رواية جمر الجليد ج 2 (وأنصهر الجليد) الفصل الرابع بقلم شروق مصطفي
تجمّدت سيلا في مكانها، مصدومة برؤيته أمامها. همست بذهول، بالكاد تسمع نفسها:
"عاصم؟!"
لم يمنحها فرصة للتفكير، أمسك بذراعها بقوة، وصدر منه أمر حازم:
"يلا بينا من هنا."
تدخّل مازن بحدة، محاولًا فهم الموقف:
"حضرتك مين؟"
نظر إليه عاصم بتحدٍّ، ثم صوب عينيه إليها بلهجة حادة:
"مراتي... فيه حاجة؟"
وقبل أن يتلقى ردًا، جذبها بقوة، وسحبها خلفه خارج الكافيه.
نظر مازن إليهما باندهاش، ثم نادى النادل ليطلب الحساب، وغادر دون أي تعليق إضافي.
كانت سيلا تتلوى في قبضة عاصم، تحاول الإفلات منه وهي تصرخ:
"إيدي! سيب إيدي! بتوجعني يا عاصم! في إيه؟!"
حاولت التحرر من قبضته بلا جدوى. فجأة توقّف عاصم بنفاد صبر، ثم حملها كأنها قطعة أثاث خفيفة، ورفعها على كتفه بأسلوب عفوي.
صرخت سيلا بغضب وحرج:
"نزّلني! الناس بتتفرج عليا يا مجنووون!"
بقلم شروق مصطفى
ورغم محاولاتها الركل بقدميها، ظل يمضي بها حتى وصل إلى الشاليه الخاص به. هناك، أنزلها وأغلق الباب بقوة، ما جعلها تنتفض من الخوف.
تراجعت سيلا للخلف وهي تنظر إليه برعب واضح. أما هو، فكانت عيناه تحملان الغضب والتوعّد، يتقدّم نحوها بخطوات بطيئة لكنها واثقة، وكأنها تحذير.
صرخ بصوت غاضب، موجّهًا حديثه إليها:
سايبة البيت وجاي تتسامري هنا؟ وسايبة أختك هتموت من القهر عليكي؟! ها؟!
ارتعدت سيلا عند كلماته الأخيرة، وتراجعت حتى التصقت بالحائط. كان وجهها شاحبًا، ونظراتها متردّدة ومليئة بالخوف. حاولت التبرير بصوت متقطع ومرتعش:
"لا... لا... انت فاهم غلط! والله... أنا... أنا كنت... ده أول مرة أشوفه أصلًا! أنا ما... ما..."
اقترب منها عاصم أكثر، وضرب بكفه على الحائط بجانبها بعنف، محاصرًا إياها بين ذراعيه. أغمضت عينيها بشدة، وغطّت وجهها بكفيها، تردد بصوت مكسور:
"ما تضربنيش! والله معرفوش! بقا.
شهقت وهي تواصل الدفاع عن نفسها بخوف واضح:
هو شافني مرة في مركز أخو مي... بس! والله معرفوش!
توقّف عاصم فجأة، متفاجئًا من حالتها. لم يعتد رؤيتها بهذا الضعف والخوف. كانت تلك اللحظة صادمة له، إذ إنه لم يستطع احتمال رؤيتها تخشاه إلى هذا الحد. بدت أمامه كأنها طفلة صغيرة مرعوبة.
اقترب منها بهدوء، جذبها إلى صدره، وبدأ يربّت على شعرها بلطف. همس في أذنها:
هشش... اهدى. متخافيش... مش هاجي جنبك. اهدي.
شعرت سيلا ببعض الطمأنينة، لكنها همست له وهي ما زالت متردّدة:
"يعني مش هتضربني؟ إيدك كانت تقيلة أوي المرة اللي فاتت!"
ابتسم عاصم بألم عندما تذكّر تلك الحادثة:
"عمري ما هأمد إيدي عليكي تاني. انتي روحي. صدقيني، مكنتش أنا وقتها... كان شخص معرفوش. انتي حياتي. بس بلاش تعاندي، بلاش تكسري قلبي وتخذليني تاني. أنا محتاجك... أكتر من أي حد.
وانصهر الجليد بقلم شروق مصطفى
أبعدت سيلا نفسها عن احتضانه بخفة، ونظرت إليه بألم شديد وقالت بصوت مليء بالكسرة:
"عشان كده لازم نبعد. مش حابة حد يتعلق بيا أكتر من كده. عاوزة أعيش لوحدي آخر أيامي. أنت مش ليا... ومش هقدر أكون لحد. روح... ابدأ حياة جديدة مع الشخص المناسب، وانساني.
خطت خطوات بطيئة نحو الباب، وقبل أن تغادر، استدارت نحوه وقالت برجاء:
ياريت محدش يعرف مكاني. لو حصل، المرة الجاية مش هتعرف توصلني أبدًا.
غادرت وأغلقت الباب خلفها، متّجهة إلى الشاليه الخاص بها. هناك وجدت مازن ينتظرها، فاقتربت منه وقالت:
آسفة جدًا على اللي حصل.
رد مازن بهدوء:
مفيش داعي للاعتذار. أنا عند وعدي. لو حبيتي تتكلمي، أنا موجود. ولو عايزة تيجي المركز، أنا هنا ليومين كمان وبعدها همشي.
هزّت رأسها بتفكير، ثم قالت:
هفكر... شكرًا. عن إذنك.
دخلت الشاليه وأغلقت الباب خلفها. تقدّمت نحو السرير، ألقت نفسها عليه، وظلت تحدّق في الفراغ حتى استسلمت للنوم.
عندما أغلقت سيلا الباب خلفها، ظل عاصم واقفًا في مكانه للحظات، غير مستوعب أنها تركته مجددًا. صوت الباب وهو يُغلق كان بمثابة صفعة على وجهه، أعادته إلى الواقع القاسي. ضرب بيده بعنف على الحائط بجواره، صرخ بصوت غاضب ومخنوق:
"غبية... غبية!"
شعر بالنار تشتعل في داخله، مزيج من الغضب والقهر والحيرة. لم يكن قادرًا على تهدئة عواصف مشاعره، فتوجّه إلى الحمام وأدار الماء البارد ليحاول إطفاء تلك النيران المستعرة داخله. بينما الماء يتدفّق عليه، همس لنفسه بغيظ
"مُصرة على اللي في دماغها... بس سهلة! هكسّر دماغك دي بإيدي."
أنهى استحمامه بعد أن هدأت أعصابه نسبيًا، وارتدى ثيابه بسرعة. ثم جلس على مكتبه وفتح الحاسوب أمامه يتابعها، وأسند رأسه إلى ظهر الكرسي، متعبًا من التفكير. وبينما كانت عينيه تتثاقل من شدة الإرهاق، تسلل النوم إليه ببطء. ولكن حتى في نومه، لم يكن هناك مفر. ظلت صورتها تلاحقه في أحلامه، كأنها باتت جزءًا من كيانه لا يستطيع الفكاك منه...
اقتربت همسة من وليد بخجل وقالت:
"وليد، مي كلمتني وعايزاني أروح أقعد معاها شوية. ممكن؟
ابتسم وليد وقال:
ماشي، بس أنا هوصلك وأنا رايح الشركة. اقعدي معاها براحتك، ولما أرجع هكلمك عشان نرجع سوا.
اقتربت همسة منه وقبلته على وجنته بخفة وهي تهمس:
ما تحرمش منك أبدًا. هروح ألبس بسرعة.
أسرعت بالجري مبتعدة عنه، بينما وليد نظر خلفها متفاجئًا من فعلتها وقال بصوت عالٍ:
إيه ده؟ تعالي هنا يا بنت!
لكنه ضحك بصوت مرتفع عندما رآها تختفي، ثم جلس ليكمل فطوره. وبينما يلتقط مفاتيحه وهاتفه، نادى عليها:
يلا يا همسة، أنا خلصت.
ردت عليه من الداخل:
ثواني بس، ألبس الطرحة وجاية!
