رواية جمر الجليد الفصل الثامن عشر 18 بقلم شروق مصطفي


رواية جمر الجليد الفصل الثامن عشر بقلم شروق مصطفي

"جايبني ليه؟ خليت بابا يناديني ليه؟ طفي الزفتة دي! مش قادرة!"




بعد لحظات من السعال، هدأت وقالت بحدة:


"أخبار قضية أية؟اللي عايز تتكلم فيها؟ مش هي انتهت خلاص؟"




أطفأ عاصم سيجارته، ونظر إليها بنظرة مرعبة، وقال بصوت حازم:


"صوتك ميعلاش فاهمة؟"




حاولت التوجه للداخل، لكن عاصم أمسك بذراعها بقوة قائلاً:




"استني هنا، مخلصتش كلام عشان تمشي."




فجأة، ترك يدها، فرفعت يدها بتعب وقلة حيلة، وقالت:




"اتفضل اتكلم."




عاصم، وهو ينظر في عينيها مباشرة، قال:




"ليه مقولتيش لحد عن حالتك؟"




ابتسمت سيلا ابتسامة ساخرة وقالت:


"إيه ده، خايف عليا؟ معقول؟ اللي أنا أعرفه إنك مش بتحس ولا بيفرق معاك. بتضرب بدم بارد زي ما ضربتني قبل كده،" وأشارت إلى كتفها.




عاصم، بنفاد صبره، قال:


"ما ترديش سؤال بسؤال. مش خوف عليكي، بسأل من ناحية الواجب. أنا اللي اكتشفت مرضك في الأول، مش أكتر. وبالنسبة للإحساس ده، مايخصكش في حاجة. ودم بارد لأنك تستاهلي."




سيلا، وهي تنظر إليه بدهشة ثم تفكر في كلامه قليلاً، قالت:




"طيب، واجبك... وهو وصل. متشكرين. خلي ضميرك يرتاح. لو مت، مش هتكون السبب. ومتدخلش في حياتي تاني."




غضب عاصم، وقال بعنف:




"أنتِ مجنونة! بتعاندي في دي كمان؟ اعقلي شوية! لو مقولتيش لحد، أنا اللي هبلغهم بنفسي."




سيلا، وقد نفد صبرها، ردت بصرامة:


"أظن إن مهمتك انتهت. ملكش صفة ولا مكانة إنك تتكلم أصلاً. أنا هبلغهم في الوقت المناسب، مش هعكر عليهم فرحتهم، مش هخليهم يتلهوا فيا وهم فرحانين. بعد كتب الكتاب، إن شاء الله، هبلغهم بنفسي وأبدأ العلاج. ياريت ترتاح وتبعد."




عاصم، وهو يحذرها، قال:


"خلي بالك، لو منفذتيش اللي قولتي ده، أنا اللي هتصرف بطريقتي. مفهومة؟ وعندي طرقي، وأنتِ جربتيها بنفسك."




سيلا، بحزم شديد، قالت:




"لحد كده وكفاية! ملكش دعوة بيا بقى."




عاصم، محاولًا تهديدها، قال:


"هسيبك لحد كتب الكتاب، لكن لو مابدأتيش أي خطوة، هبلغ والدك بضرورة سفرك لأمور تخص القضية، وهسفرك غصب عنك. مفهومة؟"




سيلا نظرت إليه قليلاً، لم تعرف كيف ترد، وكان واضحًا أنه لا يفهم أن تدخله في حياتها بهذا الشكل ليس له أي مكان. فأجابت:




"وأنا مش موافقة على جنانك ده."




تركت عاصم ودخلت مجددًا إلى الداخل، حيث جلسوا جميعًا. كانت سيلا تحاول أن تتغاضى عن كل هذا الصراع الداخلي الذي تعيشه.




في جو عائلي محير ورغم التوتر الذي عاشته مع عاصم، لم تخلو الجلسة من أجواء عائلية دافئة. كانت نظرات معتز تحمل نوعًا من التوعد، لكن الأسباب التي جعلته يحدق فيها بهذه الطريقة كانت لا تزال غير واضحة بالنسبة له. وفي المقابل، كانت بين همسة ووليد نظرات مليئة بالحب والشوق، لكن نظرات أخرى بين الحضور كانت باردة كالجليد، لا تحمل أي نوع من المشاعر. إلى أن انتهت المقابلة، تاركة الجميع مع مشاعرهم التي ما زالت معلقة.




