رواية جمر الجليد ج2 (وأنصهر الجليد) الفصل الاول بقلم شروق مصطفي
بعدما توترت الأوضاع وأحاطه القلق، قرر معتز التحرك فورًا. هاتف صديق عاصم، شارحًا له الوضع بتفاصيل دقيقة، وطلب منه المساعدة في الحصول على رقم سيارة مي وهاتفها للتتبع. استجاب الصديق سريعًا، ووعده بتوفير المعلومات في أقرب وقت.
في تلك اللحظة، حاول معتز الاتصال بعاصم مرة أخرى، لكن الهاتف ظل مغلقًا، فزفر بضيق وهو يشعر بأن الانتظار يثقل كاهله. جلس قليلًا محاولًا التركيز في عمله، إلا أن القلق استمر يلاحقه كظلٍّ لا يفارقه. لم يلبث طويلًا حتى قرر الاتصال بهيثم، طالبًا إذنه للخروج مع مي، فوافق الأخير دون تردد. بعد ذلك، أمسك هاتفه واتصل بمي للاطمئنان عليها وإخبارها بالاستعداد.
كانت مي غارقة في نوم عميق، حين رن الهاتف بجانبها. رفعت السماعة بنعاس وصوتها متثاقل:
"ألو، مين معايا؟"
ابتسم معتز وأجاب بمزاح:
"أنا حبيبك يا حياتي، مش كفاية نوم بقى؟ شكلك كسلانة من أولها كده."
ردت مي، والنوم يغلبها:
"هتقول مين ولا أقفل في وشك السكة؟"
ضحك معتز بصوت عالٍ وقال مازحًا:
"طيب اقفلي وشوفي إيه اللي هيحصلك. يابت فوقي وكلّميني كده! آه، لو شوفتك قدامي!"
فتحت مي إحدى عينيها وحاولت تذكر مصدر الصوت، ثم فجأة نهضت من على السرير بصدمة:
"إيه ده؟ معتز!"
رد معتز، وهو يرفع حاجبيه بمكر:
"لا يا شيخة! تصوري؟ مكنتش أعرف إنك لحقتي تنسيني يا مي. ماشي، أشوفك الأول!"
كتمت مي ضحكتها وقالت:
"خلاص بقى، أنا لسه صاحية من النوم. أنا كده لما أصحى مش بفتكر حد."
أحست بالخجل من كلماته الغزلية ولم تعرف كيف ترد، فصمتت. قطع معتز صمتها قائلاً:
"إيه؟ نمتي تاني ولا إيه؟ يا خيبتك السودة يا معتز! ردي طيب! فوقي كده، أنا هعدّي عليكِ كمان نص ساعة نفطر سوا بره."
أخيرًا، نطقت مي بصوت منخفض:
"طيب، قول لهيثم الأول."
رد معتز بغيظ:
"قولتله يا كسلانة قبل ما أكلمك! يلا صحصحي عشان هعدي عليكِ. ولا عايزاني أطلع فوق أصحيكِ بطريقتي؟"
نهضت مي بسرعة وقالت بارتباك:
"لا لا لا، خلاص أنا قمت! سلام بقى عشان ألحق ألبس."
أغلقت الهاتف وخرجت من غرفتها لتصبح على والدتها، التي قالت لها بابتسامة:
"أخوكي كلّمني وقال خطيبك هيعدّي عليكِ تخرجوا. بس ساعة واحدة فاهمة.
ابتسمت مي لوالدتها وهي تقول بلطف:
"حاضر يا حبيبتي، مش هتأخر."
ردت نبيلة، وهي توصيها:
"روحي يا حبيبتي اتوضي وصلي الظهر الأول قبل ما تنزلي، عشان ميروحش عليكي."
قبّلت مي وجنتي والدتها بمحبة وقالت:
"مش هنسى طبعًا يا أحلى أم في الدنيا. ادعي يا ماما يكون عرف حاجة عن سيلا، وادعيلها نلاقيها. مش عارفة المجنونة دي بتفكر إزاي! فاكرة إنها عايشة لوحدها ومحدش هيزعل عليها. أنا داخلة قبل ما يجي يستعجلني. ادعيلها يا ماما."
دعت الأم بخير وصلاح حال للجميع، بينما أكملت مي تجهيزاتها.
عندما انتهت مي من ارتداء ملابسها، اختارت فستان جينز طويلًا بأكمام طويلة باللون الكحلي، زينته بحزام في الوسط من نفس اللون. رفعت شعرها على هيئة ذيل حصان، تاركة بعض الخصلات تنسدل بعشوائية. انتعلت حذاءً رياضيًا أبيض وحملت حقيبتها. خرجت من غرفتها مبتسمة، لتجد والدتها تستقبلها بإعجاب:
"تبارك الله! ربنا يحميكي يا بنتي. خلي بالك من نفسك."
ابتسمت مي وهي ترد:
"حاضر يا ماما."
رن هاتفها في تلك اللحظة، فأجابت سريعًا:
"ألو... آه، أنا جاهزة. نازلة حالًا، سلام."
ثم نظرت إلى والدتها باستعجال قائلة:
"أنا هنزل يا ماما، مش هغيب."
قبّلتها مرة أخرى على وجنتيها، ثم غادرت.
في الخارج، وجدت معتز متكئًا على سيارته. استقبلها بابتسامة ساحرة وفتح لها باب السيارة، مشيرًا لها بالصعود. جلست مي، ثم التحق بها معتز وقاد السيارة.
تأمل وجهها، فرأى جفونها متورمة من أثر البكاء، فتنهد بضيق وسألها بلطف:
"عاملة إيه دلوقتي؟"
حاولت أن تبتسم رغم ما تشعر به من حزن، وردت بهدوء:
"الحمد لله."
ثم التفتت إليه وسألته بقلق:
"محدش عرف حاجة لسه؟ عاصم معرفش أي حاجة؟"
أخذ نفسًا عميقًا وأخرجه ببطء، متجنبًا النظر إليها:
"كلمت حد من معارفنا، وإن شاء الله تلاقوها قريب."
داخل السيارة، ظلت مي غارقة في دعائها لصديقتها:
"يا رب نلاقيها بسرعة، أنا خايفة عليها أوي."
بعد قليل، وصلا إلى الكافيه. جلسا على طاولة هادئة، وحين وصل النادل بطلباتهما، لاحظ معتز آثار الدموع على عينيها. تطلع إليها بحزم وقال:
"مي، مش عاوز أشوف دموعك دي تاني. فاهمة؟"
نظرت إليه باستغراب من تغير نبرته المفاجئ، ثم تساءلت داخليًا: "أهذا هو نفسه الذي كان ينتهز أي فرصة لمضايقتي؟" لكنها لم تطل التفكير كثيرًا، وسألته بتردد:
"اشمعنا دلوقتي خايف على دموعي؟ وإنت من الأول..."
توقفت فجأة، مترددة فيما ستقوله.
أدرك معتز ما يجول بخاطرها، فابتسم ابتسامة تحمل حزنًا عميقًا وندمًا. تنهد وقال:
"هقولك كل حاجة، وليه كنت كده سواء معاكي أو مع غيرك."
بدأ يقص عليها ما مروا به: الماضي مأثر علينا كلنا لحد النهارده. عاصم كان الكبير، وشال المسؤولية كلها. حياته كانت جافة، خاصة بحكم شغله في المخابرات. فقد فيها كل إحساس. حياته كلها بقت تجاهل، لامبالاة، وبرود."
ثم أكمل بمرارة:
"أما أنا... كنت عكسه. غضبي كان سلاحي الوحيد. كنت بصبه في أي حد قدامي. مش كنت بفكر."
ابتلع ريقه بصعوبة وأردف بندم:
"بصراحة، أنا مش ملاك. أخطأت كتير، في حق نفسي وفي حق غيري. عصيت ربنا كتير. لكني بحاول أكفر عن كل ده. وأتمنى... أتمنى إنك تسامحيني على كل اللي عملته فيكي. الخوف اللي سببته ليكي، المضايقات، والرعب اللي لسه بشوفه في عينيكي... بيموتني."
حاولت مي أن ترد، لكنه أوقفها بإشارة من يده، وأكمل:
"عارف إنك بتسألي ليه عملت كده معاكي. كنت بحاول أهرب من نفسي. كل مرة كنت أضايقك فيها، كنت بحاول أمحي صورتك من بالي. لكن... كنت بشوفك في كل حاجة حواليا. يوم ما لمست إيدك بالصدفة في العربية، حسيت إنك كهربت كياني كله."
ثم أشار إلى قلبه وقال بصوت مختنق:
"يوم ما اتخطفتِ... حسيت إني بموت. كنت نفسي لو مت، تكوني آخر حد أشوفه."
نظرت إليه مي بلهفة وقالت بصدق:
"بعد الشر عليك! ما تقولش كده تاني."
تأملها معتز بصمت، وكأن كلماته تخونه في التعبير بداخله. مد يده بخفة نحو يدها المرتجفة على الطاولة، عاقدًا أمله أن ينقل لها شيئًا من السكينة التي يفتقدها. لكنها، كمن لامست نارًا، سحبت يدها فجأة، ونظرت إليه بعينين مترددتين مشحونتين بالدموع. همست بصوت مبحوح:
"آسفة... مش هينفع."
بقلم شروق مصطفى
لم يتحرك معتز، بل اكتفى بابتسامة باهتة، نابعة من عمق الألم. قال بهدوء يمزجه الرجاء:
"خايفة عليّا؟"
تلعثمت مي، تحاول الهروب من ثقل الحديث:
"أنا... مش بحب الكلام عن الموت وكده. بس الحمد لله إنك بتحاول تغير من نفسك."
ابتسمت له بامتنان خفيف وهي تضيف:
"أوعدك إني مش هسيبك. هساعدك تعدّي الأزمة دي، لكن لازم تكون عندك نية حقيقية للتوبة، تتقرب من ربنا، وتبدأ صفحة جديدة."
انفرجت أساريره قليلاً، ورمقها بنظرة تحمل كل معاني الامتنان والحب، وقال بصوت يفيض صدقًا:
"أنا مش عارف أقولك إيه... بحبك أوي. مهما قلت لسنين قدام، مش هيكفي أعبّر عن اللي في قلبي. بجد ندمان على كل لحظة ضايقتك فيها أو دمعة نزلت بسبب غلطي."
سكت لحظة، ثم أردف بخجل:
"بس... مش شايفة إن ست شهور كتير؟ أنا بفكر أكلم أخوكي ونقدّم الفرح لأخر الشهر. كل حاجة جاهزة... ليه نستنى؟"
لكنها قاطعته فجأة، وبحزم لم يتوقعه:
"لا، طبعًا لا."
نظر إليها بدهشة من رفضها المفاجئ. كانت تبدو مستعدة لكل شيء منذ لحظات، فما الذي تغيّر؟ لم تتركه لدوامة ظنونه، وأضافت بحزن وهي تغالب دموعها:
"مش هفرح ولا هلبس الفستان الأبيض إلا لما سيلا تكون معايا... لازم أطمّن عليها الأول."
تفهم معتز موقفها دون اعتراض، وهزّ رأسه مطمئنًا:
"حاضر، أوعدك هعمل المستحيل عشان ألاقيها."
نظرت إليه بأمل ضعيف وقالت:
"طب عاصم... مش ممكن يعرف حاجة؟ يمكن يكون عنده وسيلة يساعدنا.
....
مر أسبوعان دون جديد، والحال كما هو؛ البحث مستمر عن وسيلة، لكنها ما زالت مختفية دون أثر، وعاصم مختفٍ بدوره وهاتفه مغلق. كلما مرّ الوقت، ازدادت المخاوف، وكأن الغياب يثقل القلوب أكثر فأكثر.
على الجانب الآخر، كانت حياة همسة ووليد تتشكل بوتيرة هادئة، حيث ساد التفاهم بينهما. تأقلمت همسة تدريجيًا مع منزلها الجديد، وبدأت تشعر ببعض الراحة في وجود وليد الذي لم يتركها تواجه حزنها وحدها. ورغم كل هذا، بقي بداخلها شعور غامض بالفراغ، بانقباض قلب يؤلمها دون أن تجد له تفسيرًا.
وليد كان يحاول جاهدًا إبعادها عن هذا الحزن، يخرجها من شرودها، ويشاركها تفاصيل الحياة اليومية ليقرب بينهما. لم يكن يكتفي بالكلمات، بل عمد إلى مشاركتها حتى في أبسط الأمور، مثل أعمال المنزل.
ذات يوم، وبعد انتهائهما من الغداء، حاولت منعه من حمل الصحون قائلة بابتسامة خفيفة:
"سيب يا وليد، أنا هشيل الأطباق. مش كل يوم بقى!"
لكنه ترك ما كان يحمله، أمسك يدها برفق، وقال وهو يغرق في عينيها:
"يا ست البنات، ارتاحي انتي. أنا بحب أساعد، فيها حاجة دي؟"
احمرّ وجهها من الخجل، وابتسمت بحنو:
"انت جميل أوي يا وليد بجد... وحنين أوي. ربنا يباركلي فيك."
رد عليها بابتسامة تحمل كل الحب:
"وإنتي أجمل بنت شافتها عنيه."
وبينما كان يحمل معها الأطباق للمطبخ، أوقفته فجأة لتقول:
"وليد، ممكن أسألك سؤال؟"
نظر إليها متسائلًا:
"طبعًا، قولي."
تنهدت قليلاً قبل أن تتابع:
"يا ترى... هتفضل تساعدني كده على طول؟ ولا ده في الأول بس؟ أنا عارفة إن الرجالة عامةً مش بيحبوا يساعدوا زوجاتهم، بيقولوا إن الزوجة المفروض تعمل كل حاجة... بس أنا شايفاك غير كده، فمش عارفة إذا كان ده طبيعي بين الأزواج، ولا انت حالة استثنائية؟"
قهقه وليد ضاحكًا، ثم قال بعد أن هدأ:
"يعني أساعد مش عاجب، ما أساعدش مش عاجب! إنتوا مش بيعجبكم حاجة أبدًا!"
همسة بادرت بسرعة لتبرر كلامها:
"لا لا، ساعد طبعًا! أنا مش قصدي كده... بس عارفة إن معظم الأزواج بيشوفوا نفسهم سي السيد، والزوجة لازم تعمل كل حاجة!"
جذبها برفق من يدها وأجلسها أمامه، ثم قال بابتسامة هادئة:
"بصي... الزواج قائم على المودة والرحمة. يعني لو شوفتك تعبانة في يوم، لازم أشيلك وأساعدك. ولو لقيتيني بمرّ بظروف صعبة، سواء صحية أو مادية، لازم توقفي جنبي وتصبّري عليا. المودة معناها إن يبقى بيننا ألفة وحب، ونشيل بعض في الحلوة والمُرة ولا أية ؟"
هزّت رأسها بالموافقة وقالت بابتسامة خفيفة:
"آه طبعًا، معاك. يارب أكون قدّ المشاركة دي وتنجح حياتنا."
أجابها وليد بثقة ودفء:
"طالما بينا احترام وحب، ونتقي ربنا في بعض، حياتنا هتنجح بإذن الله."
شعرت همسة بفيض من الامتنان، وقالت بتأثر:
"مش عارفة أقولك إيه... ربنا بيحبني إنه رزقني بيك."
تطلع إليها وليد بحب وقال:
"وأنا ربنا بيحبني إنه رزقني بيكي. وأول ما نطمّن على أختك، هنسافر نزور بيت الله زي ما وعدتك."
هتفت بحماس:
"ياريت بجد!"
لكن نبرة صوتها تبدلت إلى حزن وهي تتابع:
"بس... بقالنا أسبوعين ومفيش أي جديد. أنا قلقانة عليها أوي. حتى لما رحنا وسألنا عن عمي، ما كانش موجود."
ربت وليد على يدها مطمئنًا:
"أنا متفائل خير. قريب هنلاقيها إن شاء الله."
ثم حاول تغيير الموضوع ليخفف عنها:
"طيب... مش ناوية بقى؟"
نظرت إليه بعدم استيعاب:
"ناوية على إيه؟ مش واخدة بالي."
غمز لها بمرح وقال:
"بما إن ربنا رزقنا ببعض وبنحب بعض... تعالي، هقولك سر!"
أمسك يدها برفق وسحبها معه إلى الغرفة، ثم أغلق الباب خلفهما.
قالت بتوتر:
"إيه يا وليد؟ في إيه؟"
ترك يدها برفق، ثم أمسك وجنتيها بأنامله وهمس بحنان:
"إنتي لسه بتخافي مني؟"
هزّت رأسها نافية:
"لا، بالعكس... إنت حنين أوي."
ابتسم، ثم قبلها على وجنتيها برفق وقال:
"طيب يا روحي. يلا بينا نصلي ركعتين نبدأ بيهم حياتنا، عشان ربنا يباركلنا فيها. تعالي نتوضأ."
بعد الصلاة، وضع يده على مقدمة رأسها وقرأ دعاء الزواج بخشوع:
"اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه."
ثم نظر إليها بابتسامة تطمئن قلبها، وقال:
"دلوقتي نبدأ حياتنا بطاعة الله، ونكون لبعض زوج وزوجة قولاً وفعلاً."
…
ضاقت بها الحياة حتى شعرت أن قلبها يختنق تحت وطأة الوحدة.
اشتاقت لملاذها الآمن، لأيام كانت تحتضن فيها السكينة بعيدًا عن الألم. تذكرت حديثه المليء بالحب والصدق، وشعرت بلهفته وحنانه الذي خفف عنها الكثير، لكنها كانت تخشى عليه من ثقل مرضها. لا تريد أن تلقي عليه مسؤولية آلامها ولا أن يتعلق بها وهي تشعر أن النهاية تقترب.
فاقت من شرودها وهي تمسح دمعة عالقة على خدها. وقفت أمام البحر، موجه يلامس قدميها ويبلل رمال الشاطئ. نثرت المياه بقدميها بعشوائية، ثم تنهدت بعمق، وابتسمت ابتسامة حزينة وهمست وكأنها تخاطب من تحب:
"وحشتوني أوي... أسبوعين وأنا مش عارفة أنام وأنا بعيدة عنكم. يا رب تصبرني على بعدكم."
التفتت عائدة إلى الشاليه، فتحت الباب ودخلت، ولكن فجأة اجتاحها شعور غريب. شمت رائحة عطر مألوفة، رائحة تعرفها جيدًا. عطر يحمل ذكريات حبها. توقفت في مكانها، تتلفت حولها تبحث عن مصدره، لكنها لم تجد أحدًا. شعرت بقشعريرة اجتاحت جسدها، وتمتمت بدهشة:
"غريب... ريحة إيه دي؟!"
حاولت تجاهل شعورها، نفضت الأفكار والهواجس عن عقلها، وأرتمت على الفراش بإرهاق.
آلامها باتت أشد من أن تتحملها. الأدوية والمسكنات لم تعد تؤثر، ومعدتها المنهكة ترفض الطعام. شحب وجهها، وازدادت الهالات الداكنة تحت عينيها، وكأن المرض يلتهمها يومًا بعد يوم.
تناولت بعض الحبوب المهدئة كي تهرب من واقعها إلى النوم. حضنت نفسها كالجنين، تبكي بصوت مكتوم من شدة الوجع، حتى غلبها الإرهاق وأغمضت عينيها.
لكن بعد ساعات قليلة، شعرت بشيء غير متوقع.
قبلة دافئة على وجنتها أيقظتها. صوت همس بجوار أذنها وكف حانية تغطيها بالبطانية. فتحت عينيها ببطء، ما زالت متعبة، لكنها رأت وجهه أمامها! يربت على شعرها بحنان ويهمس:
"أنا معاكي، وهفضل جنبك... حياتي ملهاش طعم من غيرك."
رفعت نفسها بصعوبة عن الفراش، وهي تحاول استيعاب ما يحدث. مسحت عينيها بأناملها لتزيل بقايا النعاس. لكنها صُدمت!
لا أحد في الغرفة... كانت وحدها.
تنهدت بمرارة وهي تهمس بخفوت:
"معقول... كان حلم؟"
وضعت يدها على وجنتها، وكأنها تتحسس أثر القبلة. رغم الألم، ابتسمت. حلمه ترك أثرًا ناعمًا على قلبها المنهك. نظرت إلى الساعة بجانب السرير، فوجدتها لم تتجاوز التاسعة مساءً.
نهضت من فراشها بتكاسل، وتوجهت إلى الدولاب. قررت تبديل ملابسها والخروج قليلًا لاستنشاق الهواء المنعش. شعرت أن الجدران تخنقها.
لكن بينما كانت تتحرك ببطء... حدث ما لم يكن في الحسبان.