تمتم وليد بخفوت:
"آه منكم أنتم والثواني دي، بتبقى ساعات."
رفع صوته متظاهرًا بالمغادرة:
"أنا همشي خلي بالك!"
خرجت همسة من غرفتها وهي تتأفف:
"استنى بس! ألبس الطرحة والشوز!"
أجابها وليد مازحًا:
"هستنى حاضر، كله بحسابه! كده كده، انتي قولتي ثواني وأنا عندي الثانية ب بوسة. قعدي براحتك بقى وأنا باصص على الساعة أهو!"
نظر إلى ساعته وقال:
"عدت أربع ثواني، خمسة، سبعة، عشرة!"
قهقهت همسة وهي تلكزه بكوعها:
"إيه ده؟ حيلك! حيلك! لسه ملبستش، اصبر."
وليد رد بابتسامة:
"بتضحكي؟ بقوا عشر ثواني فاتوا، براحتك. مش هننزل إلا ما تدفعيهم كلهم!"
نظرت له همسة ببلاهه ولم تعلّق، ثم أسرعت لتعديل حجابها ولبس حذائها. توجهت إليه أخيرًا وقالت:
يلا أنا خلصت.
نظر إليها وليد بمكر وقال:
"عندك تأخير عشرين ثانية!"
ثم أشار إلى وجنته اليمنى وقال بابتسامة:
"عشرة هنا... والخد ده عشرة. يلا بقى، ولو اتأخرتي هيزيدوا كمان. أنا بقول آخد إجازة أحسن عشان نقعد براحتنا."
ألقى مفاتيحه بإهمال وهو يضيف:
"يلا بقى، نقعد براحتنا!"
همسة جذبت مفاتيحه وهي تقول:
"لا لا، هات! هات!"
ثم اقتربت منه وأخذت تقبله سريعًا على وجنتيه حتى أكملت العشرة.
ابتسم وليد وقال:
"إيه الكروتة دي؟ لا مش عاجباني، عيديهم من تاني بس بذمة!"
ثم أضاف بمكر:
"ولا أقولك، بلاش ننزل! أنا آخد إجازة وبلاش تنزلي، وأنا رايح أغير هدومي."
تمسكت همسة بقميصه تمنعه وقالت:
"لا لا لا! هتأخر كده بقى، استنى طيب."
أعادت تقبيله مرة أخرى على وجنتيه، ببطء هذه المرة.
ابتسم وليد وقال:
نص نص... أنا بقول...
قاطعت حديثه بوضع يدها على شفتيه وقالت:
والله ما قايل حاجة، يلا بينا!
قهقه وليد وقال:
عشان خاطرك بس! يلا بينا، ونكمل لما نرجع، الموضوع ده أصله عجبني قوي.
---
في طريقه إلى الشركة، أوصل وليد همسة إلى منزل صديقتها مي. قبل أن تنزل، قال لها بابتسامة:
وأنا خارج من الشركة هكلمك، ماشي؟ وبلاش تنموا كتير.
قهقهت همسة وهي تفتح باب السيارة:
حاضر.
انطلق وليد إلى الشركة، وتوجه مباشرة إلى مكتب معتز. دخل وجلس بإهمال على الكرسي أمامه، ونظر إليه قائلًا:
"برده قافل تليفونه؟"
زفر معتز أنفاسه بضيق وقال:
"لسه. الظابط كل ما أكلمه يقول جاري البحث، ومش عارف إيه. مش عارف هلاقيها منين ولا منين."
نظر إليه وليد بحدة وسأل:
"خير؟ في إيه تاني أكتر من كده؟"
تنهد معتز وقال بتهكم:
"عادي يا عم، مش عايز أدوشك. سيبك مني، قولي أنت عامل إيه؟"
ابتسم وليد بمرارة وقال:
الحمد لله، بحاول أطمّنها، لكن في عيونها لسه حزينة.
---
في منزل مي عندما فتحت مي الباب لهمسة، قالت بحدّة وهي تعانقها:
"يا جزمة، يعني لازم أكلمك مية مرة عشان تيجي!
ردت همسة بابتسامة مُعتذرة:
والله وليد كان قاعد كل ده ما نزلش، وأول ما نزل قولتله وأجي عندك على طول.
قالت مي:
"طيب تعالي ندخل أوضتي."
جذبتها من يدها، وجلستا على الفراش. تنهدت مي بحرارة وقالت:
"مفيش جديد برده."
هزّت همسة رأسها بألم وقالت:
للأسف لا. أنا زعلانة منها أوي، وزعلانة من عاصم كمان. تخيلي تخلى عنها، وأنا كنت فاكراه هيلاقيها أول واحد!
حاولت مي التهوين عليها برغم حزنها وقالت:
"بكرة تظهر، هتفضل مختفية لحد إمتى؟ بس أنا حاسة إن غياب عاصم فجأة كده وراه سر."
بينما تتحدثان، دخلت والدة مي، نبيلة، وقالت بحزن:
"إزيك يا بنتي؟ عاملة إيه؟"
ردت همسة:
"الحمد لله يا طنط."
تنهدت نبيلة وقالت:
"قلبي واكلني على سيلا أوي. حلمت لها حلم وقمت قلبي مقبوض. يا ريت تلاقوها بسرعة، لحسن كده خطر على حياتها، ولازم تعمل العملية. هو في كده يا ربي! البنت هتروح مننا."
شهقت مي وكتمت فمها بيدها ونظرت لهمسة بصدمة من ردة فعلها، بينما نبيلة لم تلاحظ ما فعلته.
تقدمت همسة نحو نبيلة بصدمة وقالت:
"حضرتك قولتي إيه يا طنط؟ عملية إيه اللي سيلا تعملها؟ مش فاهمة حاجة!"
ظلت نبيلة تنظر لها بتشتت، بينما مي بدأت بالبكاء بانهيار.
قالت همسة بتوسّل:
"حد يفهمني مالها أختي؟ عملية إيه وحياتها تروح إزاي؟"
امتلأت عيناها بالدموع، واحتضنتها مي وهي تبكي.
قالت نبيلة بحزن:
"يقطعني يا بنتي."
نظرت مي لوالدتها بعتاب، فقالت الأخيرة بقلة حيلة:
"ما هو لازم كانت تعرف يا بنتي. لله الأمر من قبل ومن بعد."
ابتعدت همسة عن مي، تمسح دموعها وقالت:
"احكيلي يا مي كل حاجة، أرجوكي!"
قالت نبيلة وهي تغادر المكان:
"هروح أعملكوا ليمون."
التقطت مي أنفاسها وقالت لهمسة:
"أوعديني الأول إنك تتماسكي."
وضعت همسة يدها على قلبها وقالت بصعوبة:
"حاضر... بس احكي."
بدأت مي تروي قصة مرض سيلا، وكيف أجّلت العلاج لحين انتهاء خطبتها، ثم مرحلة العلاج ورفضها القاطع لتكملة العلاج، وتقديم زواجها واستسلامها للمرض بعد وفاة والديها.
شهقت همسة بصوت عالٍ وانهارت بالبكاء، وقالت:
"يعني كنا في بيت واحد ومحستش بألمها! بدأت العلاج ومكنتش معاها، وجت على نفسها عشان تفرحني؟ معقول عملت كل ده عشاني؟ وأنا اللي طلعت أنانية أوي وجيت عليها؟!"
حاولت مي تهدئتها:
"اهدي يا حبيبتي، والله هي بتحبك، وعمرها ما اتكلمت عليكِ كلمة واحدة."
ردت همسة وسط دموعها:
"بس أنا جيت عليها أوي، ومكنتش بكلمها وقتها. كنت بلاقاها نايمة أغلب الوقت، ومقدرتش أفهم إنها تعبانة."
صوت رنين هاتفها قطع حديثهما. أجابت همسة بصوت حاولت إخراجه طبيعيًا ولكنه أظهر بكاءها:
ألو؟
وليد بلهفة:
همسة! صوتك ماله؟ فيكي إيه؟
ردت همسة:
مفيش... جاي إمتى؟
قال وليد بقلق:
خمس دقايق، انزلي. متأكدة مفيش حاجة؟
ردت همسة بصوت متردد:
آه، مفيش... أنا هقفل يلا. مع السلامة.
بعد ذهابها، هاتفت مي معتز.
معتز باشتياق: وحشتيني أوي.
مي ببعض الخجل، مغيرة الحديث: ماشي، وانت عامل إيه؟
معتز بتفاجؤ: إيه الفصلان ده؟ بقولك وحشتيني، ده ردك؟
مي بحزن مما فيها من اكتشاف لهمسة حقيقة مرض أختها وانهيارها تحدثت: والله يا معتز مش رايقة خالص، بجد اعذرني.
معتز بنفاد صبر، معها كلما يعبر عن حبه واشتياقه لها ببعض الكلمات منتظر إظهار حبها أيضًا تصده دائمًا وتغير مجرى الكلام لآخر: وهو أنا كل ما أكلمك تقولي مش رايقة؟ أصل ماما، أصل مش عارف إيه! هو أنا بشحت منك الكلام؟ وسيادتك مش رايقة ليه المرة دي بقى؟
مي بغضب: انت دايمًا مندفع كده وعصبي، وليه مش مقدر الظرف اللي إحنا فيه كلنا؟
معتز بنفاد صبر: طيب والظرف اللي إحنا فيه ده يمنع خروجنا في إيه برده؟ كل أما أقولك هعدي نخرج، لا أصلي مش هينفع، ومرة أصلي كذا، ومرة كذا. أنا مش عارف أتكلم معاكي! نكد نكد كده على طول.
مي: انت بتزعق ليه دلوقتي؟ آه، مش هينفع نخرج يا معتز لأن أخويا بيكون مشغول، مش هيعرف يجي معانا. عشان كده بقولك تعالى انت البيت، نقعد نتكلم براحتنا وماما تكون قاعدة معانا.
معتز لإنهاء الكلام، ليس بفائدة: طيب اقفلي يا مي، اقفلي دلوقتي. عندي شغل، سلام.
أغلق معها وتأفف منها بضجر: مش عارف جايبة أخوها ومامتها في كل سيرة! أنا هتجوزك ولا هتجوزهم؟
مي نظرت للهاتف بيأس وتنهدت: نفسي بجد تفهمني يا معتز من صوتي، وتحس بوجعي على فراق صديقتي، وتواسيني، ولا حتى تفهمني وتفهم إننا مش ينفع نتقابل لوحدنا.
تنهدت بيأس وقد قررت قرارًا تأخرت في تنفيذه. ثم خرجت وجلست بجانب والدتها بالخارج أمام شاشة التلفزيون.
نبيلة بتأنيب ضمير: والله يا بنتي ما أقصد أقولها، بس حلمت من كم يوم حلم وحش ليها. قلبي اتقبض.
ردت الأخرى: عادي يا أمي، كده كده لازم تعرف. دي أختها. ماما، بقولك أنا قررت أتحجب.
نبيلة ابتسمت لها بفرحة: الله على الأخبار الحلوة. وده من إمتى ده بقى؟ بركاتك يا سي معتز! ده أنا اتحايلت عليكي أنا وأخوكي.
مي: لا، مش معتز خالص. بس أنا حاسة إن في حاجة نقصاني، والصراحة همسة شجعتني بتكلمني عليه، فحبيته ونويت ألتزم به.
نبيلة تحتضنها: مبروك يا حبيبتي. هيثم هيفرح أوي، وأكيد خطيبك هيفرح كمان.
مي بهمس داخلي، قامت بترديد كلمة خطيبي بتهكم: آه آه طبعًا.
يلا، هقوم أنام. تصبحي على خير. وقبلتها من وجنتيها.
