رواية طوق النجاة الجزء التكميلى من بك أحيا الفصل الاول بقلم ناهد خالد
الأول من نوفمبر لعام 2020...
في جامعة القاهرة....
خرجت من المحاضرة تحمل حقيبة ظهر صغيرة وأنيقة تضع فيها مستلزمات دراستها وعلقت البالطو الأبيض على ذراعها, توقفت على جنب تعقد رباط حذائها الرياضي, استمعت لصوت يأتي من خلفها يقول:
- يلا نفطر هموت من الجوع.
ابتسمت وهي تسمع صوتها, لتستقيم ملتفة لها تقول:
- على طول بتطلعي من المحاضرة جعانة كده؟
بادلتها الابتسامة وهي تجيبها:
- اصل المحاضرات صعبة اوي, بتستنفذ طاجتي..
- طاقتي, حرام عليكِ يا فريال لازم كلمة كده تفلت منك؟
زفرت بضيق وهي تسير معها تقول:
- يا ستي مانا بحاول اهو, بقالك 3 شهور عملالي مدرسة وبتعلميني ازاي أتكلم زي بتوع القاهرة, وانا بحاول وبجيت احسن من الأول.
هزت "خديجة" رأسها بيأس:
- بقيت... ثم إنك اللي طلبتِ مني اعلمك تتكلمي زيهم, عشان حابة تتعلمي كذا لهجة وتقدري تتعايشي مع صحابها من غير ما تحسي بعائق.
اومأت موافقة:
- طبعًا يا بنتي, لازم نواكب العصر, عشان كده لما اقترحتِ عليا كورس الإنجليزي والكمبيوتر وافقت طبعًا, مينفعش نكون دكاترة ونحس نفسنا جهلة بشيء.
- معاكي حق, أنا حاسة إني في ال3 شهور دول, بقيت حد تاني...
نظرت "فريال" لها تقيم ثيابها العصرية الأنيقة, تنورة بيضاء بها زركشة جميلة, وكنزة صوفية مخططه أبيض في وردي, وحجاب وردي بسيط, ورغم بساطتها الا انها بدت أنيقة كباقي فتيات الطبقة المخملية:
- هو من ناحية حد تاني, فأنتِ بعد ما تجوزتي لبسك وشكلك اتغير, وبقيتِ خديجة هانم, لكن بعد ما دخلتِ الجامعة كمان, بقيتِ البنوتة الرقيقة اللي بتلبس لبس ....
صمتت تتذكر الكلمة لتقول:
- بيقولوا عليها ايه.... اه, براند وأنيق.
ضحكت بخفة وهي تقول:
- أنتِ عارفه ان كل لبسي مراد اللي بيجيبه, يعني لا بختار حاجه ولا اعرف في البرندات اصلاً.
- صحيح هو هيرجع امتى؟
توقفت عن السير, وامتعضت ملامحها, قبل أن تجيبها بتنهيده:
- والله ما عارفه يا فريال, طولوا اوي.. ده كان قايلي شهر وراجعين, بقالهم شهرين اهو...
سألتها "فريال" بعبث وهي تنغزها بذراعها:
- ايه وحشك؟
- اوي...
اتسعت اعين "فريال" دهشًة, لتكمل "خديجة" باصرار ودون خجل:
- ايه؟ اه وحشني, ووحشني اوي كمان, حياتي ناقصه من غيره, ورغم إني بكلمه في اليوم خمس أو ست مرات, بس بردو المكالمات مش كفاية..
رددت "فريال" بدهشة من حديثها:
- ايه ده؟ من امتى وأنتِ بتتكلمي عنه كده ومن غير كسوف؟
قطبت ما بين حاجبيها رافضة:
- واتكسف من ايه؟ ده جوزي على فكرة, ايه المشكلة لما يوحشني!
ضربت كف بآخر وهي تجيبها:
- لا مفيش مشكلة... بس أنا شايفه ان علاقتك بيه احسن, وقولتي انك بتحبيه واعترفتيله, بس بردو متوقعتش ان الكلام ده يطلع منك!
قالت بصدق وأعين لامعة:
- مراد يستاهل كل الحلو اللي في الدنيا يا فريال, ومهما حبيته مش هيكون ربع حبه ليا, تخيلي تلاقي حد تكوني واثقة إنه بيحبك اكتر من نفسه, ازاي عوزاني محبوش!
ابتسمت لها "فريال" باتساع تقول:
- أنا مبسوطة ليكِ اوي والله, مبسوطة إنك لاقيتِ حد يحبك كده لأنك أنتِ كمان تستاهلي كل الخير.
بادلتها "خديجة" الابتسام تقول:
- إن شاء الله أنتِ كمان ربنا هيعوضك, وهتلاقي اللي يستاهلك.
تحركا يكملان سيرهما, لتجيبها:
- انا حاليًا مفيش عندي اهم من دراستي واني اخد الشهادة وافتح عيادة في سوهاج, بعد كده بقى ييجي براحته مش مستعجله.
أخرجت "خديجة" هاتفها تطلب أحد الأرقام وهي تقول:
- هكلم البادي جارد يجبلنا الاكل.
