رواية جمر الجليد الفصل الثاني والثلاثون بقلم شروق مصطفي
جلس كل منهما مع أفكاره، يتأمل المستقبل الذي ينتظرهما، والمصاعب التي قد تواجههما. كان عاصم غارقًا في حيرة وقلق، يحاول إقناع نفسه أن الأمور ستسير كما هو مخطط لها. أما سيلا، فكانت تحاول الهروب من مواجهة الواقع بتجاهل كل شيء، إلا أن قلبها المثقل بالهموم لم يكن ليهدأ.
في تلك الأثناء، كان معتز يعيش يومه بطريقته الخاصة. لم يذهب إلى الشركة كعادته، بل ظل في المنزل يرتب نفسه بعناية، يختار ما سيرتديه للقاء الغد، والبسمة لم تفارقه. كان يرى اليوم المنتظر كبداية جديدة، وأخيرًا سيجتمع بملاكه البريء.
صباح اليوم التالي
الجميع كان مستعدًا للمقابلة مساءً. دلف عاصم إلى غرفة أخيه ليحدد موعد الذهاب، وأخبره بأن كتب الكتاب سيتم اليوم. بارك له معتز وغادر، تاركًا عاصم غارقًا في أفكاره المتضاربة.
حاول عاصم مرارًا الاتصال بسيلا للاطمئنان عليها وإخبارها بأنه سيمر لأخذها، لكنها تجاهلت مكالماته.
سيلا، التي كانت مستيقظة بالفعل، نظرت إلى هاتفها الذي لم يتوقف عن الرنين وأغلقته بتردد، محاولة إبعاد كل ما يربطها بالواقع. ذهبت إلى همسة لمساعدتها في تجهيز أغراضها قبل انتقالها إلى منزل زوجها بعد يومين.
دخلت سيلا غرفة همسة لتجدها منشغلة بمكالمة هاتفية، فأشارت إليها أن تعود لاحقًا. لكن همسة رفعت يدها مشيرة لها بالبقاء.
همسة: " موجودة، في حاجة ؟"
ثم أضافت بابتسامة: "تمام هقولها؟ ، ونكون جاهزين في الميعاد."
أنهت المكالمة ونظرت إلى سيلا بنبرة مازحة: "عاصم كلمك كتير مش بتردي عليه ليه؟"
سيلا، مرتبكة: "آه، لا، كان صامت مخدش بالي... في حاجة؟"
همسة بابتسامة خفيفة: "هيعدوا علينا الساعة الثامنة، جهزي نفسك.
هزت سيلا رأسها موافقة: " هساعدك في تجهيز حاجتك الأول."
أمضت الأختان الوقت في تجهيز حقائب همسة. اختارت سيلا لها فستانًا زيتوني اللون، مغلقًا بأزرار وحزام جملي عند الخصر، ونسقت معه حجابًا وحقيبة وحذاءً بنفس اللون.
ابتسمت همسة واحتضنت سيلا بامتنان: "بجد مش عارفه من غيرك كنت عملت ايه، ربنا يباركلي فيكي يارب."
ثم أضافت بسعادة: "و انتي هتلبسي ايه تعالي نختار لك حاجه مناسبه ؟
ابتسمت سيلا بمجاملة: " انا هخد الاول شاور سريع و نشوف."
بعد قليل خرجت سيلا من غرفتها مرتدية بنطالًا أسود، بلوزة برقبة مرتفعة سوداء، وشال بيربيري، مع جاكيت طويل أسود.
عندما رأتها همسة، صاحت بدهشة: "أية دا يا سيلا! ال لابساه ده! و لسه ساعتين على الميعاد كمان.
سيلا بتوتر واضح: "ماله لبسي انا مرتاحه كده سيبيني براحتي.
همسة، محاولة التهدئة: "بس انهاردة عندنا مناسبة مهمة انتي وعاصـ...
قاطعتها سيلا بحدة، وقد بدأت تفقد أعصابها: "يوه بقى كل شويه عاصم سيبوني في حالي بقا. !"
توقفت فجأة، مدركة عصبيتها المفرطة، وزفرت بخفوت: "أنا آسفة يا حبيبتي، مش قصدي... بس متوترة شوية."
اقتربت منها همسة ووضعت يدها على خدها بحنان: "ولا يهمك يا حبيبتي، التوتر ده طبيعي."
بينما كانت همسة تراقبها بقلق، أمسكت سيلا بحقيبة يدها واستعدت للخروج.
همسة بتعجب: "رايحة فين؟ لسه بدري!"
سيلا بتردد: "هروح عند مي أقعد معاها شوية لحد ما تيجوا."
همسة باستغراب: "بس هما جايين ياخدونا مع بعض!"
سيلا بحسم: "عادي، قوليلهم عند مي. سلام بقى عشان متأخرش."
غادرت بسرعة، لكنها في الحقيقة كانت تهرب. تهرب مِن مَن؟ من الجميع؟ أم من نفسها؟ قضت الليلة تتقلب على سريرها، عينها معلقة في السقف وكأنها تبحث عن إجابة، ولم يغفُ لها جفن من شدة التفكير.
اتصلت بصديقتها مي، وقد أثقلها التردد، لتبلغها بأعذار بدت واهية وغير مقنعة عن عدم قدرتها على الحضور في هذا اليوم الذي يفترض أن يكون مميزًا. تجنبت الحديث عن الاتفاق الذي دار بينهما بالأمس، كأنها تخشى مواجهة ما يثقل صدرها.
مي، على الرغم من شعورها بالضيق وخيبة الأمل، تفهمت أن سيلا تعاني من صراع داخلي يخص علاقتها بعاصم. ولم تشأ أن تضغط عليها أكثر.
