يتوضى ويجهز علشان الصلاة
ثم تابع وهو يتطلع إلى زينة كي لا يشعرها بالغربة:
-يلا يا زينة إدخلي مع طنط إيثار وطنط فريال علشان تجهزوا للصلاة
اعترضت فريال بحدة مصطنعة:
-إيه طنط دي يا سيادة المستشار، هو علشان جنابك عجزت وطلع لك كام شعرة بيضا في دقنك، هتكبرني أنا كمان؟!
هتفت إيثار باعتراض وهي تتحرك باتجاه زوجها لتحتضن ذقنهُ النابت بتباهي:
-فشرتي يا حبيبتي، ده الباشا لسه في عز شبابه وبكامل لياقته، والشعرتين اللي بتقولي عليهم دول موضة، اللي عندهم عشرين سنة صابغينهم
-حبيبة حبيبها اللي دايمًا نصفاه يا ناس...قالها غامزًا بعينه وهو يخرج زين ويجلبها لتسكن أحضانه،بينما نطقت تاج بتصفيقٍ حاد:
-عاش يا باشا
تطلعت فريال على زينة لتشير بكفها على كلتاهما:
-التطبيل عالي قوي من البنت ومامتها للباشا الصغير.
ضحك الجميع ثم تحرك الرجال إلى المسجد
كانت تختبيءُ خلف ستائر غرفتها، تسترق البصر على جميع المارة بالشارع، تنتظر مرورهُ إلى الجامع للصلاة،فمنذُ أن لمحت سيارتهُ وهي تدخل الي المجمع السكني وهي تنتظر خروجهُ للصلاة بفارغ الصبر، إنتفض قلبها حين لمحته يجاور جدها وشقيقه "زين" أما الصغير "مالك" فيتمسك بكف والدهُ "فؤاد" ويسبقهم والدها، من حُسن حظها أن الجميع توقف لتحية أحد المعارف، فابتعد قليلاً وترك الجميع، رُغمًا عن عقله الراجح وجد حالهُ يرفع قامته للأعلى على أمل رؤية وجهها الذي تتوق لرؤياه بشدة، توارت سريعًا إلى الخلف لكي لا يلمحها ويرى ضعف قلبها، تنهد بألم حين وجد نافذة غرفتها خالية، إرتبك حين استمع لصوت ذاك البغيض:
-بلاش تبص لفوق كتير، اللي بيبص لفوق بيقع وتنكسر رقبته
إلتفت ليطالعهُ بكبرياءٍ ثم ابتسم ليقول بذات مغزى:
-المثل ده غلط يا دكتور،والدليل إن حضرتك لسه واقف ورقبتك ثابتة مكانها
توسع بؤبؤ عينيه ليسألهُ بحدة:
-إنتَ تقصد إيه بكلامك ده يا ولد؟
بنبرة صارمة ونظراتٍ حادة كالصقر تحدث:
-أنا مش ولد، إسمي الباشمهندس "يوسف".
وأشار بكفه عندما لمح فؤاد وعلام يتحركون للأمام:
-صلاة الجمعة هتفوتك يا دكتور.
قالها لينطلق للأمام حين ناداه علام ليجاورهُ ويستند عليه لثقل حركته التي تأثرت بعوامل السِن،اشتعل داخل ماجد ليمضي خلفهم مجبرًا.
بينما تلك العاشقة كانت تراقب صراع كلاً منهما تحت دموعها التي انهمرت بألمٍ لتنعي حالها.
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
عاد الرجال من الصلاة والجميع متواجد بالحديقة عدا تلك العاشقة، بدأت العاملات برص طاولة الطعام، وأثناء تفقد علام للجميع لاحظ عدم تواجد حفيدته الغالية ليتطلع إلى ابنته يسألها مستفسرًا:
-فين"بيسان "يا فريال؟!
انتفض قلب ذاك العاشق حين ذُكر إسمها لكنه ادعى عدمُ المُبالاة تجنبًا لإثارة غضب" ماجد"
صمتت فريال لينطق ماجد سريعًا:
-عندها مذاكرة كتير يا باشا
نطق متعجبًا:
-وهي المذاكرة تمنعها إنها تيجي تستقبل يوسف وأخته يا"ماجد"؟!
تلبك فتحدث"فؤاد"بحماس الشباب:
-أروح أنده لها يا جدو؟!
هتف ماجد بلحظة تهور منه متناسيًا حاله:
-أقعد يا ولد.
تعجب الجميع من حدته ليتحدث علام لحفيدهُ:
-إقعد يا" فؤاد"
ولأنه يعلم مكر ماجد مؤخرًا وغضبه الذي يصبه على ذاك الشاب، نطق ليجعلهُ يندم على ما قام به منذ القليل:
-أبوك هو اللي هيروح ينده لها بنفسه
اتسعت عينيه بحدة وغضب لاحظهُ فؤاد واشتعل داخلهُ، لكن سرعان ما تدارك حاله ليستدعى هدوئهُ في وجود ذاك الداهي ليتحدث بهدوء معتذرًا:
-هي لو عاوزة تحضر المقابلة يا باشا كانت جت، لكن هي بنفسها اللي اعتذرت وفضلت تشوف مستقبلها.
طالعتهُ إيثار بغضبٍ لأجل نجلها الحبيب، واشتعل صدرها بنارٍ لو خرجت لحولت ذاك السخيف لجثة متفحمة،أما علام فهتف بقوة وصرامة لا تقبل المناقشة:
-روح هات البنت يا ماجد، ومتتأخرش، السُفرة قربت تجهز، ومحدش هيتحرك ناحيتها إلا في وجود "بيسان"
احتدت ملامحهُ وامتلأت بشرارات القسوة قبل أن يحول بصرهِ إلى ذاك الذي تحول لغريمًا بين ليلةٍ وضحاها، وجده يتطلع أمامهُ بلامبالاة،من يراهُ يعتقد أنه غير عابئًا بما يحدث، بينما داخلهُ كالبركان الثائر يتشوق لرؤية عينيها بشدة، تحامل على حاله وبصعوبة أخرج كلماته:
-حاضر يا باشا، تحت أمرك.
قالها بابتسامة مرسومة وما أن استدار و والى الجميع ظهرهِ حتى تحولت ملامحهُ لغاضبة وعيناه باتت تطلق شزرًا لو خرج لحول المكان لجحيمٍ ، مالت عصمت على ابنتها التي تجاورها الجلوس لتسألها باستغراب:
-جوزك ماله يا فريال؟!
-ماجد إتجنن يا مامي، تصرفاته كلها بقت غريبة.
تفاجأت بحديث نجلتها فهي أكثر من عاشر ماجد من خلال إحتكاكهما بالعمل بالإضافة إلى المنزل، لتنطق متعجبة:
-ليكون هو اللي مانع "بيسان" من إنها تيجي و"يوسف" هنا؟!
نطقت مؤكدة:
-بالظبط ده اللي حصل
وتابعت:
-هحكي لك على كل حاجة، بس بعدين، لما نبقى لوحدنا
اومأت المرأة متفهمة لتنظر لتلك الفتاة:
-نورتي بيتنا المتواضع يا "زينة"
-متشكرة يا افندم... قالتها بهدوء لتسألها الأخرى في محاولة منها لادماجها بالحديث معهم:
-إنتِ بتدرسي إيه يا زينة؟
༺༻༺༻٭༺༻༺༻
داخل منزل ماجد، ولج بعينين تطلق شزرًا ليهتف بصوتهِ العالي:
-سَمرة، إنتِ يا اللي إسمك سَمرة
خرجت العاملة تهرول لتجيب ذاك الغاضب بتوقير:
-افندم يا دكتور
إطلعي إندهي لـ"بيسان"وخليها تنزلي بسرعة
هرولت تتسلق الدرج خشيةً بطش ذلك الحانق، أخبرتها بطلب والدها لتسألها الفتاة متعجبة:
-متعرفيش عاوزني في إيه؟
-لا يا أستاذة، بس هو باين عليه متعصب قوي
-وإيه الجديد يا سمرة، مهو ده بقى العادي بتاع بابي...وتابعت:
-روحي وانا هغسل وشي وجاية وراكي
بعد قليل كانت تقف تتدلى الدرج لينطق بحدة:
-إتفضلي قدامي على قصر جدك
ضيقت بين عينيها قبل أن تسألهُ بفضول:
-هو مش حضرتك....
لم يدعها تُكمل سؤالها لينطق كاظمًا غيظه:
-جدك عاوزك تحضري الغدا
وتابع محذرًا:
-تحضري الغدا والولد اللي إسمه يوسف تبعدي عنه خالص،وبعد الغدى تعتذري من جدك وترجعي هنا، فاهمة يا" بيسان"؟
نطقت بنبرة جادة أظهرت كم الوجع الذي يسكنها:
-سبق وقولت لحضرتك إن أنا ويوسف سبنا بعض خلاص، يعني مفيش داعي لكل اللي حضرتك بتعمله ده.
تنهد ببعض الراحة ليجدد حديثه:
-اللي عندي قولته، إتفضلي قدامي
حمدت الله بسريرتها بأنها تأنقت بثوبًا كان يعشقهُ عليها وتجملت على أمل أن يجد بالأمور شيئًا وبالفعل حدث ما تحسبت إليه، كانت تتحرك بجوار والدها بقلبٍ يطيرُ كفراشة رائعة الألوان، وما أن اقتربت من البوابة حتى أخذت نفسًا عميقًا كي تستطيع ضبط النفس والتحكم بقلبها الراقص لرؤية الحبيب بعد شهرين تعمد من خلالهما عدم الإجابة على إتصالاتها والاختفاء من جميع الاماكن التي كانا يتقابلان فيها
ولچت متلهفة لرؤياه وكذلك هو شعر بقدومها من خلال ضربات قلبهُ التي تزايدت وعلى صوتها، أقبلت على مكان جلوس الجميع وأخيرًا لمحته، كان يجلس بجوار جدها يتحدث معهُ بهيأتهِ الجذابة، انتفض قلبها صارخًا متلهفًا يطالبها بالهرولة إليه والإرتماء داخل أحضانه وليحدث بعدها ما يحدث، لم يكن حالهِ بأفضل منها، فقد تطلع إليها ليتوه بجمالها وأناقتها المعتادة، شعرها الحريري وهو يتطاير حولها بفضل نسمات الهواء المنعشة، إنعكست خيوط الشمس وتعمدت على وجهها المستدير لتزيدهُ نورًا وسحرًا، ابتلع لعابهُ حين رأها بذاك الثوب الذي لطالما عبر عن إعجابه به وأخبرها مدى روعته عليها، إقتربت لتنظر إلى جدها وتقول:
-ازيك يا جدو، بابي قال لي إن حضرتك عاوزني
-طب مش تسلمي الأول على "يوسف"!
تحمحمت لتقول بلامبالاة مفتعلة:
-سوري،ما أخدتش بالي
تطلعت إليه وبصوت جاد استطاعت السيطرة عليه تحدثت:
-إزيك يا باشمهندس
برغم إجتهاده في إظهار عكس ما يحملهُ ذاك القلب المسكين إلا أنه أمام عينيها رمى بجميع وعوده وقوانينه الصارمة التي فرضها على حاله لمعاقبتها على أذنابٌ لم تقترفها، و وقف ليقترب عليها وهو يبسط ذراعه لها استعدادًا لمصافحتها:
-إزيك يا" بيسان"
ياالله،كم كانت تتشوقُ لاستماع نبرات صوتهِ الرجولية وهو ينطق حروف اسمها، النظرةُ بداخل عيناه تساوي العالم بأجمع، ارتبكت من لمست يده التي احتضنت خاصتها وتلمستها بنعومة،تمعنت بالنظر لمقلتيه لتجد حنينًا واشتياق منهما، وكأنهُ يحتضن عينيها بخاصته
إنتفض قلبها حين استمعت لصوت والدها الذي خرج حادًا بعض الشيء:
-سلمي على أخت يوسف واقعدي يا "بوسي"
إبتعدت عنه كالملدوغة لتقترب على تلك التي وقفت لتبسط يدها قائلة:
-أنا "زينة"، أخت "يوسف"
ابتسمت بارتياح وشعرت بطيبة تلك الفتاة وبراءتها، فتحدثت وهي تصافحها:
-أنا إسمي "بيسان"، وكان نفسي أتعرف عليكِ من زمان،بعد اللي سمعته عنك من طنط إيثار
ابتسمت بسعادة لتحضر عزة وهي تقول باحترام:
-السفرة جاهزة يا بشوات،إتفضلوا
وقفت عصمت لتشير إلى الطاولة وهي تدعوا الجميع:
-يلا يا جماعة قبل الاكل ما يبرد
احتضن فؤاد حبيبته وتحركا باتجاه الطاولة ليسألها بحنوٍ:
-مبسوطة يا حبيبي
تعمقت بمقلتيه لتنطق بحبورٍ اظهر ابتهاج روحها:
-قوي يا فؤاد، حاسة إني هطير من السعادة
-قلبي إنتِ يا بابا... قالها بابتسامة جذابة وحنانٍ فائق لتضع رأسها فوق كتفه بدلال نال استحسانه
توجه الجميع واتخذ كلٍ مقعدًا ليأتي مقعد العاشقين متقابلين،تحدث فؤاد وهو يشير إلى" يوسف":
-مسقعة عزة الملهلبة يا چو، مولعة زي لسانها بالظبط
قهقه الجميع ليتحدث هو بدعابة:
-مش قادر أوصف لحضرتك مدى إفتقادي ليها في حياتي
أجابهُ بمشاكسة جعلت الجميع يدخل بنوبة جديدة من الضحك:
-يا سيدي لو مفتقداها قوي كده، خدها معاك وإنتَ ماشي، أرجوك.
هتف ذاك الصغير بمشاكسة:
-ولما چو ياخد عزة، مين هيعمل لي الرز بلبن يا بابي
تطلع إلى صغيرة ليداعبهُ ساخرًا:
-طبعاً لازم تتمسك بيها، مش قاموسك اللغوي
لكزته زوجته وهي تقول:
-خلاص بقى يا فؤاد،لتكون جاية على غفلة وتسمعك وتزعل
تلك المرة تحدثت عصمت:
-أنا نفسي أعرف هي بتطلع لنا منين، نكون بنتكلم في أمان الله، ودي تلاقيها نطت في وسطنا ومدخلة نفسها في الحوار
قهقه الجميع ليتحدث علام:
-بس غلبانة ومحترمة، ست جدعة وبميت راجل
كان الجميع يتحدثون مستمتعون بالطعام، سوى تلك العاشقة التي تسترق النظرات من ذاك العنيد القابع أمامها، وهو أيضًا كان يختطف النظرات إليها تحت احتراق قلب ماجد الذي مال على اذن زوجته وتحدث:
-شوفتي قلة ذوق الولد، قاعد يبص عليها بكل بجاحة
نطقت بدفاع:
-الولد قاعد باحترامه يا ماجد، من فضلك متعملش مشكلة من لا شيء
ثم استرسلت:
-لو مش مرتاح في المكان فيك ترجع البيت، وإحنا لما اليوم يخلص هنحصلك
-وأسيب بنتي معاه في مكان واحد،؟! ده بُعده... قالها بتحدي ليتطلع مجددًا يراقب نظرات كلاهما للأخر
تحدثت "تاج" إلى شقيقها بدلالٍ:
-خليك معانا النهارده يا چو، وحياتي
-مش هينفع يا حبيبتي...لترد عليه وهي تتطلع إلى زينة:
-لو علشان زينة ممكن تبات هنا هي كمان
ثم تطلعت لوالدها لتهتف بدلال:
-وحياتي يا بابي تخليه يوافق
رفع فؤاد كفيه لينطق بمداعبة:
-مقدرش أتكلم يا چو، تاج راسي أمرت ولازم أمرها يُطاع
-حبيبي إنتَ يا بابي... قالتها وهي تميل برأسها بدلال ليهتف "مالك" بحدة وغيرة:
-سخيفة ودلعك سخيف زيك
-ولد... قالها فؤاد محذرًا لينطق باعتراض وهو يربع ساعديه بحدة:
-مهي بتغيظني يا بابي، بتحب فيك قدامي
-تكونش مراتي يَلا وأنا مش واخد بالي
قالها فؤاد ليضحك الجميع وينطق ذاك المشاغب الصغير:
-انا حبيبك الوحيد، مش أنا اللي كل يوم بتجيب لي شيكولا معاك، وأنا اللي بنام في حُضنك إنتَ ومامي، يبقى أنا اللي حبيبك وبس
برقة ودلال حدثهُ بعدما استولى على قلبه بكلماته ونظراته الأسرة للقلوب:
-إنتَ قلب "فؤاد" من جوة يا ملوك
ضحك الصغير وهدأت ثورة غضبه فتحدث علام وهو يتطلع لذاك العاقل:
-ربنا يكملك بعقلك يا زين باشا
-ميرسي يا جدو... نطقها الفتى باحترام فتفاخرت إيثار وهي تقول:
-هو أنا خلفت غير زين، حبيب قلب ماما اللي مريح قلبها
ابتسم الفتى بسعادة لينطق تلك المرة يوسف باعتراضٍ مفتعل:
-وأنا بقى اللي واجع قلبك يا سِت ماما؟!
تنهدت وهي تنظر إليه بحنوٍ ممتزجُ بعتب:
-طول عمرك وإنتَ نقطة ضعفي وسيد قلبي يا يوسف
-ريحي قلبك من ناحيتي يا حبيبتي، والله أنا مرتاح... قالها ليطمئن قلب غاليته فأشعل قلب الاخرى التي تطلعت إليه بنظراتٍ حادة لمحها وارتبك من فهمها الخاطيء لجملته، بالفعل فسرت راحته في الابتعاد عنها واستشاط داخلها وغلى قلبها، بعد قليل انتهى الجميع من الطعام فتحدثت بيسان إلى زينة:
-تعالي نتمشى في الجنينة وافرجك على الورود النادرة اللي جدو زارعها بإيده
اصطحبتها وتحركوا لتهرب من أمام أبيها الذي يراقبها بعينيه، أحضرت فريال مع عزة حلوى الچيلي وباتت توزعهُ على الجميع، وأثناء حديثهم استقبل هاتف يوسف مكالمة فانسحب ليجيب بعيدًا عن الازدحام
انتهي واستدار ليجد ذاك الماجد بوجهه، وضع كفيه بجيبي بنطاله وتحدث بحدة:
-إوعى خيالك يصور لك إنك تستغل حبي للباشا الكبير وتحاول تفاتحه في موضوع بيسان، لأني ساعتها هقف في وش الكل ومش هيهمني زعل حد
واستطرد مهددًا:
-ولو وصلت هاخد بنتي وأسيبها لك إنتَ ومامتك تشبعوا بيها
ضيق بين عينيها يستوعب حديثهُ ثم تحدث بقوة وشموخ:
-أنا مش ضعيف ولا خسيس علشان أضغط على حد بيحبني وأستغل درجة حبي في قلبه علشان أحقق رغباتي الشخصية زي ناس.
كلماتٍ مقصودة ألقاها بوجهه ليزيد من نار ماجد ويتابع من جديد:
-إطمن يا دكتور، وياريت تبعد عني وتخرجني من دماغك، بنتك وسبتها لك والقصر والمكان كله سيبتهولك، عاوز مني إيه تاني علشان ابرهن لك إني بقيت مش طايق أي مكان ولا حاجة تجمعني بيك؟
واكمل بحدة:
-وتاني مرة إوعى تجيب سيرة أمي على لسانك، صدقني ما هرحمك... قالها بتهديدٍ وهو يحذرهُ بسبابته
-فيه إيه يا يوسف؟... سؤال طرحته إيثار التي اقتربت عندما لاحظت احتدام نجلها لينطق ذاك الغاضب بتهديدٍ مباشر:
-إنصحي إبنك وخليه يبعد عن بنتي يا مدام، وده أفضل لكم إنتم الإتنين.
احتدت ملامحها وثارت من طريقته السخيفة لتنطق بقوة:
-إتكلم باسلوب أحسن من كده يا محترم
-أنا محترم غصب عنك... قالها بحدة لتنطق بيسان التي حضرت عندما تعالت اصواتهم:
-أرجوك يا بابي كفاية، كفاية بقى حرام عليك اللي بتعمله ده
هرول فؤاد والجميع عليهم ليهتف فؤاد وهو يجذب الفتاة من رسغها:
-قدامي على الببت.
جذب فؤاد الفتاة من يده بقوة وخبأها بأحضانه ليهتف بعينين تطلقُ شزرًا:
-إنتَ اتجننت يا ماجد، إنتَ إزاي تعامل البنت بالطريقة الهمجية دي؟!
-بنتي يا سيادة المستشار، وحقي أحميها... قالها بصياحٍ عالي لتهرول فريال تجاور صغيرتها بحماية، ليستمع الجميع لصوت علام الصارم:
-تحميها من مين يا ماجد.