وقفت متذمرة وهي تصيح في نزق:
- بردو! يا خديجة عاوزه اطلب دليفري, بجد مش معقول كده كل يوم اكل بيت! وبنروح ناكل في البيت ايه ده! فين التجديد؟
اجابتها "خديجة" حائرة:
- هعمل ايه بس, ما نتِ عارفه مراد مبيثقش في اكل المطاعم, ومن يوم ما كلت من مطعم وتعبت وجالي تسمم وهو مانع اكل بره, وسامح بيه مره واحده كل شهر, بعدين لو مخدتش الاكل منهم هيعرفوا وهيعملي حوار.
انتفخت اوداجها حنقًا وهي تقول:
- جوزك و خايف عليكي, انا مال اهلي؟ اتجبر اطفح وياكِ ليه؟ غير ان الوكل كله صحي جال...ده يجيب المرض!
وكالعادة حين تغضب فورًا تستعيد لهجتها الأم, اصطنعت "خديجة" الحزن وهي تقول:
- هو بيبقى خايف السكر يعلى عندي وماخدش بالي, عشان كده بيخلي الطباخه تعمل اكل يكون مناسب ميتعبنيش, لكن معاكي حق, أنتِ مش مجبرة تاكلي منه معايا, خلاص اطلبي اوردر ليكي وانا هطلع اخد الاكل منهم ليا.
هدأت, وعاتبت ذاتها على اندفاعها في الحديث, ففي النهاية الأمر لا يستدعي! لانت نبرتها وهي تقول:
- أنا آسفة, متزعلش مني مش قصدي والله, بعدين يا ستي هاكل معاكِ حتى لو كان الرز البني الغريب ده.
ضحكت بخفة وهي تقول:
- بيقولوا ان الرز البني مفيد اكتر ليا, واقدر اكل منه الكمية اللي احبها, افتكر يوم ما طلبت رز ابيض ومراد كان هنا حطلي في الطبق خمس معالق بالعدد, قولت على ايه اكل البني احسن, حتى لونه حلو...
ضحكت "فريال" معها ثم قالت:
- بس على فكره, جوزك مكبر الحكاية, يعني مرضى السكر مش بيحافظوا على كل حاجة زي ما بيعمل كده! بالعكس بياكلوا وبيشربوا ولما بيحسوا ان النسبة مش مظبوطه بيظبطوا الدنيا.
اومأت برأسها مؤكده:
- عارفه, بس مراد موسوس من أي حاجه تخصني, وبيخاف عليا زياده, فعشان كده تلاقيه ماشي زي ما الكتاب بيقول واكتر كمان, مانا قبل ما اقابله وقبل ما يعرف كنت باكل واشرب كل حاجه وباخد العلاج بانتظام وبس, بس هو مرتاح كده ..يبقى خلاص اريحه.
- فاكره اللي عمله لما اتسممتي..
قالتها "فريال" ضاحكة, لتبتسم "خديجة" وهي تقول:
- متفكرنيش ده بالعافية اقتنع ميبلغش عن المطعم, ده كان ممكن يتقفل لو عملها.
توقفت "فريال" عن الابتسام وهي تخبرها باستغراب:
- مهو اتقفل يا بنتي!
اختفت ابتسامة "خديجة" وهي تنظر لها بصدمة متسائلة:
- اتقفل؟ امتى حصل الكلام ده؟
- بعد اللي حصلك بشهر كده, انا فكرت بسبب البلاغ اللي قدمتوه؟
نفت برأسها تخبرها:
- لا, أنا طلبت منه ميعملش كده, وهو قالي إنه صرف نظر عن البلاغ.
- مش عارفه يا خديجة, بس أنا شوفت المطعم قافل وبعدها بكام يوم اليافطة بتاعته اتشالت, ما نتِ عارفه انه في طريق بيت باهر, وشوفته لما كنت بروحله الفترة اللي فاتت.
على رنين هاتفها لتجده المتصل, فقالت ل "فريال":
- اقعدي على الطربيذه اللي هناك, هخلص المكالمة واجيلك.
فهمت "فريال" رغبتها في الانفراد أثناء مكالمتها, فاحترمت رغبتها وابتعدت تترك لها المجال..
- الو..
خرجت نبرتها جامدة رغمًا عنها, ليست فيها اللهفة المعتادة ككل مرة, ولكنه لم ينتبه اولاً وتسائل بحنو ونبرته تغللت لأعماقها رغمًا عنها:
- ايه يا ضيّ خلصتِ محاضرتك يا حبيبتي؟
"ضيّ" الاسم الذي ينعتها بهِ ولم تفهمه سابقًا لكنها من يوم عيد مولدها فقد فهمت معناه, تنهدت وهي تسأله مباشرًة:
- مراد أنتَ قدمت بلاغ في المطعم؟
اصطنع عدم التذكر وهو يسألها:
- مطعم ايه؟
- المطعم اللي اتسسمت بسببه.
