رواية الحصان والبيدق الجزء الثانى من بك أحيا الفصل الواحد و العشرون بقلم ناهد خالد
الحب أفعال، ليس أقوال.. والفعل هو ما يصل للقلب أسرع، ويكون ترسيخه أقوى من مجرد قول يُقال"
_ خديجة؟ حبيبتي؟
انتبهت لصوته ينتشلها من شرودها، نظرت له بتيه للحظة قبل أن تعي أنها الآن معه، يلتقطون صور العرس، وليست في غرفتها تتحدث مع حسن وتسمع تهديده عبر الهاتف، ابتسمت بزيف وهي تجيبه:
_ نعم؟
ضيق عيناه ينظر لها بتفحص:
_ مالك؟ أنتِ كويسة؟ سرحانة في ايه للدرجادي!؟
_ حسن مش هيسيبك... هيدمر حياتك يا خديجة زي ما دمرتي حياتي.
تحولت عيناها فورًا تنظر لجهة فارغة، لترى "سارة" تقف بها، بابتسامة شامتة، وملامح منتصرة، تحدثها، وتكمل:
_ هيفضحك واللي خبتيه هيتكشف، أنتِ خدتي مكان مش مكانك يا خديجة، خدتي حق مش حقك.
ادمعت عيناها رغمًا عنها وهي تستمع لحديث الأخيرة قبل أن تعاود قول:
_ قوليله؟ تقدري تواجهيه؟ قولي لمراد حقيقتك، عرفيه أنتِ مين، ده لو أنتِ نفسك عارفة!
تساقطت دموعها عجزًا وقهرًا، وهمست بصوت وصل له رغم خفوته:
_ معرفش... معرفش.
أقلقه حالتها، وتأكد أنها ترى "سارة" لقد عادت هلاوسها مرة أخرى، بعد أن مضى أكثر من خمسة عشر يومًا على آخر مرة رآها بحالة كهذه، وأخبرته أنها لم تراها منذ أسبوع، لم تطاردها كالعادة، لكنه توقع أن تفعل اليوم، وقد أنبأه الطبيب بإمكانية هذا، فعقلها الباطن لن يدعها تستمع بيومها بهذه البساطة، ر فع كفيهِ يكوب بهما وجهها، ووجهه لينظر لوجهه، قبل أن يحدثها:
_ خديجة، حبيبتي بُصيلي، خديجة ركزي معايا يا حبيبتي.
وأخيرًا نظرت له، ليدرك أنها بدأت تعي، أشار للمصورين برأسه أن ينصرفوا ففعلوا، توجه بها لكرسي موجود في ساحة التصوير، وجلس فوقه وجذبها لتستقر فوق قدميهِ باستسلام تام وكأن عقلها غائب عن الحاضر، أمسك كفها الأيمن يمسده بكفه، والكف الآخر يمرره على خدها بلطف ليزيل أثر دموعها، وهو يقول:
_ اهدي، مفيش حاجة أنتِ معايا.
نظرت له صامتة، فاستحثها على الحديث يسألها:
_ شوفتيها؟
اومأت برأسها بضعف، ليميل رأسه قليلاً بألم من حالتها وما وصلت إليه، أليس مقدر لها أن ترتاح؟ وأكثر ما يؤلمه هو عجزه عن مساعدتها، و كونه السبب فيما تعانيه مهما أنكر...
_ ليه ردتِ عليها؟ مش اتفقنا إنك مش هتسمعي لكلامها، مش هتردي ومش هتبصيلها حتى.
ارتعشت شفتيها تنذر بالبكاء وهي تجيبه بانكسار:
_ معرفتش...
جذب رأسها لصدره يحتضن جسدها بأحد ذراعيهِ ورأسها بكف ذراعه الآخر، وكأنه يحميها من شبح مخيف، رغم إدراكه أن هذا الشبح يكمن بداخلها، قبل أعلى رأسها وهو يسألها هامسًا:
_ تحبي اجبلك قرص مهدأ؟
اومأت برأسها موافقة، فهي حقًا تحتاجه وبشدة كي تستطيع استكمال يومها، مدَ كفه لجيب سترته الداخلي ليخرج شريط أقراص ابيض اللون، نظرت له باستغراب وابتعدت عن حضنه تسأله:
_أنتَ شايله في جيبك؟
تنهد مجيبًا بهدوء رغم ضيقه:
_ عشان توقعت إنك ممكن تحتاجيه، رغم إني مش حابب ابدًا إنك تاخدي منه، مش عاوزك تتعودي عليه، بس عشان اليوم يعدي ومحدش يلاحظ حاجة.