أغلقت المكالمة ثم نظرت إلى معصمها بضيق وهمست:
"مافضلش غير السوار بس!..."
كانت تشير إلى السوار المعدني الذي يطوق يدها، وكأنه قيد يمنعها من التنفس.
استقلت سيارتها متجهة إلى أحد محلات المجوهرات، وعندما دخلت طلبت من البائع أن يزيل السوار. الرجل تأمله قليلًا، ثم رد باعتذار:
"للأسف يا آنسة، السوار ده تصميم خاص، مينفعش يتفتح إلا بالمفتاح الأصلي."
شعرت بالإحباط وخرجت مسرعة تبحث عن مكان آخر. في المحل الثاني، كان الجواب نفسه. لكنها لم تيأس، وأصرت أن تجد حلاً.
في المحل الثالث، سألها البائع:
"هياخد شوية وقت، تستني؟"
نظرت إلى ساعتها بتردد:
"اد إيه؟"
رد البائع:
"حوالي نص ساعة لساعة."
شعرت بالضغط، فالوقت كان يداهمها، لكنها وافقت في النهاية:
"ماشي، بس خلص بسرعة."
ابتسم البائع بطمأنينة:
"ما تقلقيش، بس الشغل ده محتاج هدوء."
ثم أشار إلى كرسي بجانبه:
"اقعدي هنا وثبتي أيديك."
جلسَت وهي تمسك أنفاسها، تُراقب خطواته بحذر. جلب البائع جهازًا صغيرًا يشبه المسدس، ومن فوهته خرجت شعلة نار دقيقة. قال لها بلهجة جادة:
"إيدك ماتتحركش خالص، ممكن تتحرقي."
هتفت سيلا بلهفة:
"متقلقش، بس خلص بسرعة."
لكنه رد بهدوء:
"لأ، مش عاوز استعجال. دي إيدك اللي بنتعامل معاها، لو السوار بره كان الموضوع سهل."
لفّ معصمها بقفاز حراري لحمايتها، ثم بدأ بتوجيه النار على السوار. كان يعمل بحذر، يشغل الجهاز ويطفئه على فترات، حتى انصهر المعدن قليلًا فبدأ يتفكك تدريجيًا. العملية استغرقت ساعة كاملة، لكنها انتهت أخيرًا.
سيلا بابتسامة مليئة بالراحة:
"أخيرًا! شكرًا جدًا."
دفعت له الحساب وخرجت مسرعة، دون أن تعرف وجهتها، لكنها لم تدرك بعد حجم العاصفة التي ستواجهها.
...
في منزل همسة، كانت قد انتهت من تجهيز نفسها تمامًا، تنتظر وليد في هدوء وابتسامة تملأ وجهها.
على الجانب الآخر، كان عاصم ووليد يستعدان أيضًا. عاصم ارتدى بدلة سوداء أنيقة مع قميص أبيض وربطة عنق سوداء، بينما وليد كان بنفس المظهر. أما معتز، فقد اختار بدلة كحلية أظهرت أناقته بشكل مميز، مع عطر فاخر يملأ المكان برائحته.
خرج الثلاثة سويًا، لكن معتز استأذن ليذهب بسيارته منفردًا، قائلاً:
"هروح أجيب شوية حاجات قبل ما أجيلكم."
رد عاصم، وهو يغلق باب السيارة:
"تمام، أنا ووليد هنجيب البنات ونحصلك."
تحرك وليد وعاصم بالسيارة، متجهين إلى منزل البنات في الطريق، شعر عاصم بانقباض غريب في قلبه. لم يعرف سببه، لكنه حاول تجاهله.
عندما وصلوا، اتصل وليد بهمسة ليخبرها بأنهم بالخارج. وبعد دقائق، نزلت همسة وحدها، ووجهها يفيض بالفرح والخجل.
وليد، وهو يقترب منها:
"إيه القمر ده؟! لا، أنا مش هستنى اليومين دول، إحنا النهارده نروح بيتنا!"
ابتسمت بخجل وهي تهمس:
"بس كده عيب، عاصم هنا!"
أمسك يدها بحنان وفتح لها باب السيارة لتجلس. لكنه تفاجأ عندما وجدها وحدها في الداخل. سأل بقلق:
"هي سيلا فين؟!"
توقف عاصم فجأة، وكأن الزمن قد تجمد معه، عيناه تحدقان في باب العمارة بنظرة مثقلة بالشوق والتوجس. ببطء، نزل من السيارة، خطواته تئن تحت وطأة الترقب، وكأن قلبه يسبق جسده نحو الباب. وقف هناك، مسمّرًا كتمثالٍ حي، لا يحرك ساكنًا سوى أنفاسه المتلاحقة التي فضحت اضطرابه. عيناه لم تفارق الباب، وكأنه يراه نافذة لأملٍ طال انتظاره قطع تأمله حديث همسة:
"سيلا نزلت بدري... راحت عند مي."
التفت عاصم بغضب مكبوت:
"إيه؟ ومقولتيش ليه؟!"
حاولت التبرير:
"هي قالتلي إنها متوترة شوية، ومي محتاجاها."
تجاهل كلامها وأشار لهم بالدخول إلى السيارة:
"يلا اركبوا."
ركب بعدها، ووجهه محتقن بالغضب. قبض على قبضته بشدة."
انطلقوا في الطريق، وعاصم يجاهد ليخفي البركان الذي يغلي داخله.
ـــــــــــ
عاد معتز بعد شراء بعض الحلوى واتصل بهم لينتظر وصولهم. لم يمض وقت طويل حتى وصل وليد بالسيارة، وتجمعوا جميعًا أسفل البناية.
توجه معتز بنظره نحو همسة قائلاً بابتسامة:
إزايك يا همسة؟
أجابته بابتسامة رقيقة:
الحمد لله، مبروك، إن شاء الله يتمملك على خير.
رفع معتز يده بطريقة مسرحية وقال:
يا رب.
ثم أخذ يهندم ملابسه وهو يسأل بابتسامة خفيفة:
ها، شكلي مظبوط كده قبل ما نطلع؟
وليد اعتدل في وضع كرافته وأجاب:
تمام، مظبوط.
التفت معتز إلى أخيه وغمز له بمرح:
مش عايزني أساعدك في حاجة يا عريسنا؟
كان عاصم شارد الذهن، منشغلاً بأفكاره، ولم يلتفت إلا بعد أن وكزه معتز، فرد بنبرة حادة:
انزل من فوق دماغي، مش فايق لك.
شعر وليد بتوتر الجو، فتدخل ليخفف حدة الموقف، قائلاً وهو يلكز معتز مازحًا:
لما نشوفك فوق هتبقى عامل إيه يا خيبتها!
التفت نحوه بنظرة حادة:
لم نفسك وعدي اليوم، مش ناقصين استظرافك.
واصل وليد المزاح وهمس لهمسة وهو يكتم ضحكاته:
شوفِ، أول مرة يتوتر بالشكل ده، هيعمل إيه فوق؟
وكزته همسة بخجل وقالت:
بطل هزار، الموقف مش مستحمل.
رفع وليد يده بمرح:
خلاص، سكتنا.
ثم استأنف الحديث موجهاً كلامه لعاصم:
بقولك، كلمت المأذون، جاي إمتى؟
رد عاصم وهو يستعد للمصعد:
كلمته، هيجي على الساعة تسعة. معتز يخلص الأول ونبدأ بعدهم.
وليد بابتسامة:
على بركة الله كان نفسي عامر يكون معانا.
أجاب عاصم بينما يتحرك نحو المصعد:
عامر عنده ضغط شغل في الغردقة.
غابت الكلمات بينهم للحظة، وتقدموا جميعًا نحو لحظتهم المنتظرة.
وصلوا أخيرًا أمام المنزل، حيث استقبلهم هيثم بحرارة وأدخلهم إلى غرفة الصالون ذات الأثاث الراقي المكون من قطعتين. جلست المجموعة، بينما حضرت والدة هيثم للترحيب بهم.
استأذنت همسة بلباقة:
طيب، أنا هدخل أشوف مي جوه.
نبيلة بابتسامة مشجعة:
أه، طبعاً، اتفضلي يا حبيبتي.
دخلت همسة الغرفة، متوقعة وجود شقيقتها، لكنها فوجئت بغيابها.
هبت مي واقفة بعصبية، وما إن رأت همسة حتى انفجرت معاتبة:
كده تسيبيني لوحدي؟ محدش عبرني، لا إنتِ ولا أختك النادلة دي!
ارتبكت همسة وسألت بصدمة:
إيه؟ سيلا مجتش؟
أجابت مي بصوت خافت:
كلمتني من ساعتين واعتذرت. قلت أكيد مش عايزة تواجه عاصم، وسكت.
اتسعت عينا همسة وهي تضع يدها على وجهها:
دي قالتلي إنها جاية لك من ساعتين! يا خبر! النهارده كتب كتابهم، عاصم أتصالح معاها من امبارح. إزاي تعمل كده؟
نظرت مي إليها بذهول وصوت مختنق تعلم سبب فعلتها:
نعم؟! إنتِ بتهزري؟ طيب هي فين؟ عاصم عارف إنها هنا؟
ردت همسة بقلق واضح:
هو ده اللي محيرني... إيه اللي حصل؟
قاطعت حديثهما نبيلة التي دخلت فجأة:
في إيه يا بنتي؟ الناس قاعدة بره، يلا تعالي!
خرجت نبيلة مسرعة، بينما استدارت مي نحو همسة وقالت بلهفة:
روحي لوليد بسرعة، خليّه يحاول يهدي عاصم، أكيد هو هيعرف يلاقيها.
هزّت همسة رأسها موافقة والخوف يسيطر عليها:
حاضر، يا رب يستر.
عادت مي وجلست بجانب والدتها، تحاول إخفاء توترها بينما كان معتز يجلس مبتسمًا، يتطلع إلى لحظة الحديث مع العروس. في هذه الأثناء، اقتربت همسة من وليد وهمست له بضع كلمات جعلته يومئ برأسه بتفهم.
التفت وليد إلى عاصم، الذي كان يجلس بجواره، وعيناه معلقتان بالباب الذي خرجت منه الفتيات، ينتظر خروج سيلا بتلهف لا يستطيع إخفاءه. كسر وليد صمته بهمسة مقتضبة ألقاها في أذن عاصم، فتجمد الأخير في مكانه.
كانت الكلمات كصاعقة سقطت على رأسه. شعر وكأن الغرفة قد اختفت، والوجوه من حوله باتت بلا ملامح. صوت الضحكات والأحاديث تحول إلى ضجيج بعيد، كأنه يعبر من عالم آخر. لم يعد يسمع شيئًا سوى صدى أفكاره المتخبطة: "تركتني؟ تخلت عني؟".
جلس عاصم وسط الجميع، لكنه كان في عالمه الخاص، يغرق في بحر من الأسئلة التي لا إجابة لها. كيف يمكن أن تفعل ذلك؟ ألم نتفق؟ ألم نتجاوز كل شيء معًا؟ شعور بالخيانة يضيق صدره، لكنه يكتمه بصمت قاتل.
رفع وليد يده وربّت على كتفه بهدوء محاولاً أن يخرجه من شروده، لكنه لم يلق أي استجابة. كان عاصم غارقًا في دوامة الذكريات، يتذكر لحظات تصالحهما، وابتسامتها التي كانت كفيلة بإذابة أي غضب. كيف تحولت تلك الابتسامة إلى غياب؟
وسط هذا العدم، حاول وليد أن يتصرف بحكمة. اقترب منه وهمس من جديد:
متقلقش، هنلاقيها. بس خلي بالك من نفسك قدام الناس ومعتز.