عقب حانقًا:
- أنتِ مصرة تفكريني ليه؟
حقًا لا يحب تذكر تلك الليلة التي سقطت بين ذراعيهِ تصرخ ألمًا وقد شحب وجهها بشكل أفزع قلبه, ولولا سرعته في نقلها للمستشفى لكانت عاقبة الأمر سيئة للغاية, فقد أخبره الطبيب أن معدتها لم تكن ستحتمل التسمم الغذائي الذي أصابها لفترة طويلة ومع ضعفها بشكل عام ربما لم يكن سيستطيع انقاذها, ويومها هاج وثار لكنه انتظر أن تكون بخير حتى يستطيع التحرك وأخذ حقها, وحين أعرب عن كونه سيحرر بلاغًا ضد المطعم, طلبت منه ألا يفعل, لم تحب أن يخسر العاملين وتُغلق أبواب رزقهم بسببها وكذلك صاحب المطعم الذي سيخسر مصدر رزقه, ولان الامر مرَ بسلام, اختارت أن يتم لفت نظر صاحب المطعم للأمر بشكل ودي ..وقد أخبرها أنه سيفعل!
- مراد جاوب على سؤالي لو سمحت.
استمعت لتنهيدة منه قبل أن يجيبها:
- لا يا خديجة, مبلغتش, انا قولتلك مش هبلغ وكلمتي سيف, كان لازم تفهمي كده من نفسك , اني مدام قولتلك مش هبلغ يبقى هعمل كده.
لم تقتنع برده, فقالت مستنكرة:
- يعني عاوز تفهمني انه قفل صدفة؟
- وانا مالي يا خديجة, ما يقفل ولا يولع, انا مليش دخل.
- طب احلف إنك ملكش دخل بقفل المطعم.
ضاق ذرعه بحديثها في أمر ليس بهذه الأهمية, فقال منهيًا الجدال:
- خديجة أنا مبلغتش, خلاص؟ وأنتِ عارفه مليش في الحلفنات انا.
- طب قول وحياتك ما بلغت.
سبة بذيئة خرجت منه وصلت لمسامعها لتشهق صارخة بهِ:
- مراد!!!
أتاه صوته الغاضب:
- مانا مش فاهم فيكِ ايه؟ كل ده عشان زفت قفل؟
أوضحت له مقصدها:
- لا مش عشان كده بس, عشان المفروض لما توعدني بحاجه تعملها, مش تنيمني, وبعدين عشان بعد كده اثق في أي كلمة تقولها.
أتاها نبرته المستنكرة:
- يا سلام, يعني أنتِ مبتثقيش في كلامي؟ وده اللي هيعلمك تثقي!؟
تحولت نبرته للجدية وهو يكمل:
- أنتِ تتعودي تثقي في كلامي من غير أدلة, زي مانا بثق في كل حرف بتقوليه.
شعرت بخطئها في الحديث معه, فقالت تحاول تصليح الأمر:
- يا حبيبي مش قصدي, أنا اكيد بثق في كلامك, أنا بس التعبير خاني, المهم طمني عليك وعلى طنط ليلى.
تهربت بحديثها الأخير من الموضوع بأكمله, وقد فهم هو فعلتها, لكنه أراد غلقه هو الآخر, فقال بنبرة هادئة:
- بخير.
- أنتَ قولتلي الصبح أن الدكتور هيعرفكوا بعد شوية تقدر ترجع مصر امتى.
- ايوه, قال بعد يومين, يدوب على ما نحجز التذاكر.
ابتهج صوتها بشكل ملحوظة وقالت بحماس:
- بجد؟ يعني يومين وراجعين؟
ابتسم تلقائيًا لفرحتها برجوعه, وسألها بتلاعب:
- أنتِ فرحانة برجوعنا ولا ايه؟
لم تبخل عليهِ وهي تغدقه بكلماتها المحبة التي بات يسمعها مؤخرًا ويتلذذ بها, فلم تعد كالسابق رغم خجلها الذي بقى معها لكنها باتت تفصح عن حبها له بكل الطرق, قالت بابتسامة صغيرة شعر هو بها من نبرتها الهامسة التي تحمل دلالاً التمسه:
- فرحانة برجوعك, وطبعا مبسوطة اني هشوف طنط ليلى واقفة على رجليها من تاني, بس ... أنتَ وحشتني اوي يا مراد, ومن وقت ما سافرتوا وانا مستنياك ترجع, حياتي ناقصه من غيرك, وطول الوقت حاسه إني مش مرتاحه وأنتَ بعيد عني.
استمعت لتنهيدة حالمة خرجت منه قبل أن يقول:
- طبعًا أنتِ عارفه لو كنتِ قدامي دلوقتي كنت عملت ايه..
احمرت وجنتيها رغم انه ليس أمامها, وتلعثمت في الحديث وهي تتذكر كل مرة كانت تعبر فيها له عن حبها لا تعرف كيف ولا متى ينتهي الأمر بها بين احضانه:
- ااا...انا هقفل بقى, فريال بقالها كتير لوحدها.
ضحك بخفوت دون أن يصلها صوت ضحكته وقال:
- ماشي يا حبيبي, متنسيش اكلك.
- حاضر.
ومن بعيد كانت "فريال" تتابع تغيرات ملامحها, بين جمود ل لين ل سعادة ل خجل, فدومًا يستطيع بافعاله وحديثه لها أن يبدل حالها, فكيف لا؟ هو لا يتوانى عن فعل أي شيء يسعدها, ويهتم بأصغر وأتفه أمورها, أشاحت بوجهها بعيدًا تحاول التخلص من هذا الشعور السيء والغصة التي تنتبها حين ترى أفعال زوج ابنة خالها معها, هي لا تكره لها الخير, وحقًا سعيدة بوجود شخص يحبها هكذا, ولكن النفس دومًا تميل لِمَ في يد الغير, ودومًا تهوى أن تحصل على نفس ما تراه..
- اتاخرت عليكِ يا فريال؟
قالتها "خديجة" وهي تجلس جوارها, لتنظر لها بابتسامة بسيطة تجيبها:
- لا يا حبيبتي, اتعودت إن مراد باشا بينسيكي الدنيا.
اتسعت ابتسامة "خديجة" وهي تخبرها بفرحة:
- هيرجعوا بعد يومين.
اندثرت ابتسامة "فريال" رغمًا عنها, هل ستعود لترى كل افعاله معها والتي دومًا تجعل تفكيرها يتجه لنقطة هي لا تريد الوصول إليها, فقالت:
- يبقى هكلم ماما تيجي.
اندثرت ابتسامة "خديجة" هي الأخرى تسألها:
- بردوم مُصرة تمشي؟
- خديجة جوزك وعيلته غرب عني, وأنا مش مرتاحة وأنا قاعده في بيته, أنا هكون مرتاحة اكتر كده.
- بقى قعدة عمتي هي اللي هتريحك؟
- أنا مكنتش عاوزه حد خالص, بس ماما أصرت, قالت مينفعش اقعد في شقة لوحدي, بعدين هي مبقاتش تضايقني, واتغيرت معايا بجد.
- اللي يريحك يا فريال.
قالتها "خديجة" باستسلام لرغبة الأخيرة فيبدو أنها اتخذت قرارها.
و "مراد" لم يكذب ولم يخن وعده لها، لم يبلغ لكن له اساليبه الأخرى!!! وهل يحتاج لبلاغ ليغلق المطعم...؟!
*************
جلس في مكتب الطبيب مطأطأً رأسه بهم واضح, والطبيب مستمر في حديثه عن حالة زوجته:
- احنا كنا متوقعين ان ده يحصل, وكنا مجهزين نفسنا له.
رفع رأسه ينظر للطبيب بتعب حقيقي:
- بقالها شهرين ونص في غيبوبة, أنا عاوز افهم نهاية كل ده ايه؟ امتى هقدر اطمن أنها بقت بخير.
- هي اه بقالها شهرين ونص في غيبوبة, بس المؤشرات الحيوية بتتحسن, احنا كنا فين وبقينا فين, يا دياب باشا المدام بعد عملية الإجهاض كانت بين الحيا والموت فعلا, لولا إرادة ربنا.
تذكر ذلك اليوم الذي أخبره الطبيب فيهِ بضرورة إجراء عملية الإجهاض, رغم خطورتها, ولكن بقاء الحمل أخطر, وبعدما تم اجراء العملية بأسبوع ساءت حالتها فجأة بشكل غريب, فكان المتوقع أن الحالة قد تسوء في أول ثلاث أيام بعد العملية, ولم يكن في يد الأطباء شيء أكثر ليفعلوه, فقط ينتظروا أن تستقر الحالة دون قدرة منهم على التدخل.
طاف في الشارع بسيارته لساعة كاملة, لا يريد أن يبقى في المستشفى, بالقرب منها وهو عاجز عن مساعدتها, وبعد ساعة توقف بالسيارة في أحد الشوارع, وخرج مستندًا على مقدمة السيارة وأخذ يطالع الأرضية بهم وغم واضحين, حتى أن بعض الدموع تسللت من عيناه وهو يتذكر كل ما مرَ معها منذُ لقائها أول مرة, هو يحبها بصدق, وكل افعاله دلت عن حبه, فلولا حبها لِمَ غفر لها هروبها منه, ولِمَ غفر لها طريقتها الفظة في التعامل معه, والكثير والكثير.. لكنها تضع بينهما عائق كبير لا يستطيع تخطيه, فلا هو قادر عن التخلي عن عمله, ولا هو قادر عن التخلي عنها.
- دياب؟
رفع رأسه على الصوت المنادي له, لتبهت ملامحه وهو يرى شقيقه أمامه, التفت حوله ليتفاجأ بوجوده في حيه القديم, لا يعرف كيف أتى لهنا, فكان يطوف بسيارته بعقل شارد غير مدركًا وقوفه في هذه المنطقة, أخذ نفس عميق حين اقترب شقيقه بابتسامته الودودة كالعادة, يمد يده له بالسلام, فصافحه بصمت وهو ينظر لثيابه, مازال يرتدي العمامة والقفطان والعباءة وهذه السبحة التي لا تفارق يده, شقيقه الذي أصبح نسخة من والده الراحل, حتى أنه تولى مكانه فأصبح إمامًا لمسجد الحي, والجميع يستشيره فيما يخص الأمور الدينية.
