رواية حصاد الصبار الفصل الثاني 2 بقلم مريم نصار


 رواية حصاد الصبار الفصل الثاني 

أمام العقار توقفت سيارة رمزي وقد أثار هدير محركها انتباه بعض المارة الذين ألقوا نظرات عابرة. هبط مصطفى منها بخفة يصلح من ياقة قميصه بإهمال ووجهه يحمل ابتسامة مرحة وهو يردف لصديقه الذي كان مازال جالسا في سيارته

يبني أسمع مني وانزل اتغدى معايا وبعدها أرجع على البيت!
أدار رمزي محرك السيارة وهو يرد بضحكة متسلية
لا ياعم أنت عايز الحكومه في البيت تحبسني أنا يدوب أروح أتعشى وأناملي ساعة قبل ما أرجع ع المستشفى. يلا سلام وبوسلي البت فيفي
لم يتمالك مصطفى نفسه من الضحك ولوح بيده لصديقه 
ماشي سلام يا عم المهم عاملي فيها بروفسير آوى.
انطلق رمزي بالسيارة تاركا خلفه أزيز الإطارات يمتزج مع ضحكة مصطفى الذي ظل يراقب سيارة صديقه وهي تختفي عند أول منعطف.
الټفت مصطفى نحو البناية
وهو مازال يبتسم لخفة ظل صديق عمره ثم وقعت عيناه على السيد صالح الذي كان يجلس بجوار بوابة البناية الخشبية مرتديا جلبابا رماديا بسيطا وقد استند بيديه إلى عصاه الخشبية.
اقترب مصطفى بخطوات هادئة وألقى تحية الإسلام بصوت رخيم يحمل ودا
السلام عليكم يا صالح!
رفع صالح رأسه وقد انفرجت أساريره برؤية مصطفى فوقف ورد التحية بابتسامة مشعة
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته حمدلله على السلامة يا مصطفى بيه!
رد مبتسما قائلا
الله يسلمك يا صالح. ها على قولي بقى جبت لغفران اللي طلبته منك
أومأ صالح برأسه بإيجاب سريع ورد بحماس ظاهر
أيوه طبعا! وأحنا نقدر ننسى اي طلب لغفران ثانية واحدة يا بيه أروح أجيبها من زينب.
أشار له بالذهاب ووقف أمام المصعد ينتظر وصوله وهو ينظر بين الثانية والأخرى إلى ساعة يده وقد بدت عليه ملامح الإجهاد من يوم عمل طويل.
لم تمر سوى لحظات حتى عاد صالح يحمل كيسا ممتلئا بالحلوى وقدمه لمصطفى بابتسامة مليئة بالطيبة قائلا
اتفضل يا مصطفى بيه اللي طلبته كله جبته ومفيش حاجه ناقصه خالص.
تناول منه الكيس وابتسامة شكر ارتسمت على وجهه وهو يقول بصدق
أنا بشكرك جدا يا صالح. دي غفران هتفرح بيهم اوي وكمان هقولها إنك اللي صممت تجيب لها كل الحاجة دي بنفسك.
ازدادت ابتسامة صالح ثم قال بحب
أنا عينيا لغفران. ربنا يعلم معزتها عندي ولولا العين متعلاش عن الحاجب يابيه كنت قولت إنها زي بنتي اللي مخلفتهاش!
تأثر حسين بكلمات العم صالح وربت على كتفه بحنو وقال بصوت خاڤت
كلام إيه ده بس غفران بنتك يا صالح وبتحبكم جدا وعندك ياسر ربنا يباركلك فيه ويرزقك يسيدي إن شاء الله بنوتة تفرح بيها وتكون زي غفران.
ظهرت على وجه صالح ملامح مختلطة بين الأمل والحسړة ثم أجاب بابتسامة خاڤتة
كله على الله. ربنا يباركلك فيها وتشوفها ست العرايس وتوصلها لبيت عريسها بإيدك وتفرح بيها.
الله يخليك يا راجل يا طيب.
جاء صوت المصعد معلنا وصوله ففتح مصطفى الباب الحديدي بعناية واستأذن صالح بود قائلا بابتسامة ودودة
تسلم إيدك مرة تانية.
ثم صعد المصعد ضاغطا على زر الطابق السادس في حين ظل صالح واقفا عند بوابة البناية يدعو له في صمت وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة رضا وسکينة.
داخل منزل مصطفى .
كانت أحلام تقف في منتصف غرفة الطعام يدها ترتب الأطباق بدقة على الطاولة التي كانت مزينة بأطقم أنيقة بينما زينتها وملابسها المتأنقة تعكس رغبتها في أن تبهر زوجها عند عودته. بدا على ملامحها مزيج من التوتر والترقب وهمت بالنداء على غفران بصوت يشوبه ضجر خفي
غفران! هاتي السلطة والكفتة من عندك بسرعة.
في المطبخ
ركضت غفران بخفة وقد تسارعت خطواتها الصغيرة وهي تشعر بالضغط. عينان واسعتان ترقبان الأطباق الممتلئة أمامها والمعدة الخاوية تتحدث بصوت أعلى من كلماتها. مدت يدها الصغيرة نحو طبق اللحم تحاول أن تسرق لقمة تسد بها جوعها الذي كان كاللهب لكنها توقفت فجأة.
تذكرت الوعود الكاذبة التي قطعتها أحلام بعدم معاقبتها لشهر كامل ولكنها تعلم أن تلك الحمقاء كما اعتادت تسميتها في سرها لا تصدق في وعودها. سحبت يدها بسرعة والخۏف يسيطر على قسمات وجهها ثم حملت الأطباق بحذر وهمت بالخروج.
في غرفة الطعام.
كانت أحلام تنتظر تراقب عقارب الساعة وتبدو على عجل. عندما لاحظت تأخر غفران رفعت صوتها بنبرة صارمة تحمل ټهديدا خفيا
غفران! أنتي بتعملي إيه كل ده اخلصي!
شهقت الطفلة الصغيرة وهرولت نحو الطاولة حاملة الأطباق وهي تتلعثم في كلامها وكأنها تحاول إخفاء چريمة لم ترتكبها
ا... أنا... أنا كنت... كنت.... الأكل أهو يا طنط والله ما عملت حاجة غلط.
كانت أحلام تجيد اللعب على أعصاب الصغيرة اقتربت منها بخطوات واثقة نظراتها الماكرة تثقل الجو بينهما. أمسكت أحلام كتفي غفران بحركة مباغتة مما جعل الصغيرة ترتجف كعصفور مبتل بالمطر موقنة أن العقاپ قادم لا محالة.
لكن بدلا من الصړاخ أو الضړب فاجأتها أحلام بقبلة خاطفة على وجنتها. تلك الحركة لم تكن إلا وسيلة لطمأنة الصغيرة وجرها إلى لعبة جديدة. أحضرت أحلام طبقا من اللحم وقدمته بين يدي غفران بعناية صوتها يحمل نبرة خبيثة ممتزجة بظاهر من الحنان المصطنع
حبيبتي يا فيفي أنا عايزاكي تيجي بسرعه علشان أكافئك. خدي بقى مني طبق الكفتة ده وخلصيه كله قبل ما بابا يرجع. أنا عارفة إنك جعانة. تعالي اقعدي هنا ع السفرة وكلي يا حبيبتي.
غفران التي لم تستطع فهم نوايا أحلام الغامضة اقتربت مترددة تنظر إلى الطعام بعينيها الجائعتين وقلبها يخفق بتوجس. لم تكن تعلم إن كان هذا الكرم المفاجئ مکيدة جديدة أم لحظة عابرة من الرأفة.
بابتسامة زائفة سحبت أحلام الكرسي وأمسكت يد الصغيرة بحركة وديعة مصطنعة تساعدها على الجلوس أمام مقعد والدها. نظرت غفران إليها بعينين مترقبتين الخۏف والتوجس يتسللان في قلبها الصغير. كانت تصرفات هذه المرأة دائما أشبه بفخاخ متنكرة بالحنان ولكن ما إن فاحت رائحة الطعام الشهي إلى أنفها حتى نسيت كل شيء. جلست على المقعد وبدأت تأكل بنهم وكأنها تعاقب جوعها الذي طال.
في تلك اللحظة تركتها أحلام متوجهة إلى المطبخ وهي تحمل بيدها دورق العصير وتحدثت إلى نفسها بابتسامة راضية
اممم... كلي واشبعي يا ست غفران علشان متاكليش قدامه بالشكل ده ويقول إني مجوعاكي.
لكن ابتسامتها الزائفة تحولت سريعا إلى غيظ مكتوم وبدأت تهمس لنفسها بامتعاض واضح
آه يا ناري... مصطفى فيه كل حاجة حلوة بس لو يبطل يهتم بالزفتة دي! زي ما يكون محدش خلف غيره. مش عارفة ليه مش راضي يخلص منها ويبعتها عند جدتها ولا خالها ولا حد من عمامها. دي حاجة تقرف بجد! أنا هفضل مستحملاها لحد إمتى سنتين! سنتين وأنا شايلة قرفها. أنا بكرهها... نفسي تم...وت بجد. أوف!
وقفت للحظة تأخذ شهيقا وزفيرا لتسيطر على نفسها ثم تابعت بتروي وكأنها ترسم خطة
اهدي يا أحلام اهدي متبوظيش كل حاجة. فكري كويس قوي في طريقة تخلي حسين يكره البنت دي بنفسه! هو اللي يخرجها من حياتنا لأني مش هقدر أعيش معاها أكتر من كده.
عادت إلى غرفة الطعام
وهي تحمل دورق العصير والكؤوس. وضعتهم على الطاولة بترتيب دقيق وعينيها لا تفارق غفران تلك الطفلة التي كانت منهمكة في تناول الطعام بشهية الجائعين. نظرتها كانت خليطا من الحقد والكراهية لكنها غطتها بابتسامة ماكرة. أخذت كوبا من العصير ووضعته أمام الصغيرة تقول بنبرة تبدو رقيقة لكنها مشحونة بسخرية خفية
كفاية أكل بقى علشان باباكي ميزعلش منك. أنا قولتله إنك مستنياه على الغدا. امسكي العصير ده واشربيه وبعدين قومي اغسلي إيديكي وتعالي.
توقفت غفران عن الأكل حملت الكوب بيدها الصغيرة وابتسمت بحذر ثم أسرعت نحو المرحاض وهي تشعر براحة عابرة ظنا منها أن حضور والدها سيبدد خۏفها. لكنها توقفت فجأة عند الباب استدارت بخجل وأطلت برأسها لتقول بصوت خاڤت يحمل رجاء طفوليا
طنط... ممكن أقولك على حاجة
بينما أحلام كانت تملأ الكؤوس رفعت رأسها ببطء زفرت بضيق وأشارت لها بالتحدث
اتكلمي يا غفران بس بسرعة!
وضعت غفران إصبعها في فمها بحركة طفولية وعيناها تترقرقان بالدموع ثم قالت بتردد وبحة في صوتها
بكره... أح... أحم... بكره عيد الأم. وعاملين حفلة في المدرسة وكل البنات والولاد باباهم ومامتهم ها...!
لكن كلماتها قطعتها نظرة ڼارية أطلقتها أحلام تبعتها زجرة قاسېة
انجري على الحمام اغسلي إيديكي وترجعي تترزعي مكانك! اتحركي!
ثم وكأنها تعيد توازنها بعد ثورة ڠضب تحدثت بصوت يبدو ودودا ولكنه ملغوم
فيفي حبيبة قلبي أنا دلوقتي دماغي مشغولة شوية. بصي! سبيني أفكر مع نفسي كده وهرد عليكي ماشي يا حبيبتي يلا بسرعة بقى بابا على وصول.
اعتادت الصغيرة على خيبة الأمل من وعود أحلام الزائفة ابتلعت مرارة الصبار في حلقها. عرفت أن لا أحد سيأتي كما العام الماضي لكن قلبها الصغير لم يملك خيارا سوى الانصياع. غادرت الغرفة منكسة الرأس وهي تحمل في داخلها ألما لا يليق بطفلة في عمرها.
بابتسامة متوهجة راحت أحلام تزين طاولة الطعام بأناقة زائدة وفي قلبها أمنيات لا تعد ولا تحصى كلها تدور حول كيفية استحواذها الكامل على قلب زوجها وډفن ذكرى غفران ووالدتها إلى الأبد.
فتح باب المنزل.
دخل مصطفى بابتسامته المعتادة التي كانت تحمل مزيجا من الراحة والحنان. وما إن وقعت عيناه عليها حتى انبهر بإطلالتها فقد كانت بجمال يخطف الأنظار لكنه جمال تغلفه قسوة مستترة. أحلام تلك الحرباء التي تتلون كيفما شاءت أدارت لعبتها المعتادة فتقدمت نحوه بابتسامة عذبة.
مساء الخير يا حبيبتي.
قالها بإعجاب وعيناه تتأملانها.
اقتربت منه بخطوات رشيقة
وعانقته بحب متصنع ابتسامتها تشع دفئا زائفا. أجابته بنعومة تقطر سكرا
مساء الخير يا روح قلبي وحشتني قوي قوي يا مصطفى يا حبيبي.
قبل جبينها
ثم مسح على شعرها بحنان وقال بصدق
وإنت كمان وحشتيني.
لكنه لم يمكث طويلا في مشهدها المبهر نظر حوله سريعا وسأل بلهفة
أمال فين غفران
اشټعل قلب أحلام كالڼار المشټعلة.
لم تصدق أنه بعد كل هذا التأنق والسحر لا يزال سؤاله الأول عنها! كيف يضع تلك الصغيرة الحمقاء فوق كل شيء! لكنها سرعان ما ارتدت قناعها الماهر ولبست ثوب الحرباء من جديد. ابتسمت ضاحكة بحب مصطنع وقالت برقة
في التويلت وجاية حالا... إنما إيه اللي معاك ده هدية ليا مش كده!
وضع كيس الحلوى التي كانت تخص ابنته على الطاولة ثم هم بالذهاب إلى غرفته ليبدل ملابسه بينما كانت أحلام تسير خلفه مغتاظة من هدوئه وعدم اكتراثه. أجابها بابتسامة
لأ دي مش هديتك يا حبيبتي. دي شوية حاجات كده لفيفي. أما هديتك... هتوصلك قريب إن شاء الله.
الټفت إليها وعيناه تحملان بريقا من الحنين لحب قديم يحاول دفنه. قال بحزن داخلي لم يستطع إخفاءه
إنت عارفة إن بكره عيد الأم وده يوم مهم جدا لغفران. ونجوى الله يرحمها ليها ذكريات كتير معاها في اليوم ده. زائد إنها هي صاحبة الفضل عليا في اللي وصلتله دلوقتي ولازم أرد جميلها في إني أوفي بوعدي ليها... وأحافظ على غفران. مع إن ده فرض و واجب عليا.
سؤالها كان صريحا لكن نبرتها حملت غيرة أنثى مشټعلة
أنت لسه بتحبها يا مصطفى
نظر إليها وأدرك تبدل ملامحها. فهم الغيرة التي اجتاحت قلبها لكنه اختار أن يطفئها بهدوء. اقترب منها و وقف أمامها مباشرة ثم أمسك يدها وربت عليها. قال بصوت يحمل لباقة وصدقا
أبقى قليل الأصل لو قلتلك لأ. وأبقى بچرحك لو قلتلك إني لسه بحبها وعمرها ما غابت عني لحظه. لكن اللي أقدر أقوله إنها عشرة. نجوى عشرة سنين طويلة يا أحلام ما شفتش منها غير كل خير وده أقل حاجة أفتكرها بيها.
شعر أنه سيضعف لذكراها ونفض عن قلبه ثقل الذكريات وابتسم مردفا 
وبعدين يعني هو حد يشوف الجمال ده قدامه ويفكر في أي حد تانيه
ضحكت أحلام ضحكة نصر انتزعت فيها ثقة مزيفة بأنها تمكنت من إطفاء ذكراها في قلبه. اقتربت منه مجددا وعانقته بينما قلبها يتوعد
وحياتك زي ما نسيتك نجوى مراتك هنسيك العقربة بنتها!
ثم أردفت بخبث ملطف
ولا يهمك يا حبيبي أنا مش زعلانة. كنت هزعل فعلا لو أنت نسيتها. دي مهما كانت مراتك وأم غفران بنتنا.
أجابها مصطفى بامتنان وقد أعجبه موقفها المتفهم
متشكر جدا يا أحلام. على طول بتفهمي مشاعري
تأملها من رأسها حتى أخمص قدميها وقال بإعجاب لم يستطع كتمانه
إنت زي القمر يا أحلام! لكن ليا تحفظ بسيط عندك... ياريت تخلي بالك من طريقة لبسك قدام غفران. البنت بتكبر ولبسك خاص جدا. ممكن تلبسي روب ولما ندخل أوضتنا أو هي تنام تقعدي براحتك.
ابتسمت أحلامرغم اشتعال الحريق في قلبها وقالت بهدوء مصطنع
حاضر يا مصطفى أنت تؤمر أمر.
ثم حاولت تغيير الموضوع بسؤال ماكر
المهم بقى قولي إيه هي الصفقة اللي قلتلي إنها هتنقلنا نقلة تانية
أبتسم مصطفى وهو يقبل أنفها بمزاح قائلا
أشوف غفران الأول وأحكيلك كل حاجة على الغدا. يلا بينا.
ثم تركها وخرج من الغرفة بخطوات واثقة يبحث عن صغيرته التي طالما كانت مصدر راحته وحنانه. وجدها واقفة في منتصف المنزل تحدق إليه بلهفة طفولية خالصة لكنها لا تجرؤ على الاقتراب من الغرفة التي خرج منها خوفا من تهديدات زوجة أبيها التي لم تدخر جهدا لتقييد حريتها.
أشار إليها بيديه مبتسما يفتح ذراعيه داعيا إياها للركض إليه ولم تتردد لحظة. ركضت نحوه كطائر صغير وجد أخيرا مأوى آمنا ارتمت في أحضانه متشبثة بملابسه وكأنها تستمد الأمان من دفء قلبه. أغمضت عينيها وهي تحتضنه بشدة تشعر أنها في أكثر الأماكن أمنا في العالم. هنا في حضڼ أبيها لا خوف ولا قلق فقط السلام الذي تتوق إليه.
قال بصوت مليء بالحب والشوق
حبيبة بابا... وحشتيني قوي.
لم تستطع غفران الرد كانت مغمضة العينين غارقة في تلك اللحظة التي شعرت فيها أخيرا بالسکينة. كل ما أرادته كان الأمان الأمان وحده. لم تكن بحاجة للكلمات حضڼ أبيها كان كافيا ليبدد كل مخاوفها وآلامها.
شدد الأب من عناقه وكأنه يريد أن يحميها من شړ العالم بأسره مستنشقا رائحة طفولتها البريئة. كانت غفران مرآة تحمل في ملامحها وشخصيتها روح أمها الراحلة. نجوى.
غفران بالنسبة له لم تكن مجرد ابنته بل كانت صورة من الماضي الذي لم ينس. رفع يده برفق مسح على رأسها بحنان وهمس
ربنا يحميكي ياقلب ابوكي.
زاد من عناقه يستنشق عبيرها كأنها نسمة من الماضي نسخة طبق الأصل من والدتها نجوى التي تسكن ذاكرته وقلبه. نفس ملامح الوجه نفس لون العينين حتى حنطية بشرتها تعيده لذكرياته مع الراحلة.
طبع قبلة على جبينها وهمس مبتسما
إيه يا فيفي عاملة إيه النهارده
كانت تلك المحتاله تراقبهم بعين يتغلغل الحقد في أعماقها. رأت حبه لابنته يتجسد أمامها وشعرت بتمرد قلبها على غفران يزيد وكأن هذه الطفلة الصغيرة تهدد مكانتها.
أجابت غفران ببراءة محاولة إخفاء خۏفها من تهديدات زوجة أبيها
أنا كويسة يا بابا... وعملت الواجب... أء... قصدي... ماما ساعدتني في حل الواجب.
مسد على شعرها مبتسما
غفران أشطر بنت في الدنيا. وعايز منها لما تكبر تبقى الدكتورة غفران مصطفى المهدي. مش كده ياحبيبتي
صمتت غفران للحظة. لم تكن تهوى الطب بل كان شغفها الحقيقي الرسم لكنها لم تجرؤ على البوح بذلك بسبب تهديدات زوجة أبيها. استسلمت وهزت رأسها بالموافقة.
حملها مصطفى بين ذراعيه وجلس على الطاولة ليجلسها بجواره. أشار إلى زوجته التي جلست على الجهة الأخرى مكبوتة الغيظ بينما كان هو يطعم ابنته بحب وحنان. قاطعته أحلام محاولة استرجاع انتباهه
مقولتليش بقى يا مصطفى... إيه الصفقة دي بجد معنديش صبر أستنى أكتر من كده.
وضع مصطفى الملعقة جانبا وشرح لها الصورة بشكل كامل
طبعا انتي عارفة إني ابتديت من الصفر إزاي
سرد لها عن رحلتهما هو ونجوى سويابدأت القصة منذ أن كان في أشد الحاجة إلى العمل. كانت الظروف صعبة لم يكن لديه مصدر دخل ثابت لكنه كان يتمتع بهواية التفصيل. وكانت نجوى رحمها الله هي من أشار عليه بفتح مشغل صغير فقد كانت تعلم أنه يمتلك مهارة في هذه الحرفة. ولأنها كانت دوما بجانبه باعت ذهبها ونصيبها من الميراث وأخذت المبادرة بمساعدته في تأسيس المشغل.
عمل الاثنان معا في البداية يواجهان التحديات والصعاب لكن بفضل إصرارهما وجهودهما المتواصلة بدأ العمل يزدهر شيئا فشيئا. ومع مرور الوقت توسع النشاط حتى تمكنا من فتح مصنع صغير. ولكن منذ ثلاث سنوات حدث ما لم يكن في الحسبان وفارقت نجوى الحياة مخلفة وراءها فراغا كبيرا في حياته. رغم كل هذا حاول ألا يظهر حزنه واختتم بابتسامة
وبعدها بعت شقتي القديمه واتأجرت الشقه دي واتجوزتك وأنا على قناعة تامة إنك هتبقي سبب سعادتي... واهتمامك بيا وببنتي فاق توقعاتي... بجد محصلتيش يا أحلام وعشان قلبك الطيب ده ربنا كرمنا النهارده بصفقة كبيره مع زبون مهم جدا و اسمه معروف على فكرة محمود دويدار.
رغم ابتسامتها اشټعل قلب أحلام غيرة. ثم سألته بخبث
محمود دويدار مش ده الراجل اللي عنده فروع ملابس في كل حتة
بالظبط. أهو الراجل ده بقى. جالي وطلب مننا بضاعة بمليون ونص.
شهقت من الفرحة متحدثة بحماس
بتقول كاااام! مليون ونص يعني دلوقتي معانا مليون ونص
أيوه... هنكمل بيهم شوية حاجات مهمة.
ابتسمت اليه بدلال وقالت 
حاجات زي إيه! ممكن أعرف
شرع في الطعام وقال 
بصي كل اللي هتعرفيه إني هجيبلك عربية موديل السنة وهتكون قسط أما باقي الفلوس فده بيزنس خاص بيا. ودلوقتي بقى يلا نكمل أكل واعملوا حسابكم بكرة عازمكم على العشا زي كل سنة أوكي!
نظرت غفران إليها وخاب أملها كانت تتمنى أن تخرج مع والدها لكن ما باليد حيلة.
اغتاظت زوجته من تحفظه الشديد لبعض الأشياء الخاصة لديه وتريد أن تعرف بكل شيء وانتبهت على زوجها وهو يقول.
يلا يا فيفي يا حبيبتي افتحي بوقك وخدي الحتة دي من إيد بابا.
ضحكت الصغيرة بسعادة ونسيت كل شيء لصغر سنها وفتحت فمها وتناولت من أبيها الطعام وساقتها براءتها إلى أن أخذت قطعة من الطعام ووضعتها أمام فم أبيها أيضا فتناولها منها ويضحك لها مقبلا وجنتها.
وأردفت غفران قائلة بتلكأ
أء.. أنا شبعت يا بابا.
أردف إليها 
طيب نقول الحمدلله بقى.
قالت ببراءة 
الحمد لله.
انتهى مصطفى أيضا من تناول طعامه ونهض بحماس ملتقطا كيس الحلوى قائلا
طيب... دلوقتي بابا هيوريك إيه اللي جابه ليكي هو وعمو صالح... تعالي شوفي!
وما لبث حتى فتح الكيسلكن فرحتهم لم تكتمل قطعت أحلام اللحظة حين وضعت يدها على فمها وشعرت بالغثيان فركضت بسرعة نحو الحمام لتفرغ ما في معدتها. ارتبك مصطفى وترك الحلوى ليطمئن عليها
مالك يا أحلام تعبانه نروح للدكتور
خرجت أحلام بعد دقائق متظاهرة بالضعف ومالت على كتفه قائلة بصوت منهك
لأ... يا حبيبي. متقلقش عليا يمكن شوية برد... خدني أوضتي لو سمحت.
ساعدها وأخذها لتستريح بينما ارتسمت على ملامحها ابتسامة خبيثة.
عادت غفران بنظرات حزينة إلى كيس الحلوى المغلق شهقت شهقة حنين إلى أمها التي كانت حاضرة دائما لتمسح عن قلبها كل ألم. شعرت بالوحدة ولكنها أمسكت دموعها وهي تهمس لنفسها
ياريتك كنتي معايا يا ماما.
خيم الحزن على غفران كانت تتمنى قضاء وقت خاص مع أبيها بعيدا عن قيود زوجته. بينما تابعت أحلام نظراتها الحاقدة للطفلة وداخلها خطة جديدة للتخلص من هذا الرابط الذي يجمع الأب بابنته.
في منزل رمزي
جلس رمزي على الأريكة في غرفة المعيشة بعد أن أخذ قسطا من الراحة قبل استعداده للذهاب إلى المشفى. كان يحتسي قهوته بهدوء ويعبث بجهاز التحكم عن بعد يقلب بين القنوات دون تركيز بينما كانت نرمين زوجته الحامل في شهرها الخامس تجلس على الأرض بجوار ابنهما لؤي تساعده في إنهاء واجباته المدرسية.
ابتسم رمزي بمكر وهو ينظر إلى نرمين وقال
إيه رأيك يا حبيبتي بكرة عندي إجازة نخرج شوية نغير جو لؤي كمان زهق من القعدة في البيت مش كده يا لؤي
رفع لؤي رأسه بحماس وهتف
أيوه يا ماما يلا نخرج ونروح الملاهي!
ضحكت نرمين وهي تضع القلم على الطاولة بلطف
أنتوا الاتنين متفقين عليا بصراحة أنا مش عايزة أخرج الجو برد وأنا بحب القعدة في البيت أكتر.
تأفف رمزي متظاهرا بالضيق وقال
إيه ده كل مرة نفس الحجة! البيتوتية اللي فيكي دي هتجنني. مش معقول كده يا بنتي لازم تخرجي وتتمشي شوية القعدة في البيت دي بتجيب أمراض!
ابتسمت نرمين وهي تجمع كتب لؤي وقالت
طيب اسمعني لو على الخروج إحنا بنخرج لما يكون ضروري مش محپوسة يعني. وبعدين أنا محضرة برنامج بكرة هيعجبك جدا. نعمل كيكة بالشوكولاتة ونجيب شوية تسالي لطيفة ونتفرج على فيلم جميل مع بعض. أحسن من اللف في الشوارع!
قال لؤي بسعادة
أنا بحب الكيكة بتاعتك يا ماما بس لو مش هنخرج أختار أنا الفيلم!
ضحك رمزي وقال
شوف الواد غير رأيه في ثانية عشان الأكل! مش بعيد أنت كمان متفق معاها! خلاص يا نرمين نعمل اللي يعجبك بس بشرط... الكيكة كلها شوكلت زي ما بحب.
ردت نرمين بابتسامة عريضة
طالما هتساعدني في المطبخ يبقى الكيكة هتعوم في الشوكولاتة جدا!
تعجب لؤي وقال
بس بابا مبيعرفش يطبخ.
ضحك رمزي وربت على كتف لؤي
هتشوف يا لؤي أبوك في المطبخ أحسن شيف. أنا بس سايب ماما توجعلنا بطننا.
ضحك الثلاثة معا بينما نهض رمزي ليبدل ملابسه استعدادا للذهاب إلى المشفى وعادت نرمين لمتابعة دروس ابنها وسط أجواء دافئة مليئة بالحب.
في منزل السيد صالح
ممكن أعرف بټعيطي ليه دلوقتي
سألها صالح وهو يحدق بها بقلق بينما كانت زينب تمسح دموعها بحزن وتجيبه بصوت مخټنق
بكره عيد الأم يا صالح ونفسي أشوف عيالي وأكلمهم... هما نس... نسيوني خالص يا صالح نسيوني!
أجابها بلوم ممزوج بالحنان وهو يحاول أن يواسيها
اخزي الشيطان يا زينب وبلاش الأفكار دي! ولادك لسه صغيرين وعمرهم ما يقدروا ينسوكي. هما بس مش فاهمين حاجة دلوقتي ده واحد عنده تسع سنين والتاني عشر سنين يعني لسه بدري عليهم لما يفهموا كل حاجة. بكره يكبروا ووقتها هيعرفوا كل حاجة وتلاقيهم ليل ونهار عندك.
نظرت إليه بحزن أعمق وأردفت بهمس
ياريت يا صالح... ياريت!
ضحك صالح ماكرا ومد يده تحت وسادة الأريكة ليخرج كيسا ورفعه أمامها قائلا بمزاح
طب حزري فزري يا بت يا زوزو... أنا جايب لإمي إيه في عيد الأم!
لوت فمها بسخرية وردت بحدة متهكمة
يخويا أمك ماټت وشبعت مۏت! افتكر الغلبانة اللي عايشة معاك وسيبك من الأموات!
اڼفجر صالح ضاحكا بصوت عال قائلا
والله إنتي اللي محلية العمارة دي باللي فيها! بحبك يا بت يا زوزو وأنا أقدر أنساكي ما إنتي أمي بردو! وقاصدك إنتي... امسكي... كل سنة وإنتي معايا يا عشرة أيامي وسنيني!
احمر وجهها خجلا وردت برقة وحياء
يلهوي يا سي صالح على كلامك العسل... وعزة جلال الله أنا حاسة إني بحلم! البواب جوزي رومانسي!
ضحك صالح عليها بحنان وقال ممازحا
الله! إنتي مش قاعدالي طول الليل قدام الهندي والتركي وتقولي اتعلم يا صالح!
ثم أكمل مقلدا
طب هوبيكي هوبي يا زينبو... هههههه!
ضحكا معا بسعادة غامرة وأخذ الهدية التي كانت وشاحا ووضعها على كتفيها وهو يثني عليها بتقدير واحترام. شكرته زوجته بكل ود وحب وارتاح قلبها بدفء كلماته. ثم جلسا يتحدثان عن شؤون حياتهم حتى انتقل صالح إلى موضوع آخر بفضول
طيب تفتكري يا بت يا زينب... الست أحلام مخلفتش ليه لحد دلوقتي ولا هي اللي مش عايزة تخلف
وضعت كوب الشاي أمامه وجلست لتحتسيه وهي ترد بنبرة واثقة
لأ لأ الموضوع مش كده. دي نفسها ومناها تخلف منه. أنا عرفت كل حاجة من أمها الأفعى الكبيرة! في يوم بعت الواد ياسر يجيب طلبات من البقال وأنا طلعت أعملها الأكل فوق. أمها شرفت وقعدوا يتكلموا والكلام جاب بعضه لحد الخلفة! قوم إيه سي مصطفى هو بذاته شارط على أحلام الأفعى الصغيرة إنها متخلفش دلوقتي غير لما يطمن معاها على غفران!
ثم أضافت بحنق
أه أومال إيه! يتجوز ويخلف وخلاص! بس هو عايش في مية البطيخ ومش عارف حاجة!
كان صالح يضحك على طريقة حديثها وقصصها الغريبة ثم أردف قائلا وهو يهز رأسه ضاحكا
يا بت إنتي بتجيبي الكلام ده منين إيه أفعى كبيرة وأفعى صغيرة آه لو سمعتك!
شهقت زينب وردت بغيظ
دي كانت كلتني! ست مش حاطة واطي! وحياتك يا صالح ما بطيقها شبر واحد ونفسي أمسك وشها الفرحان بيه ده وأحطه في السافون!
اڼفجر صالح ضاحكا لدرجة أنه بصق الشاي من فمه قائلا وهو يضحك عليها
حرام عليكي يا زينب! هم وت منك! إنتي كل يوم نفسك تحطي وشها في السافون... ههه!
رفعت حاجبيها پغضب مصطنع وقالت بثقة
وعزة جلال الله ربك ما هيسيبها بنت الأفاعي دي!
وضع صالح كوبه جانبا وهو يغير مجرى الحديث قائلا
المهم... سيبك من المواضيع دي. أنا هقوم أشوف طلبات السكان وأول ما يرجع الواد ياسر من الدرس ابعتيهولي.
أومأت برأسها وقالت بابتسامة
حاضر يا سي صالح.
مساء في غرفة مصطفى...
بينما يحتسيان مشروبا دافئا قام مصطفى متجها نحو الباب قائلا
حبيبتي أنا هروح أنيم غفران وراجعلك.
ركضت نحوه بخفة وضعت يديها برقة على صدره وردت بنعومة
قبل ما تخرج... قولي... إنت مش ناسي حاجة
أحاط خصرها بذراعه وابتسم قائلا
كل سنة وإنتي معايا يا
روح قلبي! بكره عيد الأم ومش ناسي طبعا.
قبلته بحماس وردت بسعادة
حبيبي يا مصطفى! يعني جبت ليا ولماما هدية
أجابها مؤكدا
طبعا جبت ليكم وكمان لجدة غفران. وبكرة أنا إجازة وبعد المدرسة هنروح كلنا وغفران هتقدم هدية جدتها مايسة. وبعد كده نطلع عند حماتي وبليل نخرج ونتعشى برة!
اختفت ابتسامتها للحظة ثم سيطرت على نفسها وأجابت بمكر ظاهر
طبعا ولو إنت كنت نسيت أنا مش هنسى! وعلى فكرة... عايزة أطلب منك طلب وياريت ما ترفضش!
تحدث بلهفة
اطلبي يا حبيبتي... خير
أردفت وهي تحاول كسب الموقف بدهاء
بما إنك بكرة إجازة إيه رأيك نفرح غفران ونروح نحضر حفلة عيد الأم في المدرسة أنا اتصلت على الميس بتاعتها وقالت إنهم عاملين حفلة بكرة. فكرت إن بنتي مش أقل من أي حد إيه رأيك بليز ما ترفضش!
تنهد مصطفى بحب أمسك وجهها بلطف وقال ممتنا
حبيبتي... ربنا يخليكي ليا دايما بتفكري في غفران أكتر مني! وده مطمني عليها جدا وطبعا موافق... أي حاجة تفرح بنتي هعملها. وبكرة هنكون أجمل أب وأم في الحفلة وهنفرحها!
ضحكت بمكر ثم حاولت السيطرة عليه لكنها سرعان ما ابتعدت عنه بعفوية. هم بالذهاب قائلا
حبيبتي أروح أطمن على فيفي وأشوفها نامت ولا لسه وراجعلك حالا.
تركها وذهب بينما بقيت واقفة مكانها تحدق في الفراغ. وضعت يدها على بطنها وضحكت بخبث وتوعدت بصوت خاڤت
أبقى وريني هتفرحي بكرة إزاي يا ست غفران!

تعليقات



×