هزّ عاصم رأسه ببطء، محاولاً استعادة توازنه، لكنه شعر وكأن ثقل العالم بأسره قد انصب على كتفيه. عاد إلى واقعه الظاهري، لكنه لم يعد هو. شعر أن المكان يضيق عليه، وكأن الهواء بات أثقل من أن يتنفسه. نهض فجأة، مستأذنًا بصوت هادئ متحججا: بعد اذنكم بس هطلع اعمل مكالمة مهمة.
تحرك هيثم برفق إلى جانبه، يرشده إلى الشرفة بخطوات ثابتة رغم الاضطراب الذي بدا جليًا عليه، تقدم نحو السور واستند إليه، ممسكًا بهاتفه كذريعة لا أكثر...
...
عندما دخلت مي، وقف لها معتز مرحبًا بابتسامة جذابة.
نبيلة بابتسامة رسمية:
اتكلموا هنا قدامنا.
تركتهما نبيلة وجلست بعيدًا مع البقية، بينما مد معتز يده مصافحًا مي بابتسامة:
مش عاوزة تسلمي عليا ولا إيه؟
ترددت مي لثانية وكادت أن تسحب يدها، لكنه شدها قائلاً بمرح:
حرام عليك، للدرجة دي بخوف؟
ردت بتوتر:
لا، عادي.
جلست في صمت، بينما تابع معتز الحديث بابتسامة:
أنا مش مصدق إني قابلتك أخيرًا. ده إنتي نشّفتي ريقي يا شيخة!
عندما لم ترد، مال نحوها قائلاً بمزاح:
هتفضلي ساكتة كده كتير؟ ولا إيه؟ أمال فين "الحقوني بيتحرش بيا"؟
ارتجفت مي ولم ترفع عينيها له. شعر معتز بندم كبير على ما سببه لها من خوف، فربّت على يدها بحنان قائلاً:
ما تخافيش، مش هعضك. صدقيني، أنا اتغيرت.
بعد لحظات من الصمت، رفع وجهها برفق قائلاً بصوت صادق:
انتي هنا... مكانك هنا.
وأكمل بابتسامة:
ممكن نفتح صفحة جديدة؟
أومأت مي برأسها بخجل موافقة، فوقف معتز فجأة بحماس صارخًا:
أيوه بقى!
نظر حوله معتذرًا:
أحّم... آسف.
ضحك الجميع، بينما كانت مي تخفي وجهها بحرج.
جلس معتز مرة أخرى بجانبها وهو يهمس بسعادة:
آسف آسف، بس من الفرحة مقدرتش أمسك نفسي. تعرفي إن دي أول مرة أفرح بجد من قلبي؟
نظرت له مي باندهاش:
بجد؟
ابتسم معتز وأكد:
أيوه والله.
بينما هم في هذا الحديث، اقترب هيثم وربّت على كتف معتز ممازحًا:
ها، إيه الأخبار يا عريس؟
خفضت مي رأسها في خجل، بينما أجاب معتز بنبرة مليئة بالثقة والفرح:
السكوت علامة الرضا أهي!
ضحك هيثم، ثم قال ممازحًا:
يا مي، طيب أين صوتك؟ هزي رأسك أو اعملي أي حركة!
بالفعل، هزت مي رأسها برفق واندفعت مبتعدة إلى جانب والدتها، ووجنتاها قد احمرّتا خجلًا.
نهض معتز بعد ذلك، واتجه مع هيثم للجلوس مع باقي العائلة. بدأت الأم حديثها بلطف، ودارت المناقشة حول تجهيزات الفرح، واتفقوا على قراءة الفاتحة.
في هذه الأثناء، كان عاصم يقف في الشرفة، ممسكًا بالسور بقوة، يحاول تهدئة نفسه من الغضب. جاء وليد يناديه بلطف:
عاصم!
التفت عاصم بعيون مشتعلة كالجمر، فسأله وليد بهدوء:
عرفت هي فين؟
أجاب عاصم بنبرة حازمة وهو يشد قبضته على السور:
هعرف، بس نمشي من هنا الأول.
اقترب وليد منه وربت على كتفه محاولًا تهدئته:
طيب اهدى كده عشان أخوك. وكلّم المأذون ألغيه مؤقتًا. تعال نقرأ الفاتحة.
هدأ عاصم قليلًا، وتوجه مع وليد ليشاركوا في قراءة الفاتحة.
بعد الانتهاء، أخرج معتز علبة بها خاتم كان قد اشتراه خصيصًا لمي، وألبسها الخاتم بنفسه بابتسامة واسعة لم تفارق وجهه. نظرت له مي بخجل، وابتسمت ابتسامة خفيفة لأول مرة.
استأذن عاصم سريعًا، وقال بعذر دبلوماسي:
عندي مشوار مهم لازم أخلصه.
نبيلة، مستغربة:
ما لسه بدري يا ولاد، اقعدوا شوية كمان!
رد عاصم متمالكًا نفسه:
معلش، أعذرينا المرة دي. مشوار مهم.
ثم وجه كلامه لمعتز:
هتيجي معانا ولا هتقعد ؟
معتز بابتسامة هادئة:
هقعد شوية واحصلكم.
همست مي وهمسة لبعضهما أثناء وداع الأخيرة:
طمنيني وكلميني أول ما توصلي، ماشي؟
هزت همسة رأسها موافقة، وودعتهم جميعًا.
ركب عاصم السيارة بجوار وليد وهمسة، وما أن أُغلقت الأبواب، ثبت نظره بحِدة على الطريق أمامه. أمسك بالمقود بقوة، حتى برزت عروق يده، كاشفة عن الغليان الذي يحاول جاهداً كتمانه.
لاحظ وليد توتره، فاختلس نظرة قلق نحوه، ثم قال بحذر، محاولاً تهدئة الأجواء:
عاصم، هدِّي أعصابك... عشان نقدر نفكر صح.
لم يُجب عاصم على كلمات وليد، واستمر في القيادة بعصبية، وكأن عجلة القيادة هي المنفذ الوحيد لغضبه المكبوت. ارتسم على وجهه قناع من الجمود، يخفي خلفه عاصفة من المشاعر المضطربة. قبضته المشدودة على المقود وبرزو عروقه كانت شاهدة على صراع داخلي لا يُحتمل.
في المقعد الخلفي، جلست همسة صامتة، تنظر عبر النافذة، وكأنها تهرب بعينيها من ثقل اللحظة. كانت دعواتها الخافتة في سرها هي كل ما تملكه، تناجي الله أن يُهدي الأمور قبل أن تتفاقم.
كان ذهنه غارقًا في دوامة من التشوش، تتصارع داخله الأسئلة دون إجابة. كيف لها أن تفعل به هذا؟ كيف تجرأت على أن تهدم كل ما بناه في لحظة؟ لأول مرة، كسر صمته وأخرج ما في داخله، منحها ثقته كاملة، ووعدها بأن يكون سندًا لها، وأن يظل بجانبها مهما كان.
ولكنها، برغم ذلك، تخلت عنه... وبسهولة. وكأن وعوده لم تعنِ شيئًا.
وصلوا إلى المنزل بخطوات متسارعة يسبقهم القلق الذي كان ينهش قلوبهم. صعدوا متلهفين، آملين أن يجدوا إجابة تطمئن أرواحهم، لكن ما وجدوه كان الصمت، صمتًا أثقل من أي كلمات.
لا أثر يشير إلى وجودها، وكأن المكان يعلن غيابها بصمت مريب. وقفت همسة في منتصف الصالة، تنقل نظراتها بين أرجاء المنزل في حيرة وقلق. أشار وليد إليها بهدوء قائلاً:
شوفي أوضتها... يمكن نلاقي حاجة تطمنا.
تحركت همسة بخطوات بطيئة نحو الغرفة، مشدوهة بمزيج من الخوف والأمل. لم تمضِ سوى لحظات حتى لحق بها وليد، وقد التقط أذناه صوت بكاء مكتوم بدا كأنه يتغلغل في الجدران، ينبض برائحة الحزن.
أما عاصم، فقد بقي عند الباب، جسده متسمّر، ونظره مثبت على الأرض. لم يقوَ على الدخول، وكأن قدميه رفضتا حمله إلى مواجهة الحقيقة التي يخشاها.
داخل الغرفة، كان كل شيء يبدو طبيعيًا للوهلة الأولى، كانت تبحث بعينيها ويديها عن أي خيط، وأثناء ذلك توقفت فجأة. عيناها وقعتا على ورقة مطوية على الطاولة، وبدت كأنها تركت عمدًا لتُكتشف.
مدت يدها بتردد، التقطتها بارتعاش واضح. فتحت الورقة، وما إن قرأت السطور الأولى حتى اختنقت بعبراتها، وبدأت دموعها تنساب بلا صوت. كانت الصدمة تفوق قدرتها على التعبير، وكأن الكلمات المكتوبة أثقل من أن يتحملها قلبها.
اقترب وليد منها بخطوات سريعة. أخذ الورقة من يديها المرتعشتين، وتفحصها بعينين غارقتين في الحذر والقلق. مرت لحظات ثقيلة وهو يقرأ، ملامحه تتبدل بين الذهول والأسى
ثم بدأ يقرأ بصوت منخفض:
"همستي حبيبتي، ما تزعليش مني إني سبتك فجأة، عندي أسباب خاصة بيا. وده لأن عندي عقدة في لحظة الوداع. ابدأي حياتك الجديدة مع وليد، بيحبك وهيحافظ عليكي. وعيشي حياتك، أنا اطمنت عليكي الحمد لله مع اللي يستاهلك. وبلغي عاصم إني آسفة بجد. فكرت كتير في حياتنا، لقيت إني هظلمه. عارفة إني خذلته. قولي له إني بجد بجد حاولت، لكن مقدرتش. مش هينفع إني أعلقه بيا، مش هقدر أكون له الزوجة اللي يتمناها. خليه يبدأ حياته مع الشخص الصح، ويعيش حياته وينساني. طمني مي كمان، قولي لها إنك أحسن صديقة عندي، وخليها تدعيلي. بحبكم كلكم، أنا سافرت. بلاش تدورا ورايا، أنا مرتاحة وأنا لوحدي. ادعيلي يا همسة، متنسونيش بالدعاء، محتاجاها أوي."
نظر وليد إلى عاصم بدهشة وقال: "يعني إيه الكلام ده؟ في حاجة غلط، مش مفهوم وداع إيه اللي خلاها تسافر فجأة كده؟ دي اختها هتتجوز! انت فاهم حاجة؟"
همست بصوت مملوء بالألم: "أنا بابا وماما سابوني، وهي كمان! ليه تسيبني وأنا محتاجها؟ ليه تعمل كده؟ أنا عاوزه اختي، قلبي بيقولي إن في حاجة مش كويسة، إزاي تسيبني كدة فجأة؟"
ثم تقدمت إلى عاصم، الذي وقف صامتًا، لا يجيب ولا يواسي، كانت عيونها تمتلئ بالدموع، بينما لسانها يردد كلماتها الأخيرة بألم، دون أن تجد منه ردًا. حاولت مرارًا أن تقرأ تعابير وجهه، لكن صمته، جعلها تنكسر داخليًا، فدارت قدماها سريعًا إلى وليد.
لكن عاصم ظل في مكانه، تجمد، وكأن وقع كلماتها لم يؤثر فيه. تركهم أخيرًا، ومضى بعيدًا عنهم...
اقترب منها وليد، بعينين مليئتين بالشفقة، وقال بلطف: "معلش، هو مصدوم شويه، إن شاء الله هنلاقيها."
ثم ربت على كتف همسة التي لم تكف عن البكاء، وقال لها برفق: يلا هتيجي معايا."
ساعدها في تحضير حقائبها. نزلوا إلى السيارة، ولم يجدوا عاصم. حاول وليد الاتصال به لكنه كان مغلقًا. فانطلق عائداً إلى منزلهم الجديد.
بينما كانوا في الطريق، هاتفت همسة مي لتخبرها بما فعلته صديقتها، كانت الكلمات تتساقط من شفتيها بصعوبة.
...
ظل يسير بلا هوادة، كأن الطرقات بلا نهاية، حتى توقّف أمام النيل. أطلق أنفاسًا حارة، تحمل احتراق روحه، وعيناه تحدقان في المياه الساكنة بملامح جامدة تخفي عاصفة مشتعلة بداخله.
تمتم بصوت بالكاد يُسمع، الكلمات تنساب من شفتيه بلا وعي. قبضت يداه على عجلة القيادة، وكأنها ملاذه الوحيد. الطريق بدا طويلًا بلا نهاية، وأضواء السيارات المارة لا تُضيء عتمة أفكاره. الهواء البارد تسلل من النافذة، يعبث بخصلات شعره، لكنه لم يُبدِ أي اهتمام، غارقًا في بحر من التساؤلات التي تزيده حيرة.
فجأة، رفع صوته كمن يخاطب فراغ الطريق، لكن الكلمات سرعان ما تلاشت، ذابت وسط أنفاسه الثقيلة وصمت الليل. لم يكن واثقًا إن كان يهرب من أفكاره أم يطاردها.
"لما نشوف اختيارك هيوصلك فين يا غبية..."
أطلق نفسًا مشبعًا بسخرية مريرة، وكأنه يضحك على لعبة القدر:
"فاكرة لو رميتي الجهاز هتعرفي تهربي مني؟"
.....
عند معتز كان جالسًا وسط أهلها، والفرحة تعلو وجهه؛ فاليوم أصبحت "مي" أخيرًا ملكه. ظلَّ معتز يتأملها وهي شاردة تنظر إلى الخاتم الذي ارتدته للتو. ابتسم وسألها بلطف:
"عجبك الخاتم؟"
انتبهت له، وقد بدا عليها التوتر:
"ها؟ آه، جميل جدًا ورقيق أوي... ميرسي بجد."
ابتسم لها بابتسامة جذابة تُظهر اهتمامه:
"أصلِك نسيتي تردي وسرحتي بيه... أنا كده هغار منه بقى!"
لكن بالها كان مشغولًا على رفيقتها، فردَّت بارتباك:
"لا أبدًا... أصلي في حاجة كده..."
قبل أن تُكمل حديثها، رنَّ هاتفها، فأجابت على المكالمة بلهفة، على أمل أن تطمئنها. ولكن كلمات الطرف الآخر كانت صادمة؛ شهقت وقطعت المكالمة على الفور.
لاحظ معتز تغيُّر حالتها المفاجئ، فسأل بقلق:
"مي، إيه اللي حصل؟! حد حصل له حاجة؟ مالِك، فيه إيه؟ انطقي!"
لكنها لم ترد؛ فقط بدأت بالبكاء. حاول معتز تهدئتها، فأمسك بيدها ليُبعدها عن وجهها:
"إيه اللي حصل؟! طيب اهدي وفهميني عشان أقدر أساعدك."
أخيرًا نطقت بصوت متقطع:
"س... سيلا... سافرت وسابتنا... كـ... كلنا... ومحدِّش عارف هي راحت فين!"
كان وقع كلماتها كالصاعقة عليه. تذكَّر فجأةً "عاصم" وما كان من المفترض أن يحدث اليوم. كيف نسي أمرهما؟ وكيف غاب عن باله أنه لم يرَها منذ فترة؟ تحوَّلت أفكاره لملامح "عاصم" الغريبة يوم قراءة الفاتحة.
شدَّ على شعره بعنف، وكأنه يلوم نفسه، ثم نظر إليها في حيرة وسأل:
"طيب ليه تعمل كده؟!"
أجابته وهي تبكي بحرقة:
"إنت مش فاهم حاجة... محدِّش فاهم حاجة."
ازدادت نبرة صوته حدَّة:
"ممكن تبطلي عياط وفهميني عشان أقدر أتصرف؟!"
دون مقدمات، أفلت لسانها بالحقيقة:
"سيلا... عندها كانسر."
كانت الكلمة كالصاعقة. في تلك اللحظة، مرَّت والدتها بجانبهما، فشهقت ولطمت صدرها وجلست بجوار مي في صدمة:
"يا حبيبتي! بتقولي إيه؟! سيلا عندها إيه؟!"
تجمَّد معتز مكانه، غير قادر على تصديق ما سمعه، لكنه تمتم بذهول:
"عاصم كان عارف؟!"
هزَّت مي رأسها بالإيجاب، وهي تغالب دموعها:
"أيوة، هو اللي اكتشف مرضها. محدش كان يعرف غيري أنا وهو. حتى همسة ما تعرفش حاجة... بدأت علاج الكيماوي من فترة، بس لما ماتوا أهلها وسابوها... استسلمت تمامًا. كلمت عاصم وقلتله إني مش قادرة عليها، وكانت مستسلمة خالص. قالي إنه هيتصرف. بس دلوقتي... دلوقتي همسة قالت إنها سافرت ومحدش يعرف مكانها!"