- ازيك يا شيخ محمد؟
بملامح سِمحة وابتهاج حقيقي أجابه:
- أنا بخير ياخويا, أنتَ اخبارك ايه؟ أخيرًا قررت تيجي تشوفنا, ده أنتَ من يوم وفاة أمك من سنتين, وبصراحة أنا قولت مش هنشوفك تاني, اذا كان أيام ما أمك كانت عايشة كنت بتيجي تزورنا كل كام شهر مرة, وهي عشر دقايق وبتمشي, بس أنا مبسوط اوي إنك جيت.
هو لم يقصد القدوم من الأساس, ولكن هل سيخبره بهذا وهو يرى سعادته بقدومه؟ هز رأسه بلامبالاة وهو يقول:
- مشاغل مانت عارف.
ارتفع صوت قرآن صلاة العشاء ليبتسم "محمد", والأخير أشاح برأسه بعيدًا, حدثه "محمد" بعدها يقول:
- مالك بقى؟ شكلك حزين وتايه.
في بادئ الأمر فكر ألا يخبره بشيء, لكن هو يحتاج للتحدث مع أحدهم يشعر أنه سيجن وهو في خندق ضيق لا يعرف طريق للخروج, زفرة قوية تبعها قوله:
- مراتي تعبانة وحالتها خطيرة.
كالعادة حديثه مقتضب, وشقيقه يعرفه فلم يستاء, بل قال بشفقة واضحة:
- لا اله الا الله, خير هي عاملة حادثة ولا حاجة؟
- لا كانت حامل وكان الحمل خطر, فاضطروا يعملوا اجهاض, بس جسمها كان ضعيف وكان عندها مشاكل تانية فدخلت غيبوبة, بقالها أسبوع فيها, والنهاردة بيقولوا مؤشراتها مش كويسة ومش في ايدهم حاجه.
ولأول مرة يستفيض بالحديث, هز "محمد" رأسه متفهمًا وقال:
- ومين في ايده حاجه غير ربنا, هم بيعملوا اللي عليهم والباقي بتبقى إرادة ربنا هي المسيطرة, وأنتَ عملت ايه؟
رفع منكبيهِ بضيق وهو يقول:
- هعمل ايه؟ قولتلهم اسفرها او اطلبلها دكاترة من بره, قالوا مش هيعملوا اكتر من اللي هم بيعملوه, وهي في اكبر مستشفى في القاهرة واشطر دكاترة هناك.
أوضح حديثه يقول:
- مش قصدي على الدكاترة يا دياب, قصدي يعني اتصدقت بنية شفائها, صليت ودعيت لها, قريت قرآن وبعدها دعيت ربنا يشفيها, صليت صلاة قيام ودعيت فيها؟ ده قصدي, مادام الطب عجز ربنا مبيعجزش.
- أنتَ عارف إني مبصليش.
بكل تبجح قالها بوجه جامد, وشقيقه لم يتفاجأ, هو يعرف ان شقيقه ذهب في طريق اللاعودة, "دياب" الشاب الذي نشأ معه لم يعد كما هو, واعماله ليست مشروعة, ولكنه لن ييأس أن يعيد له صوابه, فهو مدرك تمامًا أن بداخله نبتة جيدة زرعها فيهِ والده الشيخ " ممدوح" .
- مش عيب نلجأ لربنا لما نحتاجه, مش أحسن ما تكون ناسية حتى في عز محنتك!؟
- تمام هديك مبلغ وزعه بمعرفتك.
نظر له بابتسامة بسيطة يسأله:
- وهصلي مكانك؟
نظر له حانقًا واجابه:
- ادعيلها وأتَ بتصلي يا شيخ!
- بس أنتَ صاحب النكبة يا دياب, وربنا مش هيستجيب مني زي ما يستجيب منك, وأنا مش هدعي من قلبي زي مانتَ هتعمل.
امتعضت ملامحه وقال بحدة:
- محمد بلاش شغل اللف والدوران بتاعك ده, أنتَ عاوزني اجي اصلي معاك, بس مش بالعافية هي!
هز رأسه بهدوء محافظًا على ابتسامته:
- مش بالعافية يابن الشيخ ممدوح, فاكر يا دياب لما كنت تسبقنا على الجامع؟ كنت بتسبق ابوك نفسه وتقوله بحب أروح الجامع وهو فاضي واحس إني بستقبل المصليين, فاكر لما ابوك جابلك العجلة اللي كان نفسك فيها عشان حفظت 10 أجزاء من القرآن وأنتَ لسه 9 سنين؟ طب فاكر لما كنت دايما تتحايل على ابونا ياخدك معاه مجالس الشيوخ, وتقوله عشان لما اكبر أكون شيخ فاهم واحسن من كل اللي في جيلي؟
ادمعت عيناه رغمًا عنه لكل هذه الذكريات التي لم ينساها لكنه يتناسها, وخفق قلبه بقوة وهو يتذكر تلك الفترة الطويلة من حياته والتي اتبع فيها منهج مختلف عن الان, وكان أقرب لله, وأكثر نقاءً وطهارة.
- عاوز ايه دلوقتي يا محمد؟ بتفكرني بكل ده ليه؟
قالها باختناق وهو يبتعد بخطوات عنه ويعطيه ظهره, ليقف خلفه وهو يجيبه:
- بفكرك عشان احيي النبتة الصالحة اللي جواك, أنتَ لحد ما كان عندك 18 سنة كان الكل بيحلف باخلاقك ودينك, بعد موت ابوك بدأت تبعد شوية شوية, وتصاحب ناس فاسدة ومتسمعش لحد, وبعد ما تميت 23 سنة فجأة بعدت خالص, بعدت عنا احنا وروحت عيشت لوحدك ومشيت في طريقتك اللي كله غضب من ربنا, ازاي خمس سنين يحولوك من الشيخ دياب زي ما كان الكل بيقولك ل دياب بيه اللي الكل بيشكك في نزاهته وبيسألوا جاب الفلوس دي كلها منين؟ ليه دفنت ضميرك وتربيتك, ليه مراجعتش نفسك؟ سيبت اهواء الدنيا تسوقك!
صمت ولم يتحدث "دياب" الذي في موقف لا يُحسد عليه, فلأول مرة يترك الفرصة لأخيه ليتحدث, ولأول مرة يستمع! تابع "محمد" يقول:
- خلينا في المهم دلوقتي, مراتك اللي بين الحيا والموت أنتَ الوحيد اللي قادر تنقذها, تعالى صلي العشا معايا وبعدها نروح نتصدق بنية شفائها, عشان تبقى عملت اللي عليك تجاهها, واللي جاي بعد كده يكون هو اللي ربنا عاوزه.
التف له بأعين دامعة بشدة, وبصوت مختنق قال:
- أنتَ عارف بقالي كام سنة مدخلتش جامع؟ عارف بقالي كام سنة متوضتش, أنا نسيت الحاجات اللي بتتكلم فيها دي, حتى ... حتى إني مش هعرف اقف وادعي و... مش هعرف يا محمد, ولا هينفع, ولا هقدر بعد كل اللي عملته.
وضع "محمد" كفه على كتف شقيقه مؤازرًا:
- هتقدر, مش انا اللي هقولك إنك لو قاتل مفيش حاجة اسمها مش هينفع اقف قدام ربنا, مش انا اللي هكلمك عن رحمة ربنا بينا يا دياب, اغزي شيطانك اللي سيطر عليك سنين, قاومه المرة دي وتعالى نروح نصلي وندعي لمراتك.
وبعد ربع ساعة كاملة, استطاع "محمد" بسلاسته أن يقنعه...
عودة للآن...
يتذكر ذلك اليوم جيدًا, يوم لن ينساه في حياته, تلك اللحظة التي وقف فيها أمامه الله يكبر لبدأ صلاته, يركع ويسجد له ودموعه تسبقه, كان شعور مُهيب, بعد سنوات انقطاع, تذكر كل حرف تعلمه يومًا وتذكر كل كلمه تعلمها على يد والده, تذكر حين فاز بمسابقة إتمام حفظ نصف القران الكريم, وقتها كان والده سعيدًا بهِ لدرجة انه سمح له ولأول مرة أن يئم الناس في الصلاة لمدة يوم كامل وقد كان عمره إثنا عشر عامًا فقط! وقد كانت امنيته وأقصى أحلامه حينها, يتذكر جيدًا فرحته حينها, لم يضاهيها فرحة... وبعد ذلك اليوم الذي قابل فيهِ شقيقه منذ شهرين وعشرة أيام بالضبط وهو يحاول قدر استطاعته المحافظة على صلاته, وطبعًا ومنطقيًا بدأ يشعر بالتردد والنفور ناحية عمله, لم يعد بنفس الشغف حتى أنه لم يعد يشغل باله بعدوه اللدود ولم يعاد يحارب ليصبح أفضل منه, فقط يفعل ما يُطلب منه.
انهى الطبيب حديثه قائلاً:
- منتظرين افاقتها في أي وقت.
خرج من عند الطبيب مهمومًا وقد أثقله الحزن, ليجد "محمد" يقف أمامه بعد أن أتى إليهِ كعادته, فهو كل يومين يأتي ليطمئن عليهِ.
- طمني خير؟
- لسه يا محمد.
- ربك كريم وإن شاء الله هتقوم بالسلامة, أنتَ ناسي حالتها كانت ازاي, احنا كنا فين وبقينا فين.
اومأ موافقًا وقال:
- فعلاً.
وتذكر كيف تحسنت حالتها بعد ثلاثة أيام من مقابلته لشقيقه ومحافظته على التصدق والصلاة والدعاء لها, ووقتها هُز كيانه وجملة أخيهِ ترن في أذنيهِ " الدكاترة عجزوا لكن ربك ميعجزش ابدًا"
- يلا بقى يا سيدي أم ممدوح مجهزة الغدا بقالها ساعة وقالتلي تروح تجيبه ومترجعش إلا بيه.
