رواية جبران العشق الجزء الثاني الفصل التاسع
لو فاكر أنك فهمت اللعبة
تبقى اللعبة
لعبتك !
____________
ابتسم سفيان ساخرا ، المقبرة تحوي الكثير وهو لن يترك ما فيها أبدا ، في تلك اللحظة لم يكن أمام عينيه سوى صورة كايلا حفيدته الصغيرة ولكنه سرعان ما رفض الفكرة مؤقتا ، كايلا من تحمل دماء ابنته التي هي دمائه ، ربما يحتاجها في أمر أعظم من مجرد مقبرة على الأغلب لن يجدوا فيها سوى أقل القليل ، احتدت حدقتيه ينظر لمحمود الواقف أمامه قبل أن يرفع كتفيه لأعلى يردد ساخرا :
- مش شغلي يا محمود تتصرف وتجيب أضحية عشان الراصد يرصى عليك ، وإلا هيموت عيالك واحد ورا التاني ، ومن غير سلام عشان أنت وجعت دماغي النهاردة
_____________
في صباح يوم الأربعاء
استيقظت حياة تنظر لوجه زياد النائم جوارها ، رفعت يدها تمسح على خصلات شعره برفق شديد حتى لا توقظه، تحركت مقلتيها على وجهه وهو نائم هادئ ، أحيانا تشعر بالذنب لأنها جعلته يرتبط بفتاة مدمرة مثلها ، كانت تظن أنها تجاوزت الماضي ولكن الأمر أصعب من ذلك بكثير ، تقلبت لتمدد على ظهرها تفكر شاردة ، أيعقل أن الرجل القادم حقا هو شقيق وليد التؤام ، تعرف أنه أحيانا كثيرة تتشابه التوائم في الشكل لحد خطير ، ولكنها تقسم أنه وليد لا يختلف سوى تسريحة شعره والنظارات على عينيه ، وربما هي أيضا طريقة كلامه ولكن لم لا تكن هي فقط خدعة من وليد الوغد ، وليد خبيث شيطان ، أغمضت عينيها تعد لرقم خمسة تلقي الأفكار السيئة جانبا ، تحاول أن تركز على صورة زياد فقط ، حين فتحت مقلتيها قررت أن تغير الكثير ، ستصب جام اهتمامها على زياد ، لن تدع تلك الأفكار البشعة تستنزفها أبدا ، ستضع كامل ثقتها في زياد ، زياد قادر على حمايتها هي من اخطئت سلفًا حين خرجت من المنزل ولن تعيد الخطأ مرة أخرى ، قامت بخفة من جوار زياد تتحرك بهدوء حتى لا توقظه ، اغتسلت وبدلت ثيابها نزلت لأسفل سريعا ، تعد له الفطور
نظرت لساعة المنزل عليه أن يستيقظ الآن ، حملت الفطور على صينية صغيرة وصعدت لأعلى ، تمنى ألا يكن قد استيقظ ولكنه كان قد فعل ، رأته يجلس على الفراش يمط ذراعيه يتثائب ، ابتسم ما أن رآها قبل أن يطلق صفيرا طويلا يشاكسها :
- ايه دا ، ايه دا ، ايه دا ، كنافة بالبستاشيو
ضحكت حياة عاليا ، تحركت تضع صينية الطعام أمامه على الفراش نظر للطعام قبل أن يعاود النظر إليها يتحدث باسمًا :
- دا إيه الرضى دا كله يا ست حياة
جلست جواره إلى الفراش تُسند كتفها إلى ذراعه ابتسمت تقول خجلة دون أن تنظر إليه :
- تقدر تقول كدة ، قررت أن أنا أنسى الماضي ، وأنا واثقة أن ما فيش حد هيأذيني في وجودك يا زياد ، وبعدين أنا كنت فعلا مأثرة معاك أوي الفترة اللي فاتت فقولت أعوضك
ابتسم مما قالت ، يتنفس الصعداء يبدو أنها مكافئته لأنه صفع الحية وأخرجها من حياتهم ورفض أن يدنس نفسه ، رفع ذراعه بخفة فسقط رأسها على صدره لف ذراعه حول كتفيها يقبل قمة رأسها تنهد يردد سعيدًا :
- أنا بحبك أوي يا حياة ، بجد بحبك أوي وعايزك دايما واثقة فيا لأن أنا عمري ما هخذلك أبدا يا حبيبتي
ابتسمت تريح رأسها إلى صدره بعد أن ألقت كل الأفكار السلبية جانبا ، شعرت بيد زياد تمتد إلى ثوبها بشيء من التردد الظاهر فلم تمنعه ، لم تُظهر ضيقها ورفضها كما تفعل دومًا ، وإنما هي فقط ابتسمت تحرك رأسها تعطيه موافقة صامتة هادئة
_______________
قرب الرابعة عصرًا تقريبا في المستشفى الحكومي ، جلس طه في غرفة الكشف عينيه شاردة يفكر حائرًا في الكثير ، نظر للضماد الذي يلتف حول كفه ممتعضًا متضايقًا لا يعرف إن كان الأمر يستحق كل ذلك العناء وجوده في حي بسيط ، وعمله في مشفر رديئة بلا إمكانيات تقريبا ، زم شفتيه متضايقا لا يريد أن يُكمل أبدا ، حياته أفضل من ذلك بكثير و لكنه أقسم أن ينتقم وسيفعل ، انتبه حين دُق الباب ودخلت صبا ، الجميلة الرقيقة صاحبة الشعر الأحمر يجب أن يكن اسمها صهباء وليس صبا ، ابتسم لها أما هي فاقتربت تضع كوب القهوة على المكتب أمامه قبل أن تقف بعيدا قليلا نظرت له وابتسمت خجلة قبل أن تتمتم بصوت خفيض :
- ألف سلامة على حضرتك يا دكتور ، عن إذنك
والتفتت لتغادر ولكنه نادى باسمها سريعا التفت له فحمحم يحادثها باسما :
- متشكر يا صبا ، صحيح يا صبا أنا ممكن اسألك سؤال لو مش هضايقك
اومأت برأسها توافق ، فابتسم يسألها :
- أنتِ ليه شغالة هنا؟ ، قصدي يعني أنا شوفت الملف بتاعك بالصدفة وعرفت أنك خريجة جامعة ، ليه تشتغلي أنا آسف في الكلمة عاملة نظافة
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي صبا قبل أن ترفع كتفيها لأعلى قليلا تردد بهدوء :
- المرتب هنا أحسن ، والشغل مش عيب ولا إيه يا دكتور
أعطاها إبتسامة صغيرة قبل أن يحرك رأسه يعتذر منها :
- أنا آسف لو كلامي ضايقك أو حاجة ، أنا بس فضولي مش أكتر
ابتسمت له تومأ برأسها قبل أن تلتفت وتغادر ، أما هو فأغمض عينيه يشد كفه لمَ يجب إن تشبهها !!
_____________
في منزل جبران ووتر
اضجع جبران إلى عارضة الفراش يلف ذراعه وتر التي تنام على صدره تحرك أصابعها بخفة على جلده قبل أن ترفع عينيها إليه تهمس قلقة :
-جبران أنا بجد خايفة عليك أوي ، اللي اسمه رزق دا ممكن ما يصدقش ، وممكن يأذيك ، وممكن يعرف أنك بتضحك عليه ، في ألف احتمال مخليني مرعوبة من سفرك يا جبران
ابتسم لها دنى برأسه يقبل جبينها يمسح على ذراعها بخفة يطمأنها :
- ما تخافيش يا حبيبتي أنا يا أما شوفت ، وبعدين أنا ببقى متأمن كويس أوي يا وتر ، دي آخر تقلقي منها ، وبعدين أنا معايا الواد حسن ، المهم أنتي وكايلا ، أنا معتمد عليكِ سايب ورايا راجل يا وتري
شدت جسدها تجلس مجاورة له تنهد تومأ له تطمأنه :
- ما تقلقش يا جبران ، صدقني إحنا هنكون كويسين ، بس أنا مش فاهمة إزاي بعد ما قعدت تتخانق وتقوله أنا مش جبران مش ابنك ، هتروح تقوله سوري يا عمو أنا كنت غلطان واكتشفت إني ابنك عادي
ضحك جبران ، فتح درج الدولاب الصغير المجاور لفراشهم يخرج منه ملف طبي مختوم ، أعطاه لها ففتحه تقلب بين أوراقه توسعت حدقتيها ذهولا قبل أن تردف مدهوشة :
- يا ولاد الصايعة
انفجر جبران في الضحك يصدمها على رأسها بخفة يردف ضاحكا :
- بقيتي قليلة الأدب
رفعت وتر وجهها عن الأوراق لفت رأسها إليه ضحكت بخفة قبل أن تردف :
- بس حلوة حركة أنك تعرضت لحادثة وفقدت الذاكرة دي ، بس تفتكر راجل دماغه مقفلة زي رزق كدة هيفهم حوار فقدان الذاكرة دا
اومأ برأسه قبل أن يغمزها بطرف عينيه يتمتم عابثا :
- أكيد هيسأل بس الورق كله سليم ،وجوزك بردوا بيمثل حلو أوي ، هدخل عليهم بفيلم عودة الابن الضال ، أبويا حبيبي بالحضن يا حج
ضحكت بخفة تومأ برأسها قبل أن تلمع عينيها يشرق في رأسها فكرة تتمنى أن يوافق عليها ، هبت واقفة على ركبتيها تغمغم سريعا :
- طب حلو أوي ، إحنا كدة ممكن نيجي معاك أنا وكايلا ، بحكم أنك فقدت الذاكرة فأنت اتجوزت وخلفت عادي ، قولت إيه ؟
نظر جبران إليها لعدة لحظات يرفع حاجبيه قبل أن يردف ضاحكا :
- يعني أنا خوفي كله عليكي أنتي وكايلا وانتوا هنا ، عايزاني أخدكوا معايا عش الدبابير ، وتر بطلي أفكارك المجنونة دي ، ويلا قومي البسي وحضري شنطتك أنتي وكايلا ، عشان هوديكي لحماتي قبل ما اسافر مش هطمن عليكي وأنتي لوحدك ، وأمل كمان على فكرة هتقعد عند أمها واهو هتبقوا قريبين من بعض ، يلا عشان أنا هتحرك كمان ساعتين
زمت شفتيها متضايقة مما قال ، تنهدت تومأ برأسها موافقة ، قبل أن تتحرك صوب غرفة ابنتهم
_____________
في منزل حسن وأمل
وضع أمل ثياب حسن في حقيبة صغيرة ، تنهدت قلقة كما هو الحال دومًا تشعر بالقلق الشديد ينهش فيها ، انتبهت حين شعرت به يحتضنها من الخلف طبع قبلة صغيرة على وجنتها يشاكسها :
- مالها أمولتي سرحانة في أيه
لفت رأسها ناحيته قليلا تنهدت تهمس تحاول أن تغالب قلقها :
- قلقانة عليك ، بس عارف اللي مطمني شوية أنك مسافر أنك البلطجي حسن مش حضرة الظابط
ضحك عاليا ما أن قالت ذلك يلف جسدها ليقابل وجهها وجهه غمزها بطرف عينيه يتحدث عابثا :
- الله ، دا إحنا بقينا بنحب البلطجي حسن أهو يا أبلة أمل ، أومال كنتي بتغلبيني على ما تعملي لي رغيفين كبدة ليه
ضحكت تصدمه على صدره تحاول أن تبعده قبل أن تردف تغيظه :
- عشان أنت كنت غتت أوي ، دا أنا كنت بكرهك كره يا حسن وقتها ، وأنت عمال تلقح جتتك عليا ، وأقولك ما بحبكش ابعد عني ، تقولي أنا بحبك وهتجوزك ، كان بيبقى نفسي الطشك على خلقتك ، بس بخاف إنت كنت مرعب أوي
انفجر في الضحك أثر ما قالت ، توقف فجاءة عن الضحك يتحرك للأمام وهي بين يديه إلى أن شهقت بعنف حين دفعها فارتطمت بسطح الفراش ورأته يقترب منها أمسك بكف يدها يبسطه على صدره قشعرت بقلبه يدق بقوة تحت لمستها ، نظرت لوجهه فالتحمت مقلتيها مع عينيه طويلا ، تنهد يتمتم بصوت رخيم :
- من أول لحظة شوفتك فيها وهو دقاته اتغيرت فجاءة ، لما جيت أنا وجبران الحارة أنتِ ما كنتيش موجودة ، عارفة لما نزلت في يوم وشوفتك عند العربية كانت لحظة حسيت أن دقات قلبي غريبة ، حسيت اني مش قادر ومش عايز أبطل أبصلك ، وقتها كنت مسخ شخص مدمر ملوث ، آخر فرصة ليه العملية دي ولو فشل هيتفصل ، وسط كل دا ما عرفتش غير إني أحبك يا أمل ، أحبك من كل قلبي
ملأت الدموع عينيها ليمد يده يمسح دموعها سريعا :
- لا يا أمل أوعى تعيطي أبدا ، أنا مش مسامح نفسي أصلا على اللي كنت بعمله و على فرضي لنفسي على حياتك ، اضحكي دايما يا أمل ، أنتِ الضحكة الوحيدة اللي في حياتي ، آه صحيح في حاجة مهمة عاوز أقولهالك ، أنا على عيني موديكي عند أمك تقعدي عندها لحد ما أرجع ، عشان ما تقعديش لوحدك ، ما تخليهاش تنكد عليكي يا أمل ، ولا تضايقك بكلامها أبدًا ، ولو ضايقتك امشي من عندها روحي عند وتر مرات جبران ، ماشي يا حبيبتي
اومأت برأسها توافق قبل أن تقرر مضايقته فهي ستشتاق حقًا لذلك :
- هو كلام جميل أوي يا حسن بجد ، بس ليه يتقال في الوضع دا ، ليه ما قولتوش وإحنا واقفين مثلا
ضحك حسن يائسا قبل أن يبتعد عنها يردف ضاحكا :
- صدقيني أنا كنت بخطط لقلة أدب بس الوقت أزف وإحنا لازم نتحرك دلوقتي ، في ثواني تكوني خلصتي
_________
وقف جبران في منزل السيدة فتحية والدة وتر يحمل ابنته الصغيرة بين أحضانه يتحدث يوصيها :
- كوكي حبيبتي ، تسمعي كلام ماما لحد ما جوجي يرجع من السفر ، وما تغلبيش تيتا لما ماما تروح الشغل ، وأنا قايل يجيلك كل الحلويات اللي أنتي عيزاها ، بس لو عملتي شقاوة ماما هتقولي وأنا هقول لطه وما يجيبش أي حلويات ، وهزعل منك جداا
عانقته الصغيرة تلف ذراعيها حول عنقه تتحدث سريعا :
- أنا مش هعمل شقاوة يا جوجي ، بس أنت تعالى بسلعة
ضحك جبران بخفة يعانق صغيرته يشبع قلبه منها ابعدها عنها يقبل وجنتها ويديها الصغيرتين :
- مش هتأخر يا حبيبتي ، يلا انزلي العبي ، أنا جبتلك كل اللعب بتاعتك من البيت عشان تلعبي بيها
وعانقها من جديد يتنفس بعمق وهي بين أحضانه قبل أن ينزلها أرضًا فركضت للداخل ، رأى وتر تقترب منه ودون مقدمات ارتمت بين ذراعيه توقع أن تبكي توصيه على نفسه ولكنها تعلقت به تهدده :
- عارف يا جبران ، لو لمست الست اللي اسمها أمنية دي ، هقتلك
توسعت حدقتيه ذهولا قبل أن يضحك يائسا يضرب كفا فوق آخر يردف ضاحكا :
- يلا يا مجنونة ، وتقوليلي كايلا طلعالك دي طالعة ضاربة زيك ، يا ستي وربنا ما هلمسها
ابتعد عنه حمحمت ترفع هامتها لأعلى تحاول ألا تبدو متوترة :
- على فكرة هي اصلا مش حلوة ، أنا أحلى منها ألف مرة ، جبران دا شكله كان ذوقه وحش خالص
احتضن وجهها بين كفيها يطبع على جبنيها قبلة عميقة قبل أن يبتعد عنها يبتسم يردف:
- خلي بالك من نفسك ومن كايلا ، ولو احتجتيني في أي وقت اتصلي بيا ، ولو حصل أي حاجة تبلغيني وأنا هكلمك كل يوم ، وتر أنا مش عاوز أسافر وأنا قلقان
ابتسمت تطمأنه فرفعت ذراعها تريه عضلاتها الغير موجودة من الأساس تتمتم مغترة :
-ما تخافش يا حبيبي سايب وحش وراك
ضحك قبل أن يعانقها بكل ذرة فيه حