رواية جمر الجليد ج2 (وأنصهر الجليد) الفصل الثالث 3 بقلم شروق مصطفي

رواية جمر الجليد ج2 (وأنصهر الجليد) الفصل الثالث 3 بقلم شروق مصطفي 

نهضت سيلا من فراشها بتكاسلٍ، تتثاقل في حركاتها كمن يحمل على عاتقه أثقالًا خفية. توجهت نحو الدولاب، ويدها تعبث بخصلات شعرها المتناثرة. قررت أن تبدل ملابسها وتخرج قليلاً علّها تجد في الهواء البارد متنفسًا لصداع الأفكار الذي يثقل رأسها. شعرت أن الجدران تضيق عليها، وكأنها قفص يكتم أنفاسها.


ارتدت كنزة ثقيلة أخرجتها من حقيبةٍ كانت قد أعدّتها على عجل قبل مغادرتها المنزل. ألقت نظرةً عابرة على نفسها في المرآة، ثم عقدت شعرها دون اهتمام. وبينما كانت تستعد للخروج، باغتها صوت دقٍّ على الباب، فتوقفت للحظة تملأها الدهشة والتساؤل.


اقتربت بحذر، وتمتمت بتوتر عن هوية الطارق حتى جاءها صوت رجلٍ بدا متحرجًا:


أسف على الإزعاج... أنا جارك في الشاليه اللي جانبك. الحقيقة النور قطع عندي وأنا كنت بغيّر لمبة، لكن حصلت قفلة. والأسوأ أن موبايلي فصل شحن. ممكن أستعير كشاف أو شمعة، ولو تسمحي أشحن الموبايل عندك؟ نص ساعة وأرجع آخده. آسف جدًا على الإزعاج.


أجابت سيلا بنبرة هادئة خالية من الاكتراث:


لا، ولا يهمك. هات الموبايل والشاحن، وهشوف إذا عندي كشاف أو شمعة. بس لحظة أقفل الباب.


أغلقت الباب خلفها بهدوء، توجهت إلى الغرفة، ووضعت هاتفه على الشاحن. بحثت سريعًا بين أغراضها حتى وجدت كشافًا صغيرًا. عادت وفتحت الباب وهي تمد يدها بالكشاف، قائلة:

أتفضل.


ارتسمت على وجهه ابتسامة امتنان وقال:


ألف شكر! نص ساعة بالكثير وأرجع آخد الموبايل.


أومأت سيلا برأسها وأجابته بلا اهتمام:


مفيش مشكلة.

تراجع خطواته مبتعدًا، بينما ظلت هي تراقبه حتى اختفى عن ناظريها. أغلقت الباب خلفها، لكنها شعرت بحاجة ملحّة للخروج. دفعت باب الشاليه بخفة، استنشقت الهواء العليل، رغم لسعة البرد التي سرت في جسدها. الشتاء كان قاسياً، لكن البرد في الخارج بدا أكثر رحمة من برودة الفراغ داخلها.


جلست سيلا على مقعد صغير أخرجته من الشاليه، ووضعته على الرمال، مواجِهة البحر بأمواجه المتلاطمة التي تصطدم بالشاطئ بقوة، وكأنها تعكس ما يدور بداخلها من صراعات. ظلت تحدّق فيه بشرود، متأملةً قسوته التي رغم شدتها تحمل شيئًا من السكينة. تنهدت بعمق وهمست لنفسها بصوت خافت:

– أد اية الدنيا ما تسواش... كله بيجري ورا مال وشهوات أو أولاد، ونسى وجود ربنا، وأن ممكن في لحظة ننكسر، وما نقدرش نقوم تاني.


جالت بخاطرها ذكريات مؤلمة، وتذكرت ذلك الطمع الذي دفع عمّها لاقتسام ميراث أخيه مرتين، وكأن الموت لم يكن كافيًا لردعه. هزّت رأسها بأسى، وقالت داخليًا


"سبحانك يا رب، قادر على كل شيء... اللهم لا شماتة، لكن الحق أبدًا ما بيضيع". 


تسللت إلى ذاكرتها يوم نزع السوار وركبت سيارتها بلا هدف، تقودها مشاعر متخبطة إلى طريق مجهول. لم تدرك أنها تجاوزت مدخل الإسكندرية إلا بعد أن أنهكها التعب، ولم يساعدها أنها ظلت دون طعام منذ الليلة السابقة. أضف إلى ذلك أنها قادت سيارتها لساعات طويلة دون راحة. أثناء القيادة، شعرت بصداع حاد وبدأت تبحث عن دوائها في حقيبتها، تاركة عجلة القيادة دون انتباه. وفي لحظة فقدت السيطرة على السيارة، فانحرفت يمينًا، واصطدمت برصيف الطريق.


كانت الضربة عنيفة لدرجة أن رأسها اصطدم بالمقود، وصوت بوق السيارة ظل عالقًا حتى توقّف أخيرًا عند وصول شرطي المرور الذي أسرع إليها. بعد أن قدّم لها الإسعافات الأولية، طالبًا من زميله مساعدته في نقلها إلى أقرب مستشفى.


قضت سيلا تلك الليلة في غرفة المشفى، معلق لها محاليل تغذية، بينما كان الأطباء يشكّون في حالتها. هاتفها كان مغلقًا بكلمة سر، ولم يتمكن أحد من الوصول إلى أهلها. نامت سيلا، مثقلة بالإرهاق والوجع.


في صباح اليوم التالي، دخل الطبيب إلى غرفتها للاطمئنان عليها، مبتسمًا بلطف:

– حمد لله على السلامة يا آنسة. عاملة أية دلوقتي؟


تحسست سيلا جبينها الملفوف بضماد، حيث ترك الاصطدام خدشًا بسيطًا. ردّت بصوت خافت:

– الحمد لله يا دكتور، ممكن تكتب لي على الخروج؟


ابتسم الطبيب ابتسامة مائلة للقلق وقال:

– ممكن، لكن الأفضل تفضلي يومين كمان. عندي شكوك لازم أتأكد منها بتحاليل وأشعة. وممكن نتواصل مع أهلك ليطمنوا عليك.


أجابت سيلا كاذبة وهي تحاول إنهاء الحديث:

– شكوكك في محلها، أنا متابعة حالتي مع طبيبي الخاص.


ظهرت علامات الاطمئنان على وجه الطبيب، لكنه استفسر بحذر:

– تمام، كده وفّرتِ علي كتير. لكن إنتِ في أي مرحلة؟ لازم التدخل الجراحي بأسرع وقت.


ابتلعت سيلا ريقها، تحاول إخفاء ارتباكها، وقالت:

– أكيد طبعا، أنا ماشية مع طبيبي، وعلى علم بكل شيء. بس أرجوك، اكتب لي على الخروج.


هزّ الطبيب رأسه، وقال بصوت يشوبه عدم الاقتناع:

– زي ما تحبي. هكتبلك على الخروج، وبعد نص ساعة تقدري تمشي.


خرج الطبيب، فنهضت سيلا من على الفراش بإرهاق. التقطت حقيبتها ومفاتيح سيارتها، وخرجت من الغرفة متجهة نحو قسم الحسابات لإنهاء باقي الإجراءات. لكن قبل أن تصل، لفت انتباهها صوت بكاء مألوف قادم من الغرفة المجاورة. توقفت، وتسللت نظراتها نحو الباب الموارب.


رأت عمّها طريح الفراش، إلى جواره زوجته تنتحب بحرقة. اقتربت أكثر، حتى انتبهت زوجة عمها لوجودها. رفعت رأسها، وقالت بوجع ممزوج بالدموع:

– سيلا... إنتِ هنا عشان تشوفي اللي حصل لعمك؟


لم تتفوّه سيلا بكلمة، بل اكتفت بهزّ رأسها إيجابًا.


