رواية طوق النجاة الجزء التكميلى من بك أحيا الفصل العاشر 10 بقلم ناهد خالد

رواية طوق النجاة الجزء التكميلى من بك أحيا الفصل العاشر بقلم ناهد خالد


" حين يموت شخص ويولد شخص في نفس اللحظة, هناك أسطورة قديمة تقول أن الراحل أعطى روحه للمولود, وخاصًة إن كان ذات قرابة من الدرجة الأولى وكأنه أبى أن يذهب قبل أن يسلم روحه لشخص جديد, وهي مجرد أسطورة, والحقيقة حتى وإن كانت أسطورة فربما يحدث عكسها...! والمعنى مستتر"


يقولون أن الأم تشعر إن صاب ابنها مكروه ولا يفرق إن كان مجرد نطفة في بطنها أو رجل كبير بلغ المشيب, ورغم أن القاعدة ليست عمومية إلا أنها تحدث مع البعض, وهي شعرت, شعرت أنه أصابه مكروه, وقبل أن يهاجمها النزيف وقبل أن تفقد وعيها, منذُ قررت الخروج من الممر والعودة له وهي تشعر بشعور سيء يصيب قلبها لم تستطع حينها التحديد, لمن ينتمي هذا الشعور لطفلها أم لزوجها! ولكنها تدريجيًا بدأت تحدد بشعور قوي أن الأمر يخص طفلها الذي أعلن عن وجوده اليوم فقط.. 


أخبرها الطبيب ما إن استفاقت أنها خسرته, خسرت جنينها الذي لم تكن قد عاشت شعور وجوده سوى بضع ساعات, فرحت وشعرت بقلبها يرفرف لأقل من نصف يوم! وكأن فرحتها بهِ شبهت سماء ممطرة أفضت بما في جعبت سحابها لتروي أرضًا أصابها الجفاف وقبل أن ترتوي الأرض, توقف المطر وأشرقت الشمس كأن شيئًا لم يكن, أو كامتحان بدايته كانت اسهل من المتوقع حتى شعر الممتحن بالتخمة والأمل بالاجتياز بجدارة, لكن وبعد بضع أسئلة قليلة أصطدم بأسئلة أخرى لم يجد لها حلاً حتى أن قلمه توقف عن الكتابة ليصيبه سريعًا اليأس ويعلن السقوط... 


-  خديجة؟ مش ناوية تقولي حاجة؟ أنتِ كويسة طيب؟ 


لم تنظر لها وكأنها لم تسمعها, فقط تنظر من نافذة الغرفة التي أصرت على الوقوف بها في رغبة قوية منها لاستنشاق الهواء البارد, لتتابع "فريال" حديثها:


-  طيب اقعدي ارتاحي, كده غلط الوقفة دي, وعشان المحلول.


قالت جملتها الأخيرة وهي تنظر لجهاز الوريد المعلق في كفها والمحلول معلق بجانبها على الحامل الخاص به, دقات فوق الباب تبعها دلوف "باهر" لتنظر له "فريال" بحزن قبل أن تتجه له واقفة أمامه تهمس:


-  حالتها مطمنش يا باهر, مش عارفة مالها مبتردش ولا بتتكلم, وخايفة ليحصلها حاجه.


ربط "باهر" بكفه على كتف "فريال" يهدئها قبل أن يتجه بخطواته ل "خديجة" يقف جوارها ينظر لها بتفحص ليجد وجهها جامد, ملامحها هادئة لا يظهر عليها أي مشاعر سوى الهدوء, وقبل أن ينطق سألته هي:


-  مراد عامل ايه؟ 


أجابها مطمئنًا:


-  الحمد لله ال 24 ساعة عدوا على خير, على الأغلب خلال الساعات الجاية هيفوق, حالته مستقرة متقلقيش.


اومأت برأسها صامتة, ليقول:


-  مش المفروض ترتاحي, وقفتك كده غلط لحد ما المحلول يخلص حتى وتنامي شوية أنتِ منمتيش من امبارح. 


-  أنا كويسه. 


رددتها باقتضاب تنهي حديث لم يبدأ بعد, وهو فهم رغبتها فنظر ل "فريال" بمعنى لا باليد حيلة ومن الأفضل عدم الضغط عليها, وللمرة الثانية يأتي زائر جديد, اتجهت "فريال" للباب تفتحه لتجد "غسان" بوجهها فاضطربت بارتباك, هي ومن قبل كانت تشعر برهبة منه بلا سبب, لا تعلم هل لقوة بنيانه أم لملامحه الحادة كنظراته معظم الوقت, هي حقًا لا تعلم, لكنها كانت تتجنب المواجهة معه دومًا, انتبهت له يسألها:


-  خديجة هانم صاحية؟ اقدر أتكلم معاها؟؟


أجابته "فريال" هامسة بحيرة:


-  هي صاحية, بس هتقدر تتكلم معاها... والله ما عارفة. 


قطب ما بين حاجبيهِ باستغراب يسألها وعينيه تطوف على وجهها الواضح له لأول مرة بقرب هكذا: 


-  يعني ايه؟ 


أجابته متنهدة بثقل:


-  هي من وقت اللي حصل وهي نفسيتها مش كويسة.


-  مين يا فريال؟


صدح صوت "باهر" متسائلاً من الداخل, لتجيبه "فريال" بتوتر لطول مدة وقفتها مع "غسان":


-  ده... ده أستاذ غسان.


كبح "غسان" ابتسامته بصعوبة على جملتها ولسانه يردد هامسًا لذاته باستنكار:


-  والله وبقيت أستاذ يا غسان..!


-  طب ما تخليه يدخل ولا هتقفوا على الباب كتير!؟


رددها "باهر" بحدة وقد رفض وقفتها معه أمام الباب هكذا, لتتحرك بتوتر للداخل ويظهر "غسان" من خلفها بعدما دلف هو الأخر, ليقول:


-  كنت حابب أتكلم مع الهانم شوية.


التفت له "خديجة" وقالت للواقفين:


-  سبوني معاه شويه. 


هي تدرك أن ما سيُقال لا يجب أن يعلموا به, لكن ابدى "باهر" رفضه يقول:


-  ليه؟ خديجة انا مراعي حالتك بس احنا من حقنا نفهم ليه جوزك يضرب بالرصاص كده وناس تحاول تقتله؟ متورط في ايه يوصل الوضع لكده؟ 


وافقته "فريال" تقول:


-  ايوه يا خديجة احنا حابين نطمن عليكي.


اتجهت بخطواتها للفراش وهي تسحب الحامل المعدني ذو العجلات المتحركة بكفها الحر, حتى جلست فوقه بإرهاق وأخذت نفسًا عميقًا ثم قالت: 


-  متقلقوش مفيش قلق خلاص, صح يا غسان؟


سألت "غسان" بقلق لم تظهره, لكنها تريد الاطمئنان هي الأخرى ومازال بداخلها صوت يوسوس لها بأن المصائب لم تنتهي بعد, قال "غسان" بهدوء:


-  دكتور باهر كل اللي حصل عداوة قديمة للباشا, حضرتك فاهم مش كل أصحاب الشركات شرفاء, في منهم بيلعب من تحت الطربيذه ومنهم اللي له اساليبه الغير قانونية, لكن متقلقش اول الباشا ما يفوق انا هخرجه هو والهانم من هنا بآمان وجهزت طيارة طبية خاصة هتنقلهم لمكان آمان, يا ريت تجهزي نفسك يا هانم عشان في أي وقت ممكن نمشي.


تسائل "باهر" مندهشًا:


-  هيسافروا؟ وهو في حالته دي؟


-  متقلقش انا سالت الدكتور المسؤول عن حالته وقالي لو فاق مفيش مانع يتنقل ما دام الطيارة هتكون جاهزة بالإمكانيات اللازمة.


-  وليه كل ده؟ ما تبلغوا الشرطة.


قالتها "فريال" مستغربة موقفهم وقد علمت أنه تدخل لكي لا يتم تحرير محضر بالوقعة, ليؤيدها "باهر":


-  يعني تهريبهم اسهل من تبليغ الشرطة وحل المشكلة! انتوا مش عارفين عدوه ده ما تبلغوا عنه!


تهرب "غسان" من الإجابة وهو يقول بمراوغة:


-  الموضوع مش بالسهولة دي, المهم انهم هيكونوا بخير متقلقوش. 


-  عاوزه انام. 


قالتها "خديجة" بطريقة ظهرت غير مهذبة بالمرة, لكنها أرادت إنهاء الحديث، لينظروا لبعضهم ببغتة لثواني قبل أن ينسحب "باهر" و "غسان" ووقفت "فريال" تقول لها:


-  هقفلك الستاير, وهكون جنبك هنا على الكنبة عشان لو احتاجتي حاجة.


-  لا يا فريال, حابه أكون لوحدي.


-  بس...


-  فريال..


قالتها بنفاذ صبر لتضطر الأخيرة للخروج كي لا تزعجها اكثر. 


تسطحت على الفراش وعيناها ناظرتان لأعلى في الظلام بعدما أغلقت "فريال" الستائر, تنهيدة قوية خرجت منها وهي تسمع صوتًا غاب عنها منذُ مدة طويلة... 


-  هتخسري مين تاني بسببه يا خديجة؟ 


لا تراها لكنها تسمع صوتها جيدًا وتشعر بطيفها رغم الظلام, أغلقت عينيها تضغط على جفنيها بقوة كي لا تسمع صوتها لكنها لم تتوقف..


-  خسرتِ اختك بسببه, وخسرتِ ابنك بسببه, هتخسري مين تاني؟ اقولك انا, هتخسري اهلك... فريال وباهر لما تهربي وتروحي بلد تانية ويتكتب عليكي متشوفيهمش تاني.


فتحت جفنيها وهي تدرك أنها لن تصمت, لتعتدل جالسة فوق الفراش وهي تتحدث للظلام أو هكذا يبدو, وقالت بقوة مصدقة كل حرف تقوله:


-  مخسرتش أختي.. أنتِ مكنتيش أختي، وأمك عمرها ما اعتبرتني بنتها! وده جاوب سؤالي عن قسوتها معايا.. يمكن مأذتنيش بس اهملتني وعمرها ما اهتمت ليا.... و مخسرتش ابني بسببه, أنا اللي اخترت, كان ممكن امشي واسيبه, أنا اللي اخترته واخترت ارجع عشانه, مغصبنيش ارجعله, يمكن لو كنت كملت وخرجت من الممر كنت بقيت كويسه لكن رجوعي له والحالة النفسية اللي حصلتلي لما شوفته غرقان في دمه والضغط النفسي اللي كنت فيه بعدها هو اللي خسرني ابني, لكن هو ملوش ذنب... ومش ندمانة, كنت هندم لو جراله حاجه وانا بعيده عنه... ريحي نفسك يا سارة..


عادت تتسطح مغمضة عينيها وهي تهمس أخيرًا:


-  ريحي نفسك لأني مش هسمعلك تاني يا سارة. 


أخبرها الطبيب أنها ستزورها في أكثر لحظاتها النفسية الصعبة عمومًا, وإن كان الأمر يتعلق ب "مراد" خصوصًا, وعليها أن تتصدى لها, مرة تلو الأخرى, ستنتهي أسطورة "سارة" للأبد أسطورة نسجها لها عقلها الباطن...


*************** 


لم تطلب رؤيته وكان الأمر مريبًا...! 


اليوم هو اليوم الثاني لمكوثه في المستشفى, مرت ست وثلاثين ساعة على تواجده هنا والأمر مستقر, الجميع توقع أنها ستطلب رؤيته مرارًا ولن تهدأ إلا حينما تراه, ولكنها خالفت التوقعات ولم تطلب رؤيته ولو لمرة, وقف "باهر" بجوارها يحثها على شرب العصير بعدما رفضت الطعام للمرة الثالثة, وبالكاد التقتطه منه ترتشف القليل, ولم يستطع كبح فضوله فقال يستشف رد فعلها:


-  لو حابه تشوفي مراد ممكن ادخلك تشوفيه خمس دقايق. 


نفت برأسها تقول بهدوء:


-  مفيش داعي, هقوم اصلي المغرب. 


 مسك ذراعها بعد أن نهضت ليوقفها متسائلاً بقلق:


-  مالك يا خديجة؟ أنتِ كويسة؟ 


-  ايوه. 


اطلق لسؤاله الذي يشغله منذ أمس العنان وهو يسألها بحدة:


-  أنتِ ليه مطلبتيش تشوفي جوزك؟ هو في حاجه بينكوا؟


ابتلعت الغصة التي تحتل حلقها وهي تقول نافية:


-  مفيش حاجة.


ألح في سؤاله:


-  اومال ليه مطلبتيش تشوفيه؟


احنت رأسها بصمت لثواني, قبل أن ترفع عينيها وقد تجمعت الدموع بهما, ولكنها تتماسك, لا تريد البكاء, يكفي ما مرَ عليها وهي تبكي, والبكاء لن يجدي نفعًا, لن يخرجها مما هي فيه أو حتى يزيل من عقلها مشاهد الساعات الماضية, تجلدت كما فعلت الساعات المنصرمة وهي تقول بنبرة مختنقة:


-  مش عاوزه اشوفه غير لما يفوق.


أنهت جملتها وفهم "باهر" وجهة نظرها فصمت, دلفت للحمام لتتوضأ كي تصلي فرضها, وقفت أمام الحوض تستند عليهِ بكفيها, لن تقدر, اعتادت على رؤيته قويًا, صامدًا, لم تراه يومًا ضعيفًا أو مريضًا, لم تحدثه يومًا دون أن تسمع صوته يجيبها, لم تحتاج له إلا ووجدته بجوارها, وقبل ان تلفظ اسمه كانت تجده أمامها وكأنه استمع لنداء قلبها الخفي, لذا لن تسمح لذاكرتها برؤيته في موضع ضعف وسكون كحالته الآن, يكفي مشهده المحفور في ذاكرتها وهو ملقي أرضًا غارقًا بدمائه, لن تراه مرة أخرى إلا وهو واقفًا على رجله, بنفس هيبته وعنفوانه, لن ترضى بغير هذا.