دلفت لغرفتها، ارتمت على الفراش، وسرحت قليلًا: ده حتى ما سألنيش مال صوتك! وقالها بتريقة واستهزاء. طب ده أكلمه إزاي وأخرج له اللي جوايا؟ عصبي دايمًا. هف، شكلي هتعب معاك أوي لحد ما تفهمني وأفهمك ظلت تهمس حتى غفت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لاحظ وليد انتفاخ جفنيها لكنه صبر حتى يصلا.
طوال الطريق كانت صامتة، تحاول التماسك قدر الإمكان، لكنها في داخلها كانت تتمنى لو تستطيع أن تختبئ بين ذراعيه وتشكو له همها.
عندما وصلا إلى الداخل، دلفا سويًا، وما إن أغلق وليد الباب حتى انهارت أسوارها. جذبه نحوها وانهارت في أحضانه، وهي تخرج كل ما كتمته داخلها:
أختي يا وليد بتموت... مريضة... أنا عاجزة إني أساعدها أو حتى أحضنها. أنا عاوزاها جنبي، جيبها لي. محتاجاها معايا. خليها تيجي بقى! وحشتني أوي. مش هقدر أعيش بعيد عنها!
ربت وليد على ظهرها محاولًا تهدئتها.
هشش، أنا مش ساكت. صدقيني أنا متابع، وكل يوم أكلم الضابط وأروح القسم له. بلاش دموع، أنتِ كده بتفتحي باب الشيطان عليكِ. همسة، أنا فاهم إنك مش قادرة تتحملي، بس لازم نصبر. تعالي معايا.
جذبها من يدها وقال بحنان.
نتوضأ ونصلي ركعتين لله، ندعي ربنا يفك كربنا ونستغفره كمان.
بعد انتهائهما من الصلاة، أخذها وأجلسها على الفراش برفق، ثم تمدد بجانبها وبدأ يرتل بعض الآيات القرآنية بصوت هادئ حتى هدأت ونامت. احتضنها برفق حتى غلبه النوم هو الآخر.
---
مر أسبوع آخر وما زالت حبيسة الشاليه، ترفض الخروج. وهو على وشك الجنون من تصرفاتها. ذهب إليها مرارًا للحديث معها، لكنها رفضت التحدث وامتنعت عن فتح الباب. كان يظل يتحدث معها خلف الباب بصبر، يحاول إقناعها، لكن بلا جدوى، فيمل ويغادر.
وفي إحدى المرات، بينما كان ينظر إلى الحاسوب ويتابع تحركاتها التي بدت عليهما علامات الإرهاق والهزال، تمتم بضيق:
ليه مصرة تعذبينا كده؟
رن هاتفه فجأة، فأجاب بعد أن نظر للحاسوب مرة أخرى.
نعم، معك عاصم الخولي.
استمع إلى الطرف الآخر بإنصات بلكنته غير مصرية، ثم أجاب.
شكرًا لك، أيها الطبيب. سنكون متواجدين خلال هذا الأسبوع. إلى اللقاء.
بعد انتهاء المكالمة، نهض عاصم وخرج ليتجول قليلًا أمام البحر، يحاول ترتيب أفكار
" كان نفسي تكون بقرار منك، واختيارك أنتي، مش مجبرة"
ثم تنهد بعمق وأكمل"لما نشوف عنادك ده هيوصلنا لفين. اهربي براحتك"
ذهب مازن بعد انتهاء مدة إجازته، كان يود مساعدتها عندما نظر لهيئتها، علم أنها هاربة من شيء ما!
عند سيلا، كثر جلوسه أمام شرفتها، لم تخرج حتى لا تضعف أمامه! تقترب عند الباب، تسمعه وهو يتكلم خلف الباب، ولم تفتح له حتى يملّ ويتركها، وترجع هي لوحدتها كما كانت.
جالسة بشرفة كعادتها يوميًا وقت العصر، أمام البحر، سارحة في اللا شيء، حتى وجدته أمامها! انتفضت، وكادت أن تدخل وتغلق شرفتها.
وقفها بيده: "استني يا سيلا، أنا هخيرك لأخر مرة: تقبلي تتجوزيني!"
وقبل أن تفتح فمها، أكمل بصدق وعزم:
"لو جوابك بـ 'آه'، والله هكون ليكي السند اللي عمرك ما لقيتيه. هعوضك عن كل حاجة وحشة حصلتلك. بس لو جوابك بـ 'لأ'...
صمت لوهلة، وكأن الكلمات تخنقه، ثم أكمل بصعوبة:
هفهم إنك مش عايزاني في حياتك، بس برضه مش هسيبك. عمري ما أجبرك تحبيني، بس أنا مش هقدر أتخلى عنك.
صوته كان مليئًا بالرجاء، كأنه يحاول أن يمسك بقشة قبل أن يغرق. سيلا وقفت أمامه، مرتبكة، مشاعرها تتصارع داخلها. رغبت في الارتماء داخل حضنه والبكاء حتى تنهار كل جدرانها، لكنها خافت... خافت أن تكسره أكثر مما فعلت.
سيلا بصوت مكسور ومليء بالتوتر:
أنا آسفة، بجد...
لم تنتظر ردّه، ركضت إلى داخل شقتها وأغلقت الباب خلفها بقوة.
ألقت نفسها على السرير، ودموعها تغرق الوسادة وهي تهمس لنفسها:
معلش يا قلبي... هينسى، أكيد هينسى ويعيش حياته. بس أنا... أنا خلاص تعبت.
رجع خيبة أمله تثقل صدره، وعيناه لا تفارق شاشة الحاسوب حيث يراقبها من بعيد. تمتم لنفسه:
انتي اللي جبرتيني أعمل كده يا سيلا... خلاص، بليل هنهي ده كله.
لم يمضِ وقت طويل حتى عاد ليراقبها من بعيد، عيناه تتابع تحركاتها بترقب. كانت خطواتها بطيئة ومترددة، وكل حركة منها كانت تخبره بما تحمله من ألم وصراع داخلي. يسمع همساتها الخافتة وأنينها الذي اخترق صمت المكان، يشق قلبه ويجعله يتألم معها. كانت كلماتها تتناثر في الأرجاء كما لو كانت نداء استغاثة، لكن رغم ذلك، ظلّت صامتة، لا تملك القوة لطلب المساعدة. عينيه لم تفارقها، وعقله لا يستطيع أن يهدأ، كان يمني نفسه بأن تنام، ليتمكن من إنقاذها بطريقته الخاصة.
غفا قليلاً، لكن في لحظة من الصمت والظلام، استفاق فجأة على آنينها.
فتح عينيه بفزع، قلبه ينبض كأنّه في سباق، ونظر سريعًا إلى الشاشة كانت في وضع الجنين، تتلوى من الألم، تحاول الوصول إلى علبة الدواء، كوب الماء سقط من يدها المرتعشة، والزجاج تناثر على الأرض.
رآها تزحف نحو العلبة لتجدها فارغة، فألقتها بعنف على الأرض تلعن غبائها لنسيانها شراء الدواء وهي تبكي بألم:
آه يا ماماااا... انتي فين؟ نفسي تضميني... وبابا يطبطب عليا أنا جايلكم خلاص الوجع صعب.
كلماتها كانت تتساقط من شفتيها بتمتمات متقطعة.
"عاصم... الحقني... محتاجاك جنبي، ماتسبنيش...
كان صوتها متقطعًا، وكأن كل كلمة تخرج منها هي صراع مع الألم الذي يعصف بها. كان قلبه يكاد ينفطر من شدة الفزع الذي اجتاحه لسماع تلك الهمسات، وكان يهم بالتحرك نحوها، لكن شيئًا ما منعه.
تجمد مكانه عندما سمع اسمه على لسانها أتتذكره وسط ألامها، همست بابتسامة شاحبة "عاصم"
في لحظة صمت، تنهدت سيلا ثم واصلت حديثها بصوت منخفض، محملةً بكلمات تخرج بصعوبة، لكنها تبرح قلبها بنغمة الألم والفراغ الذي يملؤه الحزن
"وحشني حضنك أوي، رغم أنه بيجي في أوقات صعبة، لكن ليه إحساس غريب قوي معايا كان نفسي أقولك كل شيء جوايا، لكن لساني بيتربط وقتها وبخذلك.
ثم أضافت، بنبرة حزينة
" مكنتش عاوزاك تتعلق بيا محدش بيتعلق بحد منهزم مريض مش هيدي حاجة لحد"
صمتت، وبدت على ملامحها آثار الوجع. أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تواصل حديثها كأن هذا الحديث يخفف ألامها
"فاكره أول حضن؟ عمري ما نسيته. يوم ما أنقذت حياتي، وقتها جيت في بالي فجأة، أول ما همست بأسمك لقيتك قدامي. روحي ردت لي تاني، يمكن كنت الطوق الوحيد ليا،
ثم أكملت بصوت متهدج، محاولة احتواء دموعها التي بدأت تتسلل "لكن أول إحساس حسيته وقتها كان غريب، حسيت إني رجعت للحياة تاني.
استمع عاصم إليها، تذكر هذا اللحظة جيدًا، ذلك الحضن الذي أعاده للحياة بعد غيبوبته الطويلة، وعاد ليشعر بالأحاسيس بعد فقدانها لفترة طويلة.
تستعيد ذكرياتها بمرارة "ثاني حضن" كان صعب عليا يوم وداعهم قدام عينيا، لقيتك جنبي خدني في حضنك، اتحملت انهياري، محستش غير أن روحي اطمنت داخل حضنك، واستسلمت لك.
استمع عاصم لها، ولم يصدق حاله بما سمعه ايعقل ان تكُن له بكل هذه المشاعر!.
أخذت نفسًا عميقًا وكأنها تود أن تستجمع قواها، ثم همست
"ثالث حضن" كان لما فتحت لي قلبك قبل هروبي منك"
ثم أضافت، بصوت مليء بالتشتت والوجع بس أنا مش بهرب منك، أنا بهرب من نفسي. الألم كبير، والوجع وحش قوي، وهتوجع أكتر لو شوفت في عيونكم حزن.
"سامحني لو كسرت قلبك أو خذلتك. كنت أتمنى دلوقتي أني أستخبى في حضنك وأدفى، أنا حاسة إني بردانة أوي"
أخذت أنفاسها بصعوبة، وعينها تتلألأ بالدموع، لتكمل بصوت ضائع: "حاسة إن الحياة خلصت عندي، شايفاهم حوليا، بينادوني، أجيلهم، وحشوني أوي، بس أنا سقعانة، أوي، أوي.
ثم، بعد لحظات من الصمت، حاولت أن تتحمل ألم كلماتها، لكنها لم تستطع. خرجت منها الكلمات الأخيرة بصوت مكتوم متقطع، ملؤه الوجع والألم تعترف لنفسها
" عاصم بحب... آاه..."
تجمد عاصم في مكانه، قلبه يكاد يخرج من صدره من شدة الخفقان. لم يكن قادرًا على التصديق. استمع إلى أعترافها أخيرا، مازال في صدمة، عاجزًا عن الرد.
ثم، وكأن الكلمات تحطمت في حلقها،
ظلّت تناجيه بصوت يفيض بالوجع
"عاصم..."
تلك الكلمة حملت معها كل الألم الذي أثقل صدرها، كأنها طعنة نافذة اخترقت قلبها وروحها. ثم خيّم الصمت، صمت ثقيل يشبه صمت الموتى، ذلك الصمت الذي يعلو فوق أصوات الأنين والذكريات.
لم تستطع احتمال قوة الألم الذي اجتاحها كعاصفة، كأنه إعصار يعصف بأحشائها دون رحمة. فجأة، صرخت صرخة مدوية، كانت أشبه بتمزق روحها إلى أشلاء، صرخة ارتجّ لها المكان بأسره.
شعرت بسائل دافئ ينهمر من أنفها، ولم تدرك أنه دمها الذي يعكس عمق جرحها الداخلي. غشاها السواد، سواد كثيف ابتلع كل ما حولها، وسقطت في غياهب اللاوعي، حيث لم تعد تشعر بشيء سوى فراغٍ موحش.