رواية جمر الجليد الفصل السابع عشر بقلم شروق مصطفي
أمسكت الهاتف وانتظرت حتى جاءها الرد، فردّت بلهفة:
"بابا..." ثم بدأت في البكاء.
محسن، بقلق:
"مالك يا قلب أبوك؟ فيكِ إيه؟"
سيلا، بصوت متقطع من البكاء:
"نفسي أشوفك أوي يا بابا. عاوزة أرجع لكم. مش عايزة أقعد هنا. تعالَ خدني بقى."
محسن، محاولًا تهدئتها:
"اهدي يا حبيبتي، اهدي. خلاص، كلها أيام وهتكوني وسطنا. عارفة؟ همسة جالها عريس وقعد معانا واتعرفنا عليه. ومستنينك تيجي عشان نعمل الخطوبة."
سيلا مسحت دموعها، وقالت بفرحة مختلطة بالحزن:
"بجد؟ مبروك! فرحتلها أوي. هي فين عشان أبارك لها؟"
محسن:
"معاكي هي. اتفضلي كلميها."
تحدثت همسة بحماس:
"حبيبتي يا سيلا! وحشتيني أوي!"
سيلا:
"وانتي أكتر يا قلبي. مبروك يا حبيبتي! فرحتلك أوي أوي. هتعملوا الخطوبة إمتى؟"
همسة:
"لما ترجعي إن شاء الله. بابا قالي إنك هترجعي الأسبوع ده. تجي بسلامة يا رب."
ثم تدخلت نرمين، وخطفت الهاتف قائلة بحنان:
"عاملة إيه يا حبيبتي؟ بتاكلي كويس؟ خلي بالك الجو بارد عندك. ادفي كويس يا عمري."
سيلا:
"حاضر يا ماما. وحشني حضنك أوي. نفسي أترمي في حضنك أوي."
نرمين، بقلق:
"مالك يا قلبي؟ بتعيطي ليه؟ قلبي وجعني عليكي. طمنيني، فيكِ حاجة؟ خلاص، استحملي اليومين دول بس."
سيلا تنهدت، محاولة طمأنتها:
"أنا كويسة، متقلقيش عليا. بس أنتم وحشتوني أوي."
لم تستطع متابعة المكالمة بسبب اختناقها بالبكاء، فقالت بصعوبة:
"معلش، مضطرة أقفل. عايزين التليفون. مع السلامة."
أغلقت الخط وأعطت الهاتف لفاطمة، ثم ارتمت على الفراش تبكي. لكن فجأة بدأت تسعل بشدة، وأحست بوجع في معدتها. لاحظت بقعًا من الدم، مسحتها بسرعة، ثم غفت بالنوم من شدة تعبها.
شروق مصطفى
فاطمة أخذت الهاتف وذهبت لإنهاء عملها، بينما ظل محسن في مكتبه قليلاً قبل أن يذهب إلى النوم.
......
صباح اليوم التالي اندلعت معركة بالصحراء بين الشرطة والعصابة التي كانت مختبئة في أوكارها. وبعد مواجهة مسلحة وإطلاق ن.ار، تمكنت الشرطة من السيطرة على الوضع وإلقاء القبض على أفراد العصابة بالكامل، رغم إصابة بعض رجالها. أثناء التفتيش، عُثر على شاحنة كبيرة مليئة بالأطفال المختط.فين، وأخرى تضم فتيات قاصرات في حالة تخدير تام.
بعد انتهاء المهمة، أجرى اللواء اتصالًا بعاصم ليبلغه بالنجاح ويطلب منه الاستعداد للعودة في أقرب وقت.
أغلق عاصم الهاتف وتنهد بارتياح قائلاً:
"وأخيرًا المهمة دي خلصت."
ظل جالسًا للحظات، مسترجعًا ما حدث، ثم أمسك هاتفه مرة أخرى ليجري مكالمة مع طبيب مختص بحالة سيلا. استفسر عن خطة العلاج الأنسب، خصوصًا أن الإمكانيات الطبية في هذا البلد متطورة بشكل أفضل مما كان متاحًا في موطنهم.