دخلت سيلا غرفتها بعد قليل، لتجد صديقتها مي قد غيّرت ملابسها وهي في انتظارها. استأذنت مي من أخيها ووالدتها بالمبيت لديها.




مي: "كان يوم جميل أوي، عقبالنا يا رب."


ابتسمت سيلا ابتسامة مكسورة، وقالت: "عقبالك إنتِ يا حبيبتي."




دخلت همسة بعد أن بدلت ملابسها، وانضمت إليهما.




مي (بحب): "مبروك يا عروسة، كنتي قمراية."




همسة: "حبيبتي، عقبالك إنتِ وسيلا، يا رب تفرحوا قريب. بصوا بقى، أنا هلكانة أوي، وجعانة ونوم. هسيبكم ترغوا بس، وطوا صوتكم، ماشي؟"




مي (بضحك): "ماشي يا حب."




ثم رجعت مي إلى سيلا التي ما زالت تائهة، سرحانة في أفكارها، وقالت لها:




مي: "مالك يا سيلا؟ حساكي مش طبيعية خالص، وبتسرحي كتير، ووشك غريب. فيكي إيه يا حبيبتي؟"




حاولت سيلا أن تهرب من أسئلتها وقالت: "لا يا بنتي، مفيش. شوية إرهاق بس من الأحداث الأسبوع وقلة النوم. يلا ننام بقى، لأني تعبانه بجد."




لكن مي كانت تشعر بعدم ارتياح، لأن سيلا لم تحكي لها عن ما حدث لها أثناء السفر، وكلما حاولت أن تسألها، كانت تهرب من الإجابة.




هتفت مي بشك: "طيب يا سيلا، هسيبك دلوقتي، بس لما تحبي تتكلمي، أنا موجودة."




في صباح اليوم التالي، خرجت سيلا لتستلم نتيجة الأشعة. ذهبت مباشرة إلى الطبيب، الذي نظر في الأشعة لفترة من الزمن، محاطًا بالصمت. لكن سيلا كانت تشعر بتوتر كبير يملأها، وهي تنتظر الإجابة.




ثم جاء الرد الذي كانت تخشاه: " "الورم موجود في أعلى بطانة المعدة، وحجمه صغير وواضح في الأشعة. الحمد لله إنك اكتشفتيه بدري، لإن في حالات كتير الورم مش بيبان في البداية وبيبقى انتشر في أماكن تانية. لازم تعملي عملية عشان تستأصلي الورم ده."




سيلا: "ممكن يا دكتور أأجل العملية شوية؟ عندي ظروف خاصة كده محتاجة وقت."




الطبيب: "المفروض إننا نستعجل في العملية دلوقتي بما إن الورم في بدايته، بس ممكن أديكي أدوية تقلل حجمه شوية، وجربيها أسبوعين. بعدين تعالي علشان نتابع الوضع. لو الأدوية ما نفعتش، هنبقى نغير العلاج، بس لازم تعرفي إن مفيش بديل عن الجراحة في الآخر."




أخذت سيلا الروشتة وقرأت تعليمات النظام الغذائي بعناية، ثم شكرت الطبيب وخرجت.




فور مغادرتها العيادة، ألقت بصور الأشعة في سلة المهملات حتى لا يلاحظها أحد. بعدها، توجهت لشراء الأدوية المؤقتة، وأخفتها داخل حقيبتها قبل أن تعود إلى منزلها مباشرة. كانت تشعر بتعب شديد، فلم تعد قادرة على القيام بأي مجهود. رفضت العودة للعمل ووافقت دون نقاش على طلب والدها بترك عملها أو التحول إلى تخصص آخر.




ثم توقفت لحظة، تتذكر كيف كان الوضع قبل أن تصبح كل هذه الأحداث جزءًا من حياتها...
















في اليوم الثاني بعد رجوع سيلا من السفر، دخل محسن غرفتها وقال: "ممكن أقعد معاك يا سيلا؟"




سيلا ابتسمت وقالت: "طبعًا يا بابا، اتفضل."