-  هتبقى كويس يا حبيبي, هتبقى كويس.


وكأنه أمامها وكأنها تحدثه.. 


وكأنه استمع لحديثها, وكأن قلبه ارتبط بقلبها, ليدب الأمل به هو الآخر, ويبدأ بالإفاقة معلنًا عن عودة "ابن وهدان" ...


انهت صلاتها ودعت من قلبها أن يزيل الله الغمة, وييسر أمورهما, وأن يشفيه ويرد له كامل عفيته, راضية بما قسمه لها, داعية أن يغفر لهما ولو بعض ذنوبهما بخسارة طفلهم, راجية أن يعوضها خيرًا منه, وقبل أن تنهي دعائها وجدت باب الغرفة يُفتح و "فريال" تقول بابتسامة واسعة:


-  خديجة, مراد فاق.


وابتسمت هي الأخرى واتسعت ابتسامتها شيئًا فشيء وقلبها يدق كطبول الفرح, نهضت من جلستها والتقطت سجادة الصلاة تضعها على الفراش وجلست فوقه بصمت رغم ابتهاج ملامحها وابتسامتها التي ما زالت تزين ثغرها, اقتربت منها "فريال" تسألها باستغراب:


-  مش هتروحيله؟ ده انا فكرتك هتجري عليه. 


هزت رأسها عدة مرات قبل أن تقول:


-  هروحله, هغير بس الإسدال عشان طويل هيكعبلني.


-  معلش انا جبتهولك من عندي جديد مكنتش لسه قصرته, اصل اللي بلبسه كان مغسول. 


اومأت برأسها متفهمة، فقالت مكملة:


-  ماشي هخرج وحصليني بقى. 


منذ خروج "فريال" ولسانها لا يردد سوى الحمد, بدلت ثوب الصلاة لفستان بسيط جلبته لها "فريال" وقامت بلف حجابها ثم عاودت الجلوس, هي تشعر بالاختناق, تشعر بشيء ثقيل يجثم فوق صدرها يكتم أنفاسها و يعوقها من التحرر براحة, وقبضة قوية تطبق على عنقها, تريد البكاء... تريد إخراج كبتها, ومشاعرها السلبية, السيئة التي انتابتها لفترة, وعليها أن تفعل قبل أن تراه, فهي قررت أن تظهر أمامه كما علمها في الفترة السابقة, قوية حتى وإن كان بداخلها دمار, علمها ألا تظهر خوفها وحزنها لأحد مهما كان, علمها كيف تكون صامدة... وفشلت في أول الأمر لأن الضغط النفسي الذي تعرضت له لم يعطيها فرصة لتطبيق ما تعلمته على يده, لكنها ومنذُ استفاقت من غيبتها حتى وعت لنفسها وتجلدت كما علمها تمامًا, لكن الثقل الذي تشعر بهِ لن يزوله سوى البكاء...


وبعد ثواني كانت تسمح لنفسها أخيرًا بالإنفجار... فبكت, بكت بكل ما تحملته وعاصرته, أصوات الطلقات تردد في أذنيها وصراخه بها لتذهب, صراخها المستمر, وتوقف صوت الطلقات, ثم تهديدها للرجال, ومظهره الذي لن تنساه وهو كالجثة الهامدة, بكت حتى أفضت كل مشاعرها السيئة, وما إن شعرت بالتحسن حتى نهضت تغسل وجهها بالمياه كي تزيل آثار بكائها.


************** 


قبل عشرين دقيقة.... 


فتح عينيه ليبدأ في اعتياد الرؤية وكان أول ما همس به اسمها, عدة مرات متتالية, والطبيب يقف فوق رأسه ما إن أخبره الممرض بأن مؤشراته الحيوية ترتفع وقد بدأ يحرك أصابعه, مال برأسه قليلاً ليبصر رجل يرتدي معطف أبيض فعلم أنه الطبيب الذي سأله:


-  أستاذ مراد أنتَ سامعني؟ 


همس بصوت منخفض:


-  مراتي.. 


سمع الطبيب همسه ليقول يطمئنه:


-  متقلقش مراتك بخير, بس خليني اطمن عليك قبل ما ادخلها تشوفك.


وبعد دقائق قليلة قال الطبيب:


-  تمام, حضرتك زي الفل مجرد كام يوم بس وتقدر تتحرك بس بحرص, واسبوعين وتقدر تتحرك أحسن, لكن بردو حياتك الطبيعية أو أي مجهود بعد شهر إن شاء الله ونكون اطمنا على الجرح كذا مرة. 


كان قد استعاد القليل من قوته, فقال بصوت رغم خفوته لكنه واضح لحد ما:


-  هي مراتي لما جت هنا كان فيها حاجة؟ 


-  لا الحقيقة, المدام كانت جاية معاك وكانت كويسة تقريبًا, بس واضح ان خوفها عليك عرضها لضغط نفسي شديد, فتعبت شوية.


رمش بأهدابه قاطبًا ما بين حاجبيهِ قبل أن يسأل بقلق: 


-  يعني ايه تعبت مالها؟ 


-  والله معنديش معلومة لأني سلمت حالتها لطبيب غيري, بس هي كويسة لأن دكتور باهر قالي من شوية لما عرفنا إنك بدأت تفوق انه هيبلغها انك فوقت عشان تيجي تشوفك.


لم يهدأ باله, ولم يرتاح لحديث الطبيب ليقول باقتضاب:


-  عاوز اشوفها.


-  تمام هدخلهالك. 


خرج الطبيب والممرض الذي معه, ليبقى "مراد" منتظرًا على  أحر من الجمر, يريد فقط رؤيتها ليطمئن عليها, اغلق جفونه بقوة مطبقًا عليها لا يريد تذكر اللحظة الذي شعر فيها بالرصاصة الأخيرة تخترقه ليسقط أرضًا وقبل أن يفقد الوعي كان كل ما يشغله هي, تمنى لو فقط استطاع القيام للاطمئنان أنها هربت وان تضحيته لم تضيع هباءً. 


-  حمد الله على سلامتك, أنا بردو قولت أنتَ زي القطط بسبع أرواح. 


نظر مكان صدوح الصوت المألوف لتمتعض ملامحه بضيق وهو يبصر "باهر" أمامه, وخلفه "غسان" الذي قال:


-  حمد الله على سلامتك يا باشا. 


-  هي خديجة فين؟


تسائل بها متجاهل تحية الاثنان له, ليقول "باهر" بهدوء:


-  بعتلها فريال لقتها بتصلي هتخلص وتجيلك.


زفر أنفاسه براحة وقد شعر بأنه استكان ولو قليلاً لحين رؤيتها, قال "غسان" فورًا:


-  باشا, كل حاجة جاهزة عشان نمشي من هنا, ساعة بالضبط وتتحركوا بالطيارة لمكان أمان. 


احتدت ملامحه وهو يقول بمغزى:


-  مش هتحرك من هنا قبل ما افهم.


نظر "غسان" ل "باهر" الذي ما زال واقفًا ينظر لهما بفضول مضيقًا عينيه وكأنه يحل جريمة معقدة ليصل للجاني, زفر "مراد" حانقًا فهو بالأساس يتحمله بالكاد:


-  يا دكتور, مش اطمنت عليا, تقدر تتفضل كفاية نعطلك. 


نظر له "باهر" بغيظ, ليضغط على أسنانه بقوة وهو يقول ناقمًا:


-  اه, اطمنت يا خويا, همشي انا بقى عشان تعرفوا تتكلموا في اسراركوا الحربية. 


انسحب من بينهما وهو يردد هامسًا:


-  عيل سمج حتى وهو بيموت, وانا اللي كنت بدأت اتعاطف معاه! 


ما إن خرج من الغرفة نظر "مراد" لغسان يسأله بحدة:


-  دلوقتي عاوز اعرف كل حاجة, هم ليه قلبوا عليا؟ ولحقتني ازاي؟ 


اومأ "غسان" برأسه وقال:


-  هحكيلك كل حاجة...


**************** 


-  أنتَ متأكد يا صفوت انه مات؟ 


أجابه "صفوت" بثبات:


-  طبعًا يا باشا, ممشتش غير لما اتأكدت من موته.


سأله بشك:


-  ومراته؟ انا عرفت من الرجالة انهم مقتلوهاش.


وبنفس الثبات كان يجيب:


-  لما دخلت انا ورجالتي لقينها مستخبية في المطبخ, كنت ناوي اجبهالك حية تخلص عليها بمعرفتك عشان تطمن, بس كان معاها مسدس وبدأت تضرب نار عشوائي فاضطروا الرجالة يخلصوا عليها. 


اطمئن الرجل يقول:


-  المهم اننا خلصنا.


-  لكن ليه يا باشا مبلغناش غسان ينسحب برجالته, حتى رفضت اكلمه واقوله ميلحقوش وميروحش الفيلا حتى. 


-  مكانش ينفع نبلغ غسان قبلها, انتَ عارف نظامنا, ما دام هتصفي واحد مينفعش رجالته ياخدوا خبر, أنتَ متضمنش, يمكن يساندوه ويكون ولائهم له, وبعد ما نفذتوا, كان لازم غسان يروح عشان يخلصنا من الجثة وآثار الجريمة, انا كلمته وفهمته هيعمل ايه فيهم. 


اومأ "صفوت" برأسه متفهمًا ولم ينطق بعدها, لكنه اطمئن أن كل شيء على ما يرام..


************ 

انتهى "غسان" من حديثه ثم قال أخيرًا:


-  خلال ساعة لازم حضرتك تكون بره مصر.


ابتسم ساخرًا وهو يقول:


-  كأن قلبي كان حاسس, دايمًا مكنتش بأمن غدرهم.


أكد "غسان" حديثه يقول:


-  الحقيقة يا باشا البيت اللي اشتريته من سنين في بلغاريا فادنا دلوقتي. 


فُتح الباب قبل أن يرد عليه لتظهر من خلف الباب كشمس طلت أخيرًا على منطقة جليدية تجمد أصحابها من البرودة, نفسه الذي خرج منه للتو خرج هادئًا وبراحة كبيرة شعر بها الآن فقط منذُ ان استفاق, صرف "غسان" برأسه, ليفهم الأخير وهو يستأذن خارجًا, اتجهت له بابتسامة صافية, جميلة, تشبهها تمامًا, تشبه عينيها السوداء اللامعة كلمعة النجوم وسط عتمة السماء ليلاً, رفع ذراعه لها يحثها على تعجيل القدوم, فملأت ابتسامتها وجهها وهي تتجه ناحيته مسرعة بخطواتها حتى قبضت بكفها على كفه وللتو استطاعت هي الأخرى التنفس لتقول بزفرة قوية:


-  وقعت قلبي يا عم. 


ابتسم ثغره لأول مرة منذُ استفاق, ولمعت عيونه براحة وحب وهو يسألها هامسًا:


-  عاملة ايه يا قلب العم!؟


ضحكة خفيفة صدرت منها على جملته العفوية, لتحرك رأسها بمرح تقول:


-  أنا زي الفل, يعني اعتقد أنتَ اللي مش ولابد! 


قالت الأخيرة ومرت نظراتها سريعًا على جسده بإيحاء, ليضحك متأوهً بألم طفيف وهو يقول بمرح مماثل:


-  ميغركيش الكام طلقة دول, هي استراحة محارب مش أكتر.


مالت عليهِ ليقابل وجهها وجهه تمامًا وهي تهمس له بمغزى حنون:


-  بس خد بالك الاستراحة دي مينفعش تطول, أنا متعودة عليك محارب وبس. 


حرر كفه من قبضتها ورفعه يلمس وجنتها ولمعت عينه تزيد بينما همس لها:


-  طول ما المحارب له اللي يرجع عشانه يبقى اكيد الاستراحة مش هتطول.


تدللت وهي تسأله:


-  وهو ايه اللي للمحارب يرجع عشانه. 


ولم يبخل عليها بكلامه الذي لطالما اطربها وهو يخبرها بصدق:


-  أنتِ حربي وانتصاري يا ديجا, حربي الوحيدة اللي اتمنيت انتصر فيها لأن خسارتي كانت هتبقى بموتي, وانتصرت يا بنت الدالي.. 


ادمعت عينيها بشدة من حديثه الذي لامس أوتار قلبها, لتذم شفتيها بقوة كي تمنع بكائها ثم قالت راجية:


-  متعملش فيا كده تاني.. أنا مقدرش أعيش من غيرك, وحياتي ليها معنى عشان وجودك فيها.. أنتَ الحقيقة  الوحيدة اللي موجودة في حياتي يا مراد, أنتَ الشخص الوحيد اللي تقدر تتحمل خديجة في كل حالتها وتسندها, وأنتَ الوحيد اللي خديجة اتقبلتك في حياتها وأدتك الآمان.


أمال رأسها لتستند على كتفه وضمها بذراعه الحر وهو يقول بصدق:


-  وأنا مش عاوز من خديجة غير الآمان ليا... واوعدك إني هوفرهولك الفترة الجاية وهنعيش بسلام زي ما بتتمني. 


ظل الوضع قائم لفترة يحاول كلاً منهما إشباع مشاعره بقرب الآخر, علّ القلب يطمئن والروح تهدأ, والنفس تستقر, رغم أن هذا يحتاج لسنوات علّها لن تكفي حتى.. 


ومن خضم مشاعرهما سألها بعد تردد كبير لا يعلم سببه لكنه يشعر أن إجابة سؤاله لن تهويه, لكنه بالأخير سأل بتنهيدة:


-  ابننا كويس؟


أغمضت عينيها بقوة ملتزمة الصمت لثواني, صمت فهمه ولم يحتاج لإجابة ليزيد ضمها له وقد شعر بقلبه يحترق وهذا أصدق تعبير.... ابتعدت عنه برفق, ومسكت كفه بكفها وأخذت تربط عليهِ بكفها الآخر بحنو بالغ وقالت برضا حقيقي واقتناع تام:


-  زمان كنت اسمع عن أسطورة بتقول إن ولادة شخص بتيجي بموت انسان، يعني اللحظة اللي صرخت عيل بتطلع فيها بيطلع فيها روح شخص حتى لو بعيد عنه، احنا حصل معانا العكس، ابننا فداك، كان لازم هخسر واحد منكوا، والحمد لله الف مرة إن خسارتي مش فيك.. الحمد لله إن ابني فداك وربنا كان رحيم بيا..


تنهدت برضا ثم قالت:


 _هيعوضنا... هيعوضنا خير عن كل ده وعن أي حاجه عدت, خلينا نقفل الماضي بكل خيره وشره, خلينا نبدأ صفحة جديدة.. صفحة بيضا بدايتها أنا وأنتَ وربنا... عارف يا مراد, أنا اكتشفت ان الطفل ده مكانش وقته المناسب.


نظر لها باستغراب ظهر في امتعاض ملامحه, لتصر قائلة:


-  اه والله, أصل احنا دلوقتي لسه بنخبط في الدنيا ومرسيناش على بر, لسه في بداية طريقنا للهداية, لسه حياتنا هتبدأ تستقر, لسه مش قد مسؤولية تربية طفل.. او على الأقل تربيته على الصح والغلط, تربيته بالطريقة اللي شيفاها مناسبة.. عشان يكون طفل كويس, متزن, وسوي نفسيًا.. لسه شوية, فربنا اكيد عمل الأصلح. 


شرد في نقطة ما بوجهها وهو يقول كأنه يحدث نفسه:


-  أنا كنت ناوي ابعد عن الشغل, ولما عرفت بالحمل قررت إن القرار ده هيكون أسرع من ترتيباتي, بس ترتيبات ربنا كانت أسرع وأحسن, أنا لو كنت مشيت حسب ترتيباتي مكانش هيكون قبل سنة او اتنين من دلوقتي, عمري ما تخيلتهم يغدروا بيا, بس وكأن ربنا رتبها عشان أقتنع إن مفيش حاجه اسمها واخد حذري, ومهما كنت شاطر ممكن اقع في رمشة عين, اتعلمت كتير اوي يا ديجا من التجربة دي, واقتنعت إن ترتيبات ربنا احسن وافضل من ترتيباتنا, وخصوصًا إن بعد ما قرينا الكتب اللي كنا بنقرئها سوا والصلاة اللي بحاول التزم بيها, والقرآن وتفسيره اللي كنا بنسمعه ساعة كل يوم, كل ده كان مخليني مشتت مش عارف امشي في انهي طريق, واني بعمل ده مع شغلي مكانش راكب كده.. كان في حاجة غلط..فهماني؟؟


نظر لعينيها الآن, لتبتسم له توضح:


-  نفسك وضميرك كانوا معترضين, أصل مينفعش أخلص صلاة واروح اقتل! فاهم التركيبة؟ ... زي مثلاً ما تشرب شاي مع قهوة.. حاجه آخر يع يعني.


-  يع! 


رددها باندهاش, قبل أن يضحك بخفوت ثم قال:


-  فعلاً هي حاجة آخر يع.. الحمد لله اننا خلصنا منها, وهعمل بنصيحتك, فاكرة لما قولتيلي لما ترتيباتك تبوز وتحس إن دي ترتيبات ربنا امشي وراها وأنتَ مغمض؟ اهو انا هغمض يا ديجا, وهمشي ورا ترتيبات ربنا... غسان مجهز الطيارة الدكتور يكتبلي خروج وكل شيء هيخلص.


-  من ناحية الخروج هيكتبه, ده غسان... يعني هيخليه يكتبه تحت تهديد السلاح.


اومأ برأسه مبتسمًا, قبل أن ينظر لها بجدية احتلت ملامحه وهو يسألها:


-  ليه رجعتِ؟ قولتلك اهربِ متبصيش وراكي! خاطرتي يا خديجة, خاطرتي اوي. 


مالت بجسدها عليه بحذر كي لا تلمسه فتؤلمه, فقط وجهها قريب لوجهه بقرب جعلهما يتنفسان أنفاسهما وهي تقول بعاطفة قوية له:


-  عشان خديجة عندها استعداد تخسر أي حاجة إلا أنتَ, حتى لو كانت الحاجة دي هي أو ابنها اللي لسه مجاش.. مقدرتش يا حبيبي, مقدرتش امشي واسيبك ورا ضهري, عمرك ما عملتها معايا يا مراد عشان اعملها معاك! طول عمرك بتحميني بروحك, ازاي عاوزني معملش زيك.. على فكرة بقى حبك مش أكبر من حبي, عشان دايمًا فاكر كده انا عارفه..


ضحك وبانت "غمازتيه", وهي تذوب بهما عشقًا, فابتسمت بشغف وحب تُكمل:


-  كل واحد بيحب بطريقته, لكن أنا بحبك زي ما بتحبني وعندي استعداد اعمل عشانك كل اللي عندك استعداد تعمله عشاني... والحب تضحية يا حبيب. 


وأنهت حديثها تقترب أكثر, خاطفة قبلة قصيرة منه حستها مشاعرها لها, ليتنهد بعدها بحرارة وهو يسأله وعيناه تائهة بها:


-  هو انا مجتش المستشفى من زمان ليه؟!


وانطلقت ضحكاتها تطرب قلبه وتزغزغ مشاعره تدفعه دفعًا للوقع بها, الوقوع أكثر! وهل لم يصل للقاع بعد!!؟


************** 


نظرت من نافذة الطائرة تودع الكثير... 

تودع أرضًا ووطنًا لم تعرف غيره...

تودع أشخاص كانوا أهل حتى وإن لم يكونوا حقيقيين... 

تودع ذكريات طفولتها, صباها, شبابها.. 

تودع كل بقعة من هذه الأرض شهدت على قصة لها, وتحمل ذكري لن تندثر..

الوداع قاسي, وإن كنت مجبرًا فهو أقسى, فتبًا لكل شيء يرغمنا على الترك, التخلي, والبُعد بلا عودة.. 


كفلسطيني تمسك بأرضه, إما قاتلاً إما قتيلاً، ولكن ومع خسارة الأحبة واحدًا تلو الأخر, ومع حمله لأرواح أخرى غير روحه على كتفه, ومع وجع الفقد, وقسوة التهديد, وبشاعة المنظر, وقمع المذنب, اضطر للترك, والهجر.. 

هو الذي قسم ألا يتخلى وألا يغادر شبرًا من أرضه, لكن الظروف تجبر, وما لم تعيشه أنتَ لن تفهمه مهما وُصف لك...

خرج مقهورًا, مكسورًا, ومرغمًا ويا ليته يستطيع البقاء.. 

خرج يودع كل ذكرى, وكل مكان مرَ بهِ يومًا, يستنشق هواء وطنه لآخر مرة, يشبع عينيه من مناظر سيفتقدها, يترك لقلبه حلاوة الشعور لآخر مرة.. ويا لقسوة الغُربة! 


-  ديجا! 


نظرت له وهو مستلقي على فراش طبي خاص وحوله الأجهزة اللازمة لحالات الطوارئ, وممرضان يجلسان على بُعد مناسب, مسحت دموعها بكفها وهي تنظر له مجيبة:


-  نعم يا حبيبي. 


طالعها بحزن يسألها:


-  بتعيطي ليه؟


هزت رأسها تقول بنبرة مختنقة:


-  البُعد قاسي, والفراق دايمًا بيكون شيء صعب, أصل الانسان مجرد ذكريات وأماكن. 


مسك كفها ليرفعه لفمه يقبله بعمق قبل أن يقول بوعد صادق:


-  هنبني ذكريات جديدة, وهنرتبط بأماكن جديدة هتبقى جزء من حياتنا الجاية.


مالت تقبل كفه الممسك لكفها بالمثل ونظرت له تقول مبتسمة:


-  أنا أروح معاك لآخر الدنيا, وابني معاك ألف ذكري في ألف مكان.


وبشعور قوي, صادق ردد هامسًا لها:


-  بحبك يا ضيّ.


ضاقت عيناها من ابتسامتها الواسعة وهي تهمس له:


-  وأنا بعشقك يا عيون ضيّ وروحها. 


وكانت الطائرة تعرف وجهتها المحددة "بلغاريا", تمامًا حيثُ قالا.. أماكن جديدة, لخلق ذكريات جديدة, وفرصة أنسب للعيش....


******* 


والسنوات تمر بلمح البصر دون أن نراها, أو نشعر بها, والعمر يجري ليسابق قطار الحياة وكلاهما لا يتوقف...


بعد مرور عشر سنوات.... 


الفصل الحادى عشر من هنا

تعليقات



×