بعد المكالمة، قرر مواجهة سيلا بما علمه، ليترك لها القرار بشأن خطواتها القادمة. طلب من فاطمة أن تحضرها إليه، لكنها عادت تقول بأسف:
"للأسف، مش راضية تخرج."
أغمض عاصم عينيه لبرهة، ثم قال بحزم:
"قولي لها لو ما نزلتش، أنا هطلع لها بنفسي."
نقلت فاطمة كلامه، فجاء رد سيلا غاضبًا:
"مش هقابله! مش طايقة أشوفه ولا أسمع صوته. لحد أرجع."
عندما علم عاصم بردها، لم ينتظر طويلًا. صعد إلى غرفتها ودخل فجأة، وقال بصوت حازم:
"مش هينفع كده يا سيلا. عايز أتكلم معاكي، تعالي على المكتب حالًا."
وقفت سيلا، وهي تنظر إليه بغضب، ثم تقدمت خلفه متذمرة، تضرب الأرض بقدميها. دخلت المكتب وجلست على الكرسي أمامه بوجه متجهم، وقالت بحدة:
"اتفضل، خير؟"
جلس عاصم أمامها ونظر إليها بجدية، ثم قال:
"خير إن شاء الله. العصابة أتقبض عليها، ولو عاوزة نمشي من هنا هنمشي حالا بس..."
الفرحة اجتاحت قلبها للحظة، وارتسمت ابتسامة مشرقة على وجهها الشاحب. عينيها تلألأت بالسعادة وهي تقول:
"بجد؟ بجد أخيرًا؟ الحمد لله!"
ثم تابعت بحماس:
"طبعًا عايزة أمشي، ومن غير أي سؤال. ودلوقتي حالًا! أخيرًا الكابوس ده خلص."
أنهت كلماتها بنظرة غاضبة لعاصم، وكأنها تلومه على كل ما حدث.
نظر إليها بهدوء، محاولًا كتم توتره، وقال:
" بس في حاجة محتاجين نفكر فيها قبل ما ننزل. وده قرار يرجعلك في النهاية."
سيلا، بوجه متجهم وقد بدت عليها الدهشة:
"حاجة؟ حاجة إيه دي؟ إحنا مش خلصنا خلاص؟ العصابة واتقبض عليها وكل حاجة انتهت!"
عاصم تنهد طويلًا، محاولًا جمع شتات كلماته، وقال:
"أحم... بصي. يوم ما حبستك، تاني يوم لما الدكتور وصل وكشف عليكي، بلغني بـ..."
توقف للحظة، ثم أكمل وهو يشرح حالتها الصحية بتفاصيل دقيقة، محاولًا تهدئة وقع الصدمة عليها.
"أنا شايف إن الإمكانيات هنا متطورة أكتر، ولو مددتي الفترة دي شوية، هتتحسني بشكل أسرع. الموضوع في بدايته سهل، يعني مش هياخد وقت طويل."
صدمتها كلماته، ولم تستوعب ما تسمعه. شعرت وكأن الأرض اهتزت تحت قدميها. نعم، كانت تشكو من آلام في معدتها، لكنها لم تتخيل أن الأمر بهذا الجدية.
ابتسمت ابتسامة باردة تخفي وراءها خليطًا من الغضب والإنكار، وقالت:
"شكرًا... شكرًا إنك نبهتني. أنا هعرف آخذ بالي من نفسي. ومن صحتي. شكرًا لحد هنا."
ثم أضافت بحدة:
"وأنا طالعة أجهز نفسي للسفر بعد إذنك."
لم يدعها تغادر قبل أن يرد بسرعة:
"بلاش العناد في الموضوع ده. لو عايزة، ممكن أبعت حد من أهلك هنا، أو أجيبهم كلهم لو تحبي."
استدارت قليلاً دون أن تنظر إليه، وقالت بنبرة حازمة وباردة:
"لا. وياريت متجبش سيرة لحد. مهمتك وانتهت هنا. وابعد عن طريقي."
غادرت المكتب بخطوات ثابتة، وأغلقت الباب وراءها دون أن تترك له مجالًا للحديث.
جلس في مكانه لبضع ثوانٍ، يحاول استيعاب ما حدث. غضبه كان واضحًا، فنهض فجأة وضرب بيده على المكتب عدة مرات وهو يتمتم:
"غبية! عنادك ملوش لازمة."
ثم أمسك هاتفه وأجرى اتصالًا سريعًا بابن عمه قائلاً بحزم:
"جهز كل حاجة. أنا جاي الصبح."
... .
نرمين بفرحة غامرة قالت:
"بجد يا محسن؟ قبضوا عليهم؟ الحمد لله يا رب! أخيرًا الكابوس ده خلص! فاكر إننا كنا نادرين لما ترجع بالسلامة نطلع نعمل عمرة؟ ولا نسيت؟"
ابتسم محاولًا إخفاء إرهاقه، وقال:
"ما نستش طبعًا، بس الواد مستعجل يا ستي. نستنى نكتب كتابهم الأول، وبعدها نطلع عمرة. لما نرجع، يكونوا خلصوا تجهيزاتهم على مهلهم للشهرين دول."
بتردد قالت:
"بس مش حاسس إننا استعجلنا؟ مش كانوا محتاجين وقت أطول عشان يتعرفوا على بعض؟"
نظر إليها بثقة وقال:
"لو كنت شايف إنه ما يستهلهاش، مكنتش وافقت. أنا اختبرت الولد، وهو قد المسؤولية. وكل شيء معمول بحساب."
بحنان اقتربت منه، وأمسكت وجهه بيديها، وقالت بابتسامة:
"وأنا واثقة فيك وفي كل قراراتك يا حبيبي. نفسي أفرح بهم أوي، وسيلا كمان."
ربت على يدها بحب وقال:
"سيبيها، كل حاجة ليها وقتها. والأيام الحلوة جاية."
قطع حديثهما صوت همسة وهي تدخل بابتسامة عريضة
"الله الله الله! الأحضان كده من غيري؟ خيانة واضحة، وأنا ماليش نصيب ولا إيه؟"
ضحكا بصوت عالٍ، وفتحا أذرعهما لها، وقالا:
"تعالي يا أجمل عروسة!"
دخلت همسة وسطهما، واحتضنتهما بسعادة كبيرة، ثم رفعت رأسها وقالت بابتسامة:
"مبسوطة أوي إن سيلا هترجع بكرة. مش قادرة أستنى أشوفها."
ركضت بعدها إلى غرفتها، تتوق لإخبار حبيبها بالخبر السعيد.
عندما استقبل مكالمتها وأخبرته بكل شيء، امتلأ قلبه بالفرحة. اتصل بأخيه عامر وقال:
"عامر، كنت لسه هكلمك! عاصم بلغني إن كل حاجة تمام. حضّر نفسك، هنقرأ الفاتحة قريب، ونعمل تلبيس دبل. وبعد ثلاث شهور نكتب الكتاب."
بصوت مليء بالسعادة رد قائلاً:
"إن شاء الله، يا وليد."
....
دخل غرفته يحضر حقيبته، ثم توجه إلى الدادة فاطمة قائلاً:
"جهزي حاجتك وبلّغي سيلا إننا هنتحرك على الفجر."
هزّت رأسها موافقة، وبدأت تجهيز احتياجاتها، ثم صعدت لتبلغ سيلا، بينما ظل عاصم في مكتبه، مستغرقًا في أفكاره. جلس ممسكًا سيجاره الذي أشعله ببطء. فكر في حالة سيلا الصحية، وكيف أنها رفضت أن يخبر أحدًا بما تعانيه. كان يعلم أن علاجها يجب أن يبدأ فورًا، لكن عنادها أربكه. زفر بحدة وقال بصوت منخفض:
"أنا مالي ومالها؟ تتعالج أو متتعالجش، مش مشكلتي."
ثم نفض أفكاره بقوة ووقف أمام النافذة. شرد قليلاً، يحاول تجاهل قلقه غير المفهوم. فجأة، سمع صوتًا ما عبر سماعة الأذن. تنهد وابتسم بخفة، وكأنه يحاول طرد الأفكار المزعجة من رأسه.
كانت سيلا تجلس على السرير تدندن بسعادة، تغني لنفسها وكأنها تطمئن قلبها:
"وحشتوني وحشتوني وحشتوني! أهلًا ترارارا، أهلًا ترا رارا! أهلًا أهلًا بأعز الحبايب!"
ثم توقفت فجأة لتتكلم مع نفسها بسخرية:
"أخيرًا! هخلص منه جبل الجليد كابوس. يبااااي! دمه تقيل بشكل!"
استلقت على السرير بتعب، تذكرت أنها لم تحضر معها سوى حقيبة صغيرة. أغمضت عينيها وغفت بسرعة، بينما ترتسم على وجهها ابتسامة خفيفة.
صعدت لتوقظ سيلا وتبلغها بالتحرك بعد قليل. عندما دخلت الغرفة، وجدتها نائمة بعمق خرجت تبلغ عاصم، كان مستندًا على حافة المكتب، وملامحه متحفظة، لكنه أومأ برأسه قائلاً:
"خليها. كمان شوية نتحرك."
مرور أسبوع على عودتهم
عاد عاصم إلى حياته المعتادة بعد عودتهم، يوازن بين إدارة أعماله في الشركات وأعماله السرية. كان يومه مزدحمًا بالاجتماعات والتخطيط، لكنه لم يغفل عن التنسيق مع عامر ووليد لترتيب زيارة عائلية بنهاية الأسبوع. الهدف كان واضحًا: قراءة الفاتحة والإعداد لمراسم الخطوبة.
أما سيلا، فكانت قصتها مختلفة تمامًا. طوال الأسبوع، ظلت حبيسة المنزل. لم تغادر غرفتها سوى للحظات قليلة، ولم تذهب حتى للجريدة التي كانت تحب عملها فيها. انعزلت عن الجميع، وخسرت الكثير من وزنها بسبب فقدان الشهية. كل ما تأكله كان يسبب لها الألم أو ينتهي به الأمر إلى التقيؤ.
كانت غارقة في التفكير والصدمة، تعيد في ذهنها ما قاله لها الطبيب، وتحاول استيعاب الأمر. قررت ألا تخبر أحدًا عن حالتها، لا تريد أن تعكر فرحة عائلتها بزواج همسة أو سفرهم للعمرة. أجلت فكرة الحديث عن مرضها أو العلاج لما بعد انتهاء هذه الأحداث السعيدة.
قبل نهاية الأسبوع بيوم قررت الخروج أخيرًا، بحجة شراء شيء مناسب لمناسبة الخطوبة. رفضت أن يصاحبها أحد، فقد كانت لديها نية أخرى. ذهبت مباشرة إلى المستشفى، لتزور الطبيب المختص بالأورام. كشف الطبيب عليها واكتشف وجود كتلة في منطقة المعدة، وأكد ضرورة إجراء أشعة متخصصة لمعرفة طبيعة الكتلة، سواء كانت حميدة أو خبيثة، وكذلك لتحديد حجمها بدقة.
شعرت بصدمة جديدة لكنها تماسكت. خرجت من المستشفى وتوجهت إلى مركز الأشعة لإجراء الفحص المطلوب. تناولت المحلول الذي طُلب منها قبل الفحص، وأخبرها الطبيب أن النتائج ستظهر في اليوم التالي.
بعد ذلك، حاولت أن تخفف عن نفسها قليلاً، فدخلت متجرًا وابتاعت شيئًا بشكل عشوائي دون تفكير. كان فستانًا بسيطًا بلون سماوي جذب انتباهها. لم تقسه حتى، فقط اشترته وغادرت.
عند وصولها، وجدت الجميع يغنون ويرقصون بفرحة. الأجواء كانت مليئة بالسعادة، فابتسمت سيلا بصعوبة ودخلت بينهم تحاول مشاركتهم. همسة كانت أول من لاحظ الفستان، فأخرجته من الكيس بحماس:
"الله! جميل جدًا يا سيلا، هيبقى تحفة عليكي!"
وضعت همسة الفستان عليها وهي تصفر بإعجاب:
"واو، واو! تحفة بجد، عقبالك يا رب."
احتضنتها بحرارة، بينما نرمين ابتسمت وقالت بحنان:
"رقيق أوي يا حبيبتي، مبروك عليكي."
كانت مي، التي حضرت قبلها بيوم للتجهيز مع العائلة، تقفز بمرح. فجأة قرصت همسة مما جعل الأخيرة تصرخ:
"آآآه! إيه يا بت؟"
ضحكت مي بشدة وهي تقول:
"عشان أحصلك في جمعتك، يلا يا سيلا، اقرصيها انتي كمان!"
لكن همسة ركضت مبتعدة وهي تضحك:
" اللي يقدر يمسكني!"
استمرت الأجواء المرحة، وضحك الجميع على همسة، حتى انضم محسن وقال بابتسامة كبيرة:
"عقبالكم يا بنات!"
ردت مي بفرحة:
"الله يبارك فيك يا عمو!"
سيلا في عالم آخر كانت تحاول أن تشاركهم الابتسامات والضحكات، لكنها كانت غارقة في عالم آخر. شعور الوحدة والخوف كان يسيطر عليها. لم ترد أن تعكر صفو فرحتهم، فانسحبت بهدوء ودخلت الحمام.
كانت ما تزال تمسك بالفستان السماوي، ووقفت أمام المرآة تتأمله. لم يكن اختيارها له عن قصد، لكنها شعرت بأنه يناسبها بطريقة ما. نظرت لنفسها في المرآة، وحاولت أن تبتسم، لكنها كانت ابتسامة مليئة بالوجع والقلق الوقت يمر... والصمت يثقل على قلبها.
وجاء اليوم جلس الجميع الأب مع عاصم وأخيه عامر و وليد .
وتم تحديد بعد ثلاث اشهر خطوبه و كتب الكتاب مع بعض و بعد رجوعه من العمرة سيكملون الزواج.
داخل غرفة البنات همسه وضعت اخر اللمسات و كانت هاديه ورقيقه بفستانها الكشمير و شعرها المائل للعسلي الغامق الذي رفعته لأعلي بطريقه جذابه و انزلت بعض الخصل للأمام مع القليل من مستحضرات التجميل
و ايضا وضعت سيلا بعض مستحضرات التجميل لاخفاء شحوب وجهها ولبست طقم آخر بعد الكثير من المجادلة منهم أن تلبس هذا الفستان الا انها رفضت و تركته ليوم الخطبة.
و حضرت ايضا مي التي لاحظت تغير في صديقتها لكنها لم تريد ان تتكلم فالوقت غير مناسب.
فور وصول رودينا إلى المنزل، أسرعت إلى الداخل تحمل طفليها النائمين، لتضعهما بلطف على الفراش وتتركهما يكملان نومهما. اتجهت مباشرة إلى سيلا، واحتضنتها بحرارة، وكأنها تحاول تعويض سنوات الغياب الطويلة. بعيون دامعة وقلب مليء بالفرح، قالت رودينا:
"مش مصدقة نفسي بجد... بعد كل السنين دي رجعنا تاني لبعض، وكمان بقينا نسايب!"
ردت سيلا بابتسامة هادئة، تحاول أن تخفي مشاعر مختلطة داخلها:
"أهو النصيب بقى..."
لكن رودينا، وقد شعرت بالذنب، أضافت بصوت منخفض:
"متزعليش مني، والله كان غصب عني. إخواتي كان طبعهم صعب جدًا، وحاصروني بشكل ما كنتش أقدر أتصرف فيه."
في داخلها، همست سيلا لنفسها: "أنتي هتقوليلي؟ أنا عشت الطبع ده بكل قسوته... ضربني، حبسني في بدروم وسط الثلج."
ولكنها لم تُظهر شيئًا من ذلك، بل أفاقت من ذكرياتها حين شعرت بضغط رودينا على كتفها، تبكي وتطلب السماح.
ربتت سيلا عليها بحنان وقالت:
"مش زعلانة منك يا حبيبتي، والله. اللي فات مات، انسي بقى. متعيطيش."
بعد أن هدأت رودينا، قالت سيلا مازحة وهي تشير إلى طفليها:
"طب يلا صحيهم، يلعبوا معانا."
تراقب الطفلين بملامح محبة:
"دول شكلهم كيوت أوي."
رودينا ضحكت وقالت:
"كيوت إيه! دول مطلعين عيني طول النهار. أقعد أقول لهم: بس اسكتي، كفاية دوشة! لكن لما بيناموا، أحس بزهق رهيب وأفضل أقول: اصحوا، كفاية نوم!"
ضحكت سيلا ومي وهمسة معًا على وصفها، بينما خفضت رودينا صوتها وهي تضحك أيضًا:
"بس هس... خليهم نايمين دلوقتي عشان نقعد شوية برا بدل ما يطلعوا روحنا."
نادت نرمين على الجميع استعدادًا لقراءة الفاتحة وتلبيس الخواتم. خرجوا جميعًا إلى الصالة حيث تجمع الأهل في جو عائلي دافئ ومليء بالحب. كانت همسة في كامل أناقتها تجلس بجانب وليد، الذي لم يستطع أن يُخفي نظراته العاشقة لها، تلك النظرات التي عبّرت عن إعجابه بها منذ اللحظة الأولى.
سيلا، بابتسامتها الهادئة، توجهت إليه وقالت:
"ألف ألف مبروك."
رد وليد بابتسامة مماثلة:
"الله يبارك فيكِ، وعقبالك إن شاء الله."
ردت سيلا بامتنان بسيط:
"ميرسي."
جلست مي في مواجهة معتز، الذي لم يكن قادرًا على فهم مشاعره المتضاربة تجاهها. كان مضطربًا، بينما هي اختارت تجاهله تمامًا وكأنه غير موجود.
قرأ الجميع الفاتحة معًا في لحظة مباركة، ثم قام وليد بإلباس همسة الخاتم وسط تصفيق وفرح العائلة. كان الأب والأم ينظران بسعادة إلى ابنتهما، بينما لم يتوقفا عن الدعاء في سرّهما أن يمنح الله السعادة لسيلا أيضًا، وأن تجد نصيبها قريبًا.
رودينا جلست بجانب زوجها، تنظر إلى المشهد بابتسامة، وهي تفكر في حظوظ القدر التي جمعتها مجددًا بسيلا بعد كل تلك السنين.
ظل عاصم يراقب سيلا بعينيه، ولاحظ الشحوب الذي بدا على وجهها رغم محاولتها إخفاء ذلك باستخدام مستحضرات التجميل. هي أيضًا انتبهت لنظراته وفهمت ما يعكسه، فبادلت نظرته بنظرات تحذيرية، دون أن تنطق بكلمة واحدة.
استأذن عاصم ليشعل سيجارة إلى الشرفة، ورافقه الأب، حيث تبادلا بعض الكلمات في لحظات هادئة قبل أن يعودا إلى الداخل. أضاء عاصم سيجارته، وظل يدخن في صمت لفترة، حتى أدرك أن سيلا اقتربت منه. سعلت بشدة جراء كثافة الدخان الذي يملأ المكان، فتوجهت إليه بغضب: