رواية طوق النجاة الجزء التكميلى من بك أحيا الفصل الحادى عشر والاخير بقلم ناهد خالد
" النهاية دومًا تكون كما تستحق, لا يغرك جمال الرحلة أو مساوئها, فقد تكون الرحلة جميلة بنهاية مأسوية حتمًا تستحقها, أو تكون رحلة مأسوية بنهاية جميلة استحقتها, وما يعزز رحلتك ويدفعها لنهاية جميلة هو
أصلك الطيب
معدنك
محاربتك لشياطينك ووساوسك
أن تنظر عيناك للنهاية كما تنظر للرحلة, فلا تغرك المكاسب المؤقتة, بقدر ما يشغلك نهاية كل ما أنتَ فيه
وأخيرًا أن تتمسك بكل طوق نجاة يضمن لك نهاية مُرضية تستحقها!"
وضع باقة الورد الزاهية بلونها الأبيض كما كانت تحب بجوار قبرها, ليستقيم بعدها واقفًا مهندمًا سترة بدلته السوداء والتي يحرص دومًا على ارتدائها حين يأتي لزيارتها حتى قميصه وحذاءه أسود اللون, ضيق عيناه قليلاً من شدة الهواء الذي بات يعصف بالأجواء حتى جعل خصلات شعره الأسود والذي يتخلله عدة خصلات بيضاء لا تُرى وبالادق لا تراها سوى حبيبة قلبه والتي وبالكاد إن حُسبت لن تتعدى العشر كناية عن بلوغه عامه الخامس والثلاثين, ظل واقفًا وعيناه لا تفارقان القبر والحزن يلتمع بهما, انتبه إلى صوت الواقف بجواره يقول:
- يعني عشان تريحك أنتَ تمرمطني أنا!
ابتسامة ملتوية زينت ثغره وهو يجيبه:
- مش فكرة تريحني, بس لو كانت ادفنت في مصر مكنتش هعرف ازور قبرها طول عمري, انت عارف مقدرش اخاطر بنزولي مصر، لكن أنتَ تقدر تيجي هنا.
رفع "نبيل" حاجبه معترضًا:
- لا, عشان أنتَ كنت غالي عندها, قدرت تخطف قلبها يابن حسن رغم انها كل اللي قعدته معاك 3 سنين.
"ابن حسن" قبل خمس سنوات تقريبًا من الآن كان يرفض ويثور حين ينعته احد بهذا اللفظ وينسبه لشخص يريد دومًا الهروب من نسبه, وإن كان باستطاعته لغيرَ نسبه, حين أتى لهذه البلدة دلف باسم مستعار لكن داخلها تعامل باسمه وهويته الحقيقية, ومؤخرًا بدأ يتقبل النسب, ليس لشيء سوى أنه أصبح أبًا وفهم أنه حتى وإن كان والده أسوء شخص على الأرض فلا يحق له سوى تقبل الأمر, وإن كان لا يستطيع ذِكره بالخير فلا يذكره أبدًا, تنهد وهو يلتفت لحديثه مع عمه:
- انا كمان اتعلقت بيها رغم إن المدة مكانتش طويلة للأسف, لكن قدرت فيها تخليني أتمنى لو كانت ظهرت في حياتي من زمان, كانت ست طيبة و جميلة اوي, وفعلاً فراقها كان صعب.
تنهد "نبيل" بحزن وهو يوافقه:
- فعلاً, تعبت فجأة وفي 3 أيام كان ربنا استرد أمانته, منكرش إني كنت زعلان منها عشان وافقت تقعد معاك هنا وتسيب بلدها وابنها وتبعد عن كل ده عشانك, يعني الحقيقة متقبلتش انها فضلتك عليا..
قاطعه "مراد" يقول:
- مش كده, هي اه كانت بتحبني وبتعزني اوي, بس وجودها معايا واختيارها إنها تعيش معايا هنا, كانت بتحاول تعوض السنين اللي كنا فيها بعيد عن بعض, وبتحاول تكون جنبي في الغربة عشان محسش إني لوحدي, هي كانت شايفة وعارفة إن وجودها فارق معايا, هتصدقني لو قولتلك إني اتعلمت منها في ال3 سنين دول اللي متعلمتوش من امي في 35 سنة لدلوقتي..
هز "نبيل" رأسه متفهمًا:
- كانت بتحاول تعمل معاك اللي ملحقتش تعمله مع حسن, عشان كده لما هديت فهمت وعرفت إنها اختارت صح.
أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يباشر بحديث آخر لكن قاطعه رنين هاتفه فأخرجه ليجد رقم زوجته يزين هاتفه باسمها المحبب "ضي" ابتسم تلقائيًا وهو يجيبها:
- ايه يا حبيبي؟
لكن لم يسمع صوتها بل سمع صوت مشاكسه الكبير "ياسين" وهو يقول بسرعة كأن أحدهم يركض خلفه:
- بابي تعالى بسرعة عشان أنا هضرب تيام.
ابتعد "مراد" بالهاتف وهو يسأله ساخرًا:
- وهاجي اعمل ايه ما دام هتضربه؟
ارتبك الصغير وهو يخبره تاليًا:
- لا هضربه لما تيجي.
- كتر خيرك يا حبيبي, يعني هتستنى لما اجي وتضربه قدامي.
أخبره "ياسين" حانقًا:
- بابي أنتَ متعرفش هو عمل ايه, ده كسرلي الجيتار بتاعي, وكمان ماما بتزعقله قام مزعقلها وجري على نناه يستخبى عندها.
- وهو كسرلك الجيتار ليه؟
صمت "ياسين" لثواني قليلة قبل أن يقول ببراءة:
- مش عارف, أنا معملتوش حاجه.
