رواية فوق جبال الهوان الفصل الثالث والعشرون
لم يكن من السهل عليه تركها بمفردها في هذا الجو المعبأ بالخطر؛ لكنه أراد إبعاد الأعين عنها، فلا تتعرض للتهديد أو الإيذاء. انتهى "زهير" من حديثه لتابعه، وأمره بإحضار السيارة على مقربة من المكان، ليتجه إلى البناية المتهالكة، صعد بحذرٍ على سلم الدرج، لتنفلت منه صيحة مذعورة تنادي باسمها عندما وجدها ملقاة على الأرضية، والدماء تضرج من وجهها:
-"دليـــــلة"!
هرع إليها، جثا على ركبته، ثم مد ذراعيه تجاهها ليرفعها من كتفيها بحيطةٍ للأعلى، أدارها برفقٍ ثم أسندها على صدره، ولف ذراعه حول جسدها ليبقيها في أمان، ثم وضع إصبعه على منحنى عنقها متحسسًا نبضها، تنفس الصعداء لأنها كانت لا تزال على قيد الحياة. ظن أن أحدهم قد تعرض لها في غيابه، فهتف في استياءٍ نادم:
-يا ريتني ما سيبتك لوحدك!
خشي أن تسوء حالتها، فمرر ذراعه الآخر أسفل ركبتيها، ثم حملها بحذرٍ ونهض قائمًا، ليعاود أدراجه بها إلى الأسفل.
التقى به تابعه متسائلًا وقد أسرع ناحيته ليعاونه:
-إيه اللي حصل يا ريسنا؟
رفض أن يساعده وهو يجاوبه:
-مش متأكد بالظبط.
أضاف التابع مؤكدًا:
-المكان كان متأمن، ومافيش حد هوب من هنا.
سارع "زهير" في خطاه نحو السيارة هاتفًا:
-مش هنضيع وقت في الرغي، خلينا دلوقت نوديها على أقرب مستشفى.
سار على نفس سرعته مرددًا:
-ماشي يا كبيرنا.
ثم تقدم عليه ليفتح باب السيارة الخلفي، وضعها برفقٍ على المقعد، ثم جالسها ليسند رأسها على كتفه، وألقى أمره على تابعه:
-طير أوام.
-عُلم يا ريس.
قال جملته تلك وهو يجلس خلف عجلة القيادة لينطلق بأقصى سرعته إلى المشفى.
..................................
صدرت الأوامر بنقل كافة أتباع "العِترة" بما فيهم هو إلى التَبَّة العالية، ليتم التعامل معهم لاحقًا، لتعود الأوضــاع إلى هدوئها الطبيعي، وتبدأ مراسم العزاء واستقبال المعزيين. جلس "كرم" في أول السرادق ينفث دخان سيجارته في الهواء، وإلى جواره "عباس"، فمال الأخير عليه يسأله:
-هنبلغ الحبايب كلهم باللي جرى هنا؟
التوى ثغره بابتسامة مغترة قبل أن يخبره:
-الأخبار زمانها طارت، واتحط خلاص على "العِترة"، وشغله كله هيجي لحد عندنا.
في شيء من المدح عقب:
-طول عمرك دماغ يا كوبارتنا.
أضاف "كرم" في استهزاءٍ:
-مفكر إنه بشوية الدلاديل بتوعه عرف أسراري، ده أنا بير غويط، مالوش أرار...
لفظ دفعة أخرى من الدخان متابعًا إلقاء أوامره:
-أمن الحتة كويس، ولو في عوأ تاني اتعامل.
هز رأسه مرددًا بابتسامة واثقة:
-حصل من غير ما تقول يا ريسنا.
استحسن رده، ونهض ليصافح أحدهم ممن جاء لتقديم واجب العزاء، متبادلًا معه باقتضابٍ بعض الأخبار المقتضبة عن الأعمال المشتركة بينهما.
............................
بين الحين والآخر كانت تخرج إلى الشرفة لتنظر إلى المارة، ويدها لا تفارق هاتفها المحمول، ظلت "عيشة" تدق تارة على صدرها، وتارة على فخذها، ولسانها لا يتوقف عن التضرع في خوفٍ مشوبٍ بالرجاء، خاصة بعدما حل المساء ولا يوجد أي خبر عنها:
-استرها يا رب، عديها على خير.