أحنت رأسها بحزن واضح وهمست له:
_ عرفت ليه بخاف من التجمعات والناس الكتير، عشان أنا مش ضامنة نفسي.. لو الموقف ده كان حصل قدام حد كانوا هيقولوا عني...
قاطعها وهو يفتح فمها بإصبعيه ليضع القرص في فمها بلطف بعد أن التقط زجاجة المياة الموضوعة على طاولة مجاورة للكرسي:
_ هيقولوا عنك ست البنات وملكة قلبي، أنتِ مش شايفة طالعة حلوة ازاي!!
ابتلعت قرص الدواء في صمت، وعقلها يفكر بقلق من القادم، تُرى هل سينفذ "حسن" تهديده ويفسد يومها ويكشف حقيقتها أمام "مراد"؟
_ ممكن متفكريش في أي حاجة غير إنك تفرحي وبس؟
نظرت له تبتسم في هدوء وهي تخبره:
_ حاضر..
تم عقد القرآن بعد دلوفهما لساحة الاحتفال، وهذه المرة بكنيته الحقيقية ك "مراد حسن وهدان"، وشعوره في هذه اللحظة كان عاديًا، فهو اساسًا ليس مقتنع بهذه العادات الغير مهمة بالنسبة له، وليس مهتمًا بإعادة عقد القرآن، لأنه لا يشك في صِحة الأول، ولكن من أجلها وأجل والدته فعل...
والآن يتراقصان معًا على نغمات أغنية هادئة كرقصة افتتاحية للحفل، أحاط خصرها بذراعيهِ يقربها له بقدر ما يسمح له الفستان، والذي سمح له بقرب كبير، فهو انسيابي الحركة وباقترابه منها تراجع الفستان باتساعه للوراء، أحاطت عنقه بذراعيها بتوتر يضرب كل خلية بها، ليس فقط لقربه المبالغ بهِ، ولكن لكم العيون الواقعة عليها، والكاميرات التي لا تنفك تلتقط الصور في كل لحظة، شعر بتخشب جسدها بين يده وتوترها الواضح في تحركها معه، ليمسد بكفه على ظهرها صعودًا وهبوطًا وهو يقول بعدما مالَ على أذنها:
_ اهدي ومتفكريش في اللي حواليكِ، سيبي نفسك للحظة ومتشوفيش حد غيري أنا وأنتِ وكلمات الأغنية.
وهل تنقصه هو الاخر؟ لقد بدأت تفصل عما حولها بالفعل ولكن بدأ هو من يثير توترها، ومع ذلك بدأ تيبس جسدها يختفي مع مرور اللحظات وتركيزها في كلمات الأغنية التي تصدح في الأرجاء وشعورها بقربه منها وأنفاسه التي تضرب وجهها من حين لآخر حين يقترب برأسه زيادة..
..... أنا مكسب عمري إني قابلتك
غيرت في عيني الأيام
طمنتني ع الباقي في عمري
حققت لي كل الأحلام
أول ما عيونك دي بشوفها
مش بعرف أشوف غيرها خلاص
إنت هدية ربنا ليّ
إنت حبيبي وأغلى الناس
وبتحلى الدنيا في عيني
وأنا جنبك فما تبعدنيش
حُبك فعلاً بيخليني
أتمسك بالدنيا وأعيش
وفي قربك بيروح خوفي
وده وعد ومُلزم أنا بيه
مهما تكون يا حبيبي ظروفي
قلبك عمري ما هاجي عليه..
وفي نهاية الأغنية كان يحتضنها بقوة وحملها يدور بها عدة مرات تحت التصفيق الحار وعدسات الكاميرات تتسارع لتلتقط الصور لهذه المشهد الذي بدا وكأنه خرج من احد افلام السينما العالمية، وما عززه الآلات دفع البخار التي شكلت سحابًا وهميًا والتي تستخدم لأول مرة في مصر في هذا الحفل ليكن له الأسبقية، وفستان العروس يتطاير بشكل خرافي بين السحاب الوهمي فكان منظراً أكثر من رائع..
وانتهى الحفل أخيرًا....
وانفض الجمع، واستقل كلاً سيارته متجهًا لوجهته..
__________
وعادت "فريال" و "رباح" بسيارة "باهر" الذي استأجرها لليوم خصيصًا، وبالطريق أخبرهما:
_ هتباتوا معانا اليومين دول لحد ما نروح نبارك لخديجة مش هينفع ترجعوا سوهاج وتيجوا تاني.
والحرج أصابهما في وجود "جاسمين" فبالطبع هناك الكثير بينها وبينه للتحدث فيه، ووجودهما سيعيق التفاهم، وسيسبب لهم الإحراج.
_ ما بلاش يا حبيبي، خلينا نسافر وكام يوم ونبجى نيجي نزورها.
قالتها "رباح" بحرج، ليقول:
_ اكيد مش بعد ما نرجع القاهرة هسيبكوا تمشوا، المشوار هيكون صعب عليكوا وهتتعبوا، ارتاحوا يومين ولو عاوزين تسافروا وتيجوا لخديجة يوم تاني مش مشكلة.
قالت " فريال" :
_ مش هينفع نزورها دلوجتي، خلونا نعدي سبوع اكده ونبجى نروحلها.
_ اللي تحبوه، بس برضو هترتاحوا عندي يومين.
نظرت له "جاسمين" بجانب عيناها، لا تستطيع فهم إصراره، هل هو من أجل راحتهم، أم هربًا من المواجهة معها؟
أثرت الصمت الآن، وفي البيت لابد من حديث آخر..
_____________
في طريق العودة...
بسيارة "دياب"..
كانت تغلق زجاج السيارة خوفًا من أن يصاب "عُمر" الذي غلبه سلطان النوم على قدميها بالبرد، واحتضنته بعناية تقبل رأسه بحنان أموي، استمعت له يسألها:
_ نام؟
اومأت قائلة:
_ لعب كتير النهاردة.
_ معرفش كان فرحان بالمكان على ايه، ده حتى مكانش فيه أطفال غيره، وعشان كده قولتلك نسيبه مع ماري.
نظرت له تقول:
_ فرحان بالاغاني والدوشة والمكان كان واسع ولافت انتباهه، بعدين مكانش فيه أطفال لأنك عارف كويس كل اللي معزومين دول مستحيل ياخدوا أطفالهم معاهم في افراح ولا أي مناسبة أصلاً ومتعودين يسبوهم للمربيات، لكن أنا مش متعودة، أنا اه ممكن اسيبه معاها ساعتين او تلاته بس مش المدة دي.
_ ليه مانتي بتروحي الشغل وممكن تقعدي فيه بالخمس ساعات وسيباه عادي.
_ مبتكونش معاه لوحدها، بيكون معاها سعاد " المسؤولة عن الطبخ والتنظيف" وأنا بثق فيها لكن هي النهاردة أجازة، غير إني معظم الوقت في الشغل بيكون عيني على الكاميرات.
_ على فكرة ماري كويسة، ومتقدرش تأذيه في حاجة، أنا مش هجيب أي واحدة وأمانها على ابني، مش عارف ليه مبتحبيهاش!
_ مبرتحلهاش، عادي كده من غير سبب.
ابتسم بلؤم وهو يقول:
_ متأكده؟ ولا يكون عشان ماهي حلوة شويتين فغيرة ستات وكدة!
ادعت الإنكار وهي تجيبه:
_حلوة؟ هي عادية على فكرة.
انطلقت ضحكاته عالية، وهو يدرك صحة حديثه، ليقول بفهم:
_ مادام أنكرتي حلاوتها يبقى فعلاً، غيرة، بس يا ترى غيرة منها ولا عليا؟
مسدت على خصلات طفلها بلامبالاة زائفة وهي تقول:
_ آخر حاجة ممكن اعملها إني اغير عليك، وانا مش وحشة عشان أغير منها..
قال بغزل ونبرة محبة:
_ أنتِ أحلى من أي ست عيني شافتها، سواء غيرة عليا أو منها، فكوني واثقة إن مفيش ست في الدنيا تستحق غيرتك لأنك أحلى وأحسن منها.
لن تنكر أن حديثه أرضاها، وأرضى غرورها الأنثوي، وأشعرها بقليل من الراحة لاكتفائه بها، ورؤيته لها بهذا المنظور، لكنها بالطبع لن تظهر، فأشاحت بوجهها تنظر من النافذة بصمت.
ليحرك رأسه يائسًا فيبدو أن لا شيء يثير مشاعرها ناحيته.
انتبهت لرسالة وصلتها على هاتفها، لتفتحها فوجدتها من معمل التحاليل الذي ذهبت له منذ عدة أيام وقامت بعدة فحوصات فيهِ جراء شعورها ببعض التعب بعد أن زارت الطبيب ونصحها بعمل فحوصات معينة..
وبأصابع راجفة، وقلب مرتعش، فتحت نتيجة التحاليل، لكنها لم تفهم منها شيء، فبعثتها على الفور للطبيب الخاص بها.. وأغلقت الهاتف فورًا كأنها تهرب من رد الرسالة..
وبعد عشر دقائق اتاها إشعار رسالة آخر، لتضطر لفتحه فتظهر رسالة الطبيب
" أفضل حضرتك تشرفيني في العيادة"
بعثت له بخوف وتوتر
" ممكن تقولي التحاليل فيها ايه لحد ما اجي لحضرتك؟"
وبعد دقيقة أتاه الرد
" شكي طلع في محله، بس مش هينفع نتناقش أو أوضح حاجة في الشات، نوريني في العيادة يا مدام رنا"
هي لا تعلم شكه لكن سقط قلبها، المرة السابقة لم يخبرها بما يشك، وحين حاولت الاستفسار أجابها
" بلاش اقولك شاكك في ايه واقلقك على الفاضي، مبحبش اعمل كده ولا ده اسلوبي، أنا مبتكلمش مع المريض غير بعد الفحوصات والتحاليل"
ورغم جهلها، لكنها تشعر أن الأمر مُقلق وخطير ولا تعلم لأي حد...
نظرت ل "دياب" تسأله بخفوت:
_ لسه كتير على ما نوصل؟
_ لا، ربع ساعة بس، كويس إننا مشينا قبل الفرح ما يخلص، لو كنا استنينا كان زمانا لسه متحركين من هناك، بعدين هو مش من بقية عيلتنا يعني.
لم تجيبه، ليظن أنها لا تحبذ الحديث فيما يتعلق بصديقتها كالعادة، ابتسم ساخراً وهو يتذكر وجه "مراد" حين رآه، وكيف تبدلت ملامحه للجمود فجأة، اقترب منه بخطى متريثة وابتسامة مستفزة، وهو يمسك كف "رنا" التي سرعان ما تركته معانقة "خديجة" بحب وسعادة، وقف أمامه يقول بسخرية:
_ مبروك يا مراد بيه، بقى عندك اللي يتخاف عليه.
قست ابتسامة "مراد" وهو يقول:
_ متعود تروح اماكن مش معزوم ولا مرحب بيك فيها؟
_ الدعوة جت من المدام بتاعتك.. هي اللي دعت المدام بتاعتي وقالتلها أنتِ وجوزك.
ماكر وخبيث، يدرك أن حديثه يشعل فتيل غضب الأخير رغم ادعائه اللامبالاة، ليعقب "مراد" :
_ آه، يعني أنتَ جاي مع دعوة المدام..
و ابن وهدان ليس اقل مكرًا أو تلاعبًا بالكلمات، و "دياب" ليس مثله، فقد ظهر ضيقه في عينيهِ، رغم ثبات ملامحه، ولم يتوقف هنا بل أكمل ردًا على جملته الأولى، وعيناه تنظر للصغير الذي تحمله "خديجة" وتقبله الآن..
_ أنتَ عندك اللي يتخاف عليه اكتر بكتير، أمور ابنك مش طالع شبهك... قولتلي اسمه ايه!
وسؤاله الاخير لم يكن سؤالاً فهو لا يهتم بمعرفة اسم الصغير من الأساس، وتغيرت ملامح "دياب" هذه المرة على ذِكر صغيره، فكيف نسى أن الواقف أمامه بالطبع سيرد له الصاع صاعين، وكما أخبره لديه هو الآخر ما يخشى عليهِ أكثر منه....
عاد من تذكره لمقابلتهما، وأردف:
_ ماشي يابن وهدان، من وهنا ورايح هضطر العابك في الشغل وبس، عشان لو دخلت حياتنا الشخصية هكون أنا الخسران.
قال الأخيرة وهو ينظر ل "رنا" التي اسندت رأسها على ظهر المقعد ناظره من النافذه بشرود، ونقل بصره لمصدر قلقه الأكبر، طفله الصغير الذي ينعم بنوم هادئ..
______________
بعد ساعة ونصف....
وصلا أخيرًا للقاهرة.. وتوقفت السيارة أمام المنزل ليترجل الحرس أولاً بسرعة يفتحون أبواب السيارات.. ليترجل "مراد" أولاً من السيارة الخاصة بهِ هو و "خديجة" والتي تولى قيادتها سائقه الخاص، واستدار للباب الآخر يساعدها في الترجل بفستانها من السيارة، ومن ثم تحرك لوالدته يعاونها على الجلوس فوق كرسيها المتحرك، بعد أن حملها من داخل السيارة، ابتسمت له "ليلى" وقبلت وجنته تقول بابتسامة:
_ ربنا يسعدك يابني ويوفقك في حياتك الجاية.
ابتسم لها بامتنان وقبل جبهتها بحب، قبل أن يدفع "مصطفى" مقعدها لداخل المنزل.
اتجه ل "خديجة" التي ما زالت واقفة محلها، ابتسم لها بحب وهو يمسك كفها بينما يقول:
_ لولا إني عارف إنك هتتضايقي كنت شيلتك.
خطت معه تصعد درجات السلم القليلة وهي تنظر ل "مصطفى" الذي دلف من باب آخر يلائم مدخله كرسي "ليلى" وهي تقول:
_ أنتَ عارف إني هتكسف، وقولتلك إني محبش حاجات زي دي تحصل قدام حد كاحترام ليهم ولينا.
_ عارف.
قالها باستسلام، فرغم عدم اقتناعه برأيها ووجهة نظرها، سيفعل ما تريد، رفعت الفستان وهي تصعد درجات السلم وهو يعاونها حتى توقفا على مدخل باب الفيلا وهما يسمعان صوت آخر شخص تمنت سماع صوته في هذه اللحظة:
_ مراد استنى.
التفا ليظهر "حسن" وهو يترجل من سيارته بشموخه المعتاد، ونظره مسلط عليها بابتسامة متسلية، ارتجف جسدها ليشعر بها "مراد" الممسك بكفها، فنظر لها وهو يضغط على كف يدها:
_ احنا قولنا ايه!
يذكرها أنها لا يجب أن تخشى أحد وهو معها، لكن كيف تخبره أنها الآن تخشاه هو نفسه..
_ عاوزك في موضوع مهم.
قالها "حسن" حين وقف أمامه، ليردف "مراد" بضيق ساخر:
_ ده وقته؟
أكد قائلاً:
_ فعلاً ده وقته، اصله يخص العروسة.
والعروس تموت رعبًا، حتى أن ريقها جف من كثرة الخوف، ولا تعلم ما القادم... وعزائها الوحيد أن لديها بعض الثقة في "مراد"..
_ خلينا نتكلم جوه.
قالها "مراد" حين لاحظ تبادل النظرات بين زوجته ووالده، وشعر بخطورة الأمر.
__________
والآن...
استقر الجميع في غرفة الصالون.. والصمت هو السائد، والنظرات متبادلة، حتى هتف "مراد" بسأم:
_ خير؟
وضع "حسن" رجل فوق الأخرى، ونظر ل "خديجة" الجالسة كالهرة الخائفة بجوار" مراد"، ملتصقة بهِ، وكفها يحضتنه بكفه، ابتسم ساخرًا وهو يسألها:
_ تقولي أنتِ ولا اقول أنا؟
والصمت استمر لعدة ثواني قبل أن يقطعه "مراد" نازقًا:
_ بابا، أنا مبحبش حوار التشويق ده، قول اللي عندك.
هز رأسه موافقًا:
_ هقول... فاكر لما قولتلك شوف مراتك مخبية عنك ايه؟
وهنا قد جذب اهتمام "مراد" جيدًا، الذي نظر له في انتظار بقية حديثه، ليبتسم "حسن" وهو يقول:
_ انا بقى بما إنك مدورتش ومهتمتش، هقولك هي مخبية عنك ايه.. الهانم متب....
_ زين..
همست بها "خديجة" وهي تقلب الوضع لتصبح هي من تمسك كفه وتضغط عليه بقوة، نظر لها وهاله ما رأى...
مقلتيها حمراء كالدم، والدموع متعبأه بهما، ووجهها شاحب كالموتى، شفتاها ترتجفان رغمًا عنها، ونظرة رجاء في عيناها وهي تهمس له:
_ بلاش ومصطفى... مصطفى لأ...
لم تستطع تكوين جملة مفيدة، لكنه فهمها، وضربته الحيرة أكثر، والقلق! نظر ل "مصطفى" الذي يتابع ما يحدث بفضول وقلق على شقيقته، ليقول "مراد" بهدوء زائف:
_ مصطفى خد ماما طلعها فوق..
وتبادلوا النظرات قليلاً، قبل أن تفهم "ليلى" رغبة ولدها:
_ طلعني يا مصطفى ارتاح شوية.
وثواني وكانت الغرفة تضم الثلاثة فقط.. لتبدأ "خديجة" في البكاء بصمت، ولكن رغمًا عنها انفلتت شهقة منها لم تستطع التحكم بها، لينظر لها "مراد" وهو يترك كفها ليمسك وجهها بكفيهِ محدثها بحدة وغضب:
_ أنتِ عاملة في نفسك كده ليه؟
_يمكن خايفة من الحقيقة اللي هتتكشف.
وكأنه لم يستمع لتعقيب "حسن" السخيف، ليحدثها بضيق:
_ أيًا كان اللي حاصل، متخافيش، وميستاهلش اللي أنتِ عملاه ده، اهدي يا خديجة!
وجملته الأخيرة خرجت آمرة، لتحاول التحكم في بكائها بينما يمسح وجهها بكفيهِ، فقد تعرق إضافة للدموع التي تغرقه..
عاد يمسك كفها يطمئنها، لتحاول التقاط أكبر قدر من الهواء تعبأ رئتيها قبل أن يقول "حسن" بملل:
_ نهايته، اللي عرفته، واللي هي مخبياه عنك، إنها مش خديجة محمود الدالي... مش من عيلة الدالي ولا اللي طلع ده اخوها.. يعني حضرتك اتجوزت واحدة غير اللي أنتَ فاكرها.
_ ايه التخريف ده!
قالها "مراد" باستنكار وعدم تصديق تام، ثم نظر ل "خديجة" ليراها عاودت البكاء في صمت، قطب ما بين حاجبيهِ وهو يسألها:
_ هو بيقول ايه؟ وأنتِ بتعيطي كده ليه؟ هو كلامه صح!!!؟
_ مراد.
قالها "حسن" ليلفت انتباهه، لينظر له بالفعل، ليقول بجدية:
_ خديجة ماتت من وهي صغيرة.. ودي مش خديجة الدالي.
هز رأسه برفض تام وانتفض واقفًا بعدما ترك كفها، يقول بهدوء رافض:
_ مستحيل.
_ طب اسألها... لو كنت بكدب تكدبني.
قالها "حسن" وهو يقف يواجهه، ليقول "مراد" باصرار:
_ مش محتاج اسألها، حتى لو قالت نفس كلامك، تبقى هي كمان كدابة، أنا لما عرفتها بعد سنين عرفتها بقلبي، لما شوفتها قلبي عرفها قبل ما اتأكد انها هي، قلبي حس بيها وبيحس بيها كل ما تكون قريبة منه، معرفش ايه السر في اللي بتقوله، بس اللي متأكد منه إنها البنت اللي حبيتها وربيتها على أيدي...
رفعت عيناها تنظر له من بين غيام دموعها، وقلبها يركض إليه، يقدره ويقدر موقفه، لم تتخيل ابدًا أن يكون هذا رد فعله، هو الآن يثبت لها أنه يحبها بالفعل.. يحبها الحب الذي ينفي أي شيء يشكك في حبه وحبيبته، الحب الذي يجعل المحب يدافع عن حبه رغم الشكوك والأدلة، ويبرهن الآن بأن حبه قوي، وأن حبه هو الحب كما يجب أن يكون...
_ بقولك خديجة دي ماتت، وأنت تقولي مش محتاج اسألها؟ طب على الأقل اسألها هي مين لما خديجة ميتة أصلاً!.
لن تتركه يهدم حياتها التي اوشكت أن تبدأ، لن يتركه يفعل معها كما فعل في الماضي، وإن قرر قلب الطربيذة فلتكن على الجميع وكلاً يدافع عن جبهته.
انتفضت واقفة تزيح دموعها بعنف، وصرخت ب "حسن" :
_ ما تقوله خديجة ماتت امتى.. ولا وهو خديجة ماتت وخلاص! ما تكمل كلامك يا حسن بيه ولا لو كملته خطتك هتبوظ؟
نظرت ل "مراد" لتجد نظرته ضائعة، بعد اعترافها بموت "خديجة"، حزنت على تشتت نظراته وشحوب وجهه بشكل واضح، لتقترب منه تمسك كفيهِ بكفيها، وهي تنظر لعينيهِ وتقول من بين دموعها:
_ أنا البنت اللي حبتها.. أنا البنت اللي ربيتها على ايدك زي ما بتقول، أنا اللي عاشت معاك الحلو والوحش.. أنا اللي شيلتها بايدك وخدت بايدها لكل خطوة في حياتها... ده اللي يهمك ولا يهمك المسميات؟
نظرت له بقلق تنتظر رده، والخوف يتراقص في عينيها، ماذا إن رفضها بعدما علم حقيقتها؟ ماذا إن لم يتقبل كذبها وخداعها له بشأن هويتها الحقيقية؟ هل سيتركها؟ هل سيرفض أن يكمل حياته معها وقد أخبرها سابقًا أنه لا يحب الكذب ولا يريد أن يكتشف عنها شيء من شخص آخر، والآن هو يكتشف أهم شيء عنها من والده، لم تخبره بنفسها كما أخبرها سابقًا.. فقط لو امتلكت بعض الشجاعة لفعلت، لكنها كالعادة أجبن من أن تفعل... وأتى رده صادم لها ولوالده، حين قال بعد تنهيدة قوية خرجت منه وأحد كفيهِ ترك كفها ليرفعه ويضعه على وجنتها بحنو:
_ متخافيش، قولتلك قبل كده مش عاوزك تخافي من أي حاجة في الدنيا... حتى لو كنت أنا.
ولهنا لم تستطع الصمود أمام كرم حبه، وقوة عاطفته، فرمت بنفسها تحتضنه بقوة وذراعيها يطوقان عنقه بصعوبة لفرق الطول بينهما، وأجهشت في البكاء فالضغط النفسي الذي تعرضت له في الساعات الماضية أنهكها وخارت قواها...
ورغم حيرته والأفكار التي تعصف برأسه لفِهم الحقيقة، لكنه لم يحبذ الضغط عليها أكثر، وهو يرى خوفها وحالتها النفسية السيئة، أحاطها بذراعيهِ يرفعها لطوله بين أحضانه وهمس في أذنها:
_ ميهمنيش اسمك ولا حقيقتك... المهم إنك حبيبتي اللي قلبي مغلطش فيها وعرفها من أول نظرة، ميهمنيش غير إنك حبيبة عيوني وكل ما ليا، مش مهم أي حاجة تانية.
وما زادها حديثه إلا بكاءً وهي تشدد من احتضانه كأنها ولأول مرة تريد أن تدلف لداخله لو تستطيع...!