استند "مراد" على سيارته يردد محذرًا:
- ياسين!
استمع لصوت الصغير المتلعثم وهو يقول:
- أنا بس... كنت بلعب بالكورة وغصب عني جت في الكلب بتاعه, مقصدتش, وقولتله سوري, بس هو بردو طلع كسر الجيتار بتاعي.
مسد "مراد" جبهته بارهاق فالصغيرين لتقارب عمرهما لا ينفكا عن النزاع, فأحدهم في الثامنة "ياسين" و "تيام" في السادسة, ردد بهدوء:
- ماشي يا حبيبي, أنا لما اجي هشوف الموضوع, بس متضربوش, قولتلك قبل كده يا ياسين أنتَ الكبير يعني مينفعش تستغل ده في إنك تضرب اخوك ولا تفرد شخصيتك عليه, واجبك تدافع عنه مش تضربه, وهو صغير بيتصرف من غير تفكير مش زيك يا حبيبي كبير وفاهم, ماشي يا ياسين.
غمغم "ياسين" بالبلغارية التي يتقنها:
- Разбрахме се, татко, ще те чакам, за да го ударим заедно
"اتفقنا ابي, سأنتظرك لنضربه معا"
ابتسم "مراد" باتساع وهو يقول بنفس اللغة:
- Няма смисъл, хайде обичам те
"لا فائدة, هيا احبك"
أجابه الصغير بسعادة قبل أن يغلق المكالمة:
_ - и аз те обичам
"أحبك أيضًا"
التفت ليجد "نبيل" قد أتى خلفه ليحدثه وهو يستقل سيارته:
- يلا يا عمي زمانهم جهزوا الغدا في الببيت.
اوقفه بقوله:
- لا, لازم ارجع النهاردة, أنتَ عارف عيد ميلاد "ملك" بنت جاسمين النهاردة ولازم أكون موجود, يدوب الحق الطيارة.
وقف أمامه يقول رافضًا:
- معقول تيجي وترجع على طول كده!
رفع مكنبيه بقلة حيلة:
- اعمل ايه, أنتَ عارف مقدرش افوت ذكرى وفاتها من غير ما اجي وازورها, وكمان جاسمين سابت الأيام كلها وجاية تولد في اليوم ده.
ابتسم له رابطًا على كتفه:
- دي ضربية إنك تبقى جدو.
علق "نبيل":
- أنا بقيت جدو قبل عشر سنين لما هبة نورت حياتنا.
فهم "مراد" مغزى جملته ليقول مبتسمًا بهدوء:
- ربنا يباركلكوا فيهم, وقول لباهر كل سنه وهي طيبة.
ضحك "نبيل" يائسًا حين رأى امتعاض ملامح "مراد" في جملته الأخيرة:
- مفيش فايدة, ناقر ونقير طول عمركوا, عمومًا يوصل.. وان شاء الله هاجي تاني الأسبوع الجاي بس معايا مرات عمك, عاوزه تيجي تشوف الولاد وحشوها.
- هما كمان بيسألوا عنها, لو عرفت تجيب جاسمين وعيالها هاتها, الأولاد بيتبسطوا سوا.
شاكسه "نبيل" يقول:
- هشوف ظروف باهر عشان ياخد إجازة.
قطب جبينه على الفور وهو يقول:
- ولا اقولك بلاش لاحسن الولاد ياخدوا برد منها عشان التغيير بين هنا ومصر.
ضحك "نبيل" وهو يتجه لسيارته يقول:
- متقلقش انا بناغشك, باهر مش هيعرف ييجي مسافر تركيا تبع شغله وهيقعد شهر هناك.
تنهد "مراد" براحة وهو يتجه لسيارته بينما يقول:
- احسن بردو.
*************
الإمارات العربية...
في منزل بسيط لكنه يتميز بأناقته, يسكن فيه أفراد الأسرة الصغيرة, الأب والأم و الابن الأكبر "يونس" ذو الثانية عشر عامًا, و الابنة الصغرى "ديما" ذات الثماني سنوات ونصف..
- هو انتوا فهمكوا بقى تخين ليه؟
صرخت بها "هاجر" بعد أن طفح كيلها وهي تذاكر بعض الدروس مع طفليها, ليعقب "يونس" حانقًا:
- مامي أنتِ اللي مش عارفه تفهمينا.
رفعت حاجبها مستنكرة:
- مطلوب مني افهمكوا كمان؟ مش المفروض المدرس مفهمكوا؟ اومال دروس ومدرسة ايه!؟
عقبت "ديما":
- يا ماما يا حبيبتي احنا بننسى اللي الأستاذ بيقوله, ولازم لما نقعد نحل الواجب تعتبرينا مسمعناش عن الحاجات دي قبل كده.
اعترضت تصيح:
- لا انا بقول بلاها دروس احسن بقى, ما دام كده كده هعيد من الأول.
خرج "طارق" من الغرفة بعد ان انهى ارتداء ملابسه استعدادَا للذهاب لعمله حيث يعمل مدير لاحد المطاعم يقول:
- كل يوم نفس القصة يا هاجر.
نهضت تقترب منه وهي تشتكي:
- عشان كل يوم يطلعوا العيب فيا, ويقولولي مبتعرفيش تشرحي يا ماما, وانا مش مطلوب مني اشرح اصلاً!
- يا حبيبتي حلي معاهم الواجب وفهميهم بيتحل ازاي وخلاص.
- بعمل كده, ولما اجي اخليهم يحلوه تاني بينسوا بردو.
نظر لهما مرددًا بضيق:
- وبعدين بقى؟ ما نركز مع ماما شوية.
