رواية جمر الجليد ج2 (وأنصهر الجليد) الفصل الخامس 5 بقلم شروق مصطفي


رواية جمر الجليد ج2 (وأنصهر الجليد) الفصل الخامس بقلم شروق مصطفي 

شعرت بسائل دافئ ينهمر من أنفها، ولم تدرك أنه دمها الذي يعكس عمق جرحها الداخلي. غشاها السواد، سواد كثيف ابتلع كل ما حولها، وسقطت في غياهب اللاوعي، حيث لم تعد تشعر بشيء سوى فراغٍ موحش.


اتسعت عيونه فزعًا، وارتعدت أوصاله. لم يشعر بحاله إلا عندما وصل، اندفع بسرعة ودفع الباب بكل قوته باستخدام إحدى أكتافه حتى انفتح الباب على مصراعيه. اندفع نحوها ليجدها غائبة عن الوعي، كما لو كانت خرقة بالية. لم يتحمل رؤيتها هكذا، فاندفع نحوها بهستيريا، لم يعي ما يفعله. جذبها إلى أحضانه، ولم يخطر بباله أن يقدم لها الإسعاف. توقف عقله لحظة، نسي كل ما تعلمه عن الإسعافات الأولية.


"لا، لا، لا! أنتِ هتعيشي! أنا جيت، أنتِ بردانة، صح؟ آه، أنتِ في حضني! اصحي، أنتِ مش بتردي ليه؟ سيلا، ردي عليا عشان خاطري."


صوته كان مليئًا بالذعر والرجاء. "كده هتسيبوني لوحدي تاني؟ مش بعد ما لاقيتك هتسيبيني! مش هسمحلك تسيبيني فاهمه؟"


كان يبكي لأول مرة بحرقه أمامها، يخاف من ضياعها. ظل يهزها بين يديه، وهي تتحرك معه كأنها خرقة، يصرخ "ما تسبينيش! لا! اصحي، أنتِ هتعيشي فاهمة؟ هتعيشي! افتحي عنيكِ! مش هتسيبيني بعد ما لاقيتك، سيلا!"


عقله توقف عن التفكير فجأة، فاق من غيبوبته ورفعها برفق على السرير، محاولًا تثبيت رأسها إلى الوراء ليتوقف النزيف. تحسس نبضها، فوجد أنه منخفض جدًا. نهض بسرعة واحتار، ثم جذب شعرة برأسه بعنف، وتوجه إلى المطبخ ليحضّر كوبًا من الماء والسكر. حملها بأحدى ذراعيه وناولها القليل من الماء، ثم ظل يمسك برأسها لتمتصّه، وكرر المحاولة مرات حتى تحركت جفونها وأحست بحركة.


فوجئت بوجوده بجانبها، ونطقت بتلعثم: "ع... عاصم! أ... أنت جيت هنا"


أعادت له الحياة مرة أخرى. جذبها بقوة إلى حضنه، يخبئها بين ضلوعه، وهمس في أذنها بنبرة ألم: "ما تسيبينيش! كنت هموت لو حصل لك حاجة. ارجوكِ، ما تبعديش عني. هفضل جنبك وفي حضنك، ومش هسيبك تاني أبدًا."


أخرجها من حضنه ونظر إليها بنظرات مليئة بالشوق والحب، كأنما يحفظ معالم وجهها. "أوعي تعملي كده تاني، فاهمة؟ أوعي تسيبيني تاني."


لم تستوعب الكلمات تمامًا، فقط كانت تراقب عينيه باستغراب.


قال عاصم بحزم: "عايزك ترجعي سيلا القوية، مش اللي شايفها دلوقتي، سامعة؟ حتى لو وصلنا لحد أنك تحاربيني من شغلك تاني، فاهمة؟"


نظرت إليه بصدمة، لم تصدق أنه بجانبها الآن، في حضنه. هل هو شعور حقيقي أم حلم ستستفيق منه لتبقى وحيدة كما كانت؟ لكن خفقات قلبها المتسارعة أكدت لها أنه هنا بالفعل. عندما وجدها صامتة، أعاد تكرار كلامه وحركها برفق: "فاهمة؟"


ابتسم لها ابتسامة شاحبة، وهزت رأسها بالإيجاب: "فاهمة... بس مش هتحبسني وتضربني تاني!"


قال عاصم بتأكيد: "عمري ما همد إيدي عليك تاني، تتقطع إيدي لو لمستك تاني..."


قالت سيلا بلهفة، خوفًا عليه: "لا، بعد الشر عليك."


أمسك يدها وقبلها برفق: "من النهاردة مش هتكوني لوحدك تاني أبدًا. رجلي على رجلك، وعنادك ده ليه تصرف تاني معايا."


صمتت ولم تعلق. حملها من على الفراش، شهقت سيلا ومدت يديها حول رقبته خوفًا من أن تسقط، فقال لها بابتسامة: "طول ما انتي معايا، مفيش حاجة اسمها لا."


ابتسمت له سيلا، ودفنت وجهها داخل صدره خجلًا من كلامه، ولكن لم يمر وقت طويل حتى غفت من شدة إرهاقها.


حينما شعر بارتخاء رأسها، نظر إليها بابتسامة رقيقة عندما رآها تنتظم أنفاسها وتغفو. "عادتك، ولا هتشتريها."


ابتسم ثم خرج برفق، وضعها في السيارة، أغلق الباب، ثم دخل الشاليه وأخذ متعلقاتها وكل حاجياتها، وكذلك الكاميرات التي زرعها هناك، ثم خرج وركب السيارة وانطلق بها بعيدًا.


السابعة مساءً، صوت الهاتف يرن بجانب وليد...

 بنعاس: "الو مين؟"

جاء صوت عاصم من الطرف الآخر: "صحصح يا ض، حد ينام الوقت ده؟ اصحى بدل ما أجي أفوقك بطريقتي."


وليد بفرك عينيه ونظرة دهشة على وجهه وهو ينظر لشاشة هاتفه: "عاصم؟ أخيرًا يا بني، فينك؟ أقلقتنا عليك!"


عاصم بتنهيدة خفيفة: "خلاص فوقت... طيب اسمع كويس، أنا لاقيت سيلا..."


وليد يقاطعه بفرحة عارمة: "بجد؟ قول والله! لقيتها فين؟"


تململت همسة بجانبه وجلست تستمع.


عاصم تابع: "إحنا في إسكندرية وراجعين الفيلا، قدامنا ساعتين. فوقوا وتعالوا بسرعة، في موضوع مهم، وهمسة لازم تكون موجودة. وكلم معتز، بلغوه إحنا جايين، موبايلي هيطفى."


وليد: "حاضر حاضر."


أغلق المكالمة...


همسة بفرحة وهي تصفق: "بجد؟ لاقوها؟ الحمد لله! أنا فرحانة أوي أوي!"


ثم اندفعت تقبله على وجنته من شدة سعادتها.


وليد، وقد تفاجأ بما فعلت، أمسك وجنته: "عيدي تاني اللي عملتيه!"


همسة بمكر وضحكة: "إيه؟ أنا فرحانة أوي!"


بدأت تصفق وتضحك، مقلدة حركتها السابقة.


وليد بغضب مزاح: "ما تلعبيش يا بت! اللي بعدها بقا... اللي خبط هنا." وأشار إلى وجنته.


همسة باندهاش مصطنع: "أنا؟! لا، لا، معقول!"


ثم قامت بسرعة تغير الموضوع: "السّاعة كام؟ يلا، يلا، اطلع بره عشان ألبس ونروح لهم!"


لكنها توقفت فجأة متذكرة شيئًا: "إحنا هنا رايحين بيتنا ولا عندهم؟ مش مهم، المهم إن عاصم جايبها!"


همت لتبديل ملابسها، لكنه أمسكها لتجلس مجددًا.


همسة بملل: "إيه يا وليد؟ عايزين نلحقهم، ما فيش وقت يدوبك!"


وليد بمكر: "يدوبك إيه؟ مستعجلة ليه كده؟ قدامهم ساعتين لسه، أنتي عايزة تهربي مني ولا إيه؟"


همسة بتمثيل حزن وهي تمط شفتيها: "إنت مش فرحان برجوعها ولا إيه؟"


وليد بابتسامة ماكرة: "أنا أكتر واحد فرحان. بس قوليلي، هتديني إيه حلاوة رجوعها؟"


همسة بتفكير: "أكيد! لازم يكون فيه حلاوة."


وليد متحمس: "فين بقى؟ أنا مستني على نار."


همسة بابتسامة ماكرة، تقترب منه وتشير إلى عينيها: "عيوني ليك."


ثم قامت فجأة وركضت بعيدة عنه وهي تضحك: "هعملك سندوتش حلاوة حالًا!"


أغلقت الباب وتركته غاضبًا من فعلتها. أمسك الوسادة وضرب بها وجهه وهو يقول لنفسه: "أنا اللي جبته لنفسي."


بعد عدة ساعات...تململت من نومها وهي تشعر بصداع شديد: "آه... دماغي."


نظرت حولها بارتباك: "أنا فين؟ معقول اللي حصل من شوية كان حقيقي؟ طيب أنا فين؟"


بدأت تشتم رائحة عطرة ووجدت بجانبها عاصم، يراقبها بابتسامة.


عاصم بهدوء: "لا، مكنش حلم... كله كان حقيقي."


ثم جذبها بحنان إلى حضنه وهي ترتعش، تبكي، وأخذ يربت على ظهرها: "هشش، خلاص... مش لوحدك دلوقتي. أنا معاكي، ومش هسيبك أبدًا."


حينما هدأت، وضع كفيه على وجنتيها ومسح دموعها. بنظرات مشبعة بالحب، اقترب منها حتى ارتجفت هي خجلًا، لكنه لم يتوقف، وأخذ يبثها مشاعره بقبلاته.


وفجأة... انفتح الباب على مصراعيه، فانتفض الاثنان على الفور.


كان وليد هو من دخل، مبتسمًا: "آسف والله، بس خبطنا كتير، همسة أسألها."


نهض عاصم متوترًا، بينما اختبأت سيلا تحت الغطاء خجلًا.


وليد بخجل: "سامحني بس اختها عاوزة تشوفها."


خرج عاصم مع وليد، الذي لم يستطع كتم ضحكاته. عاصم بنبرة تهديد: "والله لخبطك في الحيطة!"


لكن ابتسامة عاصم لم تفارقه وهو يتذكر لحظاته مع سيلا.


همسة، وقد بدأت عيناها تلمعان بحزن وعتاب:


"بس أنا أقرب حد ليكي، إزاي متقوليش على تعبك وتسيبيني فجأة كده؟ سيلا، إنتي مش عايشة لوحدك، إحنا كلنا جنبك وحواليكي. أولهم أنا وعاصم ومي. يا سيلا، إنتي مش بس أختي، إنتي أمي الثانية. يعني لازم تحاربي وتحاربي كمان وتبقي أقوى من كده. أنا من غيرك أكون يتّمت للمرة الثانية. أرجوكي، اتحمّلي وحاربي المرض ده. إنتي قوية وهتتغلبي عليه."


سيلا، بابتسامة باهتة:


"حاضر، حبيبتي، هحاول والله."


همسة، بحب وحنان وهي تربت على رأس شقيقتها:


"وأنا موجودة، لو احتجتي إنك تخرجي اللي جواكي، اشكيلي تعبك وهمّك. إحنا مالناش غير بعض دلوقتي. وعاصم بيحبك أوي، متخسروهش بجد."


سيلا شعرت بالندم الشديد عندما أدركت مدى أنانيتها، وأنها فكرت فقط في نفسها وكانت على وشك أن تترك أختها وحيدة للمرة الثانية. جذبت همسة إلى حضنها وبكتا سوياً:


"آسفة... آسفة. حقك عليا. مش هسيبك تاني أبداً. أوعدك."


قطعت هذه اللحظة دلوف مي، التي سعدت كثيراً برؤية سيلا ولم تصدق معتز حين هاتفها وأخبرها بوجودها في المنزل الآن. دخلت مي، ومعها أخوها الذي انتظر في المكتب مع الآخرين.


دلفت مي إلى الغرفة، قفزت على السرير بجانبهم، ونامت وسطهما، وهي تضحك وتمزح:


"وحشتيني أوي أوي يا مضروبة! مش كنتِ خديني معاكي أتفسح بدل التدبيسة اللي اتدبستها مع سي معتز الخنيق ده!"


همسة، رافعة حاجبها:


"تدبيسة؟ طيب والله لأقوله."


مي، بنبرة متعالية وابتسامة واثقة:


"عادي قولي له، ولا يهمني!"


سيلا، بسعادة وهي تنظر إلى مي:


"مي، مبروك الحجاب! شكله جميل أوي عليكي بجد."


مي، بابتسامة سعادة داخلية:


"بجد؟ البركة في همسة، ربنا يباركلها يا رب. ساعدتني. عقبالك يا حبيبتي."


قبل أن ترد سيلا، سُمع صوت طرق الباب، تلاه صوت عاصم يستأذن بالدخول.


"ممكن ندخل؟"


ردت مي وهمسة وسيلا في نفس اللحظة:


"آه، اتفضلوا."


دخل عاصم ومعه وليد وهيثم ومعتز. ثم بدأ عاصم الحديث:


"أحم، أنا جمعتكم كلّكم هنا النهارده عشان أبلغكم حاجة مهمة بلا استثناء حد."


كانت نظراته تتحدى سيلا مباشرة، بعينيه قرار صارم لا يقبل الرفض أو المناقشة:


"كتب كتابي على سيلا بُكره، وكتب كتاب مي على معتز كمان. ووليد وهمسة نعتبرهم في حكم المخطوبين، وفرحنا كلنا لما نرجع أنا وسيلا من السفر. هسافر بُكره أنا وهي بعد كتب الكتاب على طول."


همسة، بسعادة غامرة:


"الله! أحلى خبر بجد! مبروك ليكم كلكم!"


أما وليد، فرفع يده وهو يهزها باستهزاء:


"أنا مش عارف ضمتني ليه، أنا مالي ومالكم؟ أنا راجل اتجوز خلاص!"


ثم أضاف بنبرة ساخرة وهو ينظر إلى همسة:


"فرحانة على إيه ياختي؟"


بدأ وليد بالتمثيل وكأنه يبكي:


"آه يا عيني عليا وعلى بختي المايل! ملحقتش أدخل دنيا، هيدخلوني في خطوبة تاني. مكانش يومك يا وليد!"


وكزه عاصم بكوعه وهمس له بجانب أذنه:


"عشان تخبط قبل ما تدخل زي بقية الناس بعد كده. واسكت بقى فضحتنا. ما إحنا سايبينك ثلاث أسابيع يا حيلتها، جاي تولول دلوقتي ليه؟"


رد وليد بنفس الهمس:


"هتقر ولا إيه؟ ولا تنتقم مني؟ مانا خبط يا رزل."


ثم رفع صوته فجأة:


"لا! أنا برة اللعبة يا عم. مليش فيه."


ثم نظر لمعتز وغمز له:


"فرحان انت طبعاً؟ جات لك على طبطاب، ولا كنت بتحلم؟ جات معاك حلاوة!"


معتز، بحنق:


"هتقر بقى؟ أبعد يا عم عنّا."


أما مي وسيلا، فلم تستوعبا الأمر، إذ نظرتا لبعضهما بدهشة، وفغر فاهما إلى أقصاه، وفجأة...

الفصل السادس من هنا

تعليقات



×