رواية جمر الجليد الفصل الثلاثون بقلم شروق مصطفي
عودة من الفلاش باك
تنهدت مي داخل غرفتها، تدعو الله بتيسير أمورها، وهمست: "ربنا يستر من اللي جاي."
وفجأة خطر ببالها معتز، فتذكرت ما فعلته معه ونظراته المليئة بالتوعد. بدأت تضرب كفًا بكف وتلطم على وجهها: "آآآاااع، شكله يخوف! يمامي ده هيموتني لما يجي! آآآاااع، لسه بدري عليا! يعني كان لازم أطلع فيها سبع رجالة فبعض! لا، وجاي بعد بكره... اهئ اهئ!"
استمرت في لعن حظها الأسود من هذه المواجهة المنتظرة حتى استسلمت أخيرًا للنوم.
أما سيلا، فقد دلفت إلى الحمام لتأخذ حمامًا دافئًا يريح أعصابها بعد يوم طويل ومرهق. أنهت استحمامها ثم توجهت إلى غرفتها لترتاح قليلًا.
تمدّدت على السرير وهي تنظر إلى السقف، غارقة في التفكير بما حدث منذ قليل، مسترجعة كلماته الغامضة عن "أشياء غير متوقعة". رفعت يدها إلى أعلى رأسها وأطلقت تنهيدة عميقة: "آآآآه."
بينما كانت مستغرقة في التفكير، شعرت بحكة في رأسها. رفعت يدها لتتفقد ما هناك، فوجدت السوار الذي نسيته تمامًا. نفخت بضيق قائلة: "هف! نقصاك انت كمان! نسيتك خالص أصلاً، ومش حاسة بيك! ونسيت كمان أقوله يفكه. قال عاوز يتجوزني! يتجوز واحدة مريضة؟ يعمل إيه بيها؟ أنا خلاص... مش حانفع لحد، لا ليه ولا لغيره."
همست بهذه الكلمات في حزن، ثم غفت للنوم مباشرة، منهكة من كل شيء.
صباح اليوم التالي
خرجت كل من همس وسيلا للتسوق وشراء ما ينقصهما. وبعد ساعات من التجول بين المحلات، تمكّنتا من إنجاز الكثير، لكن التعب بدأ يظهر عليهما، خاصة على سيلا.
قالت سيلا، وهي تشعر بالإرهاق: "آخر محل ونروح يا همسة، مش قادرة بجد."
ردت همس، التي بدا عليها التعب أيضًا: "خلاص، أنا كمان تعبت والله."
قالت سيلا: "طيب، أنا هدخل الأكياس اللي معايا العربية، وأبقى حصليني."
ردت همس: "خلاص، وأنا مش هتأخر."
حملت سيلا جميع الحقائب واتجهت نحو السيارة، لكنها تفاجأت بـ...
صباحًا، داخل إحدى شركات AM
ظل عاصم غارقًا في العمل، لكن عقله وقلبه لم يتركاها لحظة. تلك اللمسة الصغيرة منها، رغم بساطتها، كانت كافية لإعادته إلى الحياة، بعد أن كانت روحه صحراء جرداء بلا حياة. غير أن رفضها له كان كطعنة نافذة، أوجعت قلبه البارد الذي لم يعرف يومًا معنى الرجفان، لكنه الآن يرتجف كأنه على وشك فقدان روحه للأبد.
تنهد بعمق، وأخرج نفسًا طويلًا، ثم تناول من جيب بدلته صورًا تخصها، كان يحتفظ بها منذ تلك المهمة التي جمعتهما. حدّق في الصور طويلًا، شارداً بما لا يُرى أمامه. أغلق على نفسه في مكتبه وألغى جميع مواعيده لهذا اليوم. وبينما هو حبيس أفكاره، أمسك هاتفه واتصل بوليد.