- بالضبط, يركزوا, عشان هم أصلا مبيبقوش سامعني.
صاح محمسًا لهم:
- طيب اللي هيركز مع ماما هجبله بيتزا وانا راجع.
صاح الطفلان بسعادة, بينما اعترضت هاجر هامسه له:
- مينفعش كده, لازم يركزوا عشان بيحبوا المذاكرة مش عشان المكافأة.
قطب ما بين حاجبيهِ رافضًا:
- هو في حد بيحب المذاكرة! المهم العيال تنجح, والأهم بقى...
نظر للطفلين ليجدهما التهيا في المذاكرة وحل الواجبات بحماس على ذِكر "البيتزا" ليقترب منها هامسًا مع غمزة من عينه:
- إن ابوهم ينجح.
كتمت ضحكتها تسأله بخبث:
- ابوهم ينجح في ايه؟
طبع قبلة على وجنتها بحب قبل أن يقول عابثًا:
- لما ارجع هجاوبك.
رفع صوته محدثًا ابنائه وهو يتجه للباب خارجًا:
- ابعتولي على الواتس عاوزين البيتزا بايه.
ابتسمت "هاجر" تهز رأسها يائسة فقد قرر أنه سيجلبها قبل أن يثبت الأطفال تركيزهم! وهكذا هو "طارق" دومًا لا يطيق صبرًا لتنفيذ طلب لهم أيًا كان, نظرت لطفليها بحب قبل أن تهتف هي بكرم أكبر:
- وانا هروح اعملكوا بان كيك تحفة.
فارتفعت صيحات الطفلان وقد بلغت سعادتهما العنان, فيبدو أنهما سيحبان الدراسة قريبًا..!
******
المكسيك....
استمعت لصياح ولدها لتعلم أنه أتى من عمله, تركت الملعقة الكبيرة التي كانت تقلب بها الطعام وركضت للخارج لتراه يحتضنه بينما يقبل هو رأسه بحب, اقتربت منهما وعيناها سعيدة بعودته, ابتعد عن الولد لينظر لها بحب وهو يحثها على القدوم, فاسرعت تحتضنه وهي تغمغم:
- حمد الله على السلامة يا حبيبي.
قبل رأسها بحب وهو يجيبها:
- الله يسلمك يا حياتي, وحشتيني.
ابتعدت برأسها عنه وهي تقول:
- قولتلي أسبوع وراجع, وقعدت أسبوعين.
- معلش غصب عني, الشغل كان كتير والمدير كان شادد علينا عشان يلحق يخلص الشغل قبل راس السنه.
فهو يعمل بفندق له عدة فروع في المكسيك وخارجها, وقد بدأ العمل به مجرد موظف في الاستقبال وبعد سبع سنوات استطاع بجدارته أن يتولى منصب نائب المدير, لتصبح مسؤولياته اكبر, ولكن بالمقابل راتبه اكبر فاستطاع ان يوفر حياة مُرفهة ومستوى معيشي جيد جدًا لأسرته, وبمساعدة "رنا" التي لم توقف عملها في تصميم الأزياء وتجني منه مكسبًا جيدًا..
- عامل ايه يا بطل؟
سأل "عُمر" الذي أجاب فورًا بفرحة:
- كسبت البطولة.
ابتسم له "دياب" يخبره:
- قديمة, خبر عرفته من مدة, قول غيره.
نظر "عُمر" لوالدته حانقًا:
- ماما قولتلك متقوليش غير لما ييجي.
نفت التهمة عن نفسها تقول:
- والله ما قولتله يا عًمر.
- مش محتاج مامتك تعرفني عشان اعرف, يا بني انا عرفت إنك كسبت البطولة قبل ما تستلم الميدالية أصلاً, أنتَ مستهون بابوك ياض!
تذمر يقول:
- مفيش حاجة واحدة عارف افاجئ حضرتك بيها.
ضحك "دياب" يقترب منه يحتضنه ويربط على ظهره بقوة تناسب شابًا صغيراً في الخامسة عشر من عمره:
- مبروك يا حبيبي.
- الله يبارك في حضرتك يا باشا.
ضحك "دياب" على اللقب الذي ينعته به ولده دومًا "باشا" وكأنه يذكره بما كان عليه في الماضي.
ادمعت عيناها فرحًا وهي تنظر للمشهد المكرر للمرة الألف أمامها, وعاطفة الأمومة لديها تُثار في كل مرة ترى فيها المشهد, وتحمد ربها ألف مرة أنه كتب لهم النجاة, لينجحوا بخلق حياة هادئة, مستقرة, بعيدة عن الصراعات, ورغم أنه لم يُكتب لها الإنجاب مرة أخرى بعد أن خضعت لإزالة الرحم مُجبرة تحت رغبة دياب الملحة, لكنها راضية وسعيدة ولا تريد شيء آخر أكثر مما هم فيه..
******
مصر.....
بسوهاج...
كانت تجلس على مكتبها بعد أن انهت الكشف منتظرة الكشف القادم, ليفتح الباب ويظهر من خلفه ولد في الخامسة تقريبًا, ابتسمت له بلطف, ولكن اندثرت ابتسامتها وهي ترى من خلفه, أنه هو "إبراهيم" مستندًا على عكاز في أحد يديه, يدعمه للسير, علمت منذ أعوام قليلة انه بدأ يتعافى واستطاع الوقوف مرة أخرى, وقبل ست سنوات علمت أنه تزوج, لكنها لم تهتم بأخباره أبدًا, وكل ما علمته كان بمحض الصدفة, عاودت الابتسامة بهدوء تستقبل الصغير مرحبة بلهجة البلدة:
- تعالى يا جمر, اسمك ايه؟
اجابها الصغير بنفس اللهجة:
- اني باهر, وأنتِ؟
لم تنكر صدمتها بأنه اختار اسم شقيقه ليسمي ولده به, فعلى حد علمها علاقته بباهر لم تكن جيدة أبدًا, ولكن يبدو أن الأعوام التي مرت غيرت الكثير, اجابته مبتسمة:
- واني فريال, على فكرة إني جربيتكوا, ابجى بنت عمة ابوك.
اتسعت اعين الصغير ينظر لوالده الذي جلس على احد الكراسي:
- صوح يا بوي؟ هي جريبتنا ؟
اومأ برأسه مؤكدًا, ليبتسم الصغير بحماس, وتبدأ هي بتدوين اسمه على ورقة الكشف, ثم نظرت ل "إبراهيم" تسأله بعملية:
- عنده كام سنه؟
اجابها وعيناه لا تفارقها:
- 4 سنين ونص.
- بيشتكي من ايه؟
وهنا تدخل الصغير ليخبرها بألم ضرسه الذي يزعجه, لتأخذه على كرسي الكشف وتسلط الضوء على فمه وهي تلاطفه كي لا يخشى منها.
ظل ينظر لها وثغره مبتسم رغمًا عنه, هو لم يحبها, لأنه وببساطة لم يترك نفسه لحبها, ولم يراها طوال فترة زواجهما وحتى قبلها, لكنه الآن يقدرها... يقدر أنها كافحت حتى حققت حلمها, وباتت كما أرادات طبيبة تمتلك عيادة لتعالج أهل بلدتها بالمجان يومين في الأسبوع, ولم ينفكوا عن ذكرها بكل ما هو طيب, وبات الجميع ينتظر اليومين حين تأتي للبلدة وتباشر عملها, يقدر حفاظها على ميراثها من والده, واستطاعتها هي وباهر أن ينهضوا بالمزرعة لتصبح أكثر صيتًا وعملاً, يقدر صمودها الآن أمامه وتعاملها معه وكأن شيئًا لم يكن, لقد ظن أنها ستطرده حين تراه في عيادتها, وتوقع أي رد فعل غير الذي اتخذته, لتنم عن أخلاقها الحميدة التي لطالما جهلها حتى لآخر لحظة، ويدرك...
يدرك خسارتها، كزوجة مطيعة، وفية، محبة، ولم يقدر هذا إلا بعد أن تزوج بالحرباء المتلونة الموجودة في منزله والتي لولا طفله للفظها خارج حياته لكن طفله هو ما يقيده...
- في تسوس واضح هو بياكل سكريات كتير او مهمل في غسل اسنانه؟
وتتحدث مع "إبراهيم" بلهجتها القاهرية لانها مدركة انه يفهمها, أجابها:
- هو بيغسل, بس بيحب الحلويات ومحدش جادر يمنعه عنيها.
نظرت له تحذره:
- أنت خابر يا باهر, المره الجاية ضرسك هيوجعك اكتر من أكده بكتير, ولما تجيلي هضطر اديك حجنه كبيرة جوي في ضرسك عشان يبطل يوجعك.
توترت نظرة الصغير وظهر خوفه يسألها:
- وهيوجعني ليه؟
اخبرته بقلة حيلة:
- عشان بتاكل حلويات كتير, أي حاجة فيها سكر هتخلي السوس يسري في ضرسك لحد ما يعمل فيه حفره كبيره جوي وهتخيله يوجعك.
رأت خوفه الظاهر فأخبرته:
- لو معاوزش تاخد الحجنة ولا ضرسك يوجعك, متاكلش حاجة مسكرة كتير واسمع كلام ابوك وامك وتغسل سنانك الصبح وبليل كويس, اتفجنا؟
هز رأسه موافقًا لتبتسم له قبل أن تتجه لمكتبها بعد أن عاونته في النزول من فوق الكرسي, جلست على كرسيها تدون الأدوية قبل أن تمد يدها بالورقة ل "إبراهيم" وهي تقول:
- هاتله الدوا ده, وزي ما نبهت عليه, بس هيجيلي الأسبوع الجاي عشان نحشي أماكن التسوس, هي في جنب الضرس بس وباقي الضرس سليم, فهنلحقه قبل ما يصيب باقي الضرس.
- كيفك يا فريال؟
قالها "إبراهيم" فجأة وهو نفسه لا يعلم كيف قرر سؤالها بعيدًا عن حالة طفله, نظرت له بهدوء قبل أن تتنهد وتسأله:
- ازيك أنتَ يا بن خالي؟ ابنك قمر ما شاء الله.
ابتسم لها يقول بعيدًا عن حديثها:
- بجيتي دكتورة وفتحتي عيادتك, عملتي كل اللي حلمتي بيه زمان.
اومأت برأسها لتقول بهدوء:
- الحمد لله, فوقت قبل فوات الأوان واتمسكت بحلمي لحد ما حققته.
احنى رأسه في حرج, وهو يدرك معنى جملتها "قبل فوات الأوان" ثم سألها:
- ابنك اسمه ايه؟
ابتسمت تجيبه:
- بدر.
اومأ برأسه قبل أن يسألها مرة أخرى:
- عنده كام سنة؟
- خمس سنين, يعني اكبر من باهر بكام شهر.
- بس انتِ اتجوزتي جبلي.
أكدت تقول:
- اه, اتجوزت من 8 سنين, بس محملتش غير لما اتخرجت من الكلية وفتحت العيادة هنا، كنا مقررين ده.
صمت لثواني كأنه يحضر ذاته لقول شيء ما قبل أن ينطق بعدها بخفوت:
- أتمنى تكون حياتك زينة.
وهي فهمت, لتبتسم له مرددة بفخر:
- الحمد لله, مفيش احسن من كده, حلمي وحققته, معايا ولد جميل واخد كل صفات والده الحلوة.
وجملتها الأخيرة تخبره أن زوجها الذي يتساءل عنه بخبث, شخص جيد للغاية, هز رأسه قبل أن ينهض ملتقطًا كف ولده وهو يقول بالذي فاجئها:
- مبسوط إن حياتك زينة, على الأجل حد فينا طلع كسبان.
قطبت ما بين حاجبيها بعدم فهم, تُرى ماذا يقصد بحديثه؟ لكنها لم تستفسر وهي تعقب:
- كفاية ان عندك ولد قمر زي باهر.
وابتسمت للصغير فابتسم لها, وعقب "إبراهيم" قبل ان ينسحب:
- معاكي حج.
خرج لتجلس فوق كرسيها متنهدة, وعقلها لا ينفك عن التفكير في جملته المبهمة, هل بنهاية المطاف وجد نفسه خاسرًا؟ قطع تفكيرها رنين هاتفها لتبتسم ما إن رأت اسمه يدون شاشته فأجابت:
- كنت لسه هكلمك.
أتاه صوته المحب يخبرها:
- قولت ارن انا عشان انتِ بتنسي نفسك في العيادة.
وكان ردها مدلل تخبره:
- مقدرش انساك يا حبيبي, بس فرحني وقولي إنك راجع مصر بكرة.
- راجع يا حبيبتي, حجزت خلاص.
اتسعت ابتسامتها حتى باتت من الأذن للأذن وهي تردد بابتهاج:
- بجد! انا هرجع القاهرة النهاردة اخر النهار, وهكون في انتظارك.
فقد طال غيابه, بات له شهر كامل بعيدًا عنها, وهي لا تطيق البعد, استمعت لصوته:
- أنتِ لو تعرفي وحشاني قد ايه, هتعرفي إن لو بايدي كنت رجعت من تاني يوم ليا هنا.
تنهدت بحب ومشاعرها تتدفق له قبل أن تقول:
- على فكره وحشت بدر اوي.
اتاها صوته محمل بعاطفة الأبوه:
- وهو وحشني موت روح قلبي ده.
تدللت تسأله:
- طب وأمه؟
لم يبخل عليها وهو يخبرها بصدق:
- أمه بتوحشني وهي معايا, قوليلي أنتِ عارفه بحبك قد ايه؟
ضحكت بخفوت لم يصل له قبل أن تجيبه:
- عارفه.
- لا لا, بتهيألي مش اوي, عمومًا كلها بكرة وهاجي افكرك.
استمعت لنقرات فوق الباب لتنهي المكالمة سريعًا:
- طيب مضطره اقفل.
وقبل أن تغلق سمعت صوته يخبرها بحب:
- بحبك يا فري.
عقبت هي الأخرى:
- وأنا بحبك يا روح فري, غسان متنساش هدية بدر.
- مقدرش طبعًا, دي جت من أسبوع, أنتِ عوزاني اخد مخالفة؟!
ضحكت تقول:
- باي يا حبيبي.
تنهدت بقوة وهي تشكر ربها للمرة التي لا تعلم عددها على بعثه لها لحياتها, ملاكًا, حارسًا, وفارسًا ليحقق أحلامها ويبدد كل سيء مرت بهِ يومًا...
************
بلغاريا.....
- انا هطلع انام, مش ناقصة دوشة.
رددتها "ليلى" حانقة وهاربة من الأصوات المتعالية حولها بعد تصارع الصغيران كلاً منهما يدلو بمبرراته حول الواقعة, ضحكت "خديجة" بعدما استمعت لجملة والدة زوجها والتي انصرفت على الفور بخطوات بطيئة نسبيًا نظرًا لكبر سنها, لتنظر ل "مراد" تقول ضاحكة:
- الولاد بقوا بيطفشوا طنط.
نظر لصغيريهِ الواقفان أمامه كلاهما يظهر الضجر والغضب على وجهه, والاثنان يشبهنه بشكل لا يصدق, وكأن ضيه قررت أن تكرره في نسختين أخرين, زفر أنفاسه بضيق وهو ينظر لهما بملل:
- يعني الحوار هينتهي امتى؟
نطق "ياسين" صائحًا:
- بص يا بابي أنا قولتله اني مش قاصد ان ال ball تيجي في الكلب بتاعه, هو كان له حق يطلع يكسر الجيتار بقصد؟
رفع "مراد" حاجبيهِ مرددًا:
- الشهادة لله, لأ, يعني هو خبط الكلب بتاعك من غير ما يقصد, بس أنتَ كسرت الجيتار بقصد, ينفع كده يا تيام؟
عاتب الصغير في جملته الأخيرة, ليحني رأسه معترفًا بخطئه لوهلة قبل أن يعاود رفع رأسه قائلاً بعِند:
- أنا اتعصبت عشان هو عارف انا بحب روي ازاي, وحضرتك قولت إننا نخرج غضبنا في أي حاجه غير اننا نأذي حد, انا مأذيتوش أنا خرجت غضبي في الجيتار بتاعه.
الصغير يتلاعب بالحديث... مثله تمامًا, نظر له مضيقَا عينيه لا يصدق كم البراءة التي يتحدث بها, كأنه بالفعل لم يخطئ بشيء!
- متبصلوش كده, ما شبه اباه فما ظلم, زيك بالضبط أستاذ في قلب الحقايق.
رددتها "خديجة" وهي تنهض سائمه من حديث الصِغار مدركة أن الأمر سينتهي كالمعتاد, سيعتذر المخطئ بعد جوله طويلة مع والده حتى يعترف بخطئه, وسيتقبل الأخر اعتذاره ثم يعاودان اللعب مرة أخرى سويًا بعد ان يتعهدا بعدم تكرار الأمر..
نظر لها وهي تبتعد صاعدة للأعلى, ليهز رأسه متوعدًا على الجملة التي القتها قبل صعودها, ثم نظر لولديهِ ليجذبهما يجلس كل واحد على فخذ, ثم بدأ الحديث بصبر لا يلقاه سوى معهما:
- تيام أنتَ صحيح خرجت غضبك في الجيتار, بس أذيت أخوك بردو, لأنك اختارت الجيتار بالذات عشان عارف انه اكتر حاجه ياسين بيحبها, وكده انت اذيته, ثم أنا قولت نخرج غضبنا في أي حاجه مش معناها اننا نكسر البيت! انا قصدت انك تسمع موسيقى بتحبها, تلعب لعبة تخرج طاقتك زي الجري مثلاً او الباسكت وانتَ بتحبه, لكن مش تكسر ابدًا, حتى لو فازة, ده طبع وحش وهتتعود عليه, ودي مش اول مرة تعملها, ممكن متكررهاش تاني؟
خجل الصغير من عتاب والده ليهمس وهو يلقي برأسه على كتفه:
- سوري يا بابي مش هكسر حاجه تاني.
ضمه "مراد" لصدره يسأله مستفسرًا:
- و ياسين؟ يا ترى مين فيكوا الغلطان؟
ابتعد قليلاً ليطالع شقيقه قبل أن يعترف أخيرًا بعد نصف ساعة من الجِدال:
- انا, سوري يا ياسين, أنا عارف انك مكنتش تقصد تخبط روي, بس انا اتعصبت, لكن هجبلك جيتار تاني غير اللي اتكسر وزيه بالضبط, I promise .
اجابه "ياسين" هادئًا:
- خلاص يا تيام مش زعلان, وبعدين هتجيب الجيتار منين؟
وبحمئه أجابه الصغير:
- من مصروفي, أنا هحوش واجبهولك.
قطب "ياسين" ما بين حاجبيهِ رافضًا:
- لا, كده مش هيكون معاك مصروف, خلاص بابي هيجيبه هو مهندس ومعاه فلوس كتير.
صدح صوت "مراد" ساخرًا:
- يا حلاوة ابوك أنتَ وهو, هو انتوا تكسروا وانا اتدبس! بعدين ايه معاه فلوس كتير دي احنا هنق! ده انا طلع عيني فيهم الفلوس دي بعد ما كل فلوسي راحت لدور الايتام اللي يسامحها امك...
ردد الأخيرة بخفوت وهو يتذكر ما إن اتوا لبلغاريا حتى حثته "خديجة" على التخلص من كل امواله الفاسدة وحينها فعل مضطرًا لانه يعلم انها لعنة ستلازمه طوال حياته ان تمسك بها، ليعمل بعدها في مكتب انشاءات هندسية، وبمرور الوقت انشاء مكتب خاص به ذاع صيته الي حد ما واصبح يأتي له عمل لا بأس به ابدا.. كأن الله يكافئه.
اعترض "تيام" يقول باصرار:
- لا, هجيبه من مصروفي, مامي قالتلي اللي غلط يصلح غلطه, وانا اللي غلط مش بابي.
ابتسم "مراد" فاخرًا يمسد خصلات الصغير:
- امك دي بتفهم والله, برافو يا حبيبي, واحنا طبعًا لازم نسمع كلام مامي.
- اكيد.
رددها الصغير مقتنعًا, ثم وجه حديثه ل "ياسين" يخبره:
- مش هجيب شوكلت ولا عصير من بره, وهخلي مصروفي عشان اجبلك الجيتار.
حزن "ياسين" لتضحية شقيقه فقال:
- بس انت بتحب الشوكلت اوي, انا هديك من معايا.
رفض "تيام" مرة أخرى مردفًا بمكر:
- لا, مانا هاخد من الشوكلت اللي بابي بيجبه لمامي.
شهقة خرجت من "مراد" المتابع للحديث الدائر, ليضحك الصغيران بصوتٍ عالٍ عليهِ قبل أن يقول:
- وليه اللفة دي كلها, انا اجيب الجيتار اكرملي, اه يا بن مراد, وانا اللي فاكرك سهل!
ولم تتوقف ضحكات الصغيران ليحتضنهما "مراد" بقوة ضاحكًا معهما من قلبه, شاعرًا بحلاوة ضمهما.
****************
مصر....
القاهرة...
دلفت راكضة بفستانها الواسع والذي تتناثر عليهِ الفراشات لتبدو كساحرة صغيرة ينقصها العصا السحرية, اقتربت من والدها الذي يربط ربطة عنقه تقول بتعجل:
- بابي يلا الناس جت.
انحنى لمستواها يحملها بحب بينما يقول:
- ايه الأميرة الجميلة دي, دي بنتي انا؟
ضحكت الصغيرة بلطف تسأله:
- ايوه, انا ملك, أنتَ معرفتنيش؟
كتم ضحكته عليها وهو يتصنع الاندهاش:
- ايه ده ملك؟ مش معقول, شكلك حلو اوي, ده انا معرفتكيش خالص.
صدحت كركرتها بسعادة وقالت بعدها متسائلة:
- شكلي حلو بجد؟
انحني يقبل وجهها بأكمله:
- سكر يا روحي انا.
حثتها على التعجل تقول:
- طب يلا بقى, الناس كلها جت بره.
- حاضر خلصت اهو, انا بس جيت من الشغل متأخر غصب عني, روحي وانا دقيقتين وهاجي وراكي.
ووضعها أرضًا لتركض الصغيرة ذات الخمس سنوات للخارج بحماس لتخبر والدتها ان والدها قد جهز, ولكنها اصطدمت بوالدتها على باب الغرفة تخبرها:
- براحه يا ملك متجريش كده يا حبيبتي!
ولكنها لم تستمع لها وهي تكمل ركضها حين سمعت صوت صديقتها تناديها.
وقفت على باب الغرفة تنظر له وعيناها تلمع حبًا وشغفًا بهذا الرجل, رأته ينظر لها يبادلها الحب والابتسام قبل أن يقول مثنيًا على مظهرها:
- شكلك يجنن.
ابتسمت وهي تتجه له تديره لها لتعقد هي ربطة عنقه بينما تقول هامسة:
- الفستان زوقك, اكيد يجنن.
واستمعت لهمسه المتلاعب:
- بس انا مش بتكلم على الفستان, انا بشيد باللي جوا الفستان.
قضمت شفتيها بتحذير زائف وهي تهمس له في دلال:
- احترم نفسك.
ردد نازقًا:
- اكتر من كده!
ضحكت بنعومة تهمس له:
- كل ده عشان بقالي كام يوم مشغولة في ترتيبات عيد ميلاد ملك!
اجابها متوعدًا:
- يخلص بس العيد ميلاد وانا هطلعه عليكي.
وقبل أن ترد استمعا لصوت "هبة" الواقفة على الباب تضع ذراعها في خصرها بضيق:
- يعني الناس زهقت بره, وانتوا هنا بتتكلموا؟
نظرا لطفلتهما الأولى صاحبة الثالثة عشر الآن, وبررت "جاسمين" بعدما ابتعدت عن "باهر":
- انا بس بربطله الكرفتة.
اتجه لها "باهر" ليمسك ذراعها ويجعلها تدور حول نفسها قبل أن يصدر صفيرًا خافتًا و يردد:
- برنسيس يا هبة, ايه الجمال ده كله؟ دي غلبتك يا جاسي!
ضحكت "جاسمين" التي أتت من خلفه لتحتضن ذراعه ابنتها وهي تقول:
- طول عمرها غلباني بحلاوتها.
خرجت "هبة" عن صمتها معبرة:
- هو شكرًا جدًا على المجاملة اللطيفة دي, بس مفيش حد ابدًا في جمال مامي, ولا يقدر يتخطى اناقتها وشياكتها.
سألتها "جاسمين" بجدية زائفه:
- مش أنتِ بنتي؟
اومأت برأسها, لتكمل:
- يبقى تقدري تتخطيني عادي جدًا.
ضحكوا جميعًا, لترتفع "هبة" مقبلة وجنة والدتها بحب قبل أن تنصرف للخارج وهي تقول:
- يلا قبل ملك ما تقتلنا.
واتبعها "باهر" وزوجته, ليبدأ الاحتفال بالعيد ميلاد, والابنه الكبيرة تحتضن اختها الروحية بحب وهي تغني لها بسعادة واضحة, و "باهر" يعانق كف "جاسمين" مرددين مع الجميع يتمنوا لطفلتهم التي أتت بعد عذاب وكانت هبة أخرى من الرب عمرًا مديدًا..
***************
بلغاريا...
- حبيبة قلب أبوها صاحية اهي.
رددها ما إن دلف للغرفة ورأى طفلته الصغيرة ومدللة قلب أبيها "رقية" صاحبة العامان ونصف مستيقظة تجلس فوق الفراش ووالدتها تغير لها ثيابها, ابتسمت الصغيرة له بسعادة لتنهض على الفور واقفة فوق الفراش تلقي بنفسها بين أحضانه مرددة:
- بابي.
عانقها بقوة وهو يهمس لها:
- يا روح قلب ابوكِ أنتِ.
نظر لها يسألها:
- هو مصطفى لسه مرجعش من الشغل؟
- لا, كلمته قال في حسابات كتير وجرد في الشركة اللي شغال فيها وهيتأخر,
وعقبت مشيرة للصغيرة:
- لسه صاحية.
قالتها تنبهه وهي تنظر له ثم أكملت بمغزى:
- يعني هتسهر بليل, والليلة مش ليلتي, انت بكرة إجازة.
ضحك بخفوت يهز رأسه يائسًا فكل ما يهم "خديجة" هو أن يسهر بالصغيرة بعيدًا عنها, جلس وأجلس "رقية" بين أحضانه بينما يقول:
- يا ستي متشغليش بالك, أنا وهي السهرة للصبح, ارتاحي أنتِ.
ورغم هذا امتعضت ملامحها لتقول نزقة:
- الأول كنا بنسهر سوا, لكن الحمد لله بقينا بنسهر بيهم.
ابتسم لملامحها الممتعضة, وفكر قليلاً قبل أن يقول وقد وجد حلاً وسطًا:
- ايه رأيك نسربها لياسين اول الليل, ونقضي احنا وقت لطيف مع بعض, وآخر الليل ناخدها منه انتِ تنامي وانا اكمل معاها, أنتِ عارفه مقدرش اقربها من ليلى, دي تقتلنا فيها.
ضحكت وهي تؤكد برأسها:
- طنط من بعد تربية تيام وهي تابت, بس فكرة حلوة, وانا بقى هعملك مفاجأة.
نظر لها محاولاً الوصول لمفاجئتها لتغمز له عابثة قبل أن تنهض تاركة الصغيرة له لتترجل للأسفل تحضر الطعام.
نظر لصغيرته يسألها بجدية مُضحكة:
- ايه الحلاوة دي؟ هو انا ينفع اكلك؟
ضحكت الصغيرة وهي تومأ برأسها موافقة, لينقض عليها يتصنع التهامها وضحكاتها لا تنقطع فتطرب قلب أبيها...
*********
أغلق الباب خلفه ليتنهد براحة قبل أن يستدير لها وهو يقول:
- تمت..
توقف لسانه الناطق وهو لا يصدق ما يراه! هل عادت خديجة لسابق عهدها قبل ولادة الصغيرة؟ هل عادت لتفاجئه بذكرى ليالي لا تُنسى!؟
سار كالمغيب ناحيتها محدقًا فيما ترتديه بقوة, وما إن توقف حتى هتف بأنفاس ذاهبة:
- هو احنا هنعيد امجاد الماضي؟
ضحكت بنعومة ذهبت بعقله وهي تحاوط عنقه بذراعيها بينما تقول:
- هنعيدها مجد مجد..
نظر لما ترتديه ثم سألها وعيناه لا تفارقها:
- أنتِ عارفه البدلة دي متلبستش من امتى؟
ضحكت مجيبة:
- من قبل حملي في رقية بكام يوم.
هز رأسه ناقمًا يسألها:
- طب وده ينفع؟
تعالت ضحكاتها وهي تجيبه بود:
- لا, عشان كده قولت لازم البسها كفاية عليها ركنة كده.
اكد برأسه ونظراته تائهة كأنفاسه ومشاعره:
- هو كفاية فعلاً, هو أنا قولتلك النهاردة إني بحبك؟
نفت برأسها ليبتسم وهو يتعمق في عينيها:
- مليش حق, ده أنا حتى بعشقك... عارفة كل لحظة بينا محفورة في قلبي وفي عقلي عمرها ما هتطلع منهم, كل مشهد بيتعاد الف مره في عقلي, وبعيش اللحظة كأنها بتحصل دلوقتي, من أول ما شوفتك وأنتِ نازلة من عند الدكتور كمال، لحد ما ركبنا الطيارة عشان نبني حياة جديدة هنا.
لمعت عيناها بحب وعشق يزداد بمرور الأيام للرجل الواقف أمامها, لتقول بصوت مليء بالشجن:
- لو قولتلك بحبك هظلمك, لانها كلمة فقيرة اوي عشان توصف اللي جوايا.
ورده الأول كان قبلة مليئة بحبه وعشقه الكامن لها, ورده الثاني بعدما ابتعد وهو يقول:
- مفيش داعي توصفي, انا عارف كويس اللي جواكِ, أنتِ خليلة الروح يا ضي.
ملئت الابتسامة وجهها قبل أن تسمعه يقول متحمسًا:
- طب ايه؟ هي البدلة دي منظر؟!
ضحكت بغنج وهي تبتعد متمايلة في خطواتها وهي تتجه للمسجل الصغير بينما تقول:
- هتشوف بنفسك.
ضحكت عيناه قبل شفتيهِ وهو يتذكر منذُ سبع سنوات حين أتى لها بهذا الزي, لتسأله بصدمة واندهاش وهي تتفحصه:
- بدلة رقص يا مراد؟
ليجيبها حينها بهدوء عابث:
- بدلة رقص يا خديجة... من حقي اتدلع!
عاد من ذاكرته على اقترابها منه لتبدأ ليلة مميزة أخرى تُضاف لكتاب مليء بالليالي المماثلة و مازالت صفحاته تنتظر المزيد..
*********
وفي ذات ليلة قريبة, في مصر, القاهرة...
تقف في منتصف الغرفة بصدمة تحتل معالمها, وعيناها تنظر لموضع معين, بينما أنفاسها متثاقلة بشكل مخيف, وفجأة تهاوت دموعها الصامتة قبل أن تسمع لصوته يحاول التبرير:
- فريال لازم تسمعيني...
هزت رأسها نافية بقوة, رافضة أي تبرير سخيف قد يقدمه لها, وهي تشير بأصبعها لِمَ تنظر له:
- اسمع ايه؟ ايه التفسير لوجود شنطة سفر مليانة دولارات في اوضة مكتبك غير إن شغلك شمال!!؟
والآن نظرت له, لتتجه مقتربة منه, تضرب صدره بقبضتيها صارخة:
- شغل المقاولات هيخليك تملك كل الدولارات دي؟
مسك كفيها بقوة بين كفيهِ, ونظراته الجامدة لم تتأثر بكل ما تفعله, كالطاووس المغرور بذاته, وبعنفوانه وقوته المعهودة كان يجيبها بلا مبالاة:
- لو سكتي هتفهمي, انا مقولتش ان الدولارات دي من شغل المقاولات.
والقادم كان أسوء مما توقعت, و أبشع مما تخيلت...
و "خديجة" التي علمت بزواج "فريال" منه بعد زواجها بشهر, لم تكن تعلم ان غسان مستمر في عمله مع المنظمة, لأنها فهمت من "مراد" ان غسان كان يعمل لديه, وبمجرد تصفيته تم طرد "غسان" من العمل لديهم.
و "مراد" كان يعلم بحب الأخير لها, فقرر أن يترك له فرصة النجاة كما حدث معه, مقررًا التدخل فأي وقت إن ساءت الأمور, ولأنه يعلم بحب "فريال" له والذي علم بهِ متأخرًا لانقطاع الاتصالات بينهم وبين "مصر" بعد هروبهم لعام كامل..
والآن حان دور "فريال" لتدخل الدائرة وتُعاد القصة من جديد... وتستمر الحرب التي لا تنتهي, الحرب بين آدم و حواء, بين الخير والشر, بين الهداية والضلال, وبين الهلاك والنجاة..