رواية شظايا قلوب محترقة الفصل السابع والعشرون بقلم سيلا وليد
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
حين يُحبُّ الرجلَ بصدق، كأنَّما تُخلقُ له عشرَ عيون، يُصبحُ قلبهِ نهرًا جارفًا من المشاعرِ التي لا تعرفُ حدودًا.،وإذا حاولَ كتمَ هذه المشاعر، يتحوَّلُ جنونها إلى صراعٍ داخلي، كمن يسقي شجرةً ذابلةً في صحراءٍ لا تعرفُ المطرَ يُصارع الفراغ، يبحثُ عن نظرة، همسة، أو حتى شعورًا عابرًا يؤكِّدُ وجودهِ في عالمِ من أحب، لكنَّهُ أحيانًا يعودُ خاسرًا، وقد يكونُ تأخَّرَ كثيرًا.
إنَّ الحبَّ الصادق لايجب أن ينتهي بسببِ لحظةِ ضعفٍ أو سوءَ فهم، والأصعب من ذلك أن يستمرَّ الفراقَ لأنَّ كلَّ طرفٍ يختبئُ خلفَ كبريائه، ينتظرُ الآخرَ ليخطو الخطوةً الأولى، وكأنَّ الحبَّ الذي كان يومًا ملاذًا للأرواحِ أصبح سجنًا تصنعهُ حواجزَ الصمتِ والندم.
فصعبٌ أن تقولَ وداعًا للحب، وأن تجمعَ ما تبقَّى من شظايا قلبك، والأصعبُ أن يختفي الحبُّ فجأة، دون كلمةِ وداع، دون تفسير، وكأنَّكَ استيقظتَ من حلمٍ جميلٍ لتجدَ نفسكَ في ظلامِ الوحدة.. تبقى الذكرياتُ تلاحقك، تتشبَّثُ بك، تتحوَّلُ إلى أشباحٍ تجوبُ لياليكَ بلا رحمة.
هكذا هو الحبُّ أحيانًا؛ نعمة حين يجمعُ الأرواح، ولعنة حين يتركها تائهةً في دروبِ الحنينِ والألم.
وصلَ إلى المشفى وصعدَ إلى غرفتهِ بخطواتٍ تحملُ من الغضبِ ما يكفي لإشعالِ المكان..عند البابِ كانت رانيا تنتظره، وما إن وقعَ نظرها عليه حتى تراجعت منكمشةً كأنَّما رأت شبحًا مخيفًا..
دفعَ البابَ بعنف، ليهتزَّ المكانُ ويستفيقَ راجح مفزوعًا من نومه، صاحَ إلياس بصوتٍ حاد:
"الراجل دا..خلِّيهم ينزِّلوه تحت"
قبلَ أن يُتمَّ المسعفُ ما طُلبَ منه، صاحت رانيا بفزع:
"لاااا"
التفتَ إليها إلياس بعينينٍ تقدحان شررًا كأنَّهما لهبُ جهنم، وصرخَ بصوتٍ كالصاعقة:
"مستعدّ النهاردة أرتكب جريمة، امشي غوري من قدامي بدل ما أنوِّمك مكانه"
قطعَ صوتهِ رنينَ هاتفه، فأخذَ بضعَ خطواتٍ للخلفِ وأجابَ باقتضاب:
"أيوة؟"
"حبيبي، إنتَ فين؟..ميرال مشيت وسابت كلِّ حاجة..حتى عربيتها"
ارتفعَ صوتها وهي تلهثُ كعدَّاءٍ أنهكتهُ الأميال، لكن إلياس تمتمَ ببرودٍ أشبهُ بالجليد:
"براحتها"
صاحت فريدة بغضبٍ مختلطٍ بالدهشة:
"إلياس! إنتَ بتقول إيه؟!عايز مراتك تسيب البيت؟!"
ردَّ بلا مبالاة وهو ينهي المكالمة بحدَّة:
"أنا عندي شغل دلوقتي"
أغلقَ الهاتفَ والتفتَ إلى راجح، الذي حاول عبثًا أن يظهرَ تماسكهِ أمام نظراتهِ الثاقبة، وصلَ المسعفُ ومعه كرسي متحرِّك، فتقدَّمَ لمساعدةِ راجح للجلوس، لكن إلياس دفعَ الكرسي بقدمه وقالَ ببرود:
"خلِّيه يمشي على رجله، لمَّا ينشلّ يبقى نشوفله خشبة نجرُّه بيها"
صرخت رانيا مجدَّدًا، وواجهتهُ بشجاعةٍ متردَّدة:
"إنتَ بتعمل إيه يا ابنِ جمال؟!"
استدارَ إليها بغضبٍ متوحِّش، وكلماتهِ خرجت كخناجر:
"قسَمًا بربِّ العزة، لو شوفتك قدامي بعد دقيقة، لأقَّعدك مكانه..لمِّي الدور وغوري من وشي، وبلاش شغل الرقاصين ده!"
خرجت رانيا تهرولُ كأنَّما تفرُّ من عاصفةٍ هوجاء، بينما عادَ إلياس إلى راجح، وجذبهُ من مكانهِ بعنفٍ ليصرخَ الأخير بألمٍ يمزِّقُ الهدوء:
"آه ظهري"
أشارَ إلياس للمسعف:
"ساعده لحدِّ العربية اللي تحت"
حاولَ راجح أن يظهرَ قوَّتهِ رغمَ ألمه، لكن صوتهِ المرتجفِ خانَ كرامته:
"هندِّمك يا ابنِ جمال، واللهِ لأندِّمك"
لم يلتفت إلياس لحديثه، وإنِّما أخرجَ سيجارةً وأشعلها، ثمَّ نفثَ دخانها بوجههِ ببرودٍ قاتل:
"بحبِّ الندم أوي يا راجح"
اقتربَ منه وهمسَ له بصوتٍ جليدي:
"طلَّقت بنتك ورميتها..أنا مستحيل أرتبط بدمِّ ناس فاسدة زيكم"
ثمَّ أضافَ بابتسامةٍ ساخرة:
"آه، نسيت أقولَّك، إحنا غيَّرنا التحليل للأسف، بنتك طلعت بنتك فعلًا الحاجة الوحيدة الحلوة اللي عملتها في حياتك"
جذبهُ من عنقهِ بقوةٍ وضغطَ على رقبتهِ، حتى تحوَّلَ وجهُ راجح إلى اللونِ الأحمر، ثمَّ تركهُ فجأةً وهو يضيفُ ببرود:
"عشان خاطرِ الليالي اللي عيشتها مع بنتك، هركَّبك العربية دي..بدل ما أركَّبك حاجة تانية"
ظلَّ راجح يلهثُ كأنَّهُ نجا من الموت، بينما أشارَ إلياس إلى العربةِ الكارو المحمَّلةِ بصناديق القمامة:
"ساعده يركب بس من غير هدوم، عايزه بالشورت بس، دا منعًا للاحراج"
كانت أعينُ راجح تكادُ تخرجُ من مكانها من الصدمةِ والمهانة..تمتمَ بصوتٍ مرتعش:
"هندِّمك يا ابنِ السيوفي..واللهِ هندِّمك"..ابتسم بخفة واردف:
-أنا بعمل معاك واجب احمد ربنا هسيبك بالشورت..قالها واتجه إلى سيارته
أشار للرجل أن يتحرك وظل هو متوقفًا بسيارته لبعض الوقت يمسح على وجهه بعنف ..
-اعمل فيكي ايه ياتاعبة قلبي، رفع كفيه يمسدها على خصلاته بقوة كاد أن يقتلعها، ثم رفع هاتفه
-أرسلان !!
-أيوة..ميرال خرجت من الفيلا من غير عربية، حاول تعرف لي راحت فين، بس معاها التليفون
-وإنت ازاي تخليها تمشي !!
-حياتي الشخصية مش للنقاش يابن فريدة، شوف بنت عمك زفت فين؟! .
عند ميرال، لم يكن قرارُ الهروبِ إلى الفندقِ مجرَّدُ نزوة، بل كان استغاثةً صامتة..استقلت سيارة اجرة بعشوائيةٍ وكأنها تحاولُ الهروبَ من شيءٍ يطاردها بلا هوادة، وصلت إلى أحدِ الفنادقِ وحجزت غرفةً عزلتها عن كلِّ ما يؤلمها..كانت الغرفةُ صغيرةً وهادئة، لكنَّها بالنسبةِ لها صارت كعالمٍ جديدٍ خالٍ من الذكريات.
جلست بشرفتها، تتأملُ الأفقَ الرماديَّ كأنَّها تبحثُ عن إجابةٍ أو علامة..رفعت هاتفها واتَّصلت بصديقتها، تحاولُ أن تُسكتَ صوتَ الوحدةِ الذي ينهشُ روحها:
-عاملة ايه حبيبتي
-اجابتها صديقتها بابتسامة:
-كويسة مجتيش ليه!!
زفرت باختتاق تنظر بالخارج قائلة:
-تعبانة شوية، وبفكر انقل من الجرنال دا، كنت عايزة منك تكلميها!!
-ليه بس..! حاضر هحاول اكلمه، بس تنقلي فين!!
"ياريت لو ينفع ينقلني إسكندرية...أنا بحبِّ الجوِّ هناك، بحس إنِّي قادرة أتنفس.."
قاطعتها صديقتها بصوتٍ مفعمٍ بالقلق:
"جوزك هيرفض يا ميرال، بلاش تتهوري..وبعدين متنسيش إنك حامل"
شعرت بوخزةٍ في قلبها عند سماعِ تلك الكلمات، لكنَّها تماسكت..رفعت يدها تفركُ جبينها المثقلِ بالأفكار، ثمَّ همست بصوتٍ شجيٍّ بالكادِ يُسمع:
"لا...معتقدش إنُّه هيرفض...أنا وإلياس انفصلنا"
انفجرت شهقةٌ مذهولةٌ من صديقتها، تبعتها كلماتٍ مرتبكة:
"إنتِ بتقولي إيه؟! إزاي دا حصل؟! وإنتِ فين دلوقتي؟ عند والدتك؟"
ابتلعت ميرال غصَّةً حارقةً وهي تنظرُ إلى السماءِ الملبَّدة، كأنَّها تنتظرُ هطولَ المطر ليغسلَ أوجاعها. أغمضت عينيها وأجابت بصوتٍ مهتز:
"سماح...بعدين مش عايزة أتكلِّم عن دا دلوقتي، المهم هبعتلِك طلب نقل وقدِّميه للأستاذ رشدي وشوفي ردِّ فعله"
"طيب حبيبتي، طمِّنيني عليكي.."
لم تستطع ميرال أن تكمل..دموعها كانت تقفُ خلف حاجزٍ هشٍّ على وشكِ الانهيار..ألقت نظرةً على شاشةِ هاتفها، وقالت بصوتٍ متقطِّع:
"مضطرة أقفل دلوقتي..."
استمعت إلى صوتِ غادة الذي جاءَ مشبعًا بالبكاءِ والعتاب:
"كده يا ميرال..هُنَّا عليكي؟! طيب إحنا ذنبنا إيه؟..مش فكَّرتي في مامتك؟! طيب مش فكَّرتي فيَّا؟! إنتِ زعلانة من إلياس، بس إحنا مالنا؟"
شعرت ميرال أنَّ كلَّ كلمةٍ من غادة كطعنةٍ في قلبها..أغمضت عينيها بقوة، لكنَّها لم تستطع كبحَ دمعةٍ انزلقت على خدِّها، ردَّت بصوتٍ مبحوحٍ يحملُ كلَّ وجعِ العالم:
"غادة... لو بتحبيني، متعمليش كده، أنا وإلياس خلاص مبقاش ينفع نكمِّل..الحياة بينا بقت مستحيلة، علشان خاطري، سبيني براحتي"
صمتت غادة للحظات، ثمَّ سألت بخفوٍت كأنَّها تحاولُ أن تتشبَّثَ بأيِّ خيطِ أمل:
"طيب...إنتِ فين؟"
نظرت ميرال حولَ الغرفة..الجدرانُ الباردة، والوحدةُ القاتلة، جعلتها تشعرُ بأنَّها عالقةً في قفص، لكنَّها أجابت بصوتٍ خافت:
"في فندق...مؤقتاً بس...بلاش تسأليني اسمه، مش هقولك"
توقَّفت لوهلة، ثمَّ أضافت بحزنٍ يشقُّ الصمت:
"لازم أقفل دلوقتي...لازم أنزل أشتري شوية حاجات"
أغلقت الهاتفَ قبل أن تمنحَ نفسها فرصةً للتراجع، احتضنت جسدها كأنَّها تحاولُ حمايةِ نفسها من السقوطِ في هاويةِ الوحدة، شعرت أنَّ الغرفةَ تضيق، وأنَّ الصمتَ يبتلعها...
نهضت من مكانها وفتحت حقيبتها التي جمعت بها بعضَ الأشياءِ المتعلِّقةِ بها، أخرجت جهازها المحمول، ودوَّنت به بعضَ الكلماتِ التي تشعرُ بها، دونَ أن يتطرَّقَ لعقلها فكرةَ وصولِ المنشورِ إليه..
ما أصعبَ الصمتُ حين يختزلُ في داخلهِ بركانًا من المشاعرِ المكبوتة، يتراقصُ على حافَّةِ الانفجار، إنَّهُ ذاك الصمتُ الذي يُثقلُ الروح، ويغمرُ الجسدَ بضغطٍ لا يُحتمل، كأنَّهُ يفتِّتهُ من الداخل..قد يبدو الصمتُ أحيانًا ملاذًا آمنًا من الصخبِ الخارجي، لكنَّهُ قد يتحوَّلُ إلى عبءٍ يُنهكُ النفسَ إذا طال.
فالتعبيرُ عن هذه العواصفِ الداخليةِ ليس ضعفًا، بل هو شجاعةً تهديكَ طريقًا نحوَ التوازن، شارك ما يثقلُ صدرك مع شخصٍ تثقُ به، أو امنح كلماتك مساحتها على الورق، فالكلماتُ أحيانًا تكون البلسمَ الذي ينقذُ الروحَ من الانهيار...أنهت تدوينها ثم ضغط عليها لتشاركها بصفحتها على مواقعها الإلكترونية الخاصة بها
ظلَّت لفترةٍ تعملُ على جهازها على بعضِ المقالات، إلى أن أنهتها، ثمَّ نهضت من مكانها تنظرُ إلى ثيابها وتذكَّرت عدم امتلاكها لأيِّ شيئ، حتى ثيابها تركتها وفرَّت هاربة..
أخرجت بطاقةَ الكريديت كارت وخرجت علَّها تتسوَّقُ بعضَ الأشياء، وصلت لأحدِ المتاجرِ المشهورة، وانتقت بعضَ الثياب، ثمَّ أخرجت بطاقتها للدفع، ولكنَّها توقَّفت تشعرُ ببرودةٍ تتسرَّبُ إلى جسدها حينما أردفت العاملة:
-آسفة ياهانم البطاقة متوقِّفة، أو ممكن مفيهاش فلوس.
هزَّةٌ عنيفةٌ كادت أن تسحبَ أنفاسها، هي لم تجلب معها أيِّ نقود، اعتمدت على راتبها وبطاقتها التي كانت تحتوي بعض النقود.
تراجعت متأسفةً وهي تحملُ غصَّتها، وقلبها الذي ارتجفَ من الألمِ وروحها التي تنكوي بداخلها، لقد أوقفَ وسائلَ حياتها لتخضعَ له، ماهذا الجبروت، لماذا يفعلُ بها هذا، هل هذا هو العشقُ الذي تغنَّى به بأحضانها، تحرَّكت بنزيفِ روحها، وجرحها الغائر، الغائرُ جدًا، لتشعرَ بقسوةِ من أحبَّتهُ ووهبت له قلبها، ظلَّت تتحرَّكُ وفكرها مشوشًا ماذا عليها أن تفعل، وقعت عيناها على إحدى المحلاتِ المشهورةِ بالمجوهرات..
توقَّفت أمامَ المحل، قلبها يئنُّ بثقلٍ لا يحتملهُ صدرها، ويديها ترتجفانِ كأنَّهما تحملانِ أكثر ممَّا تطيقان. ألقت نظرةً على ساعتها، ثمَّ على الأساورِ التي لطالما زيَّنت معصمها بفخر..أغمضت عينيها للحظة، وكأنَّها تحاولُ كتمَ صرخاتِ قلبها التي تتردَّدُ في أعماقها، ثمَّ نزعت الأساورَ بأنفاسٍ متقطِّعةٍ ووضعتها على طاولةِ المحل، همست بصوتٍ بالكادِ يُسمع:
"عايزة أبيع دول...لو سمحت."
التقطَ الرجلَ الأساورَ بتأنٍّ، يتفحَّصها بعينِ خبير، ثمَّ رفعَ بصرهِ إليها..كانت ملامحها رغمَ بريقها الباهت، تشيرُ بانتمائها إلى عالمٍ آخر...عالمِ الأرستقراطية والترف، لكنَّهُ كان يعلمُ أنَّ الأوقاتَ الصعبةِ تُسقطُ حتى العظماء. همسَ بتردُّد:
"فين فاتورتهم؟"
رفعت عينيها إليهِ بذهول، وكأنَّ السؤالَ كان طعنةً جديدةً في كبريائها التي بالكادِ كانت تتحمَّلُ المزيد:
"يعني إيه؟"
هزَّ رأسهِ بإشارةٍ تحملُ الشفقةَ أكثر ممَّا تحملُ الإجابة، ثمَّ وضعَ الأساورَ على الميزانِ وقال ببرود:
واحد بـ50 ألف، والتاني بـ100 ألف.
شعرت الأرضَ تتزلزلُ تحتَ قدميها، عجزت عن الردِّ للحظة، قبلَ أن تتمتمَ بصوتٍ مرتجف، بالكادِ يحملُ مزيجًا من الغضبِ والانكسار:
"إيه!!؟ "بس دول أغلى من كده بكتير...دول غاليين أوي!"
وضع الرجل الأساور أمامها ببرود، وكأن حديثها لا يعنيه:
"واللهِ ده السعر اللي عندي."
غرقت عيناها بالدموع، دموعٌ حارقةٌ حاولت جاهدةً ألَّا تسقط، ثمَّ هزَّت رأسها بالموافقةِ وكأنَّها تعلنُ هزيمتها في معركةٍ طويلة، دفعت الأساورَ باتجاههِ وقالت بصوتٍ مختنق:
"خلاص...أنا موافقة."
لكن فجأة، اخترقَ الموقفَ صوتًا حازمًا، يحملُ قوةً غريبة، صوتًا أثارَ ارتعاشِ قلبها أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخر:
"بس أنا مش موافق."
التفتت ببطء، وكأنَّها تخشى رؤيةَ صاحبِ هذا الصوت، كان يقفُ هناك يحملُ في عينيهِ نظرةً غاضبةً لكنها مفعمةٌ بحزنٍ عميق، مدَّ يدهِ وأمسكَ بالأساورِ بقوَّةٍ يقلِّبها، ثمَّ التفتَ إلى صاحبِ المحلِّ بنظرةِ ازدراءٍ قائلًا:
حاجة معدية 500 ألف...عايز تشتريها برخصِ التراب يا حرامي؟!..
جمدت الكلمات في حلقها، وصاحبَ المحلِّ لم يجرؤ على الرد، نظرت إليهِ بعينينٍ امتلأت بالذهولِ والدموع، وهمست بصعوبة:
"إنتَ؟"
اقتربَ منها، لم يكن في عينيه غضبٍ ، بل شيئًا أعمق...شيئًا أشبه بالشفقةِ الممتزجةِ بالعتاب، أمسكَ بيديها ووضعَ الأساورَ فيها قائلًا بصوتٍ يحملُ نبرةً لن تنساها:
-مشكلتك مش إنِّك محتاجة فلوس... مشكلتك إنِّك بتفرَّطي في اللي باقي من روحك وكرامتك يابنت عمي
صمتَ للحظة، تاركًا كلماتهِ تتردَّدُ في عقلها، ثمَّ أردف:
لو مضطرة، الدنيا فيها حلول تانية...لكن كده لأ..
تساقطت دموعها أخيرًا، وكأنَّها تعلنُ استسلامها أمامه، دموعًا ليست مجرد نزيفًا عاطفيًّا، بل شهادة على نهايةِ مرحلةٍ مليئةٍ بالمرارةِ والحزن.
هزته دموعها فتمتم بنبرة هادئة عكس مايشعر به:
-تعالي ياميرال، عيب لمَّا تكوني مرات إلياس السيوفي، وتيجي تبيعي مجوهراتك.
-عايز منِّي إيه ياحضرةِ الظابط، هوَّ اللي قالك تجي لي مش كدا؟..
ابتسمَ أرسلان على غضبها الظاهرِ بعينيها، ثمَّ اقتربَ لتتراجعَ خوفًا منه:
-لا جاي أفرَّحك بيا يابنتِ عمي، شكلك معرفتيش لسة..مش إحنا طلعنا ولاد عم..قالها وهو يضرب كفَّيهِ ببعضهما..
أفلتَ ضحكةً رجولية، ليبتسمَ قائلًا:
-معرفشِ إيه اللي حصل بينك وبين إلياس، بس اللي متأكِّد منُّه أنُّه بيحبِّك.
-عارفة من فترة إنك ابن عمي، رفعت عيناها إليه ثم فكرت لدقائق بعدما علمت أنها الخاسرة بالمعركة أمامه، وايقنت ذلك بعد وصول ارسلان إليها
-أرسلان..عايزة مساعدتك..
طالعها منتظرًا حديثها فأردفت:
-عايزة أنقل شغلي اسكندرية وأخوك هيرفض، إيه رأيك تساعدني..
-ومين قالِّك أنا موافق، تعالي نتمشى شوية ونشرب قهوة ونتكلِّم إيه رأيك؟..اعتبريني ابنِ عمِّك..
-ماهو يابنِ عمِّي، أبويا السبب في اللي أنتوا وصلتوا له.
توقَّفَ يطالعها لفترة:
-إنتِ كنتي عايشة معاه؟..
هزَّت رأسها بالنفي، ثمَّ أردفت:
-لا أنا كنت مع ماما فريدة.
-بس كدا إنتِ جاوبتي نفسك، بلاش أخدك بنظريةِ الطاووس جوزك..
وصلَ إلى أحدِ المقاهي الهادئة، دلفَ إلى الداخلِ تتبعهُ بخطواتٍ متثاقلة، كأنَّها تحملُ أثقالًا على كاهلها في لحظةِ صمت، دوى رنينُ هاتفهِ ليكسرَ الهدوء، رفعَ الهاتفَ ونطقَ بحروفٍ ثقيلة:
"أيوة..."
عيناهُ لم تفارقا ميرال، يراقبُ كلَّ إيماءةٍ تصدرُ منها، كأنَّهُ يبحثُ عن إجاباتٍ داخلَ ملامحها الشاحبة، لماذا وصلَ بهما الوضعُ لهذهِ الحالة، أيُعقل هو السبب، أم أنَّ إلياس أخذها بعقابِ راجح، هزَّ رأسهِ رافضًا وساوسه..استمعَ الى نبرةِ صوتهِ المتلهفة:
"لقيتها يا أرسلان؟" تساءلَ بها إلياس بقلبٍ ينتفضُ بالخوفِ عليها..
حاوطها أرسلان بنظراتهِ للحظات، ثمَّ قرَّبَ الهاتفَ إليها، يشيرُ لها بالرد..تردَّدت للحظة، قبلَ أن ترفعهُ بارتباكٍ وتجيبُ بنبرةٍ مثقلةٍ بالألم، ظنَّت أنَّ المتصلَ هي فريدة:
"أيوة يا ماما..."
تلك الكلمة التي خرجت من شفتيها بعفوية، أصابت قلبهِ كسهمٍ غادر، خانتهُ أنفاسه، وتضاربت دقَّاتُ قلبهِ بعنف، وكأنَّ العالمَ من حولهِ توقَّف، أغلقَ الهاتفَ سريعًا، وكأنَّ صوتها اختطفَ منه كلَّ قدرةٍ على التماسك...وضعَ الهاتفَ على الطاولة، وغمرهُ شعورًا غامرًا من الاشتياقِ واللوعة، ولكنَّ كبريائهِ حطَّمَ تلك الرجفة، أطبقَ على جفنيهِ بقوة، وكتمَ داخلهِ صرخةً أرادَ أن يطلقها...يقسمُ في أعماقهِ أنَّها لو كانت أمامهِ الآن، لاحتضنها حتى يتلاشى الألمُ من عروقها، وذابت بنيرانِ العشقِ الملتهب..
عند ميرال، رفعت حاجبيها باستفهامٍ خافت، وقالت بصوتٍ منكسر:
"دي مش ماما فريدة..؟"
نظرت إلى الهاتف، وعيناها وقعتا على اسمهِ المنقوشِ على الشاشة، توقَّفت لحظة، وارتسمت على وجهها ملامحَ دهشةٍ مؤلمة...أصابعها مرَّت فوق اسمه، وكأنَّهُ محفورٌ بحروفٍ من ذهب تشتعلُ تحت نيرانِ ذكريات الألم ..لم تستطع منعَ دمعةٍ انزلقت بخيانةٍ تحرقُ وجنتها، لكنَّها سرعانَ ما أبعدت يدها وكأنَّها تخشى الضعفَ والاشتياق..
حمحمَ أرسلان ليكسرَ الصمتَ الحارق، ألقت إليه الهاتفَ بعصبيةٍ مكتومة، وسحبت بصرها مبتعدة، تنظرُ حولها بعشوائيةٍ وكأنها تبحثُ عن شيءٍ يخلِّصها من دوامةِ مشاعرها.
"شوفي... من كام ساعة وبتعملوا في بعضِ كده؟ هوَّ هناك هيتجنِّن عليكي، وإنتِ هنا نفسك تطيري لعنده..طيب ليه الفراق؟"
رفعت وجهها إليه، وعيناها غارقتانِ في الدموع، وملامحها تحملُ خليطًا من الوجعِ والحزن:
"هتنسوا إنِّي بنتِ راجح، يا أرسلان؟ بنتِ الراجل اللي دمَّر حياتكم"
ردَّ عليها بصوتٍ عميقٍ هادئ، لكنَّهُ محمَّلًا بالحنانِ المغلَّفِ بالحزم:
"وإنتِ مالك؟ هو إنتِ كنتِ متفقة معاه؟ ولَّا خايفة عليه؟"
"لا ده ولا ده...بس أنا هفضل في نظرِ الكلّ بنتِ المجرم"
تنهَّدَ أرسلان، وصوتهِ هذه المرة كان يحملُ دفئًا غيرَ متوقع:
"حدِّ اختار أهله يا ميرال؟ وبعدين اللي عرفته إنِّ مدام فريدة هي اللي ربتك، حتى اسمك، مش مرتبط بيه"
وصلَ النادلُ يحملُ المشروبات، فوضعها على الطاولة، وكأنَّ صوتهِ أعطى فرصةً لها أن تستعيدَ تنفسها..
طالعها بعينينٍ ثاقبتين، وتابعَ ملامحها وهي تغرقُ أكثر في أعماقِ دوامةِ آلامها..رفعت عينيها المرتجفة:
"خلينا بعيد عن بعض أحسن" قالتها بنبرةٍ ضعيفة..
هزَّ رأسهِ بإيجاب، لكنهُ غير مقتنع:
"تمام... حقِّك تبعدي وتفكَّري بس بشروطي"
رفعت عينيها إليه مترقبة، وكأنَّها تعرفُ أنَّ كلَّ كلمةٍ ستأتي منه ستكونُ نقطةُ تحول..اقتربَ بجسدهِ من الطاولة، وعيناهُ تلتقيانِ بعينيها مباشرة:
"اعتبريني أخوكي الكبير...وعد منِّي، مش هفرض رأيي عليكي، بس نصيحة، بلاش تبعدي عن جوزك لأنِّك هتقعي..وأنا متأكِّد هتقعي"
قالت بنبرةٍ مريرة، أقربُ للبكاء:
"أنا معرفكش، بس مفيش قدَّامي غير إنِّي أسمع كلامك"
ابتسمَ ابتسامةً خافتة، ثم قال:
"تمام بس هتقعدي في مكان خاص بيَّا"
فتحت فمها لتعترض، لكنَّهُ رفعَ يده، يطالبها بالصمت:
"مكمِّلتش كلامي..هتقعدي تحتِ حمايتي، ومفيش نقلِ شغل انسي، لأن مهما عملنا، إلياس هيرفض وحقه"
نظرَ إلى بطنها التي بدأت ملامحُ الحملِ تظهرُ عليها، ثمَّ أكملَ بهدوءٍ يشوبهُ الحنان:
"عيشي زي ما إنتِ عايزة، بس تحتِ عيني ووعد...محدش هيقرَّب منِّك"
"وإلياس هيوافق؟"
نهضَ من مكانه، يرتدي نظارته، ثمَّ قالَ بنبرةٍ واثقة:
"لمَّا أرسلان الجارحي يوعد..بيوفي"
تراجعت خطوتين، وجسدها يترنَّحُ كأنَّ الألمَ كاد يهزمها..مدَّ يدهِ يمسكُ ذراعها قبل أن تسقط...رفعت عينيها إليه، نظرةٌ واحدةٌ كانت كافيةً لتبوحَ بكلِّ ما كتمتهُ داخلها..هزَّت رأسها بابتعاد، وهمست بصوتٍ خافت:
"شكرًا..."
أشارَ إليها بالتحرُّك، وتحرَّكت بخطواتٍ مثقلةٍ إلى الخارج...فتحَ سيارتهِ وأشار لها:
- هنعدِّي على الفندق، تاخدي حاجاتك وبعد كده هنعدِّي على الشقة.
تردَّدت للحظة، لكنَّهُ حسمَ الأمرَ بنبرةٍ صارمة:
"معنديش وقت على فكرة.."
بعد فترةٍ قصيرة، توقَّفت السيارةُ أمام حيٍّ راقٍ يلفُّهُ الهدوءَ والأناقة..ترجَّلَ أرسلان من السيارةٍ بخطواتٍ واثقة، أشارَ إلى المنزلِ أمامهما قائلاً:
"دا بيتي"
رفعت ميرال عينيها، تحدِّقُ في اللافتةِ التي يتصدَّرها اسمه..كان مكتوبًا بخطٍّ واضحٍ وقوي، وكأنَّهُ يريدُ أن يثبتَ حضورهِ في كلِّ مكانٍ يمرُّ به، لم تتمكَّن من إخفاءِ ارتجافةٍ خفيفةٍ في نظرتها، قبل أن يتابعَ حديثهِ بنبرةٍ هادئة:
"غرام فوق، هتقعدي معاها شوية لحدِّ ما أظبَّط لك الشقة"
تردَّدت لوهلةٍ قبل أن تقولَ بصوتٍ يحملُ مغزىً مخفيًّا:
"الشقة دي بعيدة؟"
ابتسمَ أرسلان، تلك الابتسامةِ التي تحملُ مزيجًا من السخريةِ والحنكة:
"لا، مش بعيدة متخافيش، الشقة بتاعتي، مش بتاعته وعيب تختبري ذكائي، تمام أيتها الصحفية؟"
رغمًا عنها، أفلتت ابتسامةً صغيرةً من شفتيها، ثمَّ تحرَّكت بجواره، تسيرُ بخطواتٍ متردِّدة توقَّفت فجأة، وقالت برجاءٍ خافت:
"أنا بعتِّ طلب نقلي اسكندرية، وطبعًا إنتَ أكَّدت أنُّه هيرفض، فأنا هنقل من الجريدة دي مش عايزة مكان لإلياس له يدِّ فيه"
رفعَ حاجبهِ بدهشةٍ مصطنعة، وردَّ بنبرةٍ مشحونةٍ بالسخرية:
"ياااه، دا إنتِ بتكرهيه بدرجة لا توصف!"
توقَّفت مكانها، وقالت بصوتٍ يخنقهُ الحزن:
"مش كره على قدِّ ما عايزة أعتمد على نفسي...بعيدًا عن سلطته"
استدارَ أرسلان نحوها، ونظراتهِ أصبحت أكثرُ جدية، وكلماتهِ خرجت كأنَّها إنذار:
"وتفتكري مش هيعرف يوصل؟ إنتِ حامل في ابنه..ياريت متنسيش الحتة دي، وقبلِ دا كلُّه، إنتِ بنتِ عمُّه"
ابتلعت ميرال الكلمات التي احتشدت في حلقها، وسارت بخطواتٍ مثقلةٍ نحو الباب..لم يكن جسدها فقط من يحملُ ثقلَ الألم، بل روحها أيضًا..توقَّفت أمام الباب، تهمسُ بصوتٍ بالكادِ يُسمع:
"هكون طليقته وبس، أنا مش بنتِ الراجل دا..مفيش علاقة تربطني بيه ولا عايزة أعترف بيه، أنتو اعترفوا براحتكم ومش هيربطني بيكم غير الولد اللي في بطني"
قالتها وكأنَّها تحاولُ أن تمنعَ ارتعاشةِ جسدها..لكنَّها لم تستطع منع تلك النبرةِ الموجوعةِ من أن تتسرَّبَ إلى مسامعه.
كان خلفها، يراقبُ كلَّ خطوةٍ وكلَّ كلمةٍ لم يرد عليها وسارَ بصمت، لكنَّهُ كان يعلمُ أنَّ خلفَ حديثها المكسور تحملُ داخلها قوةً دفينة، رغم كلِّ الجروح، ليهمس لنفسه
"شكلنا هندفع كتير على الماضي يابنت عمي، وللأسف اكتر حد هيدفعه إنتِ وإلياس، ياترى ايه اللي حصل وصلك لكدا"؟!
في منزلِ يزن، كان الهدوءُ يغلِّفُ المكان، إلَّا من صوتِ أوراقِ الكتبِ التي تقلِّبها إيمان..بينما يحاولُ يزن إنهاءَ درسها، أطفأَ صوتَ قلبهِ الذي يضجُّ بالأشتياق، وهو ينظرُ إليها بعيني أخٍ يكتمُ قلقهِ خلف قناعِ الصبر.
بعد أن انتهى من تدريسها، اتَّجهَ نحو غرفتهِ بخطواتٍ مثقلة...استوقفتهُ إيمان بنبرةٍ مترددِّة:
"يزن، مش هتروح لرحيل؟"
توقَّفَ في مكانه، وكأنَّ كلماتها طعنت شيئًا عميقًا داخله، هزَّ رأسهِ نفيًا، ثمَّ أشارَ بعينيهِ إلى كتبها، محاولًا التظاهرَ بالقوة:
"ذاكري يا حبيبتي متفكريش غير في مستقبلك وبس...يومين كدا وأروح لها."
رأى التردُّدَ والقلقَ في عينيها وهي تنهضُ من مكانها لتقتربَ منه، صدى مشاعرها وصلَ إليه رغمَ صمتها:
"يزن...هوَّ أنتوا هتسيبوا بعض فعلًا؟"
كانت كلماتها مثلَ جرحٍ ينفتحُ من جديد، أمسكَ بسجائرهِ ومفتاحَ دراجته محاولًا أن يشغلَ يديهِ بما قد يصرفُ تفكيره..لم يكن لديهِ إجابة شافية فحاولَ التهرُّب:
"هروح أشوف كريم وإنتِ...ركِّزي في أوَّل درسين في الفيزياء، مفيش وقت للِّعب والهزار ولو رحيل كلِّمتك، قولي لها أنا برة"
اقتربَ منها أكثر، وكأنَّ بحنانهِ كان يحاولُ أن يطمئنها رغم القلقَ الذي ينهشُ قلبه، طبعَ قبلةً على جبينها وربتَ على كتفها:
"اهتمِّي بمذاكرتك، إيمان..كلِّ حاجة هتتحل"
قالها وهو يغادرُ بخطواتٍ ثقيلة، وكأنَّما يهربُ من ثقلِ الحقيقة.
وصلَ بعد قليلٍ إلى عيادةِ صديقهِ كريم.. انتظره بصمت، يراقبُ الساعةَ وكأنَّ الوقتَ يعاندُ افكاره، خرجَ كريم أخيرًا من مكتبه، وارتسمت على وجههِ الدهشة حين رآه:
"ليه مقولتليش يا بني؟!"
نهضَ يزن من مكانه، ابتسامةًً باهتةً ترسمُ وجعه:
"استنيتك لمَّا تخلص..لو فاضي، نقعد شوية قبلِ ما تروح، أنا محتاج أفهم منَّك أكتر في موضوع إلياس السيوفي..كنت عايز اسألك، لكن بعد موتِ مالك، الأمور اتلخبطت"
خلعَ كريم معطفهِ الطبي بتعب، ونادى على الممرضة:
"لمِّي الحاجات واقفلي، أنا ماشي..لو احتجتي حاجة، كلِّمي البواب"
تحرَّكَ كريم معه، وكأنَّ الحزنَ الذي يثقلُ أكتافَ يزن صارَ يشاركهما الطريق.
في المقهى، جلسا بصمتٍ لدقائق، كان صوتُ ارتطامِ الملاعقِ بالأكوابِ هو الوحيدُ المسموع، أخيرًا كسرَ كريم الصمت، وهو يديرُ كوبهِ ببطء:
"رحيل...عاملة إيه؟"
ردَّ يزن بنبرةٍ هادئةٍ تخفي عاصفةً الحب في داخله:
"كويسة، امبارح خرجت من أوضتها، والنهاردة نزلت الشغل"
هزَّ كريم رأسهِ بتفهُّم، لكنَّ عينيهِ كانتا تبحثانِ عن شيءٍ آخر..سأل بتمعُّن:
"وراجح؟"
تنهَّدَ يزن بعمق، وكأنَّ الإجابةَ كانت عالقةً في صدره:
"مالوش ظهور..معرفشِ مختفي فين،
بمكتب إلياس
ارتفعت ضحكاتُ إلياس وهو يراهُ بتلك الحالة، نظرَ شريف إلى الشاشةِ يهزُّ رأسهِ بفرحة:
-ضربتها يامعلم، بس قولِّي إيه الفايدة من كدا، وإيه الِّلي بينك وبين الراجل دا؟..
نفثَ تبغهِ وابتسامةُ انتصارٍ على وجهه، يشيرُ إلى شريف:
-ادخل بالضربة التانية، مش عايزه يقوم منها، ياله عندي شغل..
استندَ شريف على المكتبِ ينظرُ إليه:
-ماتقولِّي يابحر وتفهمِّني، مش يمكن أتعلِّم منَّك..
اعتدلَ مقتربًا منه:
-البحر عميق يابني، عايز سبَّاح ماهر علشان مايغرقش..مش كلِّ الِّلي بيعرف يعوم يوصل الشطّ ياحبيبي، ياله على شغلك..قطعَ حديثهما رنينَ هاتفه، رفعهُ لترتفعَ ضحكاتهِ مرَّةً أخرى:
-كنت عارف إنَّك هتتِّصل.
-إنتَ ورا الِّلي حصل؟..
نصبَ قامتهِ وتوقَّفَ إلى النافذة ينظرُ إلى مرورِ المارَّة، ينفثُ تبغهِ بتمهُّل كالفائزِ بجائزتهِ وأجابه:
-ولسة، دا أوَّل مسمار.
-ليه، تساءلَ بها أرسلان..
-متقدِّم لمجلسِ الشعب، ودا لو نجح وعارف هينجح من الناسِ اللي وراه، مكناش هنقدر عليه، فكان لازم أوقَّعه قبلِ مايفكَّر هيعمل إيه وكمان عايز أبعده عن مجتمعه، بدل مايؤمروا بقتلنا ويصفُّونا لأ يبعدوه عنهم، علشان مانحاربشِ في كذا جهة، لو راجح فضل تبع الناس دي مش هنقدر عليه ياأرسلان، مش علشان إحنا ضعفا، لا، علشان إنتَ مش عارف بتحارب مين، عدوُّك مش واضح، فهمتني، علشان كدا لازم نحسب كلِّ خطوة، إحنا دلوقتي هنقعد ونتفرَّج هيعملوا فيه إيه، من جهة مش هيقدروا يموِّتوه، علشان هوَّ ماسك عليهم أنفاسهم، متنساش دا كان ظابط..
تنهيدةٌ عميقةٌ أخرجها أرسلان قائلًا:
-أنا مش عارف أفكَّر أصلًا، دماغي فيها مليون حاجة..
تذكَّرَ أمرَ والدهِ فسأله: نسيت أسألك لسة باباك في غيبوبة؟..
أجابهُ بنبرةٍ حزينة:
-لسة للأسف، ومرعوب من فكرة فقده دي، أصلك متعرفوش دا أحنِّ راجل في الدنيا، ميغركشِ صورُه ومقالاته اللي بينزلِّها، بس قلبه كبير أوي ياإلياس، أنا بجد لو حصلُّه حاجة مش عارف هعيش إزاي من غيره..
-لا إن شاءالله، هيقوم بالسلامة، هيَّ العملية كانت كبيرة، تعرف احنا ولاد حلال على رأي مدام فريدة
-هو إيه موضوع مدام فريدة دا يابني، يعني حتى بعد ماعرفت أنها والدتك..صمتَ للحظاتٍ ليشتت تفكيره ثمَّ تساءل:
-ميرال عملت معاها إيه؟..
-في بيتي مع غرام.
-ليه بقى أخدتها هناك، مش قولت لك ودِّيها الشقة.
تراجعَ بجسدهِ على المقعدِ وذهبَ ببصرهِ لوقوفِ إسحاق أمامَ النافذةِ وأجابه:
-مراتك ذكية وفهمت كنت هودِّيها شقِّتك، علشان كدا وعدتها.
-نعم ياأخويا، إنتَ بتقول إيه؟..يعني تقعد عندك بصفتها إيه، ليه جوزها مش قادر يعيِّشها..قالها مزمجرًا، ثمَّ تابعَ حديثهِ بنبرةٍ قوية:
-تقعد في الشقة اللي قولت لك عليها، يا في البيت ياأمَّا هقلب لها وشِّ عمرها ماشافته.
-خلَّصتِ كلامك، يعني مثلًا لمَّا تقولَّها كدا، هترضى، يابني دي خرجت على أساس انفصلتوا، يعني مفيش حاجة تربطكم.. وأنا وعدتها هساعدها
-أرسلان فوق واعرف بتتكلِّم مع مين، آخر كلام الِّلي سمعته، غير كدا ترجع البيت ياأمَّا وحياة حبِّي ليها لأكرَّهها نفسها، متنساش إنَّها حامل في ابني..
-لا واللهِ طيب لمَّا إنتَ بتحبَّها وهتموت كدا، إزاي خلِّيتها تخرج من بيتك وهيَّ بالشكلِ دا، أنا الصراحة مش عارف أقولَّك إيه، البنتِ صعبت عليَّا، عايزة اللي يحسِّسها بالأمان مش اللي يدوس..
-خلَّصت كلامك، اسمعني علشان دا آخر حاجة هتسمعها منِّي في الموضوع دا، طول ماهيَّ لسة على اسمي ممنوع تخرج برَّة طوعي، وعلى ماأظن دينها بيقولَّها كدا..
-بتحبَّها؟..تساءلَ بها أرسلان بهدوء.
-مالكشِ دعوة، ومش معنى طلبت إنَّك توصلَّها يبقى أنا عاجز، أنا بس عايز أعرَّفها حدودها..
-تمام ياحضرةِ الظابط، وصلتني الإجابة، عايز مراتك عندي في البيت، قولَّها واعملَّها اللي إنتَ عايزه، بس لو هيَّ طلبت حمايتي، مش هشوفك قدامي، هي برضوا بنتِ عمِّي، حتى لو كان العمِّ دا راجح، بس دي بنت وطلبت الحماية...قالها أرسلان وأغلقَ الهاتف.
دقيقةٌ واحدةٌ محاولًا بها السيطرةَ على أعصابه، فلقد أثارَ حديثهِ جنونه، ليتحوَّلَ غضبهِ إلى عاصفةٍ جنونية، أشعلت فتيلَ الشياطينَ أمامه، ليتحرَّكَ بخطواتٍ ناريةٍ وكأنَّهُ يضغطُ على بنزينٍ يزيدُ اشتعالَ جسدهِ بالكامل..
رفع أرسلان هاتفه
-إلياس رافض تقعدي عندي، لو عايزة اقف له أنا مستعد
-لأ خلاص، أنا هتصرف، وشكرًا لمساعدتك
تنهد بعمق ثم أردف:
-ميرال إلياس بيحبك اوي صدقيني، ممكن يكون غلط، بلاش تمشي ورا شيطانك
-شكرًا ارسلان، هفكر وارد عليك
وصلَ بعد فترةٍ وظلَّ بالسيارةِ لبعضِ الدقائقِ ثمَّ رفعَ هاتفه:
-أنا قدَّام بيت أرسلان، دقيقة وألاقيكي بدل ماأطلع أجيبك.
نهضت من مكانها معتذرةً لغرام:
-شكل أرسلان مقدرشِ عليه فعلًا، هنزلُّه علشان عارفة أنُّه مش هيسكت.
احتوت غرام يديها:
-حبيبتي أهمِّ حاجة متزعليش، وبدل جه صدَّقيني بيحبِّك وباقي عليكي..
ابتسمت بحزن، وعيونٍ لامعةٍ بالدموع:
-عارفة أنُّه بيحبِّني، ياريته يكرهني..قالتها وخطت إلى الخارج، بخطواتٍ هزيلة، وصلت إلى سيارتهِ وصعدت بجوارهِ دون حديث..
-إزاي تخرجي بالطريقةِ دي؟..
رفعت عينيها الجريحتين، وخرجَ صوتها كالخطوطِ المتعرِّجةِ بهمس:
-خوفت النصِّ ساعة يعدُّو، وترميني برَّة..لحظاتٍ مميتةٍ ليستوعبَ مااخترقته أذنهِ من حديثها..
قبضةٌ مميتةٌ قيَّدت جسدهِ حتى جعلتهُ كالمسحور، فارتفعت أنفاسه حتى شعرَ بالأشواكِ تجرحُ رئتيه، منذ متى وهي تظنُّهُ بتلك القسوة، هل هو من قسى أم هي؟..
استدارَ ينظرُ من نافذةِ السيارةِ بعد فتحها بالكامل، حينما شعرَ وكأنَّ العالمَ يطبقُ فوق صدرهِ من كلماتها المميتة، صمتًا مريرًا لدقائقَ بالسيارةِ وهو عاجزًا عن التفوُّه، ثمَّ قالَ بصوتٍ أجش هادئ يحملُ في طياتهِ العقلانية:
-أنا موافق على اللي إنتِ عايزاه، بس برضو متنسيش إنِّك حامل ومينفعشِ تكوني بعيدة، عندك البيت، وكمان فيه شقة ممكن تستقرِّي فيها، ومش هحاول أضايقك، وبعد ماتولدي هعملِّك اللي إنتِ عايزاه.
نكست رأسها للأسفلِ بوجعِ العالم، تحاولُ ألَّا تضعفَ أمامهِ وتخونها دموعها..ظلَّت صامتة..جامدة
بجسدها تمنعُ أشباحَ الانهيارِ أمامه..
-ميرال...أغمضت عينيها بعد رعشةٍ أصابت جسدها من صوتهِ الخافتِ الذي هزَّها بقوة..
رفعَ ذقنها برفقٍ بعدما شعرَ بالقلقِ من حالتها.
رفرفت أهدابها تمنعُ النظرَ إلى عينيهِ حتى لا تهوي مرَّةً أخرى في لجَّةِ عشقه..
كرَّرَ اسمها بنفسِ نبرتهِ الرجولية،
فخرج صوتها شاحبًا، يحملُ انكسارَ روحها الذي جنتهُ يداه:
-حاضر ياإلياس، هعمل اللي إنتَ عايزه، بس عايزة أكمِّل شغلي، عايزة حياتي أبنيها أنا بنفسي، أتمنَّى تحترم خصوصياتي..
-وابنك ضمن خصوصياتك دي، يعني لسة مصرَّة على إنِّك تتنازلي عنُّه؟..
دموعًا حارقةً ممزوجةً بحروفِ الألمِ والانهيارِ الذي تشعر به لتهزَّ رأسها بالنفي:
-لا..ابني ليا، ممكن أكون قولتها وقتِ غضب أو ضيق منَّك، بس مستحيل أتنازل عنُّه، انسى أيِّ كلمة قولتها..قالتها واستدارت تنظرُ من النافذة..
لم يستطع كبحَ مشاعره في تلك اللحظة..
بالمشفى:
كان يجلسُ بجوارِ فراشِ أخيه، يحتضنُ كفَّيهِ يحادثه:
-فاروق هتفضل لحدِّ إمتى، أوعى تسيب إسحاق، أخوك في دوامة، فوق علشان أقولَّك أحلام عملت إيه، وإيه اللي وصَّلني أكون معاها كدا، دمعةٌ تسلَّلت على وجنتيهِ ليزيلها سريعًا، ثمَّ رفعَ كفَّ أخيهِ يقبِّله:
-فاروق أنا من غيرك بضيع، أوعى تفكَّر أخوك قوي، قوِّتي فيك، علشان خاطري لازم تفوق..ابتسامةٌ من بينِ أحزانهِ مردفًا:
-أرسلان مش هيسيبنا وأنا اتكلِّمت معاه، وهوَّ وعدني..ذهبَ بذاكرتهِ لقبلِ يوم ..
جلسَ إسحاق بجوارِ أرسلان متسائلًا:
-رحتِ بيتِ السيوفي؟..
أومأ برأسه، ثمَّ رفعَ عينيهِ على صفية فنهضَ من مكانه:
-هشوف ماما، لازم تروح ترتاح، كدا ممكن توقع من طولها..نصبَ قامتهِ وتوقَّفَ بمقابلته:
-لسة زعلان مني؟!
-إحنا لسة متحاسبناش ياسيادةِ العقيد.
أطبقَ إسحاق على كتفهِ واقتربَ يهمسُ بهسيسٍ مرعب:
-اسمعني علشان مجبشِ أخري منَّك، الدنيا كلَّها فوق دماغي، إنتَ ابنِ الجارحي، غصب عن أيِّ مخلوق، غصبِ عنَّك إنتَ كمان، فياريت تعقل لأنِّي مش هسمح إنَّك تبعد عن حضني، اقتربَ خطوةً أخرى واستأنفَ بنبرتهِ المزعجة كما ظنَّها أرسلان:
-أنا اللي ربيت يابنِ فاروق، وأنا اللي كبَّرت وعلِّمت، يعني من الآخر كدا أنفاسك دي مش ملكك دي ملكي أنا، فياريت متتهورش، ممنوع يابنِ فاروق الصحافة تشمِّ خبر، أو تكلِّم نفسك وتقنعها إنَّك مش ابننا، كفاية أبوك اللي بين الحيا والموت، بصِّ على أمَّك وأختك وخدهم في حضنك..
ابتعدَ أرسلان وابتسمَ بمرارةِ مايشعرُ به:
-أختك، هوَّ حضرتك نسيت فاروق باشا قال إيه؟..
طالعهُ بعينيهِ الصقريةِ وهتفَ يوبِّخه:
-مايقول، ماهو طول عمره بيقول، من إمتى وإحنا بنسمع كلامه، إنتَ هتستعبط على إسحاق يالا، دا إنتَ محدش يقدر يقولَّك تعمل إيه، كلمتين قالهم وهوَّ خايف يموت ويسيب بنته، وأنا عارف قال كدا ليه، بس مش معنى قال كدا هتنفِّذ، كنت نفِّذتِ القديم ياخويا، مش تلعب على إسحاق علشان ممكن أغرَّقك يابنِ فاروق..قاطعَ حديثهم رنينَ هاتفه:
-أرسلان غرام كانت عندنا ووصَّلتها، هيَّ مارضيتشِ تقول مالها، بس ياريت تشوفها علشان صعبانة عليَّا..
-تمام يازياد، سلملي على باباك..قالها واستدارَ قائلًا:
-هروح أشوف مراتي اللي حضراتكم ناويين تكسروها.
-أيوة إجري ياحنيِّن، وحياة أبوك اللي جوا دا ممكن أقولَّها كلمتين أخلِّيها تخلعك من الصبح.
خرجَ من شرودهِ بعدما ربتت صفية على ظهره:
-قاعد كدا ليه ياحبيبي؟..رفعَ عينيهِ إليها ثمَّ نهض:
-هروح أشوف دينا شوية، رجعتِ البيت من يومين ومشفتهاش وبتَّصل مابتردش..
أومأت متفهِّمة، تحرَّكت متَّجهةً إلى أرسلان الذي يجلسُ بجوارِ ملك، توقفت بعدما استمتعت إلى حديثه، وخلفها كانت تقف مثلها غرام
-ملوكة عايز أتكلِّم معاكي في حاجة حبيبتي..نكست رأسها مبتعدةً عن نظراتهِ لتهمسَ بخفوت:
-سمعاك ياأبيه.
رفعَ ذقنها ونظرَ لداخلِ مقلتيها، وابتسمَ بحنانٍ أخوي:
-أيوة دا اللي أنا عايزه، أبيه، أنا دايمًا هكون أرسلان أخو ملاكه، اللي لو طلبت حياته مستحيل يتأخَّر عليها.
انسابت عبراتها تهزُّ رأسها وابتسمت:
-أيوة أنا عايزة كدا، عايزة أبيه أرسلان حبيبي اللي أقدر أنام في حضنه من غير خوف، عايزة أخويا، مش عايزة كلام بابا دا، أنا مستحيل أشوفك غير إنَّك أخويا حبيبي..
ارتجفَ جسدهِ لحديثها، فجذبها لأحضانه:
-وعد هفضل أخوكي اللي يحميكي حتى من نفسه، ملاكي حبيب قلبي إنتي..
حاوطت عنقهِ وارتفعت شهقاتها:
-أنا بحبَّك أوي ياأبيه أرسلان، أوعى تسيبنا، لو فكَّرت تبعد عنِّنا هشكيك لربنا.
كانت تقفُ على بعدِ خطوةٍ لتستمعَ إلى حديثهما، بكت بصمتٍ متراجعةً إلى غرفةِ زوجها، بينما تحرَّكت غرام بهدوءٍ وغادرت المكانَ دونَ حديث.
بسيارةِ إسحاق:
استمعَ إلى رنينِ هاتفه، رفعهُ بعدما وجدَ اسمها يُنقشُ فوق الشاشة:
-كنتي فين؟..اتَّصلت بيكي، إزاي تخرجي من غير ما تقوليلي؟..
استمعَ إلى بكائها وصرخاتها:
-الشقة ولَّعت ياإسحاق وابننا جوا..توقَّفَ فجأةً بالسيارةِ حتى كادت أن تنقلب، فاصطدمَ جسدهِ للأمام، لحظات بل دقائق وهو يستعيدُ وعيه، ارتجفَ جسدهِ بعدما تذكَّرَ حديثها، بحثَ عن الهاتفِ الذي سقطَ من يدهِ ولكنَّهُ لم يراه، فأسرعَ بسيارتهِ كالعاصفةِ الهوجاء، ليصلَ بعد دقائقَ معدودة، ترجَّلَ من السيارةِ بساقينِ مرتعشتينِ وهو يرى اللهيبَ الخارجَ من الشرفة، من يراهُ يقسمُ أنَّ كلَّ ما بداخلها أصبحَ رمادًا، هرولَ للداخل، وتمنَّى أن ينقذَ ابنه، ولكن منعهُ رجالُ الإطفاء، صرخَ يدفعهم وهو يشيرُ إلى منزله، وقعت عيناهُ على زوجتهِ التي تجلسُ بجسدٍ مرتجفٍ بأحدِ الأركان، وصلَ إليها بخطوةٍ واحدة، يجذبها بعنف:
-ابني فين ياحيوانة، دي الأمانة اللي أمِّنتك عليها، بكت بشهقاتٍ مرتفعةٍ تهزُّ رأسها رافضةً حديثه:
-معرفشِ إيه اللي حصل، أنا عايزة ابني ياإسحاق..هوت على الأرضيةِ تبكي وتصرخُ باسمِ ابنها كالمجنونة:
-أنا عايزة ابني، هاتلي ابني..
وصلَ أحدُ رجالِ الإطفاء، وهو يحملُ جثَّةَ طفلٍ متفحمة، يشيرُ للجميعِ بالبعد، ليستقبلهُ أحدُ الأطباء، نظرةٌ سقطت على جسدِ الطفل، ليهزَّ الطبيبُ رأسهِ بأسى:
"البقاء لله"..هنا شعرَ وكأنَّ أحدهم سكبَ عليهِ دلوًا من الماءِ المثلجِ ليرتجفَ جسدهِ بالكاملِ وهو يمدُّ يدهِ يلمسُ جسدَ ابنهِ الذي فقدَ ملامحه، انسابت دموعهِ بقهر، متراجعًا للخلفِ وكأنَّ أنفاسهِ سُحبت بالكامل، بينما دينا التي سقطت فاقدةً الوعي..
وصلَ أرسلان بعد سماعهِ الخبر، ركضَ من سيارتهِ إلى إسحاق، توقَّفَ ينظرُ في وجوهِ الجميعِ الذين تبدو الشفقةَ بأعينهم على إسحاق، اقتربَ منه:
-عمُّو إيه اللي حصل؟..لم يعد يستمع لشيء، سوى صرخاتِ ابنهِ التي تصمُّ أذنيه.
مرَّت الأيامُ سريعًا، بل الأسابيعُ والحالُ كما هو بين أبطالنا..
بأحد الشقق الراقية فتحت عيناها تنظر حولها تهمس باسم عشيقها، ولكن هبت فجأة من مكانها وهي تراه يجلس أمامها بشخصيته القوية، جذبت الغطاء على جسدها، ونظراتها تحوم المكان برعب
-"اهلًا يامدام رانيا "
ابتلعت ريقها بصعوبة وحاولت الحديث
-إنت ازاي تدخل شقتي وكمان اوضة نومي اتجننت..نصب قامته بتكبر، ثم أشار إلى الكاميرا المعلقة بأحد اركان الغرفة
-أنا ماشي، واستني مني تليفون يازيالة، علشان اقولك عايز ايه
-صرخت باسمه كالمجنونة
-إلياس لو سمحت بلاش تعمل فيا كدا، أنا مهما كان مرات عمك
أنحنى يطبق على شعرها حتى شعرت باقتلاعها بيديه
-مرات عمي مين ياحيوانة، دا لو طايل اغير دمي هغيره، بصق بوجهها ثم اعتدل
-استني مني تليفون، يااما الجمال دا هينور الصحافة، واهي الستات تتعلم من الخبرة ..قالها وتحرك للخارج يشير للرجل
-خدو الحيوان دا علشان عايزه، وبعد خروج الست شمعوا الشقة
عند راجح
حاول الاتصال بها عديد من المرات، ثم رفع هاتفه لأحد الأشخاص
-المرة اللي فاتت غلطي معايا، بس المرة دي لو غلطي هدفنك حية، روحي نفذي المطلوب، عايز بالليل الاقي البنت عندي تطلب السماح، وقتها بس مكافأة مكنتيش تحلمي بيها، غير طبعا مبروووك عليكي عريس الغفلة
بفيلا السيوفي
جلست بجواره ترتشف قهوتها ثم تحدثت
-لازم اجمع رؤى وميرال ويزن يامصطفى، لازم يعرفوا انهم اخوات
اومأ لها ثم أردف
-كلمتي ميرال، هي عاملة ايه دلوقتي
ابتسمت بفخر واجابته
-ماشاء الله عليها، طبعًا متابع اخبارها، ومقالاتها اللي مكسرة الدنيا، والله خايفة عليها حبيبتي، مكنتش اتوقع تنجح في الوقت دا
-بالعكس الواحد لما يحس أنه بيخسر، بيكون عنده عزيمة، متخافيش عليها انا مراقبها كويس
-طيب ماتحاول مع إلياس يروح ويرجعها، مااتوقعتش يسبها الوقت دا كله، داخلين على شهرين وهما بعيد عن بعض
-سبيهم يافريدة، خلي قلوبهم اللي تقربهم مش إحنا، ابنك صعب ومش هيتنازل، وهي قررت تبني حياتها بعيد عن الكل، انا سعيد باللي بتعمله
استمعوا إلى دخول غادة
-رؤى كلمتني وطلبت مني عنوان ميرال، قال عايزة تطمن عليها
ابتسمت فريدة بحنان وتمتمت بحبور:
"شوفت قلبها حن على اختها من غير ما تعرف حتى"
هي مين دي اللي اختها ياماما
ابتسمت قائلة:
-رؤى وميرال اخوات
-نعم ..قالتها بعيونًا متوسعة
بمنزلِ ميرال استيقظت تشعرُ بألمٍ أسفلَ بطنها، فرفعت هاتفها تهاتفُ صديقتها:
-سماح أنا تعبانة مش هجي النهاردة، أجابتها صديقتها على الطرفِ الآخر:
-ولا يهمِّك ياجميل، أنا هحضر بدالك، نسيت أقولِّك حاجة مهمَّة، عارفة رجل الأعمال المشهور اللي اسمه راجح الشافعي اللي كان اتعملُّه مقال من فترة؟..
اهتزَّ جسدها بعنف، وكلماتُ صديقتها تحرقُ روحها، بل احترقَ كلَّ الصبرِ لديها لما تتمنَّاهُ لهذا الرجل، ابتلعت غصَّتها المدببةِ متسائلةً بلسانٍ ثقيل:
-ماله الراجل دا؟..قالتها وهي تحاوطُ بطنها بعدما شعرت بألمٍ يكادُ يفتكُ ببطنها:
- صوتك ماله حبيبتي؟..نسيت أسألك إنتِ في الشهرِ الكام دلوقتي؟..
دموعُ فقط تنسابُ على وجنتيها، حاولت النهوضَ بعدما ازدادت آلامها قائلة:
-أوَّل أسبوع في التامن بس حاسة إنِّي تعبانة أوي، هتَّصل بماما نروح للدكتورة بالليل
قاطعتها صديقتها قائلة:
-حبيبتي متخافيش دا العادي في التامن، كنت أسمع من أختى الطفلِ بيلفّ فبيعمل كدا..استندت على الأشياءِ التي تقابلها، وأردفت بأنفاسٍ ثقيلة:
-ممكن حبيبتي، المهمِّ دلوقتي شيلي إنتِ الشغل، أنا مينفعشِ أشتغل تاني غير لمَّا أولد، ابني دلوقتي أهمِّ حاجة، وعرَّفي رئيسِ التحرير..قالتها وأغلقت الهاتفَ متَّجهةً إلى حمَّامها كي تنعش َنفسها بحمَّامٍ دافئٍ علَّ الآلامَ تهدأُ قليلًا.
بعد عدَّةِ ساعات:
هدأ الألم فجلست بحديقةِ منزلها تستنشقُ بعضًا من الهواءِ النقي، تستمعُ إلى الموسيقى الهادئة، اقتربت منها الخادمة:
-مدام العصير..
أشارت إليها بوضعهِ ثمَّ رفعت عينيها إليها:
-جهِّزي نفسك علشان هنروح للدكتور بعد ساعتين، أنا هنزل أسبح شوية في البيسين..
-حاضر يامدام ..قالتها وتحرَّكت مغادرة.
نهضت وخطت بعضَ الخطوات، لتتوقَّفَ على حديثِ الخادمة:
-مدام فيه واحدة اسمها رؤى عايزة تقابل حضرتك..
قطبت جبينها متراجعةً بجسدها تنظرُ إلى رؤى التي تقدَّمت منها:
-إزيك ياميرال؟..
رسمت ابتسامةً تهزُّ رأسها:
-أهلًا يارؤى اتفضَّلي، ثمَّ أشارت للخادمة:
-تشربي إيه؟.
جلست رؤى وأردفت قائلة:
-لا مش عايزة أشرب، أنا جيت أتكلِّم معاكي علشان عندي شغل بعد ساعتين.
جلست منتظرةً حديثها، حمحمت رؤى قائلة:
-أنا جاية علشان أسألك سؤال واحد بس ياربِّ ماتفهميني غلط..
ظلَّت نظراتٌها متعلقة بها فقط منتظرةً باقي حديثها، ابتلعت رؤى ريقها بصعوبةٍ وتساءلت:
-هترجعي لإلياس؟..
جلست متجمِّدةً تمنعُ تلك الدموعِ الحبيسةِ عن حرَّيتها أمامَ رؤى بعدما تسلَّلَ الشكُّ إلى قلبها، وخاصَّةً بعد فراقهما الذي دامَ أكثرَ من شهرٍ ونصف لم تراهُ فيهما ولم تسمع صوته، كلَّ مايربطهُ بها جنينها عند الطبيبِ فقط، حتى امتنعَ عن زيارتهِ لطبيبتها كعادته.
خرجت من هياجِ مشاعرها الحزينةِ على كلماتِ رؤى مرَّةً أخرى:
-أنا مش عايزاكي تكرهيني لو سمحتي، أنا بعد ما فكَّرت وعرفت إنُّكم انفصلتوا ليه ماوافقشِ على طلبِ إلياس تاني، وأهو أنا أولى بيه من الغريب، وخاصَّةً بعد ماعرفت أنُّه هيتجوِّزني علشان أرَّبي ابنه..
أحيانًا تعجزُ الكلماتُ عن مانشعرُ به، هنا عجزت جميعُ اللغاتِ عماشعرت به ميرال، شعرت وكأنَّ أحدهم شقَّ صدرها بنصلٍ بارد، وانتزعَ قلبها بقوَّة، لتشعرَ بكمِّ الآهاتِ التي أحرقت روحها..
ودَّت لو تصرخ ، ودَّت لو تطلقَ العنانَ للآهاتِ الحارقةِ المتحشرجةِ التي احتجزتها بقسوةٍ بجوفِ حسرتها، لحظاتُ صمتٍ قاتلةٍ لترفعَ كفَّيها الذي ارتجفَ كحالِ جسدها وحاولت أن تُخرجَ حروفًا من بينِ شفتيها ولكنَّها غيرُ قادرة، ارتجفت شفتيها وهزَّت رأسها ونطقت أخيرًا بحروفٍ ثقيلة:
-اطلعي برَّة حياتي كلَّها يارؤى، ولو جوزي عايز يتجوِّز براحته، بس ابني مستحيل تقرَّبوا منه..قالتها وتوقَّفت تتحرَّكُ تجرُّ ساقيها بضعف، وهي تتألَّمُ بانقباضِ صدرها، بل بجسدها بالكامل، توقَّفت للحظاتٍ بعدما شعرت بقلبها يئنُّ وجعًا، بل يصرخُ وجعًا..
آااه أخرجتها بعدما شعرت بسائلٍ متدفقٍ من بين ساقيها، نظرت للمياهِ التي تساقطت، وشعرت بانسحابِ الهواءِ من حولها، صرخت وصرخت إلى أن وصلت الخادمةُ على صراخها، نزلت بركبتيها تحتضنُ بطنها وازدادَ عرقها بكثرة، حتى تلاشى تنفُّسها وشحُبَ وجهها تهمسُ باسمِ زوجها، رفعت الخادمةُ الهاتفَ سريعًا تهاتفه:
كان بمكتبهِ منكبًّا على عمله، اعتدلَ بعد سماعهِ لرنينِ هاتفه:
-أيوة..
-الحقني ياباشا، المدام بينَّها هتولد وحالتها صعبة أوي، صرخت وهي ترى تهاونَ جسدها على الأرض..
-لا دي بتموت، إلحق ياباشا...
شعرَ بالخدرِ بكاملِ جسدهِ وهو يشعرُ بعجزهِ والنيرانُ التي تهزُّ كيانهِ وهو بعيدًا عنها، لحظاتٍ محاولًا السيطرةِ على دقَّات ِقلبهِ العنيفِ التي كادت أن تخترقَ ضلوعه، لينهضَ سريعًا إلى سيارتهِ متناسيًا جهازهِ المفتوح، وأوراقهِ المتناثرةِ على مكتبه...