استدارت ناظرة إلى جانبها عندما وجدت "إيمان" تنضم إليها في الشرفة، فهتفت مرددة بتوجسٍ مبرر:
-أختك ما ظهرتش لحد دلوقت.
لم تقل ابنتها شيئًا، ولاذت بالصمت، فيما استمرت والدتها في لومها:
-يا ريتك كنتي قولتيلي ساعتها، كنت اتصرفت ومنعتها تنزل من الأساس.
ردت عليها بعدما ضغطت على شفتيها قليلًا:
-اللي حصل يا ماما، وبعدين احنا كنا ملبوخين في الراجل اللي نصب على بابا الله يرحمه في حقه.
استبد بها الخوف فأكمل على نفس النهج المرتاع:
-أكيد حصلها حاجة، ما هو غيابها ده مش طبيعي.
حاولت تبديد مخاوفها المبررة بقولها المتفائل:
-إن شاء الله هتلاقيها راجعة وداخلة علينا.
ضاق ما بين حاجبي "عيشة"، وسألتها في لهجةٍ شبه مستنكرة:
-والمحروس جوزك طبعًا كالعادة مش بيرد.
قالت مصححة:
-تليفونه مقفول...
ثم تنهدت مليًا، وأضافت في ضجرٍ، وبدون صوتٍ، كأنما تحادث نفسها:
-أنا مش عارفة اختفى فين هو كمان!!
عادت لتنظر إلى أمها، وسألتها في جديةٍ:
-هننزل العزا تحت يا ماما ولا هنعمل إيه؟
ردت بصوتٍ محبط، ينم عن قلة الحيلة:
-وهو احنا نقدر نقول لأ؟ إنتي شوفتي العالم اللي واقعين معاهم عاملين إزاي.
وافقتها في رأيها، فمن يقدر على مجابهة هؤلاء الأشداء، لتستمع إلى والدتها تدعو في رجاءٍ:
-ربنا يخرجنا منها على خير.
ردت مؤمنة عليها:
-يا رب أمين.
ألقت "عيشة" أمرها الأخير عليها قبل أن تتحرك عائدة إلى الصالة:
-نادي على عمتك، وخلينا ننزل.
-حاضر.
قالت كلمتها الموجزة وهي تتجه إلى حيث تجلس عمتها، فيما حاولت كذلك إعادة الاتصــال بهاتف زوجها الذي يبدو وكأنه قد قطع صلته بما يخص عائلتها عن عمدٍ، لئلا تزعجه بمشاكلها.
.................................
بغنجٍ كانت تتعمد المبالغة في إظهاره، خاصة حينما تتواجد معها بنفس المكان، طرحت "وِزة" حجابها الأسود على رأسها بعدما أغلقت أزرار عباءتها التي تحمل نفس اللون، لتنظر بترفعٍ واستعلاء تجاه الأريكة الجالسة عليها "توحيدة". تمايلت في مشيتها المائعة، إلى أن اقتربت منها، ثم هتفت قائلة بصوتٍ مسموعٍ للجميع:
-الدنيا هدت دلوقت يا نسوان...
ركزت بصرها على عدوتها اللدودة التي تكرهها من أعماق قلبها وهي تتم باقي جملتها في لهجةٍ تحمل التحذير:
-بينا نروح العزا، بدل ما كوبارتنا يزعل، وأديكو شوفتوا قلبته عاملة إزاي.
فيما أمسكت "توحيدة" برسغ "خضرة" الواقفة إلى جوارها، لتجبرها على الانحناء ناحيتها، وسألتها في صوتٍ خفيض ينم عن حنقها:
-هي مش المفروض شربت المدعوق إياه؟
أكدت لها بإيماءة صغيرة من رأسها:
-أيوه يا أبلتي.
سألتها في استرابةٍ، ووجهها يوحي بغليلٍ متصاعد:
-أومال مالها فايقة زي الجن كده ليه؟ المفروض تكون دماغها سافرت دلوقت!!!
علقت عليها في تحيرٍ:
-مش عارفة، هي دي بيجوز فيها حاجة!
أطلقت "توحيدة" سبة خافتة، وزادت ملامحها تجهمًا، لتتساءل "خضرة" مرة ثانية في جديةٍ:
-هنعمل إيه يا أبلتي؟ هنروح العزا؟
بامتعاضٍ لا يمكن إنكاره ردت:
-لازمًا، بس مش هنروح مع السناكيح دول، لما يغوروا الأول.
وافقتها الرأي قائلة في طاعةٍ:
-حاضر يا ستي.
عادت "وِزة" لتقف في مواجهة "توحيدة" ثم رفعت قدمها للأعلى ووضعتها على مسند أريكتها لتنتعل حذائها أمامها، مما أثار حنقها من أسلوبها المستفز والمغيظ في التعامل، وقبل أن تنطق بشيءٍ محتج، وجدتها تسألها في استخفافٍ:
-مش ناوية تيجي معانا يا .. "توحيدة"؟
استندت بيدها على طرف ذقنها، وأخبرتها في استعلاءٍ:
-أنا أروح بمزاجي، مش حتت بتاعة زيك اللي هتمشيني، وتديني الأوامر.
ردت عليها تهددها بانفعالٍ طفيف:
-البتاعة اللي زيي دي اللي هتربيكي، وتطفحك الدم بحق كل حاجة سودة عملتيها فيا...
غامت عيناها أكثر، وصارت قسماتها مشدودة إلى حدٍ كبير حينما أنهت جملتها:
-اصبري بس على رزقك يا .. "توتو".
اشتعلت "توحيدة" حنقًا من محاولاتها المستمرة لإخراجها عن شعورها، لذا هتفت تنذرها في غير صبرٍ:
-بت إنتي غوري من قدامك أحسنلك.
قالت "وِزة" في غير مبالاة، مستمتعة بالتحقير من شأنها أكثر:
-دورك جي يا...
ثم أطلقت ضحكة رقيعة مستهزئة بها، فنجحت في استثارة أعصابها، لتتفاجأ بها تقفز من موضع جلوسها صارخة:
-بت إنتي ما تخلنيش أتجن عليكي.
كادت تتشابك معها بالأيدي لولا أن تدخلت "خضرة" بجسدها، وحالت بينهما هاتفة في جزلٍ، وبأعجوبةٍ استوقفتها قبل أن تتصرف بحماقة، فتندم لاحقًا على ذلك:
-اهدي يا أبلتي، ما تحرقيش في دمك بسببها.
تراجعت "وِزة" مسافة خطوتين قائلة بازدراءٍ وهي تشير إليهما بسبابتها:
-النار دي اللي هتحرقكم إنتو الجوز...
قست عيناها بشكلٍ ملحوظ، خاصة حينما اختتمت عبارتها:
-وبكرة تشوفي.
حاولت "توحيدة" إبعاد تابعتها عن محيطها لتنقض على تلك اللعينة، وصوت صراخها يصدح:
-سيبني يا "خضرة" عليها، أنا هموتها.
توسلتها في رجاءٍ وهي تبذل كل الجهد للحول بينهما:
-علشان خاطري أنا يا أبلتي، اهدي بالله عليكي.
غادرت "وِزة" ومن ورائها لحقت بها كافة النساء في هذا المنزل، لتعاود "توحيدة" الجلوس على الأريكة وصدرها يلهج بقوةٍ، ارتفع صوت أنفاسها وهي تخاطب "خضرة" في حدةٍ:
-نصيبة واتحدفت عليا، يا ريتني موتــها مع ابنها، ولا كنت سيبتها تعيش وتعمل ريسة عليا!
ردت عليها فيما يشبه الوعد:
-كله في ميعاده هيحصل.
بمجرد أن خرجت من المنزل، وأصبحت على سلم الدرج، توقفت "وزة" واستدارت ناظرة إلى إحدى التابعات المخلصات لها، سألتها في جديةٍ، وبصوتٍ خفيض:
-ها، سجلتي اللي اتقال؟
أومأت برأسها قائلة وهي تبسط راحتها بالهاتف:
-حصل يا ست "وِزة".
التقطته منها قائلة في شماتةٍ وحقد:
-توريني هتطلع من المغرز ده إزاي!!!
...................................
لم يتوقف عن هز ساقه في توتر وهو يرتكن بظهره على الحائط البارد، كتف ساعديه أمام صدره، وظلت عيناه مرتكزتان فقط على الردهة المقابلة له، منتظرًا خروج من يطمئنه من غرفة الطوارئ على حالتها الصحية. أطبق على جفنيه للحظةٍ، فسطع في مخيلته صورة وجهها الغارق في دمائه، ومحاولته المستميتة لإفاقتها، إلا أنها ظلت فاقدة للوعي، لا تتجاوب معه، فارتعد داخله من احتمالية تدهور وضعها.
فتح "زهير" عينيه عندما خاطبه تابعه مستطردًا وهو يشير إلى هاتفه المحمول:
-الكوبارة بيسأل عليك يا ريسنا.
تنهد في إرهاقٍ، وأمره:
-قوله إني في حوار، وجاي بعد شوية.
هز رأسه معقبًا قبل أن ينصرف:
-تمام يا كبير.
غادر بعدها ليتركه بمفرده، فلمح أحد الأطباء قادمًا من على مسافة قريبة، انطلق صوبه متسائلًا بشيءٍ من اللهفة:
-خير يا دكتور؟ هي عاملة إيه؟
أجابه شارحًا وهو يدس يديه في جيبي معطفه الأبيض:
-مخبيش عليك، عندها ارتجاج في المخ، الخبطة مكانتش بسيطة، واحتمال يكون في مضاعفات، وده مش هيبان إلا لما تفضل محطوطة تحت الملاحظة.
توقع ذلك مما رآه ظاهريًا عليها، انتقل إلى سؤاله التالي مستفهمًا:
-طب هي فاقت؟
انعكست على تعابيره علامات الضيق وهو يخبره بحذرٍ:
-للأسف لسه، ونأمل إنها ماتكونش دخلت في غيبوبة.
وكأن كل ما فيه انتفض خوفًا عليها، فهتف مصدومًا وقد امتدت يداه لتمسك به من تلابيبه:
-غيبوبة؟ اتصرف يا دكتور وعالجها.
ذعر الطبيب من انفعاله المفاجئ، وحاول تهدئته وهو يسعى للفكاك من قبضتيه المحكمتين عليه:
-تمام، احنا هنعمل كل اللي علينا، اطمن.
سرعان ما أرخى أصابعه عنه ليمضي الطبيب مسرعًا قبل أن يثور عليه مجددًا، ويحمله ذنب تقصيره في عمله، وكأنه المتسبب في حادثها المأساوي، ليظل "زهير" غارقًا في أفكاره المضطربة لبعض الوقت وهذا الصوت اللائم يتردد صداه في عقله:
-دي غلطتي من الأول إني بعدت عنها!
رفع يده أعلى رأسه ليفركها متابعًا حديث نفسه:
-العمل إيه دلوقت؟!
......................................
ترقب بعينين كالصقر مدخل البناية حينما بدأت النساء تخرج منها واحدة تلو الأخرى في تتابع منتظم، توقع أن تظهر في أي لحظة بينهن، فترك موضعه بالمقهى ليتحرك ببطءٍ للأمام، دق قلبه بقوةٍ عندما لمحها تسير في المؤخرة، ورأسها محني بشيءٍ من الخزي، سرعان ما استحوذ عليه غضبه، فهدر عاليًا بما يشبه الزمجرة:
-"مـــروة"!
تجمدت في موضعها فجأة، والتفتت برأسها نحو مصدر الصوت الذي تعرفه جيدًا، لتتسع عيناها على سعتهما في ارتعابٍ حقيقي حينما وجدت شقيقها في مرمى بصرها، لم يطرأ ببالها للحظةٍ أن يتمكن من الوصول إليها، هنا في أقاصي الأرض! ارتجفت شفتاها مرددة بصدمةٍ كبيرة:
-"موجي"!
استمر في تقدمه ناحيتها هادرًا بغليلٍ حانق للغاية:
-كنتي مفكرة إني مش هعرف أوصلك يا بنت أبويا؟
ارتعش كامل بدنها لرؤيته، عجزت عن الهروب، وكأن قدماها ترفضان الانصياع لرغبتها في الفكاك من بطشه الأكيد، بهتت ملامحها وهمهمت بصوتٍ متقطع:
-أنا .. آ..
قطع المسافة الفاصلة بينهما في خطوتين، ليقبض على رسغها في لمح البصر، شهقت في ذعرٍ كبير، وشعرت بأصابعه تعتصر يدها، لتنظر إليه بعينين زائغتين وهو ينعتها:
-إنتي إيه يا فاجــــرة؟!!!
لم تجد ما تدافع به عن نفسها، فصدمة اللقاء به شلت تفكيرها بالكامل، وجعلتها عاجزة حتى عن الكلام أو الهرب، ليتابع صياحه بها وهو يزيد من ضغطته القاسية على معصمها:
-عملتي فينا كده ليه يا مجرمة؟
رغمًا عنها أجهشت بالبكاء المرير وهي تحاول تبرير موقفها واستمالة قلبه ومشاعر الرأفة لديه:
-أقسم بالله مظلومة، واللي حصل كله ده كان غصب عني، والله العظيم أنا اتضحك عليا، وواقعة في عرضك.
بدت وكأنها تسخر منه بأسبابها المستفزة تلك لتبرر العار الذي لحق بسمعة العائلة، فما كان منه إلا أن رفع يده الأخرى ليهوي بها وجنتها، فصفعها بقساوةٍ جعلت رأسها يرتج، بينما انفلتت من بين شفتيها شهقة متألمة كانت أقرب للصراخ، فيما واصل تعنيفه اللفظي لها بحرقةٍ وحِدة:
-هو إنتي خليتي فيها عرض ولا شرف يا بنت الكـلب؟!!
برقت عيناها في هلعٍ أشد عندما أظهر سكينًا مخفيًا ليهددها به:
-اتشاهدي على روحك، أنا هخليكي تحصلي اللي سبقك.
أدركت أن نهاية موتها الحتمية قد حانت، ولا مناص لها منه، إلا أن "وِزة" كانت أول من انتفض لإنقاذها، فقد رأت ما يدور بينهما بعدما خرجت متأخرة من المدخل، لتبحث في عجالةٍ عما يساعدها على تخليصها من هذا المتربص الحقير، فضربته على رأسه بحجارةٍ التقطتها من على الرصيف، لتصرخ بعدها مستنجدة بصوتٍ مفزوعٍ ومرتفع:
-انجدونا يا ناس، الراجل الغريب ده بيتعرضلها.
نجت "مروة" بأعجوبة من الهلاك الأكيد، لتشعر بذراعين تدفعان إياها للأمام وهذا الصوت الأنثوي يأمرها:
-اجري يا "سمارة".
تأوه "موجي" من الألم، ووضع يده على موضع الضربة ليجد بقعة من الدماء قد اصطبغت بها أصابعه، إلا أنه تحامل على نفسه وصاح في تصميمٍ:
-مش سايبك النهاردة.
سحبتها "وِزة" نحو سرادق العزاء، وصوت استغاثتها يسبقها:
-إلحقنا يا كوبارتنا.
انتفض واقفًا من على كرسيه الخشبي عندما رأى الاثنتان تقبلان ركضًا عليه، فتساءل في تحفزٍ:
-في إيه اللي بيحصل هنا؟
بينما نهض من يتواجدون في محيطه يتابعون باستغرابٍ ما يدور، ليجد "كرم" أحدهم يركض في إثرهما ليلحق بهما صائحًا بلهاثٍ:
-البت دي تخصني!
ثارت نزعة الذكورة والتملك به، فاعترض طريقه متسائلًا بغلظةٍ:
-مين دي اللي تخصك؟ إنت اتخبلت في مخك؟ البت دي تبع حريمي.
نظر إليه "موجي" باستحقارٍ قبل أن يلعنه:
-حريمك يا نجــس!
مستخدمًا قبضتيه وكزه "كرم" بقوةٍ في صدره، وقد بدا متهيئًا للتشاجر معه بدنيًا، وبكل عداء وشراسة:
-ده إنت بتغلط بقى؟
أشهر السكينة في وجهه مهددًا إياه علنًا، وبشكلٍ سافر:
-وأخلص عليك لو مبعدتش عن طريقي.
استقبل تهديده باستهزاءٍ ساخر، فضحك أولًا بتسليةٍ، قبل أن يتحداه بجراءةٍ معهودة فيه:
-لا والله، طب قرب كده، وريني المرجلة يا جدع!