عدلت من وضعها شويه، وقعد جنبها، وقال: "إيه الحلو زعلان ليه بقى؟"




سيلا ردت بصوت هادي: "مفيش يا بابا، مش زعلانه."




يعلم جيدًا عناد ابنته، فاختار أن يتحدث معها من زاوية أخرى، قائلاً:


 "طيب يا بنتي، أنا مليش غيركوا في الدنيا أنتي وأختك، وبخاف عليكو من الهوا الطاير، ومش هابقى مبسوط أبدًا وأنتي بتضيعي وأنا واقف بتفرج عليكي."




صمت شوية، ثم أخذ نفس عميق وقال: "بصي، أنا مش همنعك من شغلك اللي بتحبيه، المرة دي الحمد لله لحِقنا نفسنا، لكن ما أعرفش المرة الجاية ممكن يحصل إيه. الشغل ده، التحقيقات والجري وراء الحقيقة، ده ليه ناس متدربة على أعلى المستويات ومختصين، فأنا هخليكي تختاري: يا تمسكي تخصص تاني خالص، أو تسيبي المجال ده كله."




فهمت سيلا تمامًا مشاعر والدها وخوفه العميق عليها، لكنها كانت في حالة إرهاق شديدة، جسديًا وعقليًا، لا سيما بعد اكتشاف مرضها. لم تعد قادرة على بذل أي مجهود، وكانت تدرك تمامًا أن كل شيء أصبح فوق طاقتها. كما أن صديقتها مي توقفت عن العمل معها، مما جعلها تشعر بأنها في حاجة ماسة للراحة. باتت عاجزة عن مواجهة العمل في هذه الفترة، وأصبحت مقتنعة بأنها بحاجة إلى فترة من السكون والتعافي بعيدًا عن الضغوطات التي كانت تلاحقها.




فجأة، اندفعت سيلا إلى أحضان والدها، وكأنها تبحث عن مأوى في حضنه الدافئ، تحس بريحته التي تحمل في طياتها الأمان والحنان. في تلك اللحظة، غمرتها مشاعر غريبة، شعرت وكأنها على حافة الفراق منهم، كأن الزمن يهرب منها بسرعة. كانت تحاول بكل ما فيها أن تقتنص أي لحظة لتبقى بالقرب منهم، تخشى أن تفوتها، وتهيم في شعور غريب من القلق والحنين.




محسن لاحظ سكوتها، وقال: " ها، قولتي إيه؟"




 أخيرًا تكلمت، وقالت: "هختار الاختيار التاني. أنا تعبت من الشغل، فعلاً محتاجة أريح شوية. وكمان مي مش هينفع أسيبها، مش هينفع أشتغل لوحدي."




حاولت سيلا أن تبتسم بصعوبة، وقالت: "مش بحب أعمل حاجة من غيرها، إنت عارف."




قهقه محسن وهو ما زال يحتضنها، وقال: "ربنا يخليكم لبعض."




نظرت سيلا إليه بابتسامة دافئة، ثم أمسكت بيده برفق وقالت: "ويخليك لينا يا رب."




لكن حديثهم قُطع فجأة بدخول شخص آخر...




قالت بصوت متهكم: "لا لا لا! كل يوم ألاقيك في حضن واحدة تانية، وأنا الغلبانة مفيش حد يضمّني."




ضحك محسن وقال: "تعالي تعالي، دايمًا بتيجي في أهم لحظة."




ودخلت وسطهم، مما أضاف جوًا من المرح تلك اللحظة.




في أحد الأيام، كان في مكتبه مشغولًا بأعماله، لكنه سرح قليلاً وهو يتذكر ما سمعه عن تلك التقنية الحديثة التي زرعها لها. كان السوار الذي وضعه في يدها يحتوي على تقنيات متطورة للغاية، يتم استخدامها في بعض العمليات السرية والحساسة فقط. تركه في يدها دون أن يزيله، رغم أنه كان بإمكانه فعل ذلك، ليظل السوار على معصمها مع ميزات قد تبدو بسيطة في الظاهر لكنها معقدة في الحقيقة.




الطريف في الأمر أنه لم يكن مجرد جهاز تتبع عادي، بل كان يحتوي أيضًا على سماعة صغيرة للغاية مدمجة، تقوم بتسجيل الأصوات من حولها. الطرف الآخر يستطيع الاستماع لكل ما يحدث عبر سماعة دقيقة للغاية زرعها في أذنه. تلك السماعة كانت غير مرئية تقريبًا، ما يجعلها مستحيلة الملاحظة من أي شخص آخر. كما أن هذه التقنية لم تكن مقتصرة على المسافات القريبة فقط، بل تم تصميمها خصيصًا لتغطية مسافات بعيدة أيضًا، مما يجعلها أداة قوية وفعالة في مراقبتها دون أن تشعر بذلك.




بينما كانت همسة في غرفتها الصغيرة التي خصصتها للعمل على رسم لوحاتها، كانت مشغولة تمامًا في رسم لوحة جديدة بعناية، تخطط للخطوط بالرصاص، شاردة في خيالها الذي ينسج تفاصيل اللوحة. في لحظة من التركيز التام، فاجأها رنين هاتفها، وكانت النغمة الخاصة به تعلن عن وجود رسالة من وليد، الذي أضاءت الشاشة باسم "حبيبي". ردت على الاتصال بخجل.




قال وليد: "حياتي كلها، عاملة إيه؟ وحشتيني." همسة أجابت برقة: "الحمد لله."




ثم أضاف وليد: "عارف إنك زعلانة مني، المفروض أخرجك النهاردة، بس جالي سفرية فجأة وهرجع بالليل، بس بكرة إن شاء الله ننزل سوا وهعوضك."




همسة طمأنته: "لا مش زعلانه والله."




وليستمر وليد: "يعني مش نفسك تشوفيني؟"




همسة ضحكت: "لا."




رد وليد: "ال ال ال بقا كده أنا زعلت بجد."




فأجابته همسة: "أقصد إني شيفاك قدامي، أصلي برسمك."




فوجئ وليد بفرحة: "الله بجد؟ طيب ينفع ترسمني كده وأنا مش قدامك؟"




همسة: "منا بتخيلك وبرسمك."




ضحك وليد قائلاً: "ربنا يستر، ربنا يستر."




همسة: "كده برده زعلت أنا."




قال وليد ضاحكًا: "لا لا لا، بهزر والله. لازم أشوفها بعد ما تخلصيها."




همسة: "أكيد."




وليد: "طيب اسيبك تكملي الصورة وأنا خلص، وهكلمك تاني."




همسة: "أوكي، مع السلامة."




ثم تابعت همسة العمل على لوحتها، بينما كان صوت وليد في قلب حديثها، يعزز من إلهامها في رسمته الخاصة.




داخل السجن، كان الرجل يتكلم مع آخر، وعيناه مليئتان بالغضب والتهديد. قال بنبرة مليئة بالتحذير: "لم أترك هذه المهزلة تمر بسلام. لم تعرفوا مع من وقعتم، لكن قريبًا ستعرفون."




ثم أخذ الهاتف المخبأ وتحدث مع شخص آخر قائلاً: "حضّر لي ما قلت لك، سننفذ الخطة قريبا. جهّز الرجال ليعرفوا تحركاتها!"




وأضاف بلهجة حادة: "لا أريد أي خطأ. سضيع رقبتك، مفهوم؟"




أجاب الطرف الآخر بصوت خافت: "مفهوم سيدي، لا تقلق. إنها رجعت، ورجالتي لم يفارقوها."




أغلق الرجل الهاتف في وجهه، ثم انفجر ضاحكًا ضحكة شيطانية مليئة بالشر. "هاهاهاها، قريبًا سوف ألتقي بكِ، ملاكي."




بعد مرور ثلاثة أشهر، أصبحت علاقة همسة ووليد أقوى بكثير، وكانت الأمور بينهما تسير بشكل جيد، بينما كان الوضع غير مستقر بالنسبة لمي فقد قطعت علاقتها بزميلها، حيث اختفى فجأة ولم يعد يرد على اتصالاتها. وصل إليها عن طريق أخته أنه ترك العمل بالجريدة وسافر.




أما معتز، لم يعرف سببًا لتلك الأفعال، لكن كل ما كان يريده هو أن يكسرها ويبعدها عن حبيبها. قام بتهديده في محاولات يائسة، لكنه لا يزال يتربص لها في الخفاء.




وفي مكان آخر، كان عاصم قد ذهب في مهمة سرية أخرى، حيث غاب لمدة شهرين ونصف. عاد في الوقت المناسب ليحضر كتاب كتاب ابن عمه.




أما سيلا، فكانت ما زالت مستمرة في علاجها، تتناول المسكنات وتزور الطبيب بشكل دوري. قامت بإجراء أشعة أخرى، وأخبرها الطبيب أنه من الضروري أن تخضع لعملية جراحية بأسرع وقت خوفًا من أن ينتشر الورم، الذي كبر بمقدار بعض السنتيمترات. على الرغم من ذلك، طمأنته بأنها ستبدأ العلاج قريبًا جدًا.




وفي يوم الخطبة المنتظر، جاء الحدث المفاجئ...




في صباح يوم الخطبة وكتب الكتاب، توجهت همسة، سيلا، مي، ورودينا إلى القاعة التي كانت قد حُجزت خصيصًا لهذا اليوم المميز. هناك، استلموا العروس، وبدأ الجميع بالتحضير، حيث تم تخصيص مكان خاص للتجميل لكل منهن.




بينما كانت سيلا تحاول التماسك، بدأ الإرهاق يظهر على وجهها، إلا أنها كانت حريصة على أن لا تظهر شيئًا من تعبها أمامهن حتى يمر اليوم بكل تفاصيله كما هو مخطط له.




مرت ساعات، وانتهت الفتيات من ارتداء فساتينهن الخاصة، وكل واحدة منهن أظهرت جمالها بطرق مميزة وفريدة.




كانت همسة في غاية الرقة والبساطة، فستانها النبيتي الذي كان ضيقًا من أعلى الصدر حتى الوسط بتطريزات بسيطة ورقيقة، ينزل بوسع حتى أسفل القدمين، مما أضفى على مظهرها سحرًا خاصًا. رفعت شعرها بطريقة مبهره ووضعَت تاجًا رقيقًا فوقه، ليزيد من جمال إطلالتها.




أما سيلا، فقد اختارت فستانًا سماويًا بسيطًا، فوقه طبقة من التل الذي كان نفس لون الفستان، والمجسم حتى الركبة، بينما كان ينزل بحرية واتساع من أسفل الركبة. وضعت مستحضرات تجميلية خفيفة لإخفاء شحوب وجهها والهالات السوداء تحت عينيها، بينما تركت شعرها القصير كما هو، مما أضفى على مظهرها طابعًا ناعمًا.




أما مي، فقد ارتدت فستانًا من اللون الجنزاري، في حين اختارت رودينا فستانًا ذهبيًا هادئًا، مع حجاب منير على وجهها، حيث أضاء ملامحها بشكل رائع. كانت بنات رودينا يرتدين فساتين بنفس لون فستانها، ليكنّ جميعًا مثل الأميرات، يسرن بخفة وأناقة في ذلك اليوم المميز.




أنهين الفتيات آخر اللمسات، وكل واحدة منهن كانت جاهزة للظهور. في تلك الأثناء، وصل وليد وكان في انتظار أن يُفتح له الباب ليتمكن من دخول القاعة. لكن، سارعَت مي ورودينا نحو الباب، وتوقّفن خلفه مانعاتٍ إياه من الدخول، ضاحكتين بمرح: "لا، مش فاتحين!"




قال وليد مازحًا وهو يقف أمام الباب: "بطلي رخامه يا رودينا، هقول لعامر."




ضحكت رودينا ردًا عليه: "مش فاتحين."




أما مي، فحاولت أن تكتم ضحكتها، وقالت: "طيب، ادفع كم، وافتحلّك أنا."




فأجاب وليد، مستنكرًا: "حتى أنتي كمان؟"




وعندما سمعت سيلا، اقتربت منهم وقالت بلطف: "خليه يدخل بقى، كفاياكم كده، حرام عليكم." ثم فتحت الباب ليدخل وليد.




أشارت سيلا إلى البنات وقالت: "يلا بينا، إحنا نستناهم بره. يلا، يلا منك ليها أنتي كمان."




بينما كان وليد يدخل، ضحك وقال لها بغضب: "والله لسلّط علىكي عامر يا زفتة أنتي."




خرجوا جميعًا، تاركين وليد مع همسة التي كانت لا تزال متوترة وخجولة، لكنه اقترب منها وأمسك يدها بحنان، محاولًا أن يطمئنها: "اهدي، أنا جنبك، مفيش داعي للتوتر ده كله."




ثم نظر في عينيها وقال: "لا لا، مش هينفع كده، مش هينفع تخرجي كده كمان."




همسة، ببساطة وبراءة، سألته: "ليه بس؟"




أجاب وليد بجدية: "أنا عاوز أخبّيك عن عيون الناس كلها."




ابتسمت همسة بخجل، ولم ترد عليه، فاستمر هو في حديثه، واقترب منها أكثر، همس في أذنها بكلمات عاشقة جعلت وجهها يحمر خجلًا. حاولت أن تبتعد عنه، وقالت بسرعة: "أأ، بينادوا عليك بره."




دفعته بلطف ليخرج، لكنه ظل يحدق فيها بتوهان، وفي عينيه كان هناك لمعة خاصة، وقال بمرح: "أحم، أنا شكلي بنطرد كده ولا إيه؟ دا أنا حتى النهاردة هتتكتبي باسمي، واسمك هيرتبط بيا لأخر العمر، ولا إيه؟"




تحدث وهو متجه نحو الباب، لكنه توقف فجأة، وأمسك بالباب بيده، ثم دخل برأسه مجددًا ليغمز لها قائلاً: "طيب، مفيش حاجة علينا."




همسة، بخجل، قالت: "لا، وامشي بقا يلا."




لكن وليد، ضاحكًا، أخرج رأسه مرة أخرى وقال: "طيب، تصبيره صغيرة قد كده، انتي مراتي والله."




تحركت همسة لتغلق الباب، وقالت بصوت خافت: "هس، عيب كده." ثم أغلقته وأخذت خطوة للأمام، لكن ما إن تقدمت، حتى فُتح الباب مرة أخرى، لتتفاجأ به أمامها، ممسكًا بيدها بقوة، وعينيه تتأملان عينيها العسليتين.




سألت، متلعثمة: "أ، ايه في ايه؟ مالك جيت تاني؟ ليه الناس بره؟"




لكن لم ينتبه وليد لما قالته، فقد كانت شفتاها تتكلمان بما لا يستطيع مقاومته، فاقتنص فرصة حديثها واختطف شفتاها في قبلة طويلة لم يتركها إلا ليأخذ أنفاسهما. ثم، وهمس بتحذير: "بلاش الروج ده تاني، مطمنش، ممكن أعمل إيه بره؟"




ابتسم، وأغلق الباب وراءه.




همسة هرولت بسرعة لتغلقه، وقلبها يدق بسرعة كطبول الحرب، بينما كانت تمسك طرف شفتها بأصابعها، هامسة في نفسها: "مجنون! أنا هتجوز مجنون."




لكن فجأة، بدأ الخبط على الباب، وظهر والدها، الذي أخذ يدها برفق، ثم تبعته جميع الفتيات، ليصعدوا بها إلى السلالم.




وعندما وصلوا إلى الأسفل، قام والدها بتسليمها إلى عريسها الذي أمسك بها برفق، وهمس في أذنها قائلاً: "شطورة، سمعتِ الكلام."




ضحكت همسة وقالت له، بخجل: "مجنون."


رد وليد بتلقائية: "بيكي."




جلس الجميع في المكان المخصص لهم، وسط أجواء من البهجة والفرح التي أضفها الأهل والأصدقاء بمباركتهم للعروسين. كانت سيلا تقف بعيدًا عن الجمع، محاولًة أن تخفي تعبها، تمسك معدتها بين الحين والآخر، رغم ابتسامتها التي كانت تظهر بين الفينة والأخرى.




لكن لم يكن عاصم بعيدًا عن ملاحظتها. وصل إلى القاعة للتو، وكان يضع هاتفه في جيبه بعد إنهاء مكالمة كانت قد قلبت جميع الموازين. زفر بضيق، فقد شعر أن المكالمة لم تكن مطمئنة أبدًا. نظر إلى سيلا بتأمل، فوجدها منزوًية في أحد الأركان، وقد تجنبته هي بعناية. كان عينيه تتابعان حركاتها بتوجس، لا يريد أن تفلت من نظره، فذهب إلى ابن عمه ليبارك له، ولكنه كان مشغولًا بالتركيز على سيلا.




أما مي، فقد كانت تبحث عنها بين الحضور حتى وجدتها، فذهبت إليها مسرعة: "مالك واقفة بعيد ليه كده؟ تعالي اقفي وسطنا شوية، ماما وهيثم بيسألوا عليك، تعالي سلمي عليهم."




استجابت سيلا لها، وسارت معها نحو العائلة، حيث وقفت وسلمت على والدتها التي احتضنتها بحب وابتسامة، ثم توجهت لتحيي هيثم. كان هيثم قد أمسكت يده بكف يدها، ولم يتركها بسهولة. كانت عيناه شاردتين بها منذ أن وقع نظره عليها لأول مرة.




قال لها بابتسامة هادئة: "إزايك يا سيلا؟ عاملة إيه؟"




تحدثت سيلا بابتسامة خفيفة، حاولت أن تبدو طبيعية، وقالت: "الحمد لله، أنت أخبارك إيه؟".




ثم تعالت أصوات الموسيقى، وبدأ منسق الحفل في إعلان بداية أول رقصة سلو، داعيًا جميع الأزواج للتقدم. بدأت الرقصة الأولى، وامتزجت الأضواء بالأنغام، لحين وصول المأذون.




اقترب هيثم من سيلا، وقال: "تسمحيلي بالرقصة دي؟". كانت سيلا على وشك الرفض، لكن هيثم لم يمنحها الفرصة، فانتزع يدها من بين الحضور وسحبها إلى الاستيدج، ووضع يدها على كتفه، بينما أمسك خصرها بكلتا يديه. ثم بدأ يتحدث، في انغماس تام في اللحظة، قائلاً: "أنا مبسوط أوي يا سيلا النهارده، عارفة ليه؟".




نظرت سيلا إليه بدهشة، مستفسرة عن سبب سعادته. فأجاب هيثم، وهو يغرق في أفكاره: "حياتي متوقفة من غيرك، عارفة كده؟".




ابتسمت سيلا ابتسامة هادئة، وقالت بصوت هادئ: "ليه كده يا هيثم؟ قدامك فرص كتير قوي. حاول تمسكها، بص حواليك هتلاقي الحب الحقيقي قدام عيونك، وانت مش واخد بالك. صدقني، أنا بعتبرك زي أخويا كان نفسي يبقى لي أخ".




في الجهة الأخرى، كانت مي واقفة، تغرق في تفكيرها، تتمايل برفق مع الكابلز الذين كانوا يرقصون. من بينهم همسة ووليد، ورودينا وعامر. كانت تتمنى لهم الخير، خصوصًا بعد أن رأتهم مندمجين في رقصة سلو، حتى أوقفها شخصٌ ما، أحد أصدقاء العريس، الذي لاحظ وقوفها وحيدة.




مدَّ يده قائلاً: "ممكن يا آنسة بالرقصة دي؟". ترددت مي للحظة، وكانت سترفض، ولكن نظرات الأخير، التي كانت تحمل شيئًا من التحذير، جعلتها توافق أخيرًا. نزلت يدها في يده، وانضمت إلى بقية الثنائيين على الحلبة.


ثم بدأت الحرب تنفجر في مكان آخر.


معتز، الذي كان يقف بعيدًا، كانت نظراته تتفجر من الغضب وهو يرى تلامس خصر مي مع ذلك الشخص. لو بقيت الأمور كما هي لدقيقة أخرى، لكان قد أحرقهم بنظراته. أطلق زفرة حارقة، ثم ترك القاعة بأكملها. خرج في عجلة، يدخن سيجارة تلو الأخرى، يلهث من الغضب، حتى لمح عاصم يجري بسرعة كبيرة. استغرب من حالته، فألقى بعقب السيجارة على الأرض، وركض وراءه ليلحقه.




"في إيه؟ حد جرى له حاجة؟" سأل معتز بلهفة، لكن لم يكن هناك رد.

الفصل التاسع عشر من هنا



 
 

تعليقات



×