رواية الحصان والبيدق الجزء الثانى من بك أحيا الفصل الرابع و العشرون بقلم ناهد خالد
الأول من يوليو لعام ٢٠٢٠...
مرَ أسبوع على آخر أحداث عاصرتموها..
والوضع في غاية التعقيد..
"مراد" تأكد من أن" دياب" هو من سرق مخزنه، ورغم هذا لم يأخذ رد فعل!.. على الأقل للآن! وأمر " غسان" أن يحتفظ ب" متولي" في المخزن طوال المدة المنصرمة، اولاً لانه لم يكن متفرغ له بعد سرقة مخزنه، وبعد لقاءة بزعيم المنظمة في مصر الذي وبخه بطريقة غير مباشرة والقى المسؤوليه جميعها أمام المنظمة على عاتقه، وطوال الاسبوع المنصرم يسعى جاهدًا لاستعادة ما سُرق منه قبل أن يصل الخبر لباقي اعضاء المنظمة في الخارج... ووعد ذاته أن اليوم سيصل له خاصًة مع كون اليوم مميز له، وتمييزه جاء من كونه اليوم الذي وُلدت فيه توأم روحه... ابنته، ورفيقته، وزوجته.. واليوم يحضر لها مفاجأة لن تتوقعها..
خرجت من عند الطبيب متمسكة بيده وابتسامة رائقة تزين ثغرها، وصلا لسيارته فاستقلت مقعدها ثم تنهدت براحة وهي تريح رأسها على ظهر المقعد، وجدته يمسك كفها بعد أن ركب جوارها لتفتح عيناها مبتسمة له، فبادلها الابتسامة يقول:
_ مبسوط من كلام الدكتور.
اومأت رأسها مؤكدة:
_ وأنا، ارتحت أوي لما قالي ان هجيله مرتين بس في الشهر بدل ٤ مرات، وقللي العلاج.. رغم ان فكرة استمراري عليه لمدة ٨ شهور صعبة شوية.
_ معلش يا حبيبتي بس لازم، الدكتور عاوز يوصلك للشفا بنسبة كبير ويكون ضامن بنسبة ٩٠٪ زي ما قالك ان ميحصلش انتكاسه، وطبعًا مع أننا نمشي على التعليمات اللي قالها.
هزت رأسها متفهمة:
_ فكرة إني قربت اتعالج خلاص حاسة إني مش مصدقاها، أنا بقالي ٦ سنين تقريبا مع الدكتور، ومكانش فيه أي نتيجة، وفجأة في ظرف شهرين اعمل اللي معملتوش في ٦ سنين!
_ عشان الظروف اتغيرت في الشهرين دول، اتقبلتِ وجودي وقربنا من بعض، وانتظمتي على العلاج وواظبتي على مواعيد جلساتك.
نظرت له بامتنان بالغ، فعلاً لولاه لِمَ وصلت لهذه النقطة في علاجها، لولاه لِمَ استطاعت أن تصبح بخير صحيًا رغم إصابتها بالسكري، فقبلاً كانت دائمًا تمر بوعكات صحية أثر مرضها، ولكن الآن الوضع مستقر بفضل مراقبته لها وحرصه الدائم على تحسن صحتها، ابتسم ثغرها بخجل وقالت له:
_شكرًا، أنا مهما شكرتك على اللي عملته معايا الفترة اللي فاتت مش....
قاطعها وهو يهمس:
_ ششش.. بطلي هبل، هو في شكر بينا؟ بعدين أنا أي حاجة بعملها بعملها لنفسي ولمصلحتي في الآخر.
قطبت ما بين حاجبيها مستفهمة:
_ يعني ايه لمصلحتك؟
اجابها بهدوء:
_ يعني لما أنتِ تكوني بخير أنا هكون بخير، ولما يكون في حاجة تعباكِ اكيد انا كمان مش هكون كويس ابدًا وهكون تعبان اكتر منك كمان.
اشاحت بنظرها للطريق أمامها بخجل، لا تستطيع مجاراة حديثه ابدًا، ولكن ما لبثت أن عادت تنظر له مرة أخرى وهي تسأله بتردد وحرج:
_ ممكن اطلب طلب؟
اومأ برأسه مؤكدًا:
_ طبعًا، قولي يا حبيبتي.
انخفضت نبرة صوتها وهي تخبره:
_ ممكن تجبلي شيكولاته، بقالي كتير مكلتهاش ونفسي فيها.
اختفت ابتسامته وتصلب وجهه لثواني قبل أن يقول بضيق لحرمانها من شيء بسيط كهذا:
_ ايوه بس أنتِ عارفه انها ممكن تتعبك.
نظرت له ببراءة تخبره:
_ مش هاكل كتير، وكمان هاخد الدوا لو النسبة رفعت.
تنهد باختناق، لو بيده لسمح لها بكل شيء وأي شيء تريده، لكن الوضع خارج عن ارادته.
ولم يستطع أن يرفض لها طلب، والآن يجلس أمامها كالاستاذ وهي الطالب! زفرت انفاسها بضيق وهي تقول:
_ مانا مش هعرف أكل كده!
رفع منكبيهِ بينما يريح ظهره على الكرسي خلفه والطاولة بينهما رد بتكاسل:
_ هو أنا ماسكك، ما تاكلي.
ضيقت ما بين حاجبيهِ بضيق:
_ مهو أنتَ باصصلي كده موترني، وبعدين قاعدلي كده ليه؟!
أجابها بهدوء:
_ عشان أنتِ هتسرحي يا حبيبتي، يعني ماستبعدش تاكلي الكيلو ده وأنتِ قاعدة.
رغم الوجوم الذي احتل وجهها إلا أنها قالت:
_ لا متقلقش احنا اتفقنا هم ٣ بس.
رفع حاجبه الأيسر فبدى خطيرًا لحد ما، وقال بسخرية:
_ بس احنا اتفقنا على ٢ يا خديجة!
_ بجد؟ مش فاكرة..
قالتها ببراءة زائفة فنظر لها بتحدي قبل أن يسحب علبة الشيكولاته ناحيته ويلتقط منها قطعتان يضعهما أمامها، وأغلق العلبة وازاحها جانبًا ثم قال:
_ كده اقدر اقوم لو حابه.
بدى التذمر على وجهها جليًا، والتقطت القطعتان وتناولتهما على مضض، لكن لصغر حجمهما شعرت أنها لم تسد شهوتها بعد، فحزنت حقًا، وظهر حزنها على ملامحها واضحًا وقد القت بالورق الفارغ على الطاولة واستندت عليها تنظر من خلال الزجاج لحمام السباحة المرئي لها، تنهد بقوة حزينًا على حالتها، يؤلمه حرمانها من شيء، لكنه يخاف عليها، لو يستطع لأخذ مرضها عنها، نهض والتف حول الطاولة ليصبح خلفها مال على كرسيها واحتضن كتفيها بذراعيهِ واسند رأسه على رأسها يقول بدعابة:
_ سيبك من الشيكولاته والكلام الفارغ ده، قوليلي تاكلي ايه على الغدا عشان ابلغ هدى تجهزه.
حاولت الابتسام رغم اقتضابها:
_ أي حاجة.
_ لا بقى أي حاجه ازاي! قولي نفسك في ايه؟؟
أتى على عقلها شيء لتبتسم بحماس وهي تقول:
_ لو قولت أي حاجة هيعملوها؟
_ ايوه طبعًا، اؤمري.
_ نفسي في عدس.
قطب ما بين حاجبيهِ وابتعد برأسه عن رأسها يسألها بعدم فهم:
_ هو ايه العدس ده؟
جحظت عيناها بصدمة تسأله بعدم تصديق:
_ مش عارف العدس!!؟ معقول؟ أنا عارفه انكوا مرفهين بس مش للدرجادي!.
_ يعني هو ايه؟
نهضت ليستقيم واقفًا معها وأخذت تشرح له:
_ عدس ده بروتين الغلابة، زي اللحمة كده لهم، وله كذا طريقة وكلهم احلى من بعض.. لا لازم تجربه، ده تحفة ده، ويدفي في الشتا.
_ بس احنا مش في الشتا!
_ عادي بيتاكل في الصيف بردو، بس في الشتا بيكون امتع لأنه بيدفي.
_ مدام هدى...
رفعت صوتها تنادي، ليعقب بيأس وضيق:
_ بردو! مدام!
نظرت له تخبره باصرار:
_ الست قد والدتي مستحيل اناديها باسمها، لكن ندى و مها بقولهم باسمهم عشان اكبر مني بحاجة بسيطة.
أتت المدعوة "هدى" وقد كانت سيدة في منتصف الأربعينات، أنيقة ويبدو على ملامحها الجدية والصرامة، ترتدي زي رسمي، كنزة بيضاء، و تنورة كحلية اللون، وحذاء أبيض بكعب بسيط، وحجاب كحلي اللون، فقد اشترطت "خديجة" أن يكن جميع الفتيات محجبات، وبناء على رغبتها أتى "مراد" بثلاث فتيات محجبات كما أرادت.
_ نعم يا هانم.
_ تعرفي تعملي عدس؟
نظرت لها باستغراب جلي وكأنها سبتها؟! ثم قالت بتردد:
_ أه، بس اصل بقالي سنين معملتوش.. من وقت ما اشتغلت كل اللي بشتغل عندهم محدش طلب مني اعمله قبل كده.
_ لا بصي بقى، سبيك من كل اللي اشتغلتي عندهم، واستعيديلي قاموس الأكلات الشعبي، عشان هتعمليها كتير الفترة الجاية.
اومأت برأسها بطاعة:
_ أمرك يا هانم، تحبي نعمل العدس ازاي؟
ابتسمت بحماس وشغف وهي تجيبها بشهية كأنها تتخيل الأكل أمامها:
_ شوربة عدس، وفتة، وجنبها بقى ليمون وبصل وجرجير وظبطينا..بس..
نظرت ل "مراد" حائرة:
_ انتوا هتاكلوا ايه؟
كان مبتسم وهي تشرح لها وجبتها المشتهية لها بكل حماس، بدت كطفلة صغيرة ترغب في أكلة ما، حرك رأسه بلامبالاة:
_ أنا تمام.. هجرب معاكِ.
رفعت حاجبيها بشك وسألته:
_ متأكد؟
اومأ مؤكدًا، فعادت تسأله:
_ طيب و طنط ليلى؟
نظر" مراد" ل "هدى" :
_ أنا والهانم اعملي زي ما قالت، واسألي ليلى هانم ومصطفى بيه يحبوا ياكلوا ايه.
_ أمرك يا باشا.
قالتها وهي تنسحب بهدوء من بينهما، لتقول "خديجة" بعدها:
_ هطلع اغير هدومي واخد شاور.
_ تمام.
انسحبت من أمامه لينادي على "هدى" مرة أخرى، فأتت مسرعة فقال:
_ خدي العلبة دي وزعي اللي فيها عليكوا.
أخذتها على الفور ودلفت للداخل ليفتح هاتفه ويطلب رقم "غسان" ليجيبه الاخر بعد ثواني، فقال:
_ انا جايلك اسبقني على المخزن.
______________
"دياب" طوال الاسبوع المنصرم وهو يشعر بالخطر، فهدوء "مراد" غير طبيعي أبدًا، لم يرد ضربته بعد، والأمر في هذه الحالة أسوء..
_ يا ترى بتدبر لأيه يابن وهدان؟
قالها بحيرة وعقله لا يكاد ينفك عن التفكير في عدوه اللدود، قطع تفكيره حين حاول صغيره الصعود فوق الطاولة الزجاجية الموضوعة في منتصف الصالة، فهتف قلقًا:
_ عُمر.. انزل يابابا هتتعور.
واستمع الصغير لحديثه فورًا، وركض تجاهه مرتميًا على قدميهِ، ليرفعه لحضنه ويجلسه فوق فخذه يداعبه بحب كبير، وضحكات الصغير تعلو..
ترجلت الدرج تنظر لهما ورغمًا عنها سعدت للمشهد الذي أمامها، بدى مشهدًا رائعًا ودافئًا لأب وابنه، اتجهت لهما بخطوات بطيئة، انتبه لها "دياب" فرفعه رأسه ينظر لها لثواني قبل أن يقول بسخرية مبطنة:
_ اخيرًا شرفتينا بطلتك.
فهمت إلامَ يرمي بحديثه، فهي منذ اخبرته بحملها من أسبوع، ولم تظهر في الارجاء، تعمدت عدم التواجه معه، فلم يكن يراها في وقت الغداء مدعية أنها لديها عمل ولم تستطع القدوم، ومساءً يأتي ليجدها خالدة للنوم باكرًا على غير العادة، جلست أمامه على أحد الكراسي، وقالت بهدوء تام:
_ وعاوز تشوفني ليه؟ مش حققته اللي عاوزه؟
_ محسساني إني شاقطك! أنتِ مراتي لو ناسية، وكونك حامل ده طبيعي جدًا..
نظرت له باشمئزاز وهي تقول:
_ بس أنا مكنتش عاوزه الحمل ده، ولا عاوزه العلاقة دي من أصله.
_ مهو كده الإنسان مبيبقاش عارف مصلحته فين.
ضغط على اسنانها بغيظ، سيجلطها إن استمرت في الحديث معه، فلم تعقب، حتى قال هو مرة أخرى:
_ قوليلي.. مبتتوحميش على حاجة؟
نهضت بعنف واققة وهي تجيبه بحدة:
_ مش عاوزه حاجه منك.
قالت جملتها وذهبت تطوي الأرض غضبًا، بينما نظر لأثرها بتنهيده يائسة، لا يعلم متى ستستقر الأمور بينهما عامان وبضعة أشهر مروا عليهما ولم يتغير شيء، لم يستطيع كسب لينها ولم يهدأ الوضع بينهما.. والنهاية مجهولة بالنسبة له.
ركض الصغير يجلب هاتف والده الموضوع فوق الطاولة حين على رنينه، ليأخذه "دياب" منه بعدما قبل وجنته بحب، وما إن رأى رقم المتصل حتى أخبره:
_ روح يا حبيبي العب في الجنينه ماري هناك.
اومأ الصغير برأسه ليركض ناحية الحديقة، فتح المكالمة لينتفض واقفًا وهو يردد بصدمة:
_ بتقول اييييييه؟؟؟؟؟ مخزن ايه اللي ولع!!!
وهل أتى الرد من ابن وهدان أخيرًا!!
_____________
في أحد المخازن التابعة ل" مراد وهدان"...
وقف بشموخه المهيب، يضع كفه في جيب بنطاله، والكف الآخر تقبع بين اصابعه سيجارة فاخرة ينفث دخنها بهدوء تام، وكأنه في مكان آخر غير الذي فيه.. وكأن ليس أمامه مشهد دموي لشخص لم تعد تتبين ملامحه من كثرة الجروح في وجهه، وجسده مقيد بحبال غليظة وقواه خائرة، دلف للمكان "غسان البلطاجي" شاب بجسد ضخم قليلاً يساعده طوله الفارع الذي يتعدى طول "مراد" عدة سنتيمترات، بشرة حنطية، وشعر بني كعيناه، ملامح حادة، ولحية خفيفة، في الثامن والعشرين من عمره، وقف لجوار "مراد" يقول بجدية:
_ زي ما حضرتك شايف يا باشا مبقاش فيه حتة سليمة، بس شكله مخلص اوي لحسن بيه.
أزال لفافة التبغ من بين شفتيهِ وهو يقول ببسمة مخيفة:
_ أصيل متولي، أصل بقاله سنين طويلة مع البيه، من بعد ما تولدت على طول تقريبا، بس أنتَ جربت ضرب بس!؟
التمعت أعين "غسان" بالشر وهو يجيبه:
- مهو حضرتك قولت منزودش العيار عليه، لحد ما تيجي بنفسك.
نظر له بجانب عيناه يبرر:
_ مانا عارفك يا غسان، لو زودت العيار هتخلص عليه وانا عاوز أخد منه اللي عاوزه.
والمتابع لحديثهما مات رعبًا، وعيناه تركض بينهما في فزع، وشحب لونه حين وجه "مراد" انظاره له، وهو يقول ل "غسان" :
_ احنا ممكن نقطع ايد... نقطع رجل.. مش هيموت فيها دي صح؟
_ طبعًا صح يا باشا..
واتجه فورا لآداة مخيفة توجد في أحد الجوانب، حملها فبدى أكثر اجرامًا، واتجه ليقف خلف المقيد ويضع سلاح الاداه الطويل فوق كتفه، ليصرخ بفزع وهو يقول:
_ لااا... لا يا باشا بلاش دراعي... لاااا.
_ مانتَ اللي مش عاوز تنقذ نفسك يا متولي!
قالها "مراد" ببراءة، ليقول "غسان" بنفاذ صبر:
_ اخلص يا باشا؟
اجابه "مراد":
_ اهدى يا غسان، هو عاقل وهيتكلم.
قال "متولي" بفزع:
_ يا باشا اقول ايه بس..
_ قولي حسن بيه طول السنين اللي فاتت كلفك بأي حاجة تخص خديجة، كلفك تدور عليها أو حتى عرفت مكانها؟؟
توتر وزاغت عيناه وهو يقول بتلعثم:
_ مانا... مانا قولت ل.. لغسان انه محصلش.. معرفش مين خديجة أصلاً.
صدح صوت "غسان" يسأل ثانيًة:
_ اخلص يا باشا؟
لم يجيبه هذه المرة وهو ينظر ل "متولى":
_ أنا متأكد إنك كداب، والكدب هيأذيك بطريقة مش هتتوقعها.
_ يا باشا لو أنت مأذتنيش حسن بيه هيموتني.
هدر "غسان" بضيق:
_ باشا اخلص؟
حدقه "مراد" بنظرة نارية قبل أن يصرخ بهِ:
_ ماتهدى بدل ما اخلص أنا عليك!
ونظر ل "متولي" يخبره:
_ شايف التور الهايج ده؟ مش أنا اللي هقولك على غشومية غسان، وأنا صبري قليل، يعني الحق نفسك وآخر مره هسألك...
ليس هناك بدًا من الاستسلام:
_ هقول يا باشا...
_ ابعد يا غسان..
قالها "مراد" ليبتعد "غسان" بنزق مرددًا:
_ يعني مش هنقطع حاجة!
هز" مراد" رأسه يائسًا من ذلك الهمجي المحب للدماء، و نظر ل "متولي" يحثه بنظراته على الحديث، فابتلع الآخر ريقه بخوف قبل أن يقول:
_ حسن بيه من وقت ما بدأت تدور عليها وهو أمرني ابعت حد عنوانهم اللي في البلد اتأكد إن كانوا لسه موجودين فيه ولا لأ، الكلام ده كان من ٨ سنين تقريبا، وقتها كنت طلبت من طارق أول ما بقالك رجالة وناس تحت طوعك أنه يدور عليها، بعت حد لبلدهم ولاقاهم هناك ومن وقتها وحسن بيه أمرني احط عين عليهم دايما عشان لو وصلتلهم يعرف.. رغم انه كان عارف انك مش هتوصل.
ملامحه كانت جامدة، ومخيفة، وعيناه تموج بها عدة مشاعر مبهمة، وسأل بحذر:
_ ليه كان عارف إني مش هوصلهم؟! عشان معرفش عنوانهم في البلد؟
نظر له بتردد وخوف وصمت، ليهدر بهِ مراد بغضب:
_ ما تخلص يا روح أمك أنتَ هتنقطني!
قال "متولي" سريعًا:
_ حا.. حاضر يا باشا.. هو.. اصل يعني حسن بيه كان موصي جامد انك متوصلهاش، عشان كده كان طول الوقت بيضلل الرجالة اللي بتدور.. وكان كل ما يقربوا يوصلوا لحاجة يدخل في الموضوع ويرجعوا لنقطة الصفر.. هي دي كل الحكاية.. ولما رجالتك وصلولها عشان الفترة دي كان مشغول جامد بصفقة والرجالة قصروا لما لقوا ان بقالهم سنين وكده كده مبتوصلهاش وكمان مكنش في مراقبة وقتها مني ولا من حسن بيه.. فحصل الغلط ده.. حتى بعدها فجأة مبقناش نعرف عنها حاجه لما بطلت تروح تشتغل عن الدكتور في العيادة.. وعرفنا انها شغالة في مطعم في المنطقة، فقلناله المعلومة دي وسكتنا مكانش حد يعرف ان سعادتك اللي في المطعم معاها.. ويوم كتب الكتاب جه الخبر فجأة، عشان كده أمرني ابعتلها جواب معرفش جواه ايه، بس انا بعته وخلاص..
_ غسان خليه يروح..
هدر بها "مراد" قبل أن يخرج كمن يلاحقه شبح، خرج من المخزن ووقف بالخارج ساندًا على مقدمة سيارته، ينظر لقدميهِ، والصمت حليفه، خرج "غسان" ليقف أمامه يسأله:
_ باشا حضرتك كويس؟
اومأ برأسه، ليتابع الأخير:
_ طيب الرجالة رجعوا البضاعة، وولعوا في مخزن دياب بالبضاعة بتاعته اللي كانت فيه، كمان صفقة شركته مع الشركة اللبنانية اتلغت وكده هيكون عنده خسارة كبيرة لأنه كان داخل بتقله في الصفقة دي.
_ تمام يا غسان.
ولم يضف المزيد، لينسحب "غسان" وهو يدرك سوء مزاج رئيسه.
وها هو "مراد" قد رد الضربة مضاعفة.. والآن الطير يحلق فوق رأس "دياب"...
____________
رنت على هاتفها ثلاث مرات حتى ردت أخيرًا، لتقول بتوبيخ:
_ كده يا فريال قلقتيني عليكِ، كل يوم كده ارن كام مرة لحد ما تردي.
وفي منزل فريال... بسوهاج، تحديدًا منزل والدتها...
كانت متقوقعه حول ذاتها، تجلس ضامة ركبتيها لصدرها، ورأسها فوقهما، ووجهها شاحب ويظهر عليه الإرهاق واضحًا، أخذت نفسًا عميقًا واجابت بنبرة متحشرجة:
_ معلش... أنتِ خابرة إني مببجاش عاوزه اتحدت..
_ ولحد امتى بس! أنتِ بقالك ٥ ايام على وضعك ده، وكده هتتعبي، فوقي يا فريال بقى كفاية ضعف.
وجملة "خديجة" الأخيرة كانت حادة لعلّها تفوق لنفسها، لتجري دموعها فوق وجنتيها وهي تبدأ في البكاء:
_ مش جادرة، حاسة إني هموت من الجهرة، حاسة جلبي بيوجعني جوي يا خديجة جوي...
لانت نبرة "خديجة" وهي تقول:
_ يا حبيبتي من الأول قولتلك الانتقام مبيجبش غير وجع القلب، من وقت ما كلمتك وقولتيلي إنك عاوزه ترجعيله عشان تنتقمي للي عمله فيكِ، قولتك بلاش يا فريال.. الانتقام مؤذي للطرفين، وممكن أنتِ اللي تنضري، قولتلك انتقامك الحقيقي انه يشوفك ناجحه، وقوية، واحسن من غيره، بس أنتِ اللي مسمعتيش يا قلبي.. ودلوقتي هتسبيه برضو يتشفى فيكِ؟ وأنتِ محبوسة في بيتكوا من يومها، واكيد بيوصله اخبارك.
استمعت لصوت يقترب من غرفتها وفجأة فتحت "سُرية" الباب وهي تنظر لها، ثم سألتها:
_ بتتحدتي ويا مين؟
قالت "خديجة" من الجهة الأخرى:
_ يييي، بقولك انا هقفل مش ناقصة حرقة دم.
أنزلت "فريال" الهاتف بعد إعلان غلق المكالمة لتقول "سُرية" بسخرية:
_ تبجى خديجة، مادام جفلت اول ما سمعت صوتي بحدتك.
اومأت برأسها صامتة، لتقترب الاخيرة تقف أمام فراشها تهدر فيها بغيظ وداخلها يغلي:
_ بعدهالك يا بت أنتِ؟ هتبجي على وضعك ده لميتى؟
_ اعمل ايه ياما! اجوم اولع في حالي عشان ترتاحي، ولا اروح احب ع يده عشان يرجعني؟
قالتها بهياج وهي تقف بعصبية، لتجيبها والدتها:
_ لا يا خيبه يا بنت الخيبة، مجولتلكيش من الاول تروحي تتنازلي عن ورثك وحجك عشان يرجعك، اول ما عرفت انك رجعتي البلد وروحتيله عشان يردك وتتنازلي عن ورثك جريت الحجك، ولولا وجودي كان زمانك لا طايلة ابيض ولا اسود، بعد ما ضحك عليكي وطلجك تاني.
تذكرت ذلك اليوم حين طعنها طعنته الأخيرة، كانت تخطط للانتقام منه، لكن ما لم تضع له حسبان ان خطته سبقت خطتها، فبعد أن حضر المحامي لتتنازل عن ورثها ومضت الاوراق، فاجئها يخبر المحامي أن يناولها أوراق الطلاق لتمضي عليها، وفي اللحظة كان يطلق كلمته القاتلة للمرة الثانية "أنتِ طالق" جملة اصابتها في مقتل، وشعرت بهدم الدنيا فوق رأسها، ولولا والدتها التي أتت كالطلقة النارية تخطف أوراق التنازل وتمزقها إربًا لكانت خسرت كل شيء..
وحينها هي من طلبت منها أن تمضي أوراق الطلاق، وصرخت ب "ابراهيم"
" من اللحظة دي لا ليك علاجة بيها ولا بيا، يا خسارة تربيتي فيك لما تنهش لحمك ولحمي، الطمع عمى جلبك وخلاك تجور على حج بت عمتك اللي ربتك وطول عمرها بتعتبرك ولدها، اخص عليك وعلى تربيتك اللي هي تربيتي"
وكانت النهاية في علاقة عمتها ب "ابراهيم" فهو لم يتراجع بل وقف يتبجح ويهدد بأنه لن يترك حقه..
نظرت لوالدتها بصمت منكسر، لتتجه" سُريه" للخروج ووقفت على باب الغرفة تنظر لها بجمود وقالت:
_ اعملي حسابك السنة الدراسية باجي عليها ٣ شهور.. هجدملك في الجامعة عشان تكملي تعليمك وهترجعي تجعدي في القاهرة.. بس المرادي هتروحي تجعدي مع بت خالك، باهر مفاضيش تجعدي وياه وحاله الملغبط مع مرته، غير إني خابره مهترتاحيش غير ويا خديجة.
وخرجت، تاركة "فريال" شاخصة ببصرها ذهولاً خلفها..
_____________
_ تخيل يكون شايف ابنه حياته متنكدة وتايه بسبب انه مش لاقي البنت اللي بيحبها، ويكون عارف مكانها لا وكمان بيبعدها عنه! بيقطع كل طريق يوصله ليها! أنا كنت عارف انه كان عارف مكانها بس متخيلتش انه كان بيضللني..
قالها "مراد" وهو ما زال جالسًا على مقدمة سيارته، يتحدث في هاتفه مع "طارق" الذي هاتفه ليعرف منه آخر الأخبار، ليقول الأخير:
_ مش مستغرب.. حسن بيه طول عمره اهم حاجة مصلحته، هو كان شايف ان وجودها هيضعفك او هيحنن قلبك فممكن تنشغل عن شغلك او حتى تقنعك تبعد عن الشغل، وطبعا ده مش لصالحه ابدا، عشان كده عمل اللي عمله، رغم اني متخيلتش بردو، بس مش مستغرب حقيقي...
غامت عيناه بنظرة حزن ممزوجة بألم، وتنهد بحرقة وهو يقول:
_ أنا بقى مستغرب... ومش مصدق انه قدر يعمل ده، ده كويس انه مأذهاش.. أنا كل ما اتخيل انه كان ممكن يأذيها او يخلص منها ااا....
صمت وهو لا يستطيع التكملة، مجرد تخيله للأمر يقتله، لقد كان يضع يده عليها طوال السنوات التي كانت غائبة عنه فيها...
_ وهتعمل ايه؟
سأله "طارق" ليجيبه:
_ اخلص بس من النهاردة، عشان عيد ميلاد خديجة، وبكره هتحصل مفاجأة للكل محدش يتوقعها...عشان اللي يجي على حاجة تخصني يبقى كتب نهايته حتى لو كان...... ابويا..