هز رأسه رافضًا:
- معلش يا محمد مليش نفس, روح أنتَ اتغدى مع مراتك وعيالك, كفاية انك صممت تاخدوا عُمر عندكوا, مش عارف والله اشكركوا ازاي.
حدثه معاتبًا:
- يعني اسيب ابن اخويا مع مربية وعمه موجود, بعدين ابنك من يوم ما جه واتعرف على الولاد عندي وهو لازق, أقوله ياض روح شوف ابوك يقولي لا هو هييجي, فلو تعرف تاخده يبقى ريحتنا.
ضحك رغمًا عنه وهو يستمع لشقيقه, ليضحك "محمد" هو الآخر ويقول:
- يلا بقى.
سار معه وهم يتحدثان و "محمد" بمرحه يثير ضحكة الآخر ويخرجه من حزنه.
" الحياة بدون عائلة كالأرض بدون زرع يجملها ويعطي لها حياة, العائلة هي من تدعم وتقوي في وقت المِحن, ويمر كل مُر بوجودهم"
*************
في شقة باهر...
فتح باب شقته ودلف بعد يوم عمل طويل, ولكنه متلهف رغم تعبه, متلهف ل.... لهذه التي أتت بخطواتها المتعثرة له والابتسامة تملأ وجهها اللطيف تردد:
- بابا...
خلع حذائه بعجالة وهو يتجه لها يلتقطها من على الأرض يرفعها له ويغرق وجهها تقبيلاً والصغيرة تضحك بقوة, خرجت "جاسمين" من المطبخ على صوت ضحكات صغيرتها لتبتسم وهي تقول:
- اول ما سمعتها بتضحك كده عرفت إنك جيت.
نظر لها ليقترب محتضنًا إياها وقبل رأسها بحب, ليتفاجأ بالصغيرة تجذب وجهه ناحيتها بعصبية, اتسعت أعينهم ذهولاً, ورددت "جاسمين" بعدم تصديق:
- دي بتغير مني؟
تعالت ضحكات "باهر" بقوة وهو ينظر لتعابير وجه الصغيرة الغاضبة, ليزيح "جاسمين" برفق وهو يقول:
- اوعي, أنا بحب هوبا بس.
وعاد يقبل الصغيرة التي ابتهجت بشكل غريب, وهي تحتضنه بقوة, لتتعالى ضحكاته ثانيًة غير مصدقًا رد فعلها, قالت "جاسمين" بصدمة:
- أنا عارفه إنها بتحبك اكتر مني, بس مش لدرجة انها تغير عليك مني؟ كده يا هبة ؟ مانا ماما بردو!
لم تعطيها "هبة" الصغيرة بالاً وهي تلعب في لحية والدها بابتسامة, فقال "باهر" ضاحكًا:
- ولا معبراكي.
رفعت حاجبها بتحدي وهي تنظر له, لتقول:
- اخليها تسيبك وتجيلي؟
اعجبه تحديها, ففعل هو الآخر وهو يقول واثقًا:
- جربي.
- آه, آه شعري يا باهر...
قالتها بصوت عالي وتمثيل متقن وهي تتدعي البكاء, لتنظر لها "هبة" مدهوشة ولكنها فهمت ما حدث, وفجأة شعر "باهر" بكف الصغيرة الذي كان يداعب لحيته يسقط بقوة على وجهه, لينتفض دهشًة وكذلك "جاسمين" التي توقفت عن البكاء وفغر فاهها من رد فعل الصغيرة, التي القت بنفسها الان بين ذراعيها, ثواني وكانت ضحكاتها تصدح بقوة والصغيرة تضحك مثلها!
- ياولاد ال.... بقى بتضربيني بالقلم يا مفعوصة يام سنة ونص أنتِ, ده انا 28 سنة يا به اتضرب منك أنتِ؟ بتضربي بابا يا هبة؟ أنتِ بتضحكي على ايه أنتِ كمان؟
أردف الأخيرة بغيظ وهو ينظر ل"جاسمين" التي قالت:
- اصل القلم طرقع.
ضاقت عيناه بمكر وهو يقول:
- طب ما تيجي اجربه على وشك.
اتسعت عيناها وهي تركض أمامه بالصغيرة التي علت ضحكاتها بسعادة وقد ظنت أنها في فقرة لعب الآن.
"هبة" هم من اختاروا اسمها بعد أن قاموا بكفالتها من أحد دور الأيتام, شهران كاملان قضتهم "جاسمين" في محاولة إقناعه أن يكفلوا طفلاً, لكنه كان رافضًا لوجهات نظر تُحترم
" أنا خايف منكونش قد المسؤولية, في الاخر مش هتكون بنتنا, خايف نيجي في يوم ونعاملها وحش او منحبهاش زي ما كنا هنحبها لو بنتنا, خايف نظلمها ونرجع نندم"
لم يكن يتخيل أن يحب أحد طفلاً كما لو كان من دمه, فخشى, وهي لم تيأس وأخبرته ..
" احنا هنجبها صغيرة, هتقضي معانا سنة مثلاً ولو لقيت نفسك زي ما بتقول مش حاسس إنها فعلاً بنتك وحبيتها بالشكل الكافي هنرجعها الدار التاني, لكن ايه المانع نجرب واحنا في النهاية عمرنا ما هنأذيها"
" ولو في يوم ربنا كرمنا وخلفنا؟ هتقدري تعامليها زي بنتك؟ ولا هترجعي تفكري تسبيها؟"
" اكيد مش هسيبها, باهر ابنك اللي بتربيه مش بس بتخلفه! ودي هتكون تربيتنا وعشنا معاها لحظات حلوة كتير, هسبها ازاي لو خلفنا!؟"
واستطاعت هدم كل مخاوفه, ليرضخ أخيرًا لها, وأتت الصغيرة, لتسميها هي "ديالا", قضت معهم أسبوعين فقط, في أول يومين كان يشعر بالغربة وعدم التأقلم, واليوم الثالث كان ينجذب رغمًا عنه, وبعد أسبوعين أصبحت تمتلك قلبه بضحكاتها البريئة وافعالها الطفولية, ليقرر تغيير اسمها ل "هبة" وقد وضح:
" هنسميها هبة, عشان تكون الهبة اللي ربنا وهبها لينا عشان تسعدنا وتخلي لحياتنا معنى"
وقد كان لحياته معنى بعدما أتت, وللبيت روح, وللأيام أنيسة, وبات يتلهف لرؤيتها وقضاء الوقت معها, واليوم أتمت شهر وأسبوع معهم, ولكنه يشعر أنها وُولدت على يده!
*************
في سوهاج.....
- خلاص يا سيد؟ انا هغيب عن المصنع بس معوزاش الشغل يجف.
قالتها "سرية" وهي تتحدث مع مدير المصنع, ليقول لها:
- متخافيش يا حاجة, مهو إبراهيم بيه مكانش بيطل علينا غير كل سبوع مرة, وانا اللي داير الشغل من يوم موت اخوكِ الله يرحمه.
كانت تتابع اعمال المصنع رغم عدم فهمها في اموره, لكنها كانت تظهر للعمال أن هناك رقيب, ولكن الآن ستضطر للذهاب للقاهرة لتبقى مع ابنتها.
- متخافيش يا عمتي, سافري واطمني في النهاية ده مالي وانا هتابعه بنفسي.
قالها "إبراهيم" الذي دلف للمصنع توًا, لتنظر له بغيظ وهي تقول:
- وأنتَ ايش جاب رجلك اهنه؟ ليك ايه هنا عشان تيجي وتتابع!؟
- مال ابوي.
قالها بتبجح, لتحتد ملامحها وهي تجيبه بقوة:
- الحكومة والورج بيجول ان المعلف ده ملك باهر وفريال, يعني رجلك تعتبه, اجطعها ويبجالي الحج.
اقترب منها بشر ووقف يرفع اصبعه في وجهها يهددها على الملأ:
- لسه عامله اعتبار انك عمتي اللي ربتني, لكن وعهد الله اللي ييجي على حجي اكله بسناني, فاتجي شري.
اقتربت الخطوة الفاصلة وباشمئزاز قالت:
- تعرف, أنتَ اثبتلي إن الخِلفة مش بالرجالة, كنت طول عمري فاكرة إن اللي تخلف بنات تبجى وكسه وخلفة سودة لانهم مهينفعوهاش بحاجة, لا هيكونوا سند ولا هيحنوا عليها ويساعدوها يوم ما تكبر, كنت اجول البت بنربيها ونكبرها عشان تروح بيت تاني تخدم اللي فيه وتنسى أهلها, لكن الواد في حجري, يتجوز في بيتي ويملى عليا الدار, ويكون جاري لو ميلت يسندني, ويصرف عليا وميخلنيش محتاجة لحد واصل, عشان اكدة خليتك كيف ابني, ربيتك وكبرتك, امك ملهاش فيك جدي, لكن في الاخر تطلع كلب والكلب اوفى...
ضربت فخذيها بكفيها تقول بحسرة:
- لكن عرفت ان الواد اجسى, وجلبه بيكون كيف الحجر لو جسي, عرفت انه مش لزمن يكون زين ويحن على اللي ربته, يمكن يطلع شين وميطمرش فيه التربية, عرفت ان الجسوة وجلت الأصل مهاش بالواد ولا البت, يمكن عشان اخواتي الرجلين كانوا حنينين فهمت ان كل الرجالة كيفهم, بتي اللي جسيت عليها وكسرتها بدل المرة الف طلعت احن منك, ورغم كل اللي عملته فيها لحد دلوق بتسمع اللي اجولها عليه, وسابتلي اللي خالها كتبه باسمها وسافرت, لكن أنتَ عضيت اليد اللي اتمدتلك...اسمع يا واد, لو رجلك عتبت المصنع اهنه انا هبلغ الجسم انك بتتعدى على أملاك بتي واخوك.... سيد, لو شوفته عتب اهنه تاني تخبرني سامع؟
وانصرفت كالعاصفة, وهو يتابعها بأعين تحمل كرهًا وشرًا إن خرج سيحرق الأخضر وقبله اليابس...