عند وليد
في تلك الفترة، كان وليد منشغلاً بتشطيبات الفيلا الجديدة التي يستعد للانتقال إليها مع معشوقته الصغيرة. لم يذهب للعمل، بل قضى وقته مع العمال، يتابع كل التفاصيل الصغيرة. هاتف همسة ليطمئن عليها، واتفق معها على الاتصال به بعد انتهائها وسيلا من التسوق، ليتقابلوا لاحقًا.
بينما كان يضع هاتفه جانبًا، وصله اتصال من عاصم. أجابه مبتسمًا:
"حبيبي! عامل إيه؟"
رد عاصم بنبرة جادة:
"الحمد لله. مش هتيجي الشركة النهارده؟"
وليد، بنبرة اعتذار:
"صعب أوي والله. طول النهار حكون مع العمال بيخلصوا كام حاجة ناقصة. وبالليل هقابل همسة. نزلت مع سيلا يجيبوا شوية حاجات ناقصاهم."
صمت عاصم لبرهة، ثم قال مفكرًا:
"طيب تمام. وانت رايح لهم، كلمّني. جاي معاك، بس متقولش إنّي جاي!"
رد وليد، مستعجلًا لإنهاء المكالمة:
"تمام، ماشي. سلام بقى، عشان حد بينادي عليّ من العمال."
أغلق عاصم الهاتف، بينما في داخله كان القرار قد حُسم. اليوم، سيُغلق كل الحسابات المفتوحة. لم يعد هناك مجال لتأجيل الأمور، خاصة إذا كان كل تأخير قد يعني خسارتها... ربما إلى الأبد.
تنفس عميقًا وأخرج زفيره ببطء، مسندًا رأسه إلى الخلف. عينيه مغمضتان، لكن صورتها لم تفارقه حتى في خياله. أقسم لنفسه أنه لن يتخلى عنها أبدًا، مهما كلفه الأمر، حتى لو استسلمت هي. كانت هي الحياة التي عادت إليه بعدما ظن أنه فقدها، والنور الذي شق عتمته.
تذكر حديث الطبيب المتابع لحالتها عندما ذهب إليه في الأيام الماضية. صدمه الطبيب بخطورة وضعها، وأنها إن لم تكمل جلسات العلاج الكيميائي سريعًا قبل الجراحة، فإن الأمور قد تخرج عن السيطرة. كان هذا التحذير كصفعة على وجهه، لكنه أيقظه إلى حقيقة واحدة: لا وقت للانتظار.
...
استمر عاصم في العمل حتى وقت متأخر من الليل، محاولًا شغل نفسه، لكن عقله كان يهرب إليها في كل لحظة.
كانت سيلا تحمل الحقائب الثقيلة، متجهة إلى السيارة المتوقفة في الجراج. الإرهاق كان واضحًا على ملامحها، لكن خطواتها توقفت فجأة.
تجمدت في مكانها حين رأت عاصم هناك، مستندًا إلى مقدمة سيارتها، بذراعيه المعقودتين وصدره المرتفع كأنه يحاول جمع كل شتات نفسه قبل المواجهة.
التقت أعينهما... تلك النظرة الحادة المليئة بالكلمات التي لم تُقال بعد، كانت كفيلة بأن تجمد كل كلماتها على شفتيها.
تقدمت سيلا نحوه بنفاد صبر، رافعة إحدى حاجبيها في تحدٍّ واضح، وقالت بحدة:
"إنت مراقبني بقا ولا إيه؟"
ابتسم عاصم بهدوء، لم يتأثر بحدتها، وردّ بثبات:
"جاي أسمع قرارك لآخر مرة... فكرتِ في اللي قولتُه ليكي؟"
سيلا تجاهلت كلماته، وفتحت باب السيارة الخلفي لتضع الحقائب الثقيلة التي كانت تحملها. أغلقت الباب، ثم توجهت إلى الباب الأمامي، عازمة على إنهاء هذا النقاش الذي لم تكن في حالٍ تسمح به. وقفت للحظة، ثم نظرت إليه نظرة صارمة وقالت بكلمة واحدة، مختصرة كل شيء:
"انسى."
كادت تفتح الباب وتدخل، لكنه كان أسرع منها. مدّ يده ليغلق الباب، ثم انتزع المفاتيح من يدها بحركة خاطفة. استدار سريعًا وركب السيارة، مغلقًا الباب بإحكام، وأشار لها بيده أن تركب من الجهة الأخرى.
تجمدت في مكانها، مصدومة من تصرفاته، ثم ضربت سطح السيارة بقوة وغضب.
خفض زجاج السيارة قليلاً ونظر إليها بثبات، وقال بهدوء لكنه يحمل نفاد صبر:
"اركبي الأول ونتفاهم بعدين."
نظرت إليه بدهشة، غير مصدقة تصرفه الجريء، وقالت بحدّة:
"إنت بجد؟"
ردّ بصوت جاف، يحمل صيغة أمر لا تحتمل الرفض:
"يلا، اركبي بقى."
عقدت ذراعيها أمام صدرها، مظهرة عنادها وتحديها الواضح، وقالت:
"لا! أنا مستنية همسة، ويلا اخرج بقى من عربيتي!"
ابتسم بسخرية، وردّ بثباتٍ قاتل:
"همسة مع وليد. يلا بلاش رغى على الفاضي. اركبي."
قال كلمته الأخيرة بنبرة مرتفعة قليلاً، مما زادها غيظًا. دبّت قدميها على الأرض بحدة، ثم التفتت فجأة، وركبت السيارة أخيرًا. أغلقت الباب بقوة، وأدارت وجهها للجهة الأخرى، وقالت بغضب مكتوم:
"وبعدين بقى؟! مش كنا خلصنا؟"
نظر إليها بنظرة صلبة مليئة بالهيبة، وقال بصوت منخفض لكنه يحمل تهديدًا خفيًا:
"صوتك مايعلاش تاني."
شعرت برهبة من نبرته، فابتلعت غضبها بصعوبة، وأخذت نفسًا عميقًا تهدئ به أعصابها. قالت محاولة السيطرة على نفسها:
"طيب، رايح فين؟ ممكن أفهم؟"
لكنه لم يجبها. أدار السيارة وانطلق بها في صمت مطبق، متجاهلًا كل كلماتها وثرثرتها، يحاول أن يهدأ من عاصفة مشاعره التي لم يمر بها من قبل.
...
توقف أخيرًا أمام النيل، في مكان هادئ خالٍ من الضوضاء. الليل كان قد أرخى سدوله، وانعكاس الأضواء على المياه جعل المكان أشبه بلوحة سحرية تبعث على السكينة.
التفت إليها، وملامحه هذه المرة كانت هادئة بشكل غريب. تحدث بلين وصوت منخفض:
"هديتي؟ ممكن نتكلم بهدوء بقى؟"
لكن بدلًا من أن تهدأ، استشاطت غضبًا أكثر من إلحاحه. نظرت إليه بحدة، وقالت باندفاع:
"إيه؟ إنت شايفني مجنونة وبشد في شعري ولا إيه؟ مش بحب الطريقة دي، وعلى ما أظن إنّي نهيت كل حاجة معاك. وهقولها لك للمرة الأخيرة: ابعد عن طريقي خالص... ممكن؟"
انفجرت في وجهه، كلماتها كسياط تلهب صدره، ثم أدارت وجهها بعيدًا عنه وكأنها ترفض مجرد وجوده بقربها.
تنهد عاصم بحزن، مدركًا عمق الجرح الذي سببه لها. مد يده برفق وجذب وجهها لينظر في عينيها المليئتين بالوجع، وقال بصوت خافت يحمل رجاءً:
"بصيلي... ليه كل ده؟ أنا خايف عليكي بجد!"
تمنى أن تجد في كلماته ما يخفف عنها، أن تتراجع عن قرارها، لكن الرد جاء قاسيًا وغير متوقع. دفعت يده عنها بقوة، صوتها مخنوق بالمرارة، وقالت بحدة:
"ما تقولش خايف عليا تاني! أنا محدش بيخاف عليا غيرهم... فاهم؟ هما بس اللي كانوا بيخافوا عليا!"
عند ذكرهم، انهمرت دموعها بغزارة، ولم تستطع السيطرة على نفسها. وكأن سدًا من المشاعر المكبوتة انهار فجأة. تابعت بصوت متهدج، كأنها تخرج كل ما احتبس في قلبها لسنوات:
"فجأة كده بقيت خايف عليا؟ وعَلى حياتي كمان؟ ومتمسك بيا أوي دلوقتي؟ افتكرتني بس دلوقتي؟! إنت طول عمرك كنت بتبعدني عنكم. إيه اللي حصل دلوقتي؟! لو أنا نسيت، أنا مستحيل أنسى! إهانتك... تجريحك ليا... اتهامك لشرفي... لما قلت إني شمال. فاكر؟ فااااااكر؟"
عينيها التمعت بالدموع والغضب، وواصلت بانهيار:
"جيتلي وأنا فاقدة النطق من اللي شفته، ومقهورة إني مالحقتش البنت اللي اتقtتلت تحت أيديهم! وبعد ده كله، جيت تكمل عليا بكلامك... قتلت اللي باقي فيا، وفرقتني عن أقرب صاحبة ليّا. محدش حس باللي حسّيته، ولا حد عاش اللي عشته. زمان كنت بموت بالبطيء... وإنت؟ إنت كنت السبب! إزاي تتوقع إني أنسى؟"
لم تستطع التوقف عن البكاء، وكأنها تفرغ كل الألم الذي حملته لسنوات طويلة. أكملت بصوت منكسر، وهي تشير إلى جرح على كتفها:
"بتقول بتخاف عليا؟ بتخاف عليا من إمتى؟ فاكر يوم عقابك لما هربت من حمايتك ضrبتني بدم بارد هنا؟ وسبتني مرمية بنزف لوحدي يوم كامل؟"
شهقاتها باتت متتابعة، لكنها لم تتوقف عن الحديث، كأنها تُخرج حملًا جثم على صدرها طوال عمرها. قالت بصوت خافت لكنه موجع:
"حتى لما اتهمتني إني السبب في إصابة أخوك... فاكر؟ حتى وقتها ماسبتنيش في حالي! أنا دلوقتي مابقتش عاوزاك جانبي. مش عايزة حد يقرب مني."
ابتسمت بسخرية، لكنها كانت ابتسامة لم تصل إلى عينيها الغارقتين في الدموع:
"إنتو بتقولوا إني غلطانة... إني كان لازم أسكت. لكن أنا؟ ذنبي إيه؟ ذنبي إني حاولت أصرخ عشان أجيب حق بنت كانت ممكن تكون أختي أو بنت بلدي؟ ذنبي إني رفضت أكون سلبية زيكم؟ كل اللي عملته إني حاولت أواجههم، عشان أوقفهم، وكنت متأكدة إن الحق لازم ينتصر. لكن إنتو؟ كنتوا واقفين تتفرجوا، وسايبينني لوحدي!"
أخذت نفسًا متقطعًا، لكنها لم تستطع إخفاء الإرهاق الذي بدا واضحًا على ملامحها. أكملت بصوت مثقل بالحزن واليأس:
"كل اللي طلبته منكم إنكم تسيبوني في حالي. أنا خلاص... حالة ميؤوس منها. مش باقي لي في الدنيا غير همسة، واطمنت عليها. الحمد لله... كفاية عليا كده."
توقفت للحظة، والدموع تنساب على وجنتيها بلا توقف. نظرت إلى النيل أمامها وكأنها تحادث نفسها، وقالت بصوت مكسور بالكاد يُسمع:
"سيبوني أروح لهم... هما وحشوني أوي."
بقى عاصم في مكانه، عاجزًا عن الرد. صدمته كلماتها التي ألجمت لسانه، وعينيه المليئتين بالندم تابعتاها وهي تخرج كل ما كان مختبئًا داخلها. لم يكن في وسعه سوى أن ينظر إليها بصمت، مدركًا أن كل ما قالته كان صحيحًا... ومدركًا أنه السبب الأكبر لكل ما عانته.
ــــــــــــــــــ
كلماتها خرجت كأنها خناجر مسمومة بنصل حاد، تغزو قلبه بلا هوادة، تمزق داخله مئات المرات. شعر بألمها وكأنه يراه لأول مرة بوضوح. هي السبب، وهو الجاني. رجف قلبه للمرة الثانية، وكأن قسوته التي اعتادها لم تعد تقوى على احتمال هذا الكم من الألم.
لم يدرك نفسه إلا وهو يجذبها إليه بعنفوان كمن يحاول أن يحميها حتى من نفسه. ضمها بين ذراعيه بقوة، يخفيها داخل أحضانه، وكأنها أمانه الذي أضاعه.
انصدمت سيلا من فعلته، وحاولت التملص من قبضته، لكن عاصم أحكم احتضانها أكثر، وكأنها آخر ما يملك في الحياة. لم يستطع السيطرة على ما بداخله. لأول مرة، أسوار بروده العالية التي بناها طيلة حياته انهارت، وأطلق آهة طويلة وموجوعة، كأنها تعبير عن سنوات من الألم المكبوت:
"آآآآه..."
ارتعدت أوصالها داخل أحضانه عند سماعها آهات انكساره، لكنها توقفت عن المقاومة، شعرت بضعفه لأول مرة. شدد احتضانه كأنه يخشى أن تفلت من بين يديه، وهمس بصوت متحشرج، يحمل كل وجعه الذي كان يخفيه:
"آه... لو تعرفي أنا شفت إيه في حياتي... آسف، والله آسف على كل دمعة كنت السبب فيها. آسف على كل كلمة جرحتك بها. أنا هافضل طول عمري متأسف... لأنك وجعتي، والوجع ده بسببي."
كانت كلماته تشق طريقها إلى قلبها رغم ألمها، وحين تحدث مجددًا، شعرت وكأنها تسمع شخصًا آخر، شخصًا ينزف من أعماقه:
"صدقيني... اللي كان بيتعامل معاكي ده مش أنا. ده كان شخص ميت، واحد مات جواه كل إحساس، شاف أمه تخونه مع واحد غريب، وشاف بعينه موتها على إيد أبوه، وشاف أبوه يموت قدامه في نفس اليوم. أنا كنت إنسان مات يومها... مات ثلاث مرات في نفس اللحظة."
توقف لوهلة، ثم رفع وجهها بيديه لتنظر في عينيه، وأكمل بصوت يحمل رجاءً صادقًا:
"أنا كنت إنسان ميت... وانتي اللي أحييتيني. انتي اللي رجعتيلي روحي، مستحيل أسيبك تسيبيني دلوقتي. أنا عاوزك، محتاجك، ومش عاوز سيلا الضعيفة دي. أنا عاوز سيلا القوية اللي عرفتها. ارجعي لي، سامعاني؟"
خفضت سيلا رأسها وهي تحاول أن تحجب دموعها. همست بصوت بالكاد يُسمع، لكنه حمل كل انكسارها:
"للأسف... جيت متأخر. أنا خلاص... مش باقي فيا حاجة عشان أديها لأي حد."
قطع حديثها سريعًا بوضع يده على فمها، مانعًا إياها من الاسترسال في كلامها الذي أحرق قلبه:
"هششش... ماتكمليش. أنا جنبك، وهفضل جنبك. انتي مش لوحدك... أنا هنا، وهفضل هنا. مش هسيبك أبدًا."
شد على كتفيها، ينقل قوته لها، وتحدث بثقة عميقة:
"انتي أقوى من كده... وصدقيني، احنا نقدر نكمل مع بعض. انتي محتاجاني... وأنا محتاجك أكتر من أي حاجة في الدنيا. مش هطلب منك حاجة دلوقتي غير إنك تسامحيني... وإننا نبدأ من جديد. انتي نور حياتي اللي طفى زمان... والنور ده مش هينطفئ تاني."
سيلا ظلت صامتة، لكن عيناها حملتا أكثر مما تستطيع التعبير عنه بالكلمات. تنفست بعمق، وكأنها تحاول استيعاب كل ما قاله. أخيرًا، همست بصوت خافت:
"أنا... أنا خايفة."
ابتسم ابتسامة صغيرة مليئة بالحزن والرجاء، وأمسك يدها برفق:
"أنا كمان خايف... بس هفضل جنبك. مش هطلب منك إنك تحبيني دلوقتي، بس خلينا ندعم بعض. أنا هكون كل حاجة ليكي... أخوكي، وأبوكِ، وسندك، وأمانك. بس أوعديني إنك مش هتستسلمي."
شعرت بقوة يده تحتضن يدها، وكأنها رسالة طمأنينة. لم تجد الكلمات، فقط أومأت برأسها بخفوت، وكأنها توافق على ما يقول.
فجأة، جذبها إلى أحضانه مرة أخرى، هذه المرة بلهفة امتنان. همس بقلب ينبض عشقًا:
"بحبك... بحبك، سيلا."
كانت كلماته بمثابة وعد... وعد بأن الحياة لن تكون كالسابق، وبأنهما معًا سيصنعان طريقًا جديدًا، مليئًا بالأمل والقوة.
أدرك عاصم نفسه سريعًا بعد انجراف مشاعره، فابتعد على الفور قائلاً بصوت مرتبك:
"أحم... آسف، بس... بصراحة، مش مصدق اللي بيحصل."
اكتسى وجه سيلا بحمرة الخجل، ولم تستطع التفوه بشيء، فآثرت أن تدير وجهها بعيدًا عنه، قبل أن تهمس بخفوت يكشف عن إرهاقها:
"ممكن نروح... أنا عايزة أنام."
قهقه عاصم للمرة الأولى بصوت عالٍ خرج من أعماقه، وكأن شيئًا بداخله قد تحرر:
"والله كنت فاكر إنك هتنامي في حضني، بس ما حصلش!"
ارتبكت سيلا وتاهت للحظة وهي ترى ابتسامته الحقيقية للمرة الأولى. ظلت تحدّق به بصمت، بينما تهمس في داخلها: "عرف منين؟ أنا بنام وأنا واقفة أصلاً... يلا، مش مهم."
ابتسم عاصم وهو يراقب شرودها، ثم علق بتلقائية:
"عادتك بقى، هنقول إيه؟"
انتبهت فجأة وسألته بدهشة:
"وإنت عرفت إزاي إن دي عادتي؟ سمعتني وأنا بتكلم مع نفسي ولا إيه؟... بسم الله، شكله ملبوس."
همست بالجملة الأخيرة بصوت خافت، لكنها لم تغب عن أذنه.
ضحك عاصم وهو يلتفت إليها:
"آه، سمعتك على فكرة، بس هعدّيها."
رمقته بنظرة حادة وقالت:
"إنت بايخ أوي، تعرف؟"
رد بلامبالاة ظاهرة:
"مقبولة منك برضه."
تغيرت ملامحه فجأة ليعود إلى الجد، وسألها بنبرة هادئة:
"بكرة هتكوني مع مي في قراءة الفاتحة، صح؟"
أومأت برأسها:
"آه، طبعًا."
بقلم شروق مصطفى
صمت للحظة قبل أن ينطق ببطء، وكأنه يختبر رد فعلها:
"طيب... إيه رأيك بكرة نخلي المأذون يكتب كتابنا؟"
لم يجد ردًا منها، فاقترب قليلًا وهتف بصوت خافت يحمل رجاءً:
"سيلا... يا حبيبتي."
اهتز صوته عند نطق الكلمة، وكأنها مسته غصة في داخله. أما هي، فارتجفت لوهلة دون أن تعرف سبب ذلك الشعور الغريب الذي اجتاحها. أكمل حديثه:
"أنا حابب أكون جنبك... نبدأ حياة جديدة سوا، وأول حاجة نكمل علاجك اللي سبتِه."
رفعت سيلا عينيها إليه، وأجابته بنبرة واهنة تحمل ألمًا دفينًا:
"لا... بلاش. أنا مش عايزة. العلاج ده بيقتtلني... بيألمني أوي. تعبت منه بجد."
شدد عاصم على يدها بنبرة تحمل صلابة وثقة:
"سيلا، أنا معاكِ. الأول كنتِ لوحدك، لكن المرة دي أنا جنبك. مش هسيبك، وفاهم إنك أقوى من ده. ما ينفعش تضعفي دلوقتي. إحنا هننتصر على أي حاجة سوا. وبعدين، أنا هسفّرك برّه تعملي العملية، وهفضل معاكي في كل خطوة. فاهمة؟"
أومأت برأسها بخفوت، وقالت بصوت يكاد لا يُسمع:
"فاهمة."
ابتسم عاصم بسعادة مفاجئة وقال بمزاح:
"يااااه، أول مرة ما تعانديش. حبيبتي أخيرًا بتسمع الكلام!"
رفعت رأسها ونظرت إليه بعناد مصطنع:
"طيب... مش فاهمة."
ضحك عليها وقال:
"لأ، كلمة الحق طلعت الأول بس."
تذكرت فجأة السوار الذي ترتديه ومدت يدها نحوه:
"طيب ممكن تفك البتاعة دي؟ مضايقاني أوي. مش خلصت مهمتك خلاص؟"
نظر إلى السوار بملامح متحيرة، ثم قال بأسف:
"للأسف... مش هينفع."
حدّقت فيه بدهشة وسألت:
"ليه؟"
تنهد عاصم وأجاب بصدق غافل:
"عشان... لما كنتِ بتوحشيني، كنت بسمعك منه."
اتسعت عيناها من الصدمة، وهتفت:
"إنت بتقول إيه؟! قصدك إيه بإنك كنت بتسمعني؟"
أدرك عاصم زلة لسانه، فحاول التهرب متوترًا:
"هاه؟ لا... مين قال إني بسمع؟!"
لكن سيلا لم تتركه، وواصلت بنبرة مندهشة:
"يعني مش ده مجرد تتبع؟! كنت بتتصنت عليا؟!"
حاول أن يخفف التوتر بابتسامة صغيرة وقال:
"آه، في خاصية تصنت بس مش بفتح كتير، يعني مش حاجة تخوّف!"
حدّقت فيه بغضب مكتوم:
"إنت بجد... مش طبيعي!"
أردفت بنبرة صارمة:
"فكه دلوقتي... مش طايقاه."
لكنه بدلاً من الرد، أمسك يدها وقبّلها بحنان. سحبت يدها بسرعة وغطت وجهها خجلًا وهي تهتف:
"إنت... إنت بتعمل إيه؟!"
قهقه عاصم على ملامحها الطفولية، وقال مبتسمًا:
"ماشي... بكرة نفكّر في موضوعه."
ردت بنبرة محذّرة:
"ما تسمعش حاجة تاني، ماشي؟"
قال وهو يحاول كتم ضحكته:
"هحاول."
صمت للحظة، ثم نطق اسمها بهدوء:
"سيلا."
التفتت إليه بصمت، فقال:
"افتحيلي قلبك... ممكن ندّي نفسنا فرصة؟"
تنهدت بعمق وأجابته بصدق مؤلم:
"مقدرش أوعدك... قلبي مات من زمان. الحادثة دي... والماضي اللي مريت بيه، خلاني مش عارفة أدي حاجة لحد. أنا خايفة أظلمك."
أمسك يدها وضغط عليها بثبات وقال:
"سيلا... أنا مش هجبّرك على حاجة. بس سيبيها للوقت. إحنا نقدر نبدأ من جديد، مع بعض."
شعرت سيلا ببعض الطمأنينة بين كلماته. أومأت برأسها وقالت:
"هحاول."
ابتسم عاصم داخليًا، وتمنى أن يكون هذا بداية جديدة لهما.