رواية الحصان والبيدق الجزء الثانى من بك أحيا الفصل الخامس و العشرون 25 بقلم ناهد خالد

رواية الحصان والبيدق الجزء الثانى من بك أحيا الفصل الخامس و العشرون بقلم ناهد خالد


" ليلة واحدة يمكن أن تبقى في ذاكرتك أمدًا، ليلة واحدة يمكنها أن تكن ليلة مميزة بما تحويه من أحداث، والتميز ليس بالضروري أن يكون للجميل فالمميز ربما يكون للأسوء أيضًا، بالنهاية كلاهما ستكن ليلة مميزة!!" 

تحسست درجات السلم بقدميها بقلق وارتباك، من عصبة العينين التي تمنعها من الرؤية، ورغم أنه يقودها لحيثما يريد، إلا أن الإنسان بطبعه لا يثق، استمعت لصوته يسألها ضاحكًا:

_ أنا مش فاهم مخشبة نفسك ليه؟ أنتِ مش شايفة بس أنا شايف مش هوقعك يعني! 

ردت بقلق:

_ مش مخشبة نفسي ولا حاجة. 

_ مهو واضح اهو.. 

قالها ساخرًا وهو يوجه خطواتها لجناحهما، فتح الباب ودلف أولاً ثم جذبها للداخل واغلق الباب خلفهما، أزال عصبة عينيها بعد أن تنحى جانبًا قليلاً لتستطيع رؤية المكان، فتحت عيناها ببطء تعتاد ضوء الغرفة الخافت، والذي اكتشفت ان مصدره الوحيد هو الشموع الكثيرة التي تزين المكان، تجمدت ملامحها بصدمة وهي تنظر لِمَ تراه، هي للآن لم تفهم سبب كل هذا، لكن الأمر... رائع، الغرفة الواسعة بسخاء قد اكتظت بالورود المنثورة في كل شبر بأرضيتها وفوق الفراش بشكل منسق، رائع، والشموع التي تزين المكان مع رائحة عطرة زكية، ولم تغفل عن البلونات الملونة التي زينت سطح الغرفة، وفي أحد الجوانب وُضعت طاولة بيضاء وكرسيان من نفس اللون، وزُينت الطاولة بالورود وشمعة مضيئة تزين منتصفها، وأطباق مُغطاة يبدو أنها للطعام، وكأسان وُضع فيهما قدر من المياة الغازية، نظرت له بعدم فهم تسأله:

_ ليه كل ده؟؟ أنا مش فاهمة.. 

اقترب الخطوة الفاصلة ليصبح أمامها تمامًا، جذب خصرها بكفيهِ القويتان، لتتوتر من قربهما المبالغ بهِ، فتقريبًا لا يفصل بينهما سوى الهواء الذي يمر، رفعت رأسها لتنظر له بينما يقول:

_ عشان النهاردة اليوم اللي اتولدت فيه روحي، النهاردة اليوم اللي جت فيه حياتي للدنيا. 

رفعت حاجبيها باندهاش وهي تسأله:

_ النهاردة عيد ميلادك؟ 

ثم أسرعت تقول تحت نظراته المندهشة:

_ أنا أسفة والله بس محدش قال قدامي، ومعرفش هو امتى. 

قهقه تاليًا وهو يحرك رأسه غير مصدقًا ردها، توقع ان تخجل وتتوتر كالعادة حين تسمع حديثه مدركة أنه يتحدث عنها، ولكنها فاجأته كالعادة... 

_ حبيبتي أنا عيد ميلادي الشهر الجاي، مبتكلمش عن عيدي ميلادي. 

قطبت بين حاجبيها باستغراب تسأله:

_ الله! اومال ايه؟ أنتَ بتقول عيد ميلاد روحك واليوم اللي جت فيه حياتك.. مش فاهمة.. 

رفع حاجبه الأيسر مستنكرًا:

_ بردو! 

أخذ نفسه وهو يسألها بهدوء:

_ ديجا أنتِ عيد ميلادك امتى!؟ 

رفعت منكبيها جاهلًة:

_ مش فاكرة والله، اصل عمري ما ركزت في حاجة زي دي، خصوصا أن محدش عندنا كان بيهتم باعياد الميلاد. 

سألها مدهوشًا:

_ يعني عمرك ما بصيتي في شهادة ميلادك ولا بطاقتك؟ 

_ وابص فيهم ليه؟ وحتى لو مش هبص في تاريخ ميلادي يعني.. انا كل اللي اعرفه إني مواليد ٢٠٠٠، واني دلوقتي عندي ٢٠ سنة. 

رفع أحد كفيهِ ليضعه على وجنتها اليمنى برفق قائلاً بحب واضح:

- أنتِ النهاردة عندك ٢٠ سنة، النهاردة اليوم اللي اتولدت فيه روحي وجت فيه حياتي للدنيا، وروحي وحياتي هم أنتِ يا ديجا. 

ظلت لثواني قليلة غير مستوعبة حديثه، هل كان يتحدث عنها من البداية؟؟ وحين استوعبت ادمعت عيناها غير مصدقة كم الحب الذي يكنه لها، يهتم بكل تفصيلة تخصها، حتى عيد مولدها الذي لم تكلف نفسها معرفته يومًا ولم يهتم أحد له، وكل هذا فعله لأجلها، ابتسمت ابتسامة هادئة متوترة وهي تقول:

_ أنا... يعني كل ده عشاني؟ 

هز رأسه نافيًا:

_ ده ولا حاجة، استني... 

قالها واصطحبها بعدها يجلسها على أحد كراسي الطاولة ثم غاب في غرفة تبديل الملابس، غاب لثواني ثم عاد حاملاً أربع صناديق ضخمة لدرجة أن وجهه لم يظهر من حجمهما، نهضت سريعًا تحاول التقاط أحدهما منه وبالفعل أخذت أعلاهم تحت دهشتها مستحيل أن تكن هذه هداياها، وضعهم فوق الفراش وأخذ الذي حملته منه يضعه جواره، سألته فورًا غير قادرة على كبح فضولها:

_ ايه كل ده؟؟ 

زفر زفرة طويله كأنه كان يركض طريق طويل وأخيرًا وصل، وقال وعيناه مثبتة على الصناديق:

_ دي هدايا ١٢ سنة فاتوا... مهما حكيتلك مش هتتخيلي أنا اتمنيت اللحظة دي قد ايه، اللحظة اللي اطلعهم كلهم قدامك وتشوفيهم،  كل هدية من دول كانت في نفس اليوم ده من كل سنة، يوم ميلادك، هتلاقي الهدايا متقسمة في شنط وكل شنطة عليها تاريخ السنة اللي جت فيها... 

لمعت الدموع بعينيهِ رغمًا عنه، يقول بنبرة تحمل ألم و تعب كبيران بينما ينظر لها الآن:

_ كان كل خوفي ان اليوم ده ميجيش، وان الهدايا دي يتحكم عليها تفضل تزيد سنة ورا سنة وفي الآخر متخرجش من الصناديق، رغم إن قلبي كان دايمًا عنده أمل إن اللحظة دي هتيجي وهتشوفي بنفسك الهدايا دي، بس عقلي اوقات كتير كان بييأس ويعارض.

أخرج من جيب سترته الكلاسيكية السواء علبة
صغيرة لم تنتبه لها، ومدها إليها يقول:

_ ودي كمان هحب إنك تشوفيها، اللاب بتاعي عندك على المكتب، اعتقد عرفتي ازاي تشغليه؟

اومأت برأسها ودموعها تتساقط في صمت، فقد آثار مشاعرها وتعاطفها بحديثه، تتذكر حين علمها كيف تتعامل مع الهاتف والحاسب المحمول وكل ما له علاقة بالتكنولوجيا الحديثة، قلبت العلبة في يدها وفتحتها ليظهر لها مجموعة من أجهزة التخزين الصغيرة "فلاشات" ليوقفها وهو يقول:

_ الحقيقة مش هحب تشوفيهم وأنا موجود ولا حتى الهدايا، فهخرج اعمل كام مكالمة شغل وارجعلك.

ولم يعطيها فرصة للاعتراض، فقد تحرك فورًا خارجًا من الغرفة، وهي لم تكن ستعترض، فهو محق، في هذه اللحظات التي ستكتشف فيها اسراره، وترى فيها ما خُزن على هذه الأجهزة الصغيرة لا تحبذ أن يكون موجودًا، لتكن براحة أكثر..

وأول ما فعلته أنها توجهت للحاسب فتحته وبعد قليل كانت تضع الجهاز الصغير به، ليظهر لها "مراد" بشكل بدى أصغر كثيرًا من الآن.. وقد اختارت هذا الجهاز لانه ايضًا وُضع لاصق فوقه وكُتب " ٢٠١٢" وقد كان هذا أقدم تاريخ من بين البقية، أعادت ظهرها للوراء تستمع لحديثه وقد بدأ يقول:

_ ازيك يا ديجا... وحشتيني اوي، النهاردة تميتي ١٢ سنة، وتميتي كمان ٣ سنين وخمس شهور بعيدة عني،  أنا كمان الشهر الجاي هتم ١٧ سنة، وهيكون عيد ميلادي الثالث وأنتِ مش معايا، على فكرة أنا بطلت اعمل عيد ميلاد من يوم ما سبتيني، مكانش ينفع اعمله وأنتِ مش معايا، أنا... أنا في حاجات كتير اوي وقفت في حياتي مش عارف اكملها في غيابك، حتى التمرين مبقتش أحب اروحه، عشان كنتِ دايمًا بتشجعيني اروح، لكن دلوقتي، مش حابب اروح، بس بروح وهكمل عشان أنا عارف إنك كنتِ بتحبي إني اتعلم البوكس، كنتِ تقوليلي عشان لما حد يضايقني او يضايقك اضربه، بس أنا دلوقتي بقيت كويس اوي فيه لكن أنتِ مش موجوده، طب لو حد ضايقك دلوقتي هضربه ازاي وانا معرفش عنك حاجة.. أنتِ عارفة من يومين......

وبدأت حكايته لها، ساعة ونصف كاملة مرت دون أن تشعر بها، وهي تتنقل بين السنوات.. بداية من "٢٠١٢" حتى وصلت الآن ل "٢٠١٩" العام الماضي، وكم أعرب عن قلقه إن علمت حقيقته، ووضح لِمَ اضطر لانتحال شخصية زين... انتهى العرض، وبقت هي صامتة، رغم بكاء عينيها، وكأنها تستوعب كل ما سمعته، وفجأة قامت تتجه للصناديق، لتجد أحدهم كُتب فوقه " من ٢٠٠٩ ل ٢٠١١" والآخر" من ٢٠١٢ ل ٢٠١٤" والثالث" من ٢٠١٥ ل ٢٠١٧" والأخير " من ٢٠١٨ ل ٢٠..." ولم يكمل تاريخ السنة وكأنه لا يعلم هل سيقف عند ٢٠١٩ أم ستنضم هدية ٢٠٢٠ للصندوق!؟ وبدأت بالاقدم...

دلف للغرفة بعد ساعتين وبعض دقائق، وقد ملَ الانتظار، وجدها جالسة أرضًا والهدايا تحيط بها من كل جانب، وقف على بُعد قريب، لم يصدر صوتًا أو فعلاً، وقف ينظر لها وقد قبع بين أصابعها سلسال تدلى منه قلب من الذهب، مفتوح بين أصابعها ليظهر صورتها وهي طفلة في جهة وصورته بنفس الزمن في الجهة الأخرى، وضع كفيهِ في جيبي بنطاله، يطالعها بهدوء، حتى رفعت رأسها له، ونهضت ببطء، تقترب منه متخطية الهدايا، ووقفت أخيرًا أمامه، ينظران لبعضهما بصمت تام، لم تتحدث ولم يفعل، وظل الوضع هكذا لبضع دقائق، حتى قالت هي أخيرًا بصوت خافت:

_ ازاي بتحبني كل الحب ده؟؟

ابتسامة صغيرة جدًا زينت ثغره يجيبها بصدق:

_ أنا نفسي مش عارف، معنديش إجابة...

وصدقت الصدق الذي نضح من عينيهِ، فيبدو أنه بالفعل لا يمتلك جوابًا، ابتسمت باتساع رغم دموعها وهي تخبره:

_ أنا... أنا حبيت أوي .. حبيت كل ده أوي...

_ بس لسه هديتك بتاعت السنادي.

قالها وهو يتجه لأحد أدراج مكتبه وأخرج بعض الأوراق ثم عاد إليها ليمدها له، أخذتهم منه بتعجب وهي تتفحصهم، ثواني فقط وجحظت عيناها وفغر فاهها وهي ترفع رأسها لتنظر له، ليضحك عليها وهو يغلق فمها بكفه:

_ شكلك مضحك..

سألته وشفتيها تهتز منبأة عن نوبة بكاء آتية:

_ ايه ده؟

ابتسم لها بحنو:

_ ورقك... ورق تقديمك في الجامعة، السنادي هتكون رسميًا طالبة لكلية طب الأسنان جامعة القاهرة. 

نظرت تسأله بعدم فهم:

_ بس أنا مجموعي قليل، أنا كنت جايبة ٧٠٪ يعني مجموعي ميجبش ابدا الكلية دي. 

_ مهي طب أسنان خاص يا حبيبتي. 

شهقت بخفة وهي تقول:

_ يا خبر! أنا اسمع انهم بيدفعوا فيها كتير أوي، طب ليه قدمتلي فيها، كان كفاية ادخل كلية بمجموعي المهم إني اكمل تعليمي. 

_ اولا مفيش حاجة تغلى عليكِ، وأي حاجة اعملهالك او نفسك تعمليها اوعي تفكري في الفلوس.. ثانيا بقى من زمان وانا عارف ان كان نفسك تطلعي دكتورة أسنان.

استدارت تتجه ناحية الفراش تجلس فوق بعدما وضعت الأوراق جانبًا واحنت رأسها في صمت، اقترب واقفًا أمامها يسألها باستغراب لحالتها:

_ مالك يا ديجا؟ أنتِ مش فرحانة. 

رفعت رأسها تنظر له بأعين دامعة:

_ حاسة إني تايهه، بحلم، عقلي مش مستوعب كل اللي بيحصل ده، أنا أسفة بس أنا والله فرحانة بكل اللي بتعمله بس.. 

جلس القرفصاء أمامها محتضنًا كفيها بكفيهِ، ونظر لها مبتسمًا يقول:

_ خدي وقتك، أنا فاهمك يا حبيبتي.. 

نظرت حولها في الارجاء ثم قالت بتنهيدة تعب:

_ أنا... أنا عاوزه انام، ممكن؟ 

رغم شعوره بالضيق من رد فعلها بعد كل ما قدمه، هو يفهمها ويقدر موقفها، لكن هو أيضًا كان يمني نفسه برد فعل غير هذا، هز رأسه موافقًا وهو ينهض معها ينظمان الفراش، ثم قالت:

_ هدخل اغير هدومي.

_ تمام، وانا هطفي الشموع واخليهم ييجوا ياخدوا الأكل. 

اومأت برأسها دون حديث واتجهت لغرفة تبديل الملابس، وقف في منتصف الغرفة ينظر لكل ما فعله لأجل ليلة مميزة بسخرية، فجرت الأمور عكس ما تمنى تماما، اتجه يطفئ الشموع ويضيئ انوار الغرفة.

بعد فترة كانت تنام فوق الفراش تنظر للسقف بشرود، وهو بالداخل يغير ثيابه، انتبهت لخروجه، فنظرت له لتجده يتجه نحو الانوار يطفئها ثم يأخذ مكانه جوارها في صمت، ولأول مرة تجرأت بعد ثواني وهي تناديه:

- مراد. 

همهمة خافتة صدرت منه يحثها على الحديث، اتى صوتها ثانيًة يقول:

_ ممكن طلب؟ 

_ قولي. 

صمتت لثواني تستجمع شجاعتها قبل أن تخبره:

_ أنا.. أنا عاوزه انام جنبك. 

اتاها نبرته المستغربة:

_ ما نتِ جنبي! 

وضحت بتوتر:

- لا.. قصدي يعني.. عاوزه أنام اقرب من كده. 

فهم الآن قصدها، ليسألها بعبث يلعب على اوتار توترها وخجلها:

_ قصدك عاوزه تنامي في حضني؟ 

_ يعني.. 

اكتفت بقولها، ويقسم الآن ان وجهها كالطماطم الحمراء، زينت ابتسامة واسعة شفتيهِ قبل أن يقول فاتحًا ذراعه:

_ تعالي... 

اقتربت في خجل تحت الانوار المتسللة من زجاج الشرفة، لتستقر بين احضانة، ويحيطها بذراعيهِ وقد نسى بحق ضيقه من موقفها.. 

________________

اليوم التالي... 

الساعة السابعة مساءً... 

في شركة " آل وهدان"... 

كان يتابع بعض اعماله حين وجد المكتب يُقتحم عليهِ فجأة، ودخل رجل في المقدمة يرتدي ثياب عسكرية وخلفه ثلاث آخرين، لينتفض واقفًا يقول بملامح يحاول اخفاء قلقه:

_-  خير يا حضرة الضابط ايه اللي يخليك تقتحم عليا مكتبي بالشكل ده؟

وقف أمامه الضابط يخبره بعملية:

_ اتفضل معانا يا حسن بيه مطلوب القبض عليك.

اتسعت عيناه دهشًة وسريعا ما كان يقول بغضب:

-  يتقبض عليا أنا؟ أنتَ اتجننت! أنتَ مش عارف أنا مين وممكن اعمل ايه؟

وبحدة محذره كان يجيبه الضابط:

-  الزم حدودك وأنتَ بتتكلم معايا, أنا مقدر موقفك, بس أنا موظف بيأدي عمله, وأي تجاوز هعملك محضر بيه, فياريت تتفضل من غير شوشرة.

أطاح ببعض التحف التي كانت فوق المكتب وهو يقول بعصبية حارقة:

-  هتفضل, بس مش هقضي ساعة واحدة في الحبس, وبعدها أنا هعرفك مين هو حسن وهدان.
التوى فم الضابط ساخرًا:

-  لما تخرج ابقى عرفني, هاتوا يا بني.

-  أنا همشي من غير ما حد يجرني, أنا مش مجرم.

هدر بها في غضب, ليقول الضابط بسخرية:

-  سيبه, أما حوار مجرم ولا لا دي هتعرفها في القسم.

خرج بينهم بشموخه المعتاد, وقال للسكرتيرة الخاصة به قبل ذهابه:

-  كلمي المحامي, خليه يحصلني.

_____________

-  أنا عاوزه افهم مالك بقى؟ بتكلمنا بالعافية وطول اليوم داخل خارج زعيق و خبط, حتى الطفل الصغير بتزعقله عشان وقع كوباية! ايه يعني ما يوقعها ده طفل لسه ووقعت منه غصب عنه.

هدرت بها "رنا" وهي تقف أمامه تشيح بيدها معترضة على تصرفاته طوال اليوم, وأخرها صراخه على الصغير "عُمر" حين أسقط الكوب البلاستيكي دون قصد. حدقها بجانب عينيهِ بغيظ:

-  أنا النهاردة مش طايق نفسي, عندي مشاكل في الشغل, فالأحسن تتجنبوني.

حدقته شزرًا وهي تعقب:

-  هو حد كلمك؟ بعدين ما يخصناش مشاكل شغل ولا غيره مطلعش مشاكلك وخنقتك فينا.

اغاظه موقفها لينتفض واقفًا أمامها, وبدوا ندًا لند, وهو يصيح بها:

-  ليه ميخصكيش؟ أنتِ مش مراتي؟ مش المفروض تسأليني مالك لما تشوفيني متعصب, تتحمليني لما يكون خلقي ضيق ومضغوط, هو ايه اللي ميخصكيش؟!

نفت برأسها بعند:

-  لا ميخصنيش, لاني بقوم بدوري كزوجة غصب عني, فمتتوقعش مني اقدملك كل الخدمات اللي سعادتك محتاجها.

انتفخت عروقه غضبًا وهو بالأساس لا يحتمل أن يحك أنفه أحد, وهدر بها:

-  أنتِ امتى هتصفي بقى وتتقبلي الوضع؟

رفعت جانب فمها ساخرة تجيبه:

-  لما أنتَ تنضف وتطلع من الو**** اللي موقع نفسك فيها.

رجعت خطوتين للوراء أثر كفه الذى هوى صافعًا وجهها بقوة, ولولا الكرسي خلفها لسقطت أرضًا, وضعت كف يدها فوق وجنتها بألم عاصف, ونظرت له بعدم تصديق مرددة:

-  أنتَ بتضربني؟

وقبل أن يأخذ رد فعل كانت تنتفض مستقيمة وهي تصرخ بهياج:

-  قطع ايدك لو فكرت تمدها عليا, ودي أخرتها يا دياب, وابقى قابلني لو قعدتلك فيها.
وتحركت فورًا تجاه الدرج, ليوقفها حين أمسك معصمها يصرخ بها:

-  أنتِ فاكرة نفسك رايحة فين؟ تبقي بتحلمي لو فاكرة إنك ممكن تخرجي من هنا... ولو ناسية أنتِ حامل في ابني, يعني خروجك من هنا مستحيل.

ضربته بكفها في صدره وتحركت بعنف تحاول تحرير نفسها منه:

-  هخرج غصب عنك, أنتَ مش حابسني هنا, أنا ليا حق أطلق واعيش بعيد عنك, طلقني , طلقــني بقولك.

أمسك كفها الآخر وهزها بين ذراعيهِ بعنف:

-  قولتلك قبل كده طلاقك يعني ابنك ده مش هتشوفيه تاني.

-  ملكش حق تحرمني منه!!

-  أنا ليا حق اعمل أي حاجة أنا عاوزها, محدش يقدر يرجعني عن قرار باخده.

توقفت فجأة وهدأت حركاتها, ظنها استسلمت وفهمت انها أمامه لا تزن شيئًا, ليتفاجأ بتقلص ملامحها رويدًا قبل أن تصدر صرخة خافتة وهي تسقطت بين ذراعيهِ ليتفاجأ بدمائها تسال من بين قدميها..

------ 
في قسم الشرطة ......

جلس المحامي أمامه بعد أن انهى حديثه مع الضابط المسؤول عن قضيته ليخبره بقلة حيلة:

-  للأسف يا حسن بيه, ده حد مظبطلك الليلة دي عشان متخرجش منها, مقدم كل ما هو يدينك للنيابة, القضية أصلاً اتحولت للنيابة ع طول وبكرة هتترحل من هنا, لأن الأدلة كلها ضدك فأي انكار منك مش هيفيد.

تعرق وجهه, وشحب, وتاهت نظراته وهو يسأله:

-  يعني ايه؟ وايه الأدلة دي؟

-  أوراق صفقات سلاح ومخدرات بينك وبين اطراف تانية مش هيعرفوا يوصلولهم لأنهم أجانب وبره البلد, لكن هيبلغوا الحكومة الدولية بأسمائهم.. المهم واوراق كتير بتثبت تورطك في صفقات مشبوهة, وآخرهم انهم اقتحموا المخازن الخاصة بيك واللي محدش يعرف عنها حاجه, وطبعًا لقوا البضاعة المتشونة, مين كان يعرف أماكن المخازن دي غيرك؟

حرك رأسه بتيه وهو يجيبه:

-  محدش... مش عارف, بس... حتى ابني مكانش يعرف, مكانش غير متولي ..!!!

انتبه لذِكره فنظر للمحامي فورًا:

-  متولي بقاله أسبوع مختفي .. قلبت عليه الدنيا معرفتش اوصله, اكيد حد استغله ضدي.

-  والورق؟ مين يقدر يوصله؟

-  الورق ده كان في بيتي, في خزنة سرية...

صمت لبعض الوقت ثم قال في نفسه:

-  محدش يعرف مكانها غير مراد..

رفع صوته يقول للمحامي:

-  انا عاوز مراد.. عاوز اشوفه.

اومأ برأسه:

-  حاضر هجبهولك.

-  والقضية؟

اكتفى المحامي بقول:

-  هحاول اجبلك اقل عقوبة.

ضحك ساخرًا وعيناه بها كسرة واضحة, وظهره منحني قليلا كأنه وُضع فوقه أطنان:

-  أقل عقوبة! يعني بدل الأعدام... مؤبد!
احنى المحامي رأسه صامتًا ولم يجد ما يقوله.. فحتى المؤبد لن يستطيع الوصول إليهِ, بكل الأدلة التي رآها الإعدام هو الحكم الوحيد والذي لن يكن قابل للطعن..!

-------- 
في فيلا مراد....

-  خير يا حبيبي بقالك شوية مقعدني قدامك, عاوز تقول ايه يا مراد؟

نظر لها متنهدًا وقال:

-  في حاجة تخص بابا عاوز ابلغك بيها.

تغيرت معالمها وهي تقول بضيق:

-  رجوع مش هرجع , أنا خلاص حكايتي معاه خلصت لكده.

نفى برأسه موضحًا:

-  الموضوع مش كده, بابا اتقبض عليه.
ولم تسأل عن السبب, رغم صدمتها, وتصلب ملامحها لقليل من الوقت, لكنها أدركت السبب دون أن تسأل, فكانت موقنة أن اعماله السيئة لن تمر دون عقاب, حتمًا سيأتي اليوم الذي ينكشف فيه المستور ويُعاقب أشد عقاب, وللعجب لم تشعر بالحزن عليه, وكأنه قد نجح في تحطيم حبها له شر تحطيم ...

-  اتحكم عليه؟

سألته بهدوء, ليجيبها:

-  لسه, بس أنتِ مش زعلانة عليه؟

أجابته بعقلانية:

-  محدش بيعمل شر وبينجى يا مراد, كل واحد عمل حاجه غلط لازم ييجي يوم ويتحاسب عليها, ومتسألنيش عن الغلط اللي عمله لأني مش هقول, بس يكفي اقولك أنه للأسف نجح السنين اللي فاتت يمحي حبه من قلبي.

-  مش هسألك لأني عرفت من المحامي...

هي لا تعلم أنه منذُ أمد يعلم بأفعال والده, وبالطبع لن يكشف نفسه أمامها, نهض يحرك كرسيها للداخل يسألها:

-  هتقعدي في الليفنج ولا هتطلعي اوضتك؟ 

-  لا هطلع اوضتي أصلي العشا لأحسن فاتتني, واعقد اتفرج على التلفزيون شوية وانام.

-  اتعشيتي؟

-  اه يا حبيبي اتعشيت من ساعة أنتَ عارف مبحبش اتأخر في العشا.

أوقف كرسيها أمام المصعد الكهربائي وانحنى أمامها يستند على ركبتيها بكفيهِ لتمد كفها تمسد على خصلاته بحب وتلقائية, لتسمعه يقول:

-  عندي ليكِ خبر حلو.

اتسعت عيناها فورا تسأله بلهفة:

-  خديجة حامل؟

صدحت ضحكته عاليًة, قبل أن يهدأ وهو يقول:

-  يعني مفيش خبر مفرح غير ده!؟

اجابته بتمني وعين لامعة:

-  لا, بس ده اكتر خبر مفرح مستنيه اسمعه.

-  لا معلش مش هو المرادي, أنا كلمت دكاترة كتير الفترة اللي فاتت عشان حالتك, وعرفت إن دلوقتي نسبة نجاح العمليات دي بقت كبيرة اوي اكتر من زمان.

أخبرته بيأس:

-  يا حبيبي ما أنتَ من 3 سنين كلمت مستشفى في إنجلترا وعرضت عليهم الوضع وقالولك إن نسبة نجاح العملية 40% وأنا وقتها قولتلك إني مش هعملها ونسبة نجاحها قليلة كده, بعدين أنا خدت على وضعي كده واتعودت.

-  بس دلوقتي في دكتور كبير اتواصلت معاه هو مدير مستشفى كبيرة في اسبانيا, وعرضت عليه الوضع, قالي انك هتحتاجي تعملي اشعة جديدة عشان لو في تغير في الحالة, بس مبدئيا نسبة نجاحها اكتر من 80% خصوصًا عندهم في المستشفى.

بدت الحيرة على وجهها, ليعاود اقناعها:

-  أنتِ مش خسرانة حاجة, هنعمل الأشعة ونبعتها ونشوف كلامه الأخير ايه, خلينا نجرب يمكن تنجح.

اومأت برأسها موافقة باستسلام وهي تقول:

-  اللي تشوفه يا حبيبي.

نهض واقفًا بعدما ضغط زر المصعد لينفتح الباب:

-  يلا يا لولة يا سكر تصبحي على خير.

قالها وهو يدفع كرسيها للداخل, لتسأله:

-  أنتَ مش طالع؟

-  لا عندي شوية شغل في المكتب هنا.

-  ربنا معاك يا حبيبي, تصبح علي خير.

بعد قليل كان يقف في مكتبه يتحدث بالهاتف ليقول:

-  خلاص يا غسان سيبه يمشي واديله المبلغ اللي اتفقنا عليه, متولي طلع ذكي ومضللناش في أماكن المخازن.

اتاه الصوت على الجهة الأخرى:

-  بس يا باشا مليون جنية كتير.

-  هو أنتَ اللي دافع!

قالها بحدة, ليقول الاخر فورا:

-  حاضر يا باشا, اسف... هعمل اللي حضرتك تؤمر بيه.

----------- 

انتبه لفتح باب غرفة العمليات, ليسرع تجاه الطبيب الذي خرج للتو يسأله بلهفة وقلق خفي:

-  خير يا دكتور. 

أزال الطبيب قناع الوجهة وهو يخبره:

-  للأسف الحالة مش مستقرة.

شحب وجهه وشعر بالخطر ليسأله بعدم فهم:

-  هو ايه اللي حصل؟

أجابه الطبيب موضحًا:

-  بص حضرتك, المدام حملها كان خارج الرحم, وفي الحالة دي الحمل بيبقى خطر على الأم وبننصح تنزله, مش عارف ليه لحد الآن محصلش اجهاض رغم معرفتكوا بالحمل, بس هنعمل التحاليل اللازمة يمكن يكون في مانع للاجهاض.

اجابه "دياب" بحزن ظهر في نبرته:

-  مكناش نعرف الحاله دي.

اومأ الطبيب متفهمًا وقال:

-  لازم يتم الإجهاض, لان الحمل في منطقة خطر, ولو كبر هيعمل انفجار في قناة فالوب لأنه واخد جزء كبير منها, ووقتها هيبقى خطر على الأم ولو قدرنا نتداركه هيبقى الحمل بعد كده مش طبيعي ولازم تلجئوا لأطفال الانابيب.

مسد اعلى انفه بأصبعيهِ بتعب وقال:

-  شوف الصح واعمله يا دكتور المهم تكون بخير.

-  تمام عن اذنك.

على رنين هاتفه ليجيب على المكالمة بعدما جلس فوق المقعد الجانبي بتعب, فاستمع للطرف الآخر يقول:

-  باشا هنعمل ايه في المخازن اللي اتحرقت, وهنرد ازاي على مراد وهدان في اللي عمله؟

قال بحدة رغم هدوء نبرته:

-  تولع المخازن على مراد زفت.. انا مش فايقلك سيب كل حاجه لحد مانا اكلمك.. وعرفهم في الشركة اني مش هاجي الأيام دي يحولوا الشغل على المدير لحد ما ابقى ارجع.

واغلق المكالمة فور أن رأى السرير المتحرك يخرج من غرفة العمليات وهي نائمة بسلام فوقه..

__________

الثانية عشر مساء...

في فيلا مراد وهدان..

صعد الدرج يحرك رأسه يمينًا ويسارًا بتعب بعد ثلاث ساعات عمل متواصلين, سترته يمسكها بكفه وازرار قميصه العلوية مفتوحة, قميصه الذى بدى عشوائيًا غير مرتب من كثرة تحركه أثناء العمل, ينتابه الفضول نحوها, لم تظهر منذ أن أتى, لم يلمح لها ظلاً, ووالدته اخبرته أنها لم تظهر من مغرب اليوم, وعلى الأغلب نائمة! 

فتح باب الغرفة ببطء حريصا ألا يصدر صوت علّها نائمة حقًا, دلف واغلق الباب خلفه بنفس الحرص, ليستدير محاولاً تفحص الغرفة, تصلبت قدماه في أرضه حين صدح صوتها من بين الظلام يصرخ به:

-  استنى.. غمض عينك.

لم يستطع رؤيتها في وسط الظلام الحالك, ليسألها:

-  أنتِ فين؟ واغمض عيني ليه؟ وقاعدة في الضلمة ليه؟

-  بطل أسئلة وغمض عينك لو سمحت.

-  غمضت.

قالها بنفاذ صبر بعد أن اغمض عيناه, شعر بصوت تحركها في الغرفة, وصوت قداحة! هل تنوي حرقه؟ 

شعر باقترابها منه, وجذبته من كفه ليتحرك معها ليقول بضحكة صغيرة:

-  أنتِ بتردي اللي عملته امبارح ولا ايه؟ 

لم تجيبه, توقفت بهِ في بقعة معينة, والتفت لتصبح خلفه, وقالت هامسة من خلف ظهره:

-  فتح....

فتح عيناه ليبصر طاولة لطيفة مزينة بالشموع والورود, تشبه طاولة أمس, وتقريبًا نفس الأطباق المغطاة, التف لها يقول بمرح:

-  مش قولتلك بتعيدي اليو...

ابتلع باقي حديثه, واختفت ابتسامته وهو يبصرها بهيئتها هذه, ترتدي قميص حريري أسود اللون يصل لركبتيها, وبدون اكمام, مقدمته تكشف مفاتنها بسخاء! وتركت لشعرها الحرية, ثغرها مزين بحمرة خفيفة لكنها رائعة, احتبست أنفاسه لثواني, حتى استوعب اختناقه, فزفرها بمهل وهو يبتلع ريقه بعدم تصديق لِمَ يراه, فهي ابدا لم تتخلى عن المنامات المحتشمة! 
كانت تنصهر خجلاً, وتشعر ببركان من الحرارة التي تضرب جسدها ووجهها أثر خجلها, فقالت تحاول تخطي نظراته:

-  العشا هيبرد.

وتخطته تجلس فوق الطاولة, وبنظراتها الخجلة تدعوه للجلوس...

مرَ العشاء ثقيلاً عليهما, فلا هو قادر على تجاهل مشاعره ناحيتها, ولا هي قادرة على تخطي خجلها وارتباكها من خطوتها القادمة..

نهضت واقفة تتجه لمنتصف الغرفة بلا هدف, ليلحق بها واقفًا بالقرب منها بصمت, وبعد دقائق قليلة من التشجع, كانت تلتف له, تخطو ناحيته.. لا يفصل بينهما الآن سوى مقدار شبر... ترفع نفسها لتلف ذراعيها حول رقبته, وتتعلق بها واقفة على أطراف أصابع قدميها بصعوبة, مريحة رأسها على كتفه وشفتيها قريبة جدًا من أذنيهِ, وفجأة همست بصوت خافت سمعه بوضوح:

-  أنا.... أنا ... أنا بحـبك... اوي.

وكان بين كل كلمة والثانية لحظات, شعرت بتصلب عضلاته الملامسة لجسدها, أغمضت عيناها والتوتر يفتك بها, ابعدها عنه برفق, ليراها تضغط على جفنيها بقوة, فخرج صوته أخيرًا:

-  بصيلي..

وفعلت رغم اضطراب مقلتيها, سألها وعيناه تغوص في عينيها:

-  أنتِ قولتي ايه؟

أخذت نفس عميق, تستجمع شجاعتها وقالت:

-  قولت بحبك.. 

أكملت بنظرات محبة, والهة, لامعة, لأول مرة يراها:

-  ازاي محبكش بعد كل ده! أنا من زمان وانا بحبك بس كل اللي حصل قلب حياتنا.. بس دلوقتي انا رجعت احبك من جديد... حبيتك وانتَ مراد الطفل الصغير, وحبيتك وأنتَ زين الشخص اللي ظهر في حياتي فجأة, وحبيتك وأنتَ مراد الشاب اللي بقيت مراته غصب عني.. حبيت كل حاجه عملتها وبتعملها عشاني, حبيت حنيتك وطيبتك و حبك اللي مشوفتهمش في حد.. انا بقالي فترة حاسة بمشاعر حلوة ناحيتك... بس النهاردة , وبعد ما اعترفت لنفسي بمشاعري ناحيتك امبارح... اقدر اقولك إني ...

عادت تحيط رقبته وتقترب بوجهها منه وهي تقول ببطء:

-  اقدر اقولك.. اني بحــــبك يا مراد وهدان.. بحـــبك وعاوزه اكمل حياتي معاك وبرضايا.

واللحظة التالية كانت تسجل ثاني قبلة لهما, ولكن هذه المرة مختلفة, فالحب, والاحتياج, والشوق, واللهفة... متبادلون...

وتسجل الليلة إن "خديجة الدالي" أصبحت زوجة ل "مراد وهدان" قولاً وفعلاً....
 الليلة ليلة فوز العشق الفريد لطفل وصبي وشاب ورجل تمسك بعشقه, ليلة فوز قلبه بحبها وقربها... ولتكن ليلة مميزة لن ينساها ابدا....

   
تعليقات



×