انهارت مجددًا في البكاء، واحتضنتها والدتها وهي تُربِّت عليها، داعية لصديقتها بالشفاء.
نهض معتز فجأةً، وقد بدا عليه التصميم:
"متقلقوش، أنا عندي معارف كتير. وعاصم مش ممكن يسيبها، أكيد عارف مكانها. هتصرف وهكلمكم لو في أي جديد."
خرج سريعًا من المنزل، متجهًا للبحث عن أخيه، لعلَّه يصل إلى حل. هاتفه أثناء القيادة، لكن هاتف عاصم كان مغلقًا. حاول الاتصال بوليد، الذي أخبره بفحوى الرسالة التي تركتها سيلا، وربط الأمر بمرضها.
"وهو فين دلوقتي؟!" سأل معتز بلهفة.
"مشيت من عنده. أنا مش هقدر أسيب همسة لوحدها، حالتها صعبة أوي."
أصرَّ معتز:
"خليك جنبها أنت... أنا هتصرف."
أغلق المكالمة، وقاد بسرعة حتى وصل المنزل، لكنه تفاجأ بعاصم الذي كان قد وصل قبله بقليل. كان عاصم يقف في الصالة بلا روح، ينظر إلى الفراغ بعينين جامدتين.
تقدَّم معتز نحوه، وهزَّه من كتفيه بعنف:
"عاصم! انت واقف كده ليه؟! عرفت مكانها، صح؟!"
لكن عاصم لم ينظر له، ولم ينبس ببنت شفة.
صرخ معتز بغضب:
"رد عليا! إنت مش هتتخلى عنها، قولي إنك هتلاقيها وتلحقها قبل ما..."
قاطعه عاصم بجمود:
"هي اللي اختارت طريقها."
تركه وبدأ بالمغادرة، لكن معتز لحق به وأمسكه من ذراعيه:
"هتسيبها لوحدها؟! إزاي تتخلى عنها في عز مرضها؟ ده اللي قولتهولي؟ إنك هتبدأ صفحة جديدة؟! فوق يا عاصم!"
دفعه عاصم بعيدًا بحدَّة، وقال بصوت بارد:
"هي اللي اتخلت عني. لو هي مش خايفة على نفسها، مش هقدر أعمل حاجة. مش عايز أسمع سيرتها تاني هنا."
وقبل أن يذهب، التفت مرة أخرى:
"أنا مسافر بكرة الصبح، عندي مأمورية، ومش عارف هرجع إمتى."
تركه وذهب إلى غرفته، بينما بقي معتز واقفًا في حيرة، لا يدري ما الذي يجب عليه فعله الآن.
....
دلفا معًا إلى المنزل، ووليد أمسك يدها بقوة كأنه يرسل إليها طمأنينة عبر أنامله. التفتت إليه بعيون متوسلة، وشدت على يده بخوف: "ما تسبنيش."
تردد صوتها في أذنه، فأحس بالوجع الذي يثقل كاهلها. ابتسم محاولًا التخفيف عنها وقال بلطف: "ما تقلقيش... قاعد على قلبك. مش متحرك غير لما أنتِ اللي تقوليلي: امشي."
ثم أغلق الباب خلفهما بهدوء.
همسة حاولت رسم ابتسامة على وجهها، وقالت بصوت خجول: "شكراً... بجد."
لكن وليد هز رأسه معترضًا وهو يرد عليها بابتسامة مطمئنة: "لا لا، بيننا مفيش شكر ولا كلام مجاملات. إحنا دخلنا الليفل التاني."
تجمدت ملامحها لوهلة، وسألته بحيرة: "ليفل تاني إيه؟ مش فاهمة."
ضحك وهو يمد يده نحوها: "تعالي، تعالي يا شابة... هفهمك بعدين. المهم نطمن على أختك الأول."
قادها إلى غرفة صغيرة، فتح الباب وأشار بيده: "الأوضة دي هتنامي فيها مؤقتًا، لحد ما تتعودي على المكان. وأنا هنام في الأوضة اللي جنبك."
شعرت بالحرج من لطفه، وردت بخجل: "مش عارفة أقولك إيه... شكراً على كل حاجة."
تركته وأغلقت الباب خلفها.
نظرت إلى غرفتها الجديدة بصمت، ولكن قلبها كان يصرخ ألمًا. ألقت بنفسها على السرير، وبدأت في البكاء بانهيار. لم تصدق أن أختها قد تركتها بهذه السهولة، بدون تفسير أو كلمة وداع. ظلت تبكي حتى أرهقها البكاء وغطت في نوم عميق.
في الغرفة المجاورة، دخل وليد متعبًا. كانت الغرفة بسيطة، فيها سرير متوسط الحجم ومكتب صغير. فرد جسده المنهك على السرير، وأغمض عينيه من شدة الإرهاق.
بعد عدة ساعات، استيقظ فجأة على صوت فتح باب غرفته. وقفز من السرير ليجد همسة واقفة أمامه، وشعرها منكوش من أثر النوم.
بدهشة وخوف، قال بسرعة: "همسة! مالك؟ في حاجة؟"
ردت وهي تبدأ في النحيب: "مش عارفة أنام لوحدي... خليك جنبي، ما تسبنيش."
اقترب منها واحتواها في حضنه، يمسح على رأسها بحنان: "اهدي... أنا جنبك. مش هسيبك. تعالي."
قادها إلى السرير، جعلها تستلقي، ثم تمدد بجانبها ليطمئنها. أدارت له ظهرها، وبكت وهي تهمس: "كلهم سابوني ومشيو... حتى هي."
شعر بارتجافها، فلف ذراعيه حول خصرها ليمنحها الأمان، وبدأ يمسد شعرها بحنان. همس بجوار أذنها: "مش هسيبك. أنا جنبك... حياتي كلها."
شعر بانتظام أنفاسها وهي تغفو بين ذراعيه، فقبل وجنتها بلطف ونام بجانبها.
---
في الصباح
أشرقت شمس يوم جديد على الجميع، لكنها لم تحمل سوى الحزن والمجهول.
في مكان آخر، كان معتز يبحث عن أخيه ليعرف مستجدات سيلا، لكنه لم يجده. زفر بضيق وعاد إلى غرفته ليبدل ثيابه. هاتف وليد واتفقا على اللقاء في الشركة.
في مكتبه، انتظر معتز حتى دخل وليد بوجه شاحب وقلق: "ها... فيه جديد؟ عاصم عمل حاجة؟"
معتز زفر بسخرية وقال ببرود: "عاصم؟ انساه. إحنا لوحدنا دلوقتي."
نظر وليد إليه بصدمة: "إزاي مجاش؟ هنمشي إزاي كده؟"
رد معتز بفتور: "عاصم سافر في مأمورية شغل، ومش عارف يرجع إمتى. والموضوع ده مش أولويته دلوقتي."
وليد لم يصدق: "إزاي مش أولويته؟ سيلا حالتها صعبة، دي أختها بتنهار! هو ناوي يسيبها كده؟"
معتز أشار له أن يهدأ وقال بحزم: "عاصم رجع لبروده القديم. مش فارق معاه حاجة للأسف. والأسوأ من كده... سيلا حالتها الصحية متدهورة جدًا. لو ملحقناهاش، ممكن نفقدها."
وليد بصدمة: "إيه؟ يعني إيه حالتها متدهورة؟ مالها سيلا؟ انطق!"
معتز أخذ نفسًا عميقًا وقال: "سيلا عندها سرطان في المعدة، ورافضة تتعالج. حالتها خطيرة جدًا هي هربت."
وليد أغلق عينيه من الصدمة، يحاول استيعاب الكلام. مسح على وجهه وقال بعد لحظة: "طيب... والعمل؟ إحنا لازم نتصرف بسرعة. بس همسة... لو عرفت حاجة زي دي، هتنهار!"
معتز رفع يده محذرًا: "إياك تقول لها حاجة دلوقتي. مش وقتها. الأول لازم نلاقي سيلا. أنا هكلم صديق لعاصم عشان يساعدنا، وإنت جهز صورة لسيلا ننشرها في الكمائن، ونتابع خط سير تليفونها."
وليد أومأ برأسه: "تمام. لو في جديد كلمني. أنا راجع البيت. مش هينفع أسيب همسة لوحدها أكتر من كده."
ترك المكتب بسرعة، وقاد سيارته عائدًا إلى المنزل، قلبه معلق بهمسة التي تركها نائمة. كان قد قبّل جبينها قبل أن يخرج، وأخبرها بهمس أنه سيعود سريعًا.
وصل المنزل وفتح الباب بحذر، لكنه لم يجدها في مكانها. دارت في ذهنه أسوأ الاحتمالات، لكنه هدأ عندما سمع صوت المياه من الحمام. انتظر حتى خرجت، تقف أمامه متفاجئة، تحتضن نفسها بالمنشفة. شهقت عندما رأته والتفتت عائدة إلى الداخل، مغلقة الباب خلفها.
وليد، محاولًا كسر الإحراج، حمحم وقال: "همسة، أنا خارج. خدي راحتك."
خرج من الغرفة وأغلق الباب بصوت مسموع ليطمئنها.
بعد قليل، خرجت مرتدية سالوبيت وردي عليه رسمة أرنوب، وشعرها يتدلى بحرية. تقدمت نحوه بخجل وقالت بصوت ناعم: "صباح الخير."
نظر إليها، وارتبكت عيناه بجمالها الطبيعي. ابتسم وقال بسرحان: "صباح الخير، حبيبتي. نمتي كويس؟"
خفضت رأسها بخجل ولم ترد، فاقترب منها، ورفع وجهها برفق: "إنتِ مراتي. متتكسفيش مني. أنا أول مرة أنام مرتاح كده."
وجهها احمر خجلًا، فأمسك وجنتيها وضحك قائلاً: "والله نفسي أكلهم!"
تراجعت للخلف بابتسامة صغيرة وقالت: "بطل هزار بقى. امشي، سيبني أحضر الفطار."
وليد هتف بمرح: "مين قال عيب؟ مش هيجرى حاجة لو أنا اللي حضّرت الفطار لطفلتي وأكلتها كمان!"
ضحكت، ثم اتفقا أن يحضرا الفطور معًا. جلسا على الطاولة، يتناولان الطعام في جو مليء بالمرح.
خلال الفطور، تحدث وليد بهدوء: "همستي، محتاج صور سيلا عشان ننشرها في الدوريات والكمائن."
تغير وجهها فجأة، وامتلأت عيناها بالدموع. ردت بصوت مكسور: "حاضر... بس أول مرة تبعد عني كده. وحشتني جدًا."
وليد وضع يده على يدها، محاولًا طمأنتها: "متقلقيش. هنلاقيها قريب، وعد مني."
---
في مكان آخر تلقى اتصالًا الذي أعطاه رقم سيارة سيلا وهاتفها. بدأوا بتعقب الإشارات للوصول إليها. ورغم كل المحاولات، ما زالت الأمور غامضة...
انتهت احداث الرواية الجزء الاول نتمني ان تكون نالت اعجابكم وبانتظار أراؤكم في التعليقات وشكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
للمزيد من الروايات الحصريه زورو قناتنا على التلجرام من هنا
شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم