رواية جمر الجليد الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم شروق مصطفي


رواية جمر الجليد الفصل الثامن والعشرون بقلم شروق مصطفي 

نظرت إلى سيلا بقلق وأضافت:


"يا خبر! أكيد ازعجناها. طيب... يلا بينا نخرج لهم بره. عيب يفضلوا لوحدهم."




نهضت همسة بتردد، بينما أسندتها سيلا بحنان وخرجتا معًا لملاقاة من في الخارج.




خرجوا إلى غرفة الطعام ليجدوا مي ووالدتها قد أعدتا الفطور. تقدمت نبيلة نحوهم بابتسامة حنونة، ثم أمسكت وجنتيهما بحنان وقالت:


"حبايبي الحلوين، آسفة لو كنت أزعجتكم. أنا خرجت عشان أسيبكم براحتكم. وإن شاء الله تكون آخر الأحزان يا رب."




سيلا: "يا رب يا طنط."




وجهت نبيلة حديثها لهمسة:


"وانتي يا حبيبتي، عاملة إيه دلوقتي؟"




همسة بخفوت: "الحمد لله على كل حال."




مي بصوت شبابي مليء بالمرح:


"تعالوا! حضرت لكم الفطار من صنع إيديا يا بشر، يا رب يعجبكم!"




قالتها مي محاولة التخفيف من أجواء الحزن، وأيضًا لأنها لاحظت أنهم لم يأكلوا شيئًا منذ الأمس، خاصة سيلا التي تعاني من الأنيميا، وكان موعد جلستها العلاجية اليوم، لكنها لم تكن تعرف كيف تتصرف في الأمر.




هتفت نبيلة بلطف:


"يلا يا بنات، قربوا نفطر سوا."




توجهت نبيلة نحو همسة وأمسكت بيدها بلطف:


"تعالي يا حبيبتي."




همسة برفض: "يا طنط، مليش نفس بجد."




نبيلة: "كُلي على قد نفسك، مش شايفة وشك أصفر إزاي؟ هزعل منك والله."




ذهبت همسة معها على مضض، وجلست بجانبها.




أما مي، فتوجهت لإحضار سيلا، لكنها وجدتها تسبقها قائلة:


"اعفوني أنا."




أمسكت مي بذراعها قبل أن تذهب وقالت:


"تعالي هنا، رايحة فين؟ تعالي وسطي عشان خاطر همسة... وعشانك."


ثم همست في أذنها:


"إنتي بتاخدي علاج ولا نسيتي؟ والجلسة كمان!"




رفعت مي صوتها قليلًا عند كلمة "كمان"، مما دفع سيلا إلى إسكاتها بسرعة:


"هشش! جايه خلاص. متجيبيش سيرة الموضوع ده تاني هنا، فاهمة؟"




قالتها بنبرة تحذير، ثم أضافت همسًا:


"أنا غلطانة إني قولتلك من الأول."




جلس الجميع على المائدة، والصمت خيم على المكان، إلى أن قطعته مي بمحاولتها إدخال بعض المرح:


"أحم! مل قولتليش... إيه رأيكم في الفطار اللي أنا عملاه كله بنفسي؟" قالتها بتفاخر.




رفعت سيلا رأسها ونظرت لها بنصف عين، ثم صمتت وبدأت تفتت الجبن بالشوكة دون اهتمام.




همسة بابتسامة رقيقة: "تسلم إيدك يا حبيبتي، جميل."




لكن مي لم تستسلم، فنظرت إلى سيلا وقالت بمرح:


"ها يا سيلا؟ ما قولتيش رأيك!"




نبيلة بنبرة محاولة تهدئتها: "بس يا بت، سيبيهم يأكلوا."




سيلا برفع حاجبها:


"رأيي في إيه بالظبط؟ ده جبنة وعيش وشاي وخيار! عملتي إيه بالظبط عشان الفرح ده كله؟"




مي بتفاخر مدعية المرح: "الله! ما تكسفنيش بقى... ده اللي بعرف أعمله! كفاية إحساسي ولمساتي."




نبيلة وهي تضحك: "يخيبك! قال لمسات قال! هتتجوزي إزاي بلمساتك دي؟"




سيلا بابتسامة ساخرة وهي تنهض: "يبقى نسكت أحسن ولا إيه؟"




اقتربت سيلا منها بخطوات وكأنها ستضربها، مما جعل مي تدعي الخوف وتختبئ خلف والدتها:


"خلاص! خلاص! يا ماما دي هتضربني!"




عادت سيلا إلى مكانها وجلست وهي تبتسم، مما أضفى جوًا من المرح على الجلسة وجعل الجميع يضحك. لكن قبل أن ينهوا الفطور، دق جرس الباب، ليعلن عن حضور شخص غير متوقع.




نهضت مي لتفتح الباب، لكنها توقفت فجأة عندما وجدت رجلًا متقدمًا في العمر، اكتسى رأسه بالشيب. تطلعت إليه بتوجس، إذ لم ترتح لنظراته التي تفحصتها من أعلى رأسها حتى أسفل قدميها. ارتسمت على وجهه ابتسامة خبيثة قبل أن يتحدث بلهجة ثقيلة:


"إيه؟ مش هتخليني أدخل يا بنت أخويا؟ ولا هقف كتير على الباب؟"




لم ينتظر إذنها، بل تخطاها ودخل إلى الشقة وكأنه في بيته. وقف يتأمل المكان بنظرات مريبة، وكأن كل تفصيلة تشده وتثير فضوله، حتى انتبه على صوت سيلا الذي ناداه باندهاش:


"عمي؟!"




توقف مكانه، متفاجئًا بردة فعلها، ثم نظر إليها بتأنٍ قبل أن يرد ببطء:


"انتي مين بقى؟ سيلا ولا همسة؟"




تقدمت سيلا نحوه بحذر، تاركة بينهما مسافة آمنة، وقالت بجمود:


"أنا سيلا." وأشارت نحو أختها: "ودي همسة أختي."




هز رأسه وكأنه يحاول استيعاب الموقف، ثم أضاف بفضول:


"أمممم، أمال مين ال..."




لكن سيلا قاطعته بإشارة إلى مي ووالدتها قائلة:


"دي صاحبتي مي، ودي مامتها."




صمت الرجل للحظة، ثم عادت نظراته تتجول في المكان قبل أن تتوقف عند سيلا التي بدت متعجبة من طريقة حديثه. لم تستطع كتمان غضبها وسألته مباشرة:


"إيه يا عمي؟ مش هتعزينا ولا لسه في أسئلة كمان؟"




تدارك الرجل نفسه بسرعة، وأخذ يعيد ترتيب ملامحه إلى مظهر أكثر لطفًا وقال بصوت مفتعل الحنان:


"لا طبعًا، تعالوا في حضني يا حبايبي، يا ولاد الغالي."




اقتربت سيلا ببطء منه، تمنت داخليًا أن تجد في حضنه شيئًا من دفء والدها، أن تشتم رائحته أو تشعر بالندم في عينيه عن أخطاء الماضي. لكنها لم تجد سوى برود غريب وجفاء يخلو من أي أمان، وكأن حضنه كان مليئًا بالشوك لا بالدفء. ابتعدت عنه دون أن تنبس بكلمة.




نبيلة التي شعرت بالتوتر في الجو، استأذنت بلطف وقالت:


"بعد إذنكم، يلا يا مي تعالي معايا نحضر الغداء."


ثم أمسكت بيد ابنتها وسحبتها معها إلى المطبخ، تاركة سيلا وهمسة مع عمهم.




مي وهي تهمس لوالدتها: "ماما، أنا مش مطمنة للراجل ده."




نبيلة بموافقة: "وأنا قلبي اتقبض أول ما حضنهم. ما شوفتيش نظرته كانت عاملة إزاي؟ زي اللي لقى كنز وفرحان. بس اللي مستغرباله... عرف إزاي؟"




مي وهي تفكر: "يا ماما، دي حادثة كبيرة. أكيد عرف من التلفزيون أو الراديو. بيذيعوا في النشرات عن أسماء المتوفين."




نبيلة بعد تفكير: "آه، صحيح. فاتتني دي."




بينما كانت مي تساعد والدتها في المطبخ، بدأت تروي لها ما سمعته من صديقتها سيلا مسبقًا:


"ماما، سيلا كانت حكت لي قبل كده إن عمها ده نصب على أبوها زمان، وطرده من البلد. بصراحة، أنا مش مرتاحة لوجوده هنا. ربنا يستر ويبعد عنهم كل شر."




نبيلة تنهدت وقالت: "يا رب، الله يحميهم."




في تلك الأثناء، كانت سيلا تدعو عمها للجلوس في غرفة الصالون. أشارت له بلطف إلى أحد المقاعد وقالت:


"اتفضل يا عمي."




دخلت همسة وجلست بجانب أختها، لكنها بقيت صامتة، إذ لم تكن تتذكر عمها جيدًا بسبب صغر سنها عندما انتقلت العائلة إلى القاهرة.




ابتسم الرجل وحاول أن يفتعل الحنان ليكسر الحاجز بينه وبينهن. بدأ حديثه قائلاً:


"عارفين يا بنات، أبوكم الله يرحمه، كنا دايمًا مع بعض زي التوأم. ما كناش بنفارق بعض أبدًا، لولا يوم ما قرر فجأة يسيب البلد وينقل للقاهرة. كان شايف إن الشغل هناك مع أصحابه أفضل. أنا اتحايلت عليه يفضل ويشاركني في شغلنا، لكنه أصر يا ربنا يرحمه بقى... في الجنة إن شاء الله."




قالت سيلا وهمسة بصوت واحد: "إن شاء الله."




هز رأسه موافقًا ثم أكمل قائلاً:


"بصراحة، مراتي كانت نفسها تيجي معايا النهارده، بس هي تعبانة شوية. وبتقولي كل يوم إنها نفسها تشوفكم. وقالت لي إنكم لازم تيجوا تعيشوا معانا هناك. أنتم عارفين... القعدة هنا لوحدكم، وأنتم بنات في السن ده، مش أمان. والطمع في البنات كبير اليومين دول. فما رأيكم؟ تعالوا، هتنبسطوا أوي عندنا."




نظرت سيلا إليه بحذر وردت بحزم:


"الصراحة، يا عمي، إحنا منقدرش نسيب البيت هنا. ده مكاننا، وإحنا متعودين عليه. وبصراحة ما نعرفش حد هناك."




ابتسم ابتسامة مصطنعة وقال:


"إيه الكلام ده يا بنتي؟ أمال أنا فين؟ مرات عمك فين؟ ومحمود، ابني، ما شاء الله عليه، شاب ناجح وكسيب. بيدور على بنت الحلال، وبصراحة شايف إن بنت عمه أحق من أي واحدة تانية!"




تجمدت سيلا وهمسة في أماكنهما، مذهولتين من كلماته. تبادلتا النظرات بصمت، بينما أكمل الرجل حديثه بفرحة داخلية عندما لم يبديا اعتراضًا مباشرًا:


"بصوا، بما إنكم هتعيشوا معايا أنا ومرات عمكم وابني محمود، عندي كمان اقتراح. البيت ده كبير أوي، وفي حي راقٍ، وما شاء الله ديكوراته تحفة. رأيي نبيع البيت، وكل واحد ياخد نصيبه، ويحط فلوسه في البنك أو يشغلها معايا لو حبيتوا."




ظل ينظر حوله في أرجاء المنزل بنظرات طامعة، وكأنه يقيّم قيمته المادية.




سيلا، التي كانت تراقبه بنظرات حادة وغير مفهومة، أدركت نواياه الخبيثة. لكنها لم تتحدث، بل فضلت الانتظار لترى كيف سيتصرف لاحقًا.




لم يتمكن الرجل من إكمال كلامه، إذ فجأة وقفت سيلا أمامه بغضب وعينان تشتعلان بالنار:


"نبيع إيه يا راجل؟ كبرت وخرفت ولا إيه؟ عيد اللي قولته تاني!"




وضعت يديها على خصرها ونظرت له بحنق شديد قبل أن تضيف بحدة:


"قول بصراحة إنك جاي وراسم على الكبير، بلا أخويا، بلا توأمك، وبلا جو الحنية اللي نزل عليك فجأة ده. ما كفكش زمان لما أكلت حقه؟ دلوقتي جاي تاكل حق اليتامى كمان؟! يكش تخجل على سنك يا راجل، هتقابل ربنا بأي وش؟! واه لو بابا سابلك زمان نصيبه، دلوقتي نجوم السما أقربلك. أنا لحمي مرّ، ما تعرفنيش، ومش هتاخد حقنا، فهمت؟"




رد عليها بغضب وصوت عالٍ، وقد احمر وجهه من شدة الانفعال:


"إنتي قليلة الأدب! أخويا للأسف معرفش يربيك. احترمي نفسك، وشوفي بتكلمي مين!"




زاد غضب سيلا وارتفع صوتها أكثر، لتخرج تمامًا عن سيطرتها:


"هكون بكلم مين؟ واحد نصاب! نصب على أبويا زمان وجاي ينصب علينا تاني. فاكرنا لسه عيال ولا إيه؟!"




ثم هدأت قليلًا لكنها واصلت بنبرة أكثر ثباتًا وحزمًا:


"ده أنت حتى ما افتكرتش أخوك غير لما مات. وجاي تورثه دلوقتي كمان؟ نصيب مين يا أبو نصيب؟ بجاحتك؟!"




ابتسم ابتسامة مليئة بالحقد والخداع، ثم قال بنبرة تحذيرية:


"إنتي ما تعرفيش إن ليّا نصيب في الورث يا شاطرة ولا إيه؟ أخويا مات، وما فيش غيري أخوه الوحيد، وأنتم مجرد بنتين. يبقى ليّا ورث كمان. أنا قلت تعيشوا معانا عشان أسهل الأمور، لكن لو مش عاوزين، براحتكم. بس نصيبي أنا مش هسيبه، بالرضا أو بالغصب، هآخده، فاهمة؟"




بينما كانت الأجواء متوترة وصوت النقاش يتصاعد بين سيلا وعمها إبراهيم، دلف عاصم ووليد إلى الغرفة. كانا قد وصلا قبل بضع دقائق، وجلست مي معهما في غرفة مجاورة، لكنهما لم يستطيعا البقاء صامتين أكثر عندما بدأت الأصوات تعلو.




دخل الاثنان الغرفة في محاولة لتهدئة الوضع، إلا أن وجودهما زاد الطين بلة. تقدم عاصم بخطوات ثابتة ومعه وليد، وألقى التحية:


"السلام عليكم."




انتبه إبراهيم إليهما، وبدت على وجهه علامات الغضب والاستهزاء. نظر إليهما نظرة ساخرة وقال بحدة:


"آه، قولولي كده! عجباكم القعدة هنا ورجّالة داخلة وطلعة! ما أنتم مش لاقيين اللي يلمكم بقى!"




ثم أشار إليهما بإصبعه وهو يسأل بسخرية:


"وإنت مين وإنت مين بقى إن شاء الله؟"




لم ينتظر ردًا، بل التفت مجددًا نحو الفتيات ونظر لسيلا وهمسة بنظرات متسلطة وهو يشير إليهما بسبابته:


"ما يهمنيش مين، اسمعوا كلامي. تلمّوا حاجتكم اللي هنا وتيجوا معايا. ده آخر كلام. وانتي..."


وأشار لهمسة التي كانت ترتعد من صوته المرتفع:


"ابني هيكتب كتابه عليكي أول ما نوصل إسكندرية."




هب وليد فجأة وأمسك إبراهيم من ياقة قميصه بغضب هادر:


"كتب كتاب مين على مين يا راجل يا خرفان؟! همسة دي مراتي! فوق واعرف بتقول إيه! البيت ده محترم، والناس اللي فيه محترمة، ومحدش هيخرج من هنا غيرك!"




ثم دفعه بقوة باتجاه الباب.




تدخلت سيلا، وقد اشتعل الغضب في صوتها:


"ملكش حاجة عندنا! ده شقا بابا لوحده! وانت زمان أخذت حقه بالكامل. انسى إن ليك حاجة هنا. خلص الكلام! يلا برا!"




نظر إبراهيم إليهم بنظرات مليئة بالخبث والوعيد، ثم قال وهو يتجه نحو الباب:


"مش أنا اللي يتقاله يلا، وحقّي مش هسيبه!"




رد عليه عاصم بصوت بارد، لكنه يفيض بالتهديد:


"اعلى ما في خيلك اركبه."




ثم خطا عاصم للأمام واضعًا يده داخل جيب بنطاله، ونظر لإبراهيم بنظرات مميتة أشبه بنظرات وحش يوشك على الانقضاض.




تساءل إبراهيم بغضب وهو يشير إليه:


"وأنت مين تاني؟! شكلها فتحتها سبيل هنا! اللي داخل واللي خارج!"




ابتسم عاصم بسخرية وهدوء قاتل قبل أن يقول بصوت عميق:


"أنا مين؟ هقولك أنا مين... عملك الأسود."




ثم أضاف بلهجة حازمة مليئة بالوعيد:


"وأنت ما تعرفش أنا ممكن أعمل إيه. اللي لازم تعرفه، إنك وقعت مع اللي هيخلّيك تندم إنك جيت هنا أصلاً."




ثم أشار عاصم للفتيات بيده وقال بصوت حاد وهو يشدد على كلماته:


"البيت ده ومَن فيه... من ممتلكاتي. وحط تحت الكلمة دي ميت خط أحمر. فاااهم؟"




صدمت سيلا من كلماته، ورفعت عينيها نحوه بنظرات متسائلة وغير مفهومة، وهمست لنفسها:


"ممتلكاته؟! ده اتجنّن ولا إيه؟!"




أما إبراهيم، فقد توعدهم بنبرة مليئة بالكراهية والغضب:


"وأنا هعرف أتعامل مع أشكالكم دي! وهعرف أجيب حقي، فاكرني هخاف من شوية عيال زيكم؟! هتشوفوا هعمل إيه!"




ثم غادر الغرفة بعصبية، وأغلق الباب خلفه بقوة جعلت الجدران تهتز.




جلست سيلا على أقرب مقعد، غير قادرة على استيعاب ما حدث للتو. أهذا هو عمها؟ الرجل الذي من المفترض أن يكون مكان والدها، يحميهم من غدر البشر؟ بدلاً من ذلك، بدا وكأنه يريد أن ينهش حقوقهم مثل غيره.




استسلمت سيلا لذكرياتها، وعادت إلى الوراء، إلى أيام طفولتها عندما كانت في المرحلة الإعدادية. كانت على دراية بما حدث لعائلتها قبل انتقالهم إلى القاهرة، تلك اللحظات التي طبعت في ذاكرتها رغم صغر سنها.




تذكرت والدها محسن محمد أحمد، الرجل الذي عاش سنوات صعبة في ظل شقيقه إبراهيم. كانا يعيشان في الإسكندرية، في منزل ورثاه عن والدهما. كان المنزل مكوّنًا من طابقين، كل طابق عبارة عن شقة واحدة، بنظام البناء القديم. عاش إبراهيم في الطابق الأول مع عائلته، بينما احتل محسن الطابق الثاني مع زوجته نرمين وابنتيه الصغيرتين، سيلا وهمسة.




لم يكن محسن مرتاحًا للبقاء في هذا الحي، خاصة بعد أن أنجب البنات. كان يخشى عليهن بسبب الأجواء المحيطة؛ تجمعات الشباب التي تحدث ليلاً عند مدخل المنزل، وتعاطيهم للمواد المخدرة، والمشاكل التي كانت تفتعلها زوجة شقيقه، إضافة إلى تصرفات ابن شقيقه السيئة ومرافقة أصدقاء السوء.




وفوق ذلك، جاءت فرصة ذهبية لوالدها للعمل مع أصدقائه المقربين في شركة حراسة. كانت هذه الفرصة بداية حياة جديدة، لكنه كان بحاجة إلى المال لبدء هذه الخطوة.




سرحت سيلا أكثر، وتذكرت ذلك اليوم الذي عاد فيه والدها إلى المنزل، مكتسيًا بالحزن والهم.




لاحظت نرمين زوجته ملامحه الكئيبة، فسألته بقلق:


"مالك يا محسن؟ في إيه؟ مرضاش ولا إيه؟"




جلس بجانبها بتعب، وظهرت في صوته نبرة منكسرة:


"شوفتي يا نرمين... أخويا، اللي من أمي وأبويا، عمل فيا إيه. روحت له وقلت له إني جالي شغل كويس في القاهرة، وعاوز أبيع الطابق بتاعي، على أساس إنه أولى من الغريب. هبّ فيا، وعلا صوته، وقالي: مالكش حاجة عندي. أبويا كاتبلي البيت كله بيع وشراء. ووراني عقد كده!"




صمت قليلًا، ثم أغمض عينيه وقد فرت دمعة على وجنته. مسحتها نرمين بحنو، لكنه تابع بصوت يملؤه الوجع:


"قالي لو كنت قاعد فيها لحد دلوقتي، يبقى ده ذوق مني. بس طالما عاوز تنقل، يبقى في سلامة من دلوقتي!"




توقف مرة أخرى، ثم تابع:


"أخويا يطردني من بيته؟ ومش عاوز يديني حقي؟! أخويا أنا! أنا..."




ظل يردد الكلمات دون استيعاب، حتى حاولت نرمين تهدئته:


"متزعلش نفسك يا محسن. يغور البيت والمكان كله. خليه يشبع بيه. يعني حد هياخد حاجة معاه؟ إحنا منقدرش نستغنى عنك. ربك كريم، ومش بيسيب حق حد. كلنا ماشين ببركته."




نظر محسن إليها بحزن:


"اللي وجعني مش البيت ولا الفلوس. الفلوس إحنا اللي بنعملها. اللي وجعني إنه باعني كده، على طول. ما سألنيش حتى محتاج إيه. عارفة؟ لو كان قالي إنه عاوز البيت ومش معاه فلوس دلوقتي، كنت والله سيبتهوله. بس ده ما أعطانيش فرصة حتى. دانا لو الغريب طلب مساعدة، ما بفكرش ثانية إلا وأساعده. ما بالك بأخويا؟ ليه الطمع والجشع ده عند الناس؟"




أنهى كلماته بوجع:


"إحنا خلاص... ملناش قعاد هنا. هو جاب الخلاصة، وحقّي عند ربنا. هو العادل، وهيجيب لي حقي حتى لو في سابع أرض."




ابتسمت نرمين بحنو وهي تمسك وجنتيه:


"اسمعني يا محسن. أنا عندي ذهب كتير مش بلبسه. نبيعه ونفك زنقتنا، لحد ما..."




قاطعها وهو يهز رأسه بحزم:


"مفيش داعي يا نرمين. ما تزعليش مني، لكن ذهبك أنا مش حمدّ إيدي عليه."




ابتسمت له بمكر:


"طيب اسمعني. أنا وإنت إيه؟ إحنا واحد. وأهو أنت قولت: ذهبي. وأنا عاوزة أدخل شريكة معاك. ولا مش عاوز شريكة زيي بقى؟"




ضحك رغم ألمه، وربّت على يديها بحب:


"حبيبتي... أحلى شريكة!"




وسط هذا الحوار الدافئ، سمعوا صوت شهقات خارج الغرفة. التفتوا ليجدوا سيلا الصغيرة واقفة عند الباب، وعيناها تلمعان بالدموع.




نادت نرمين عليها بقلق:


"سيلا؟ حبيبتي! أنت هنا من إمتى؟"




لم تجد سيلا كلمات ترد بها. كانت حزينة مما سمعته، وغير قادرة على استيعاب أن عمها سبب حزن والدها. 




فجأة، انتبهت إلى صوت وليد يناديها بقلق:


"سيلا؟ أنت هنا؟"




لوّح بيده أمام عينيها حتى أفاقت من شرودها وقالت بصوت مرتبك:


"هاه؟ آسفة... كنت سارحة شوية."




جلست سيلا على الكرسي، تحاول استجماع شتات أفكارها بعد كل ما مرّ بهم. أمامها، كان عاصم يراقبها بصمت، ينظر إليها بنظرات ثاقبة وكأنه يحلل كل ما يدور في ذهنها.




التفتت فجأة عندما تحدث وليد:


"سيلا، كنت بقولك... هنعمل إيه في عمك؟"




ردت بثبات:


"ولا حاجة طبعًا. سيبك منه. ده احنا اللي عاوزين منه حق بابا زمان، اللي نصب عليه فيه، وبابا سابه وجينا هنا. لكن أنا مش هسيب له حاجة. واللي عنده يعمله."




ثم تابعت بنبرة جدية وهي تنظر مباشرة إلى وليد:


"المهم دلوقتي الكلام اللي هقوله لك. يمكن مش الوقت المناسب، لكن لازم يتعمل. ده لو أنت لسه على كلمتك."




نظر وليد إليها متسائلًا:


"قصدي إيه على كلمتي؟ وضحي."




تنهدت سيلا، وقالت مباشرة:


"عاوزين تكتب كتابك على همسة."




تفاجأت همسة التي كانت جالسة صامتة بجانبهم، ونطقت لأول مرة وهي ترفع رأسها:


"إيه!؟ إنتي اتجننتي يا سيلا؟"




نظرت إليها سيلا بحزم:


"أنا كنت هتكلم مع وليد في الموضوع ده قبل ظهور عمي، لكن كله جه مع بعضه."




هزت همسة رأسها نافية بشدة، ودموعها بدأت تتساقط:


"لا... لا... مستحيل."




أمسكت سيلا بيديها وربتت على وجنتها برفق:


"أسمعيني يا همسة. إحنا بنات لوحدنا في الدنيا دي، والناس معظمها ضمائرها مش حلوة زي عمك كده. لازم يكون لك ظهر قوي وأمان تحتمي فيه. وليد هو أمانك. وبعدين، أنا مش بقولك إنك تحتفلي أو تفرحي دلوقتي. إحنا هنكتب الكتاب هنا في البيت بس، وبعد الأربعين إن شاء الله، يعني لسه في وقت."




أخذت نفسًا عميقًا وأكملت:


"وبعدين، عمك لو رجع تاني، يلاقي راجل موجود معانا يصده. فاهمة يا حبيبتي؟"




نظرت همسة إلى أختها الكبرى، ورغم الخجل والحيرة التي تملكتها، هزّت رأسها موافقة، ثم خفضت رأسها بخجل.




التفتت سيلا إلى وليد الذي كان يتابع المشهد بصمت، ثم قالت بحزم:


"اتفقنا يا وليد؟"




ابتسم وليد ابتسامة جذابة، ونظر إلى همسة التي لم ترفع رأسها:


"اتفقنا."




نهض عاصم واقفًا بجانب وليد، وقال بصوته الرخيم:


"نستأذن إحنا."




وبعد لحظات، غادر كلاهما المنزل، تاركين سيلا وهمسة وحدهما.




نظرت سيلا إلى أختها الصغيرة بحنان، ثم احتضنتها وربتت على كتفها قائلة:


"كله هيعدي إن شاء الله. أنا هدخل أرتاح شوية."




تركتها وهرولت إلى غرفتها، حيث أغلقت الباب خلفها. شعرت بتعب شديد بعد كل ما تحمّلته أمام الجميع، وزاد الألم عند مغادرتهم. تناولت بعض المسكنات، ثم استلقت على السرير حتى غفت في نوم عميق.




---




في الخارج، غادر عاصم ووليد المنزل متجهين إلى الشركة لمتابعة أعمالهم.




مرّت الأربعون يومًا بسرعة، لكن الحياة داخل المنزل كانت تسير ببطء وكأن الوقت توقف. سيلا وهَمسة انعزلتا كل في غرفتها، بالكاد تتقابلان على مائدة الطعام. سيلا أصبحت حبيسة غرفتها، متكئة على المسكنات للتخفيف من آلامها، بينما همسة وجدت ملاذها في غرفتها الخاصة بالرسم، تغرق في لوحاتها وتخفي دموعها خلف الريشة.




مي، صديقة سيلا المخلصة، بقيت بجانبهم منذ وفاة والدتهاما، ولم تترك المنزل، رافضة ترك سيلا تغرق في استسلامها. لكن سيلا كانت عنيدة، تواجه صديقتها ببرود متعب ونفاذ صبر.




"سيلا، انتي بتعملي كده ليه؟ ليه ضعيفة كده؟ أنا تعبت منك. مش شايفة حالتك وصلت لفين؟ انتي عايشة على السوائل، وأقل أكلة بتوجعك. طيب، لو مش عشانك، عشان همسة!"




سيلا رفعت صوتها قليلاً، وقد نفد صبرها:


"والله، يا مي، أنا تعبت منك ومن كلامك. أنا كده مرتاحة أكتر. سيبيني على حريتي شوية. آه، أنا بتألم، لكن باخد مسكن وخلاص. تعب الكيماوي ده فوق طاقتي، والله تعبت."




قالتها بصوت محمّل بالحسرة، وانهارت دموعها على وجنتيها. أكملت بصعوبة:


"عارفة إحساس إنك تلمسي نار غصب عنك؟ مؤلم، صح؟ الكيماوي ده نفس الإحساس... نار جواكي بتحرقك، بتكويكي من الداخل. بصي شعري."




أشارت إلى خصلات شعرها التي أصبحت ضعيفة ومتساقطة، صمتت قليلاً قبل أن تضيف بصوت متقطع:


"يعني، أنا هعيش لحد إمتى؟! كلها أيام بنعيشها وخلاص. اللي كنت عايشة عشانهم راحوا وسابوني. مفيش دافع أتمسك به. دوافعي كلها انهارت."




نظرت إلى مي بعينين متعبتين وقالت:


"ولو على همسة، أنا مش هسيبها غير وهي متسندة على ظهر قوي يحميها ويحافظ عليها."




ردت مي بنبرة تحمل مزيجًا من الألم والرجاء:


"طيب، وأنا يا سيلا؟ مليش غلاوة عندك؟ عايزة تسيبيني وتمشي؟ طيب، اتعالجي عشاني أنا! ما تضعفيش!"




سيلا نظرت إلى صديقتها بعينين مليئتين بالحزن والاعتذار:


"أنا حاولت يا مي، بجد حاولت. بس مش قادرة. والله مش قادرة. محدش حاسس بالنار اللي جوايا. طاقتي خلصت، خلصت خلاص."




انهارت في حضن صديقتها، تبكي بحرقة. لم تستطع مي السيطرة على دموعها هي الأخرى، واحتضنتها بشدة، تبكي معها حتى غفت سيلا بين ذراعيها.




بعد أن تأكدت مي من نومها، أسندتها برفق على السرير، غطتها جيدًا، وأطفأت الأنوار بهدوء. غادرت الغرفة، وأغلقت الباب خلفها بحرص.




توجهت مي إلى غرفة همسة لتطمئن عليها. عندما فتحت الباب، وجدت همسة جالسة أمام لوحتها في غرفة الرسم. كانت عيونها مثبتة على اللوحة، ترسم وجهًا حزينًا مليئًا بالدموع. لم تكن بحاجة إلى كلمات، فقد رأت مي في الرسم انعكاسًا صادقًا للحزن العميق الذي يعتصر قلبها.




تركتها مي بسلام، أغلقت الباب بهدوء، وتوجهت إلى غرفة الجلوس حيث أجرت مكالمة هاتفية، صوتها منخفض، لكن حزمها كان واضحًا في الكلمات القليلة التي قالتها.




تلقي عاصم المكالمة، لكن سرعان ما ارتسمت علامات الغضب على وجهه بعد سماعه ما قيل له في المكالمة. كان جوابه مقتضبًا:


"تمام، أنا هتصرف، سلام."




بينما كانت الأحداث تتوالى، جاء دور رودينا التي جاءت لتؤدي واجب العزاء والاعتذار عما صدر منها في وقت سابق. تم قبول اعتذارها، لكن سيلا لم تعد كما كانت من قبل، ولم تعد تعود مع رودينا كما كان الحال في السابق.




انتهت الأربعون يومًا سريعًا، لتأتي اللحظة المنتظرة، يوم كتب الكتاب. كان الجو مشحونًا بالتوتر والترقب. حضر الجميع، عاصم، معتز، وليد، رودينا، ووالدة مي، وهيثم، ليشهدوا هذه اللحظة المهمة.




في الجهة الأخرى، كانت سيلا ومي داخل الغرفة، تحضران همسة وتجهيزنها لهذا اليوم الخاص. كانت همسة ترتدي فستانًا أبيض بأكمام طويلة، مع شريط وردي عند الوسط، والفستان كان واسعًا وجميلاً. والأمر المفاجئ الذي أسعد الجميع كان ارتداء همسة للحجاب، حيث اختارت الحجاب الوردي الذي يتناسب مع شريط الوسط في فستانها، وقررت عدم وضع أي مستحضرات تجميل.




بعد أن تم تجهيزها، خرجت همسة إلى المكان حيث كان الجميع ينتظر. تم استدعاؤها لتوقع على كتب الكتاب، وبالفعل قامت بالتوقيع، ليعلن المأذون رسمياً:


"بارك الله عليكما، وجمع بينكما في خير."




بدأ الجميع في تهنئتهما، لكن قبل أن يغادر المأذون، توقف عاصم فجأة ومنع المأذون من الرحيل.


قال له:


"استنى يا شيخنا، في كتب كتاب تاني هيتعمل دلوقتي؟

 الفصل التاسع والعشرون من هنا

تعليقات



×