بينما اعترض أخرون طريق رفيقه الذي هب لمساعدته محذرًا:
-خد بالك يا "موجي"!
إلا أن الأخير تجاهله، وبقي بمفرده في مشادته العنيفة مع ذلك الصنديد القوي، حيث لوح في البداية بالسكين في وجهه، وكاد يصيبه بنصلها المدبب، إلا أنه تفاداه باحترافيةٍ. تركه "كرم" يظن أنه قادر على مجابهته، بل وهزيمته أيضًا بحركاته الخرقاء التي يسهل تخمين اتجاهها، فسحبه إلى خارج السرادق، ليوسع من دائرة الاشتباك، فقد كان مخضرمًا في تلك النوعية من المشاجرات الفردية، أنهكه واستنزف قواه بهدوءٍ قبل أن يهجم عليه بكل شراسةٍ وعنف، ليسدد لكمة قاسية في وجهه، أتبعها بضربة مباغتة في عنقه جعلت أنفاسه تختنق، ليعاجله بلكمة أقوى في أسفل معدته، قبل أن ينتزع من يده السكين، ويطرحه أرضًا بضربةٍ أشد عنفًا على ظهره، لينهال عليه بركلاتٍ متعاقبة جعلته يتكوم على نفسه، ويئن من الألم الشديد الذي عصف به بضراوةٍ.
انتهت المشاجرة قبل أن تبدأ فعليًا، ليجد "موجي" نفسه مقيدًا من يديه خلف ظهره، وجاثيًا على ركبتيه في وضعٍ مهين، على مسافة تبعد عدة أمتارٍ عن سرادق العزاء، شبه خالية تقريبًا من المارة، لينطق بصوتٍ أقرب للفحيح:
-أنا عايز أختي.
سأله "كرم" وهو يمرر النصل على صدغه، كأنما ينغزه به:
-أختك؟
رد عليه في تعصبٍ:
-أيوه أختي اللي فـــجــرت وهربت من البيت علشان تبقى مع اللي زيك.
غرز طرفه المدبب في خده قائلًا بتحفزٍ:
-زيي؟ هي تطول أصلًا؟!!
تأوه من الألم الحارق وهو يشعر باختراقه لجلد وجهه، مستشعرًا تدفق ذلك السائل الأحمر الدافئ منه وانسيابه على ذقنه، ليلطخها.
.............................
في تلك الأثناء، ظلت "مروة" غالبية الوقت تتوارى عن الأنظار، تخشى أن ترى ما ألت إليه الأمور مع شقيقها الهائج، إلى أن علمت بهزيمته، فخرجت من مخبئها بالسرادق، لتبحث عنه. وجدته على هذه الوضعية الذليلة. حز في قلبها أن تراه هكذا، مهانًا، يعاني بسبب جريمتها النكراء، فأشفقت عليه، وتقدمت بخطواتٍ حذرة تجاهه قائلة بندمٍ:
-كان غصب عني والله يا "موجي"، أنا اتضحك عليا من "بغدادي" الكلب، صدقته ومشيت وراه، وكنت مفكرة إنه هيتجوزني، بس كانت حجة علشان يجرجرني بيها بعيد عن أهلي وناسي.
انتقلت كافة الأعين ناحيتها، وكأن ظهورها مجددًا بعدما استنجدت بمن يحميها فيه شيءٍ من الغرابة، بينما تطلع شقيقها إليها بنظرة نارية، وصاح معترفًا:
-ووصلته وخدت بتاري منه...
انقبض قلبها من كلامه الباعث على الخوف، لتزداد فزعًا على فزع بوعيده العلني:
-ولسه الدور عليكي يا بنت الـ...!
تحولت ببصرها عنه عندما صاح "كرم" في تهكمٍ، وكأنه يبدي شعوره بالسقم والملل مما يدور من مسرحية هزلية:
-ده إنتي طلع ليكي عيلة يا "سمارة" جاية تاخد حقها منك، مش واحدة سافلة جاية من الشارع!!
تحول خوفها إلى غضبٍ في طرفة عين، لتصيح في زئيرٍ مغتاظ مصححة له:
-أنا بنت ناس ومحترمة، وإنت عارف ده كويس، وبعدين اسمي "مروة" مش "سمارة".
قال بغير اكتراثٍ وهو يلقي بالسكين أرضًا:
-ما تفرقش.
عاد "موجي" ليلومها بصوتٍ يشي بحزنٍ عميق:
-عملتي فينا كده ليه؟ قبلتي تحطي راسي في الطين وتلبسينا العار ليه؟ قوليلي أنا قصرت معاكي؟ حوشت عنك حاجة؟
هزت رأسها بالنفي، فيما أكمل بصوتٍ معاتب قد ترقق قليلًا:
-ده أنا حرمت نفسي من كل حاجة علشان أجهزك، وأطمن عليكي وأوصلك بنفسي لابن الحلال اللي يستاهلك، ليه تكسريني قصاد الخلق؟ ليه ما بقاش قادر أمشي وراسي مرفوعة زي زمان؟
بكت متأثرة، وتحركت صوبه قائلة بأسفٍ:
-أنا غلطانة يا أخويا، أنا اللي كنت هبلة وغبية، ومشيت ورا شيطان دماغي، سامحني، وأنا قابلة أي حاجة منك، حتى لو غسلت عارك ومـــوتنــي.
قبل أن تصل إليه امتدت ذراع "كرم" لتقبض عليها من ساعدها، فشهقت مذعورة، والتفتت برأسها للجانب لتجده يحدجها بنظرة مميتة متسائلًا:
-رايحة فين يا حلوة؟
أجابته وهي تتلوى بمرفقها بقوةٍ محاولة الخلاص من قبضته:
-عند أخويا.
جذبها إليه ليرخي قبضته للحظةٍ عنها قبل أن تتفاجأ به يطوقها من عنقها، مُضيقًا عليها الخناق، وصوته يهمس في أذنها:
-مش بمزاجك.
سعلت من ضغطه على مجرى تنفسها هاتفة:
-ابعد عني.
أبصر "موجي" ما يحدث بينهما من بغضٍ واضح، فانحاز إلى شقيقته لا إراديًا، وحاول النهوض صائحًا بما يشبه الاحتجاج:
-سيب أختي!
نظر إليه باستخفافٍ، ليرد وهو يميل بفمه على بشرة وجهها، وكأنه يتعمد استفزازه:
-لأ، لما يجيلي الشوق وأزهق، ولا إيه يا مراتي؟
ردد "موجي" مذهولًا:
-مراته!
نفرت من طريقة تودده الحميمية إليها بهذا الشكل الصارخ أمام أعين الجميع، وكأنه لا يملك أدنى ذرة حياءٍ ليفعل مثل تلك الأمور المتجاوزة علنًا، وهتفت بعينين تفيض منهما دموع القهر:
-أنا مش طايقاك، إنت اتجوزتني غصب.
ارتخى ذراع "كرم" عن عنقها لتتمكن من التحرر منه، ليصدمها بقوله المتأفف:
-وإنتي ما بقتيش تلزميني زي الأول.
حملقت فيه بغير تصديقٍ، لتجده يأمر من حوله:
-فكوا الأخ ده، ولموا شمل الأسرة مع بعض.
فعل أتباعه ما أمر في التو، وقاموا بتحريره، ليركل بعدها "كرم" السكين الملقى أرضًا بقدمه تجاه "موجي" متابعًا بتسليةٍ:
-إنت حر بقى معاها دلوقت، تخلص عليها، تغسل عارك، تطفي نارك، ما يخصنيش...
ليطلق بعدها ضحكة سخيفة قبل أن يكمل:
-أصلها خرجت من ذمتي، وبقت طالق!
ضغط على كلمته الأخيرة فتجمدت نظرتها المذهولة عليه، لقد أعطاها صك الحرية أخيرًا، لتقول وهي تبتسم من بين دموعها:
-الحمدلله يا رب...
ثم التفتت ناظرة نحو شقيقها لتخاطبه:
-وأنا جاهزة ياخويا للي إنت عايز تعمله، أهوو أرحم من الجحيم اللي كنت عايشة فيه
امتدت يده لتقبض على السكين، وقبل أن يندفع تجاهها، اعترض رفيقه طريقه هاتفًا:
-سيبها يا "موجي"، أنا هتجوزها .......................... !!!