تابعت زوجة عمها حديثها، وكأنها تتحدث إلى نفسها:

– شوفتي اللي وصلنا له؟ ابني... آه يا قلبي على ابني. مات وهو لسه في عز شبابه! وعمك، زي ما شايفة، من يومها اتشل ومش بينطق. ربنا يعاقبنا على اللي عملناه.


وضعت يدها على رأسها وهي تواصل بكاءها:

– ظلمناكم، ظلمنا أبوكِ... ومات وهو مش مسامحنا. كل حاجة ضاعت. ابني مات بسبب اللي كان بيشربه... وكل اللي أخدناه راح.


ربتت سيلا على كتفها بحنان، وقالت بهدوء:

– ربنا بيغفر وبيسامح لما نرجع له بتوبة صادقة. وأنا وبابا مسامحينكم من زمان. ربنا يعينكم ويخفف عنكم. 


 تركت سيلا عمها واقتربت منه بحنو، تحاول تهدئته بينما يحاول هو جاهدًا النطق بكلمات تتعثر في حلقه. شفتيه المرتجفتان حاولتا صياغة جملة لكنها خرجت بصوت متقطع:

"أم... أممم..."


ربتت سيلا على كتفه بحنان وهمست بصوت دافئ:

"ما تتعبش نفسك... أنا مسمحاك، وبابا كمان مسامحك. ربنا يقومك بالسلامة قريب."


ثم انحنت لتطبع قبلة على جبينه، ونهضت لتحتضن زوجة عمها برفق:

"ربنا يشفيه ويخفف عنكم... ويرحم محمود."


غادرت المكان بخطوات ثقيلة، مشغولة بشرودها وأفكارها التي حملتها بعيدًا. فجأة، شعرت بقشعريرة باردة سرت في جسدها، وكأنها نذير خطر غير مرئي. التفتت لتغادر، لكن صوت خطوات خلفها جعلها تنتفض. استدارت لتجد ظل شخص يقترب منها.


شهقت سيلا وارتدت للخلف بدهشة، تحاول التقاط أنفاسها:

"هاه! هو... هو أنت؟ جيت إمتى؟"


ابتسم الشاب بحرج ورفع يديه كإشارة للاعتذار:

"آسف... آسف جدًا! مش قصدي أخوفك. أنا جيت وخبطت على الباب، بس محدش رد. شفتك قاعدة قدام البحر... فقلت ممكن أجي أتكلم معاكي. آسف مرة تانية."


تنهدت سيلا بارتياح وحاولت أن تهدأ:

"ولا يهمك."


ابتسم الشاب بلطف ومد يده معرفًا بنفسه:

"أنا مازن."


ردت سيلا بابتسامة باهتة لم تصل إلى عينيها:

"وأنا سيلا."


تأملها مازن بنظرات متفحصة، وكأنه يحاول أن يفك لغزًا ما:

"تشرفت بمعرفتك... بس حاسس إني شفتك قبل كده. شكلك مش غريب عليا."


حاولت سيلا التهرب منه بنظرات مضطربة:

"ما أعتقدش. مع السلامة."


لكن إصرار مازن ازداد وهو يلاحق أفكاره:

"لا، متأكد إنك مش غريبة عليا... يمكن كنتي مع حد أو في مكان. هحاول أفتكر."


لم تستطع سيلا احتمال المزيد. تقدمت بخطوات سريعة، محاولة الهروب من نظراته المتسائلة. عندما ابتعدت، لاحظت ظلًا أسود يتحرك بجانب الشاليه الخاص بها. ارتعشت أوصالها من الخوف، وخفق قلبها بشدة. بدأت تركض كأنها في سباق مع الرعب، حتى وصلت إلى الشاليه ودخلته بسرعة.


أغلقت الباب بإحكام، وألقت هاتفها على الطاولة دون أن تمنحه فرصة لقول كلمة. ثم سارعت بإغلاق النوافذ كلها، وكأنها تحاول أن تبني حصنًا يحميها من العالم الخارجي تحاول تهدئة أنفاسها المتسارعة ومسحت جبينها المبلل بالعرق، رغم برودة الجو.


بعد أن هدأت قليلًا، توجهت إلى المطبخ لإعداد وجبة خفيفة. قامت بتسخين القليل من الشوربة وأضفت إليها قطعتي لحم، ثم تناولتها بصمت. بعد ذلك، أخذت دواءها وحاولت أن تنام. وكعادتها، احتضنت نفسها كما يفعل الجنين في رحم أمه، حتى غلبها النعاس ببطء.


… 

أُغلق الباب في وجه مازن قبل أن يتمكن حتى من شكرها. وقف للحظة مذهولًا من تصرفها، يحمل هاتفه الذي أعادته إليه دون كلمة. كان في نيته شكرها، لكنّ تعبيرات وجهها وتوترها جعلاه يتراجع. تأمل باب الشاليه المغلق للحظة، ثم ابتسم بخفة، وكأنّ تصرفها حمل في طياته سرًا ما. بدا عليه أنها مرتعبة أو تهرب من شيء ما، خاصة مع هيئتها الحزينة التي لم تفارقه. قرر في نفسه أن يسألها صباحًا عن ذلك.

..

في مشهد آخر، كانت سيلا وعاصم يلهوان داخل مياه البحر. ضحكاتهما العالية امتزجت بصوت الأمواج، وملأت أرجاء المكان بالمرح. بعثرت سيلا الماء بيديها على وجهه بسعادة طفولية، وهو يرد عليها بضحكات مفعمة بالحياة:

"والله ما أنا سايبك!"


استمر في رش الماء عليها، بينما هي تبتعد للوراء محاولًة تفاديه، وضحكاتها تملأ الأجواء:

"كفاية! حرمت خلاص، خلاص!"


هدآ قليلًا، والضحكات بدأت تخفت. اقترب عاصم منها وأمسك يدها، ونظر إلى عينيها بشوق وسعادة لا توصف. كل كلمة نطقها خرجت من أعماق قلبه:

"أنا بحبك أوي."


نظرت إليه سيلا، ثم فجأة رفعت صوتها عاليًا، كأنها تصرخ للعالم أجمع:

"وأنا... مش بحبك!"


تفاجأ عاصم من ردها، حدق بها بدهشة:

"بتقولي إيه؟!"


لكنها بسطت ذراعيها للأعلى، وابتسامتها أضاءت وجهها كما لم تفعل من قبل. قفزت عاليًا على سطح المياه وهي تصرخ:

"أنا بعشقك!"


ثم خفضت صوتها بهدوء، واقتربت منه وأمسكت يده. أخذت كفه وأشارت به نحو قلبها، وابتسمت برقة:

"أنت بقيت هنا... وأنا معاك بحس بالأمان اللي كنت بدور عليه. أوعدني... ما تسبنيش يا عاصم، أوعدني!"


رد عليها بنفس الشوق واللهفة، وعينيه تشعان حبًا:

"مش هسيبك. أنت حياتي، أنت النفس اللي بتنفسه. عرفت طعم حياتي معاكي، وعمري ما هسيبك."


صاحت سيلا بصوت مرتفع، وكأنها تطلب تأكيدًا:

"أوعدني!"


رد عليها عاصم، وهو يشدد بيده على يدها في وسط البحر الذي كانت أمواجه ترفعهم وتخفضهم:

"أوعدك. هتفضلي معايا وجانبي دايمًا."


شعرت سيلا بطفولة غامرة تجتاحها. فجأة سحبت يدها منه، ورجعت للخلف وسط موجة من الضحك. قهقهت بصوت عالٍ، ثم بعثرت الماء بوجهه مجددًا:

"طب خد دي بقى!"


ابتعدت عنه بسرعة، وهو يقترب منها بتوعد، مهددًا بابتسامة ماكرة:

"تعالي هنا! رايحة فين؟! أنت فصيلة كده على طول!"


وسط ضحكاتها وسعادتها، لم تلاحظ سيلا ارتفاع مستوى المياه وسحبها نحو الداخل. ظلت تلهو وتزيد من حماسها:

"مش هتقدر تمسكني!"


لكن فجأة قطعت حديثها عندما شعرت بدوار البحر. شهقت، وحاولت الصراخ:

"الحقني! أنا بغرق! الحقني!"


في البداية، ظنها عاصم تمزح كالعادة. لكنها كانت تبتعد عنه بسرعة. أدرك أن الأمر حقيقي عندما سمع صراخها المتوسل:

"عاااااصم! ما تسبنيش! أنت وعدتني!"


رآها تغرق، تصعد وتختفي، تستنشق أنفاسًا متقطعة قبل أن تسقط مجددًا إلى الماء. ظل يصرخ بجنون:

"مش هسيبك يا سيلا! سيلا! لآاااه!"


غطس في الماء، يبحث عنها بجنون، يقفز إلى السطح لالتقاط أنفاسه ثم يغوص مجددًا. صوتها يستغيث به في رأسه:

"ما تسبنيش، عاصم! أنت وعدتني!"

لكنه لم يجدها.

...


استيقظ عاصم من نومه مذعورًا، يلهث بعنف. كان العرق يتصبب من جبينه، وجسده يرتجف كأنه يحمل أثقالًا على روحه. أمسك رأسه بكلتا يديه، يردد اسمها بصوت مختنق وكأنها ما زالت تُناديه:

"سيلا! سيلا! آه... قلبي..."


ظل يكرر اسمها، وكأن الحلم كان حقيقة مُرَّة لا يريد تصديقها.


شعر بوخزة في قلبه، زفر بضيق ونهض بسرعة ليغسل وجهه. وقف أمام المرآة، مغمض العينين، لكنه لم يستطع منع الألم الذي مزق قلبه من العودة. اعترف لنفسه بهدوء، وبداخله وجع حارق "أفتقدها بشدة... كل ليلة أحلم بها، أبحث عنها ولا أجدها. أمد يدي لأضمها ولا تلمسني، أناديها ولا تسمعني. متى تعود إليّ؟ متى تسعدني؟ أشتاق لعناقها لأحيا من جديد... لا، لن أتخلى عنها، وعدتك ولن أخلف الوعد."


خرج من الحمام بخطوات ثقيلة وجلس على أقرب مقعد، جذب هاتفه بيد مرتجفة وأجرى مكالمة سريعة مع صديقه. أنهى المكالمة وزفر بضيق، ألقى بالهاتف بإهمال ونهض ليستعد لمهمته.


لأول مرة تهتز يده في تنفيذ مهمته؛ ظهر أمامه هدفه لكنه لم يستطع الضغط على الزناد عندما لمحها فجأة. ارتجفت يداه، وتخلى عن المهمة، موكلًا إياها لضابط آخر. نال توبيخًا شديدًا من رئيسه في العمل، لكن قلبه المشوش كان أقوى من كلمات رئيسه الغاضبة.


كلما حاول أن يخرجها من عقله، كلما زاد انقباض قلبه. أخبره صديقه بمكانها وبحادث وقع في مدخل الإسكندرية أدى إلى مبيتها ليلة في المستشفى. أضاف أنه تلقى مكالمة من أخيها يسأل عنها. لكن عاصم طلب منه عدم الرد وعدم إخبار أي شخص بمكانها في الوقت الحالي، قائلًا إن الظروف لا تسمح.


زفر بضيق شديد، متخذًا قراره. ترك مهمته لصديقه وسافر لرؤيتها. حمل حقيبته واستقل طائرته، متجهًا نحو "مجنونته العنيدة"، كما كان يلقبها دائمًا.


مرّ أسبوعان كأنهما دهر. ظل خلالها يراقبها من بعيد، يرى ألمها دون أن يستطيع مواساتها.


وفي أول يوم لمحها فيه، كان يقف بعيدًا يراقبها. ترتدي فستانًا أبيض فضفاضًا بدا كأنه يعكس حزنها. استغل خبرته في المراقبة لتقييم المكان، باحثًا عن أنسب مدخل للشاليه دون إثارة شكوكها.


في أحد الأيام، خرجت من الشاليه لفترة قصيرة. انتهز الفرصة ودخل بكل خفة ومهارة عبر نافذة الشرفة التي تركتها مواربة. كان الشاليه صغيرًا، مكونًا من غرفة واحدة تضم سريرًا متوسط الحجم بجانب الحائط، إلى جانبه منضدة خشبية صغيرة تعج بأنواع مختلفة من الأدوية، بعضها فارغ والبعض الآخر شبه ممتلئ.


تجول عاصم في المكان، فحصه بعناية. الريسبشن كبير ويفتح على مطبخ أمريكي، والشرفة المطلة على البحر تمنح المكان جاذبية خاصة. لكنه لم يكن هناك للاستمتاع بالمشهد. زرع كاميرات صغيرة لا تُرى، واحدة في الريسبشن وأخرى داخل الغرفة، ووضع جهاز تنصت أسفل المنضدة القريبة من السرير.


بينما كان ينهي مهمته، رأى من نافذة الشرفة أنها عائدة. اختبأ بسرعة في الزاوية، وعندما دخلت هي الشاليه، قفز إلى الخارج بصمت.


دلفت إلى الداخل وهي تشم رائحة غريبة، عطرًا فريدًا تعرفه جيدًا. تلفتت حولها بقلق، تبحث عن مصدر الرائحة، لكن المكان كان فارغًا. تمتمت بخفوت: "غريب... إيه الريحة دي؟"


نفضت من عقلها كل الهواجس، ورمت نفسها على السرير. احتضنت نفسها بألم، غارقة في أحزانها، حتى غفت أخيرًا.

… 

خرج عاصم من الشاليه بعد أن انتهى من زراعة الكاميرات ووضع أجهزة التنصت، وقرر استئجار شاليه قريب من شاليه سيلا. أراد أن يكون بجانبها، لكن دون أن يشعرها بوجوده. بمجرد أن دلف إلى الشاليه الجديد، فتح حاسوبه المحمول، وأوصل الكاميرات بأجهزته، وبدأ يتابعها عن كثب.


رآها تجلس داخل شاليهها، وقد تركت شرفتها غير محكمة الإغلاق. لاحظ أنها تناولت دواءها من حقيبتها، ثم تمددت على سريرها، متألمة، حتى غفت.


شعر عاصم بوجع في قلبه وهو يراقبها، حنين جارف اجتاحه لرؤيتها عن قرب، لاحتضانها، لمسح كل هذا الألم الذي أثقل ملامحها. لكنه تردد، متسائلًا: "ماذا سيكون رد فعلها إن رأتني؟"


رغم التردد، قرر الذهاب إليها. دلف إلى شرفتها المفتوحة مرة أخرى بخفة ومهارة. وقف للحظات يتأملها وهي نائمة. كانت ملامحها منكمشة بالألم، وكأنها تخوض معركة مع نفسها حتى وهي في سبات.


اقترب منها بحذر وجثا على ركبتيه بجانبها. مد يده برفق وربت على شعرها، هامسًا بكلمات دافئة بين الحلم واليقظة:

"سيلا... أنا هنا... أنا معكِ..."


لم تستوعب كلماته تمامًا، إذ كانت بين النوم واليقظة، لكنها حركت رأسها قليلًا وكأنها تشعر بحضوره. تمنّى لو اختصر المسافة بينها وبين قلبه، أراد أن يضمها بين ذراعيه، لكنه اكتفى بتقبيل وجنتها بخفة.


دثرها جيدًا بالغطاء، وهمّ بالخروج سريعًا عندما لاحظ أنها بدأت تتحرك وكأنها ستفيق. غادر الغرفة بنفس الهدوء والخفة التي دخل بها، قافزًا عبر الشرفة.


لكنه ما إن اقترب من الشاليه الخاص به، حتى لفت نظره ظل شخص يتجه نحو شاليه سيلا. توقف مكانه يراقب بحذر، بينما هي فتحت الباب لهذا الشخص وبدأا الحديث.


تابع عاصم الموقف من بعيد، محاولًا قراءة حركة شفاههما. لكن ما أقلقه حقًا هو نظرات هذا الرجل، التي بدت مريبة بالنسبة له.


ظل يتبع الرجل حتى غادر الشاليه. عندها رآها سيلا تخرج وتجلس أمام البحر، تبدو شاردة ومليئة بالألم. بقي عاصم يتجول حول المكان، يراقبها من بعيد.


لاحقًا، عاد الرجل الذي كان معها ووقف بجانبها، يتحدث معها من جديد. تقدمت سيلا نحوه ببضع خطوات، لكن عاصم، الذي كان يختبئ خلف أحد الأشجار، شعر أنها لاحظت وجوده. فجأة، ركضت بسرعة نحو شاليهها، وأغلقت الباب خلفها بعنف.


ابتسم عاصم لنفسه بهدوء، واطمأن أنها شعرت بشيء ما جعلها تعود إلى الداخل.


عاد بدوره إلى شاليهه، وجلس أمام حاسوبه، يراقبها وهي تتحرك داخل الغرفة حتى استلقت على السرير من جديد. كانت تنام بوضعية الجنين، تحتضن نفسها وكأنها تبحث عن أمان مفقود.


همس لنفسه وهو يتأملها عبر الشاشة:

"نفسي أفهم عنادك ده هيوديكي فين... لحد إمتى دماغك الناشفة دي؟ بس خلاص، هخلص كام حاجة بخصوص المستشفى والدكتور اللي متابع حالتك، وبعدها هكسر دماغك الحجر دي."


ظل الحاسوب أمامه، يراقبها بعين متعبة وقلب مليء بالشوق، حتى غلبه النعاس ونام وهو يتمنى لو كانت بين ذراعيه.


صباح جديد مليء بالمفاجآت على جميع أبطالنا.


استيقظت سيلا من نومها بتأفف شديد على صوت طرقات الباب المتتالية. نهضت وهي تتمتم بضيق:

"وبعدين بقى في الرزل ده؟ كل شوية دَق دَق... ما وراهوش غيري؟ هف!"

بقلم شروق مصطفى

اتجهت نحو الباب بخطوات ثقيلة، منادية بصوت مرتفع:

"أيوه... مين؟"


جاءها الرد سريعًا، صوت مألوف لكن مزعج:

"أنا مازن... لو سمحتي، نسيت الشاحن عندك امبارح."


خبطت يدها على جبينها باندفاع، متذمرة بصوت خافت:

"آه... دا أنا نسيت! شديت التلفون وسِبت الشاحن."


أسرعت وأحضرت الشاحن، فتحت الباب فتحة صغيرة، ومدت يدها به قائلة بلهجة معتذرة:

"آسفة جدًا، بجد نسيت خالص."


ابتسم مازن وهو يأخذ الشاحن منها، قائلاً بلطف:

"بتحصل، ولا يهمك. بس ممكن طلب لو مش هيضايقك؟"


نظرت إليه باستغراب:

"طلب؟ لا عادي، اتفضل."


قال مازن بابتسامة عريضة:

"إيه رأيك لو أعزمك على فنجان قهوة في الكافيه القريب هنا؟"


وأشار إلى كافيه صغير يقع في الممر الفاصل بين صفين طويلين من الشاليهات المطلة على البحر. ثم أكمل بنبرة حماسية:

"على فكرة، افتكرت حاجة! أنتي تعرفي هيثم؟ دكتور الأطفال؟ طول الليل بحاول أفتكر شوفتك فين، لحد ما افتكرتك أخيرًا!"


سيلا شعرت بالارتباك، فردت بسرعة وصوتها يحمل القلق:

"مي! أنت تعرف مي؟! أوعى تكون كلمتها أو قلت لها على مكاني!"


اندفاعها المفاجئ أثار دهشة مازن، الذي رفع حاجبيه مستغربًا وقال:

"آه... مي أخت هيثم، بس أنا معرفش مي كويس، أعرف هيثم لأنه صديقي. لكن لا تقلقي، مكلمتش حد لسه."


أخذت نفسًا عميقًا لتهدئة أعصابها، ثم قالت:

"طيب هستأذنك أغير هدومي وأجيلك."


أغلقت الباب وارتدت ملابسها سريعًا، ثم خرجت لتجده ينتظرها. أشار لها باتجاه الكافيه، حيث جلسا معًا.


تقدم النادل إليهما، وسأله مازن:

"واحد قهوة مظبوطة. والآنسة؟"


ردت سيلا بلطف:

"لو ممكن أي مشروب فريش."


ذهب النادل لتحضير الطلبات، واغتنمت سيلا الفرصة لتسأله بوضوح:

"ممكن أعرف أنت تعرفني منين؟"


ابتسم مازن وقال:

"زي ما قلتلك، أنا طبيب نفسي وبشتغل مع هيثم في نفس المركز. بس هقولك شوفتك فين..."


سرح قليلاً، مستعيدًا ما حدث منذ أشهر. قال وهو يعيد الرواية:

"كنت مخلص حالتي ونازل أجيب حاجة من كافيه المركز الطبي، لقيتك داخلة. كنتِ منشغلة بالموبايل، ولما مشيتي، خبطتي كتفي بالغلط."


قاطعته سيلا، وهي تتذكر:

"آه فعلا، افتكرت! كنت مع مي وسلمت عليك."


سيلا ضحكت بخفة:

"فرصة سعيدة"


مازن رد بابتسامة واسعة:

"أنا الأسعد. بجد، مبسوط إننا تقابلنا. بس عندي سؤال: ليه قلقتي كده لما سألت عن مي أو هيثم؟ ليه محدش يعرف مكانك؟"


بدت سيلا مترددة، لكنه قاطعها:


مش قصدي أتدخل، لكن أوقات الإنسان بيحتاج يفضفض مع حد ما يعرفوش. لو حبيتي تتكلمي، أنا موجود كصديق قبل ما أكون طبيب.


سيلا ردت بابتسامة خفيفة:

"مش المفروض تكون في المركز دلوقتي؟"


ضحك مازن وفهم ما تقصده، فأجاب:

"كنت في مؤتمر واتلغى، فقررت أفصل شوية. لكن لو لقيت حالة تستاهل، بشتغل عليها. خصوصًا لو الحالة قدامي وعينيها مليانة حزن زي حالتك."


سيلا تظاهرت بالضحك وقالت:

أوعدك، لو احتجت أتكلم، هقولك. لكن بشرط: ما حدش يعرف مكاني.


مازن أخرج بطاقة وضعها أمامها وقال:

"اتفقنا. ده كارت فيه أرقامي. هستنى مكالمتك."


أخذت سيلا البطاقة وابتسمت له بخجل، ثم نهضت قائلة:

"استأذن أنا."


نهض مازن بدوره ومد يده لمصافحتها، وهو يقول:

"فرصة سعيدة."


لكن قبل أن تتمكن من مد يدها، ظهر يد أخرى فجأة ومد يده بدلاً منها، يصافح مازن بقبضة قوية وصوت أجش:

"وأنا مش أسعد."


تجمدت سيلا في مكانها، مصدومة من وجوده. لم تستطع منع نفسها من الهمس:

"عاصم؟!"

الفصل الرابع من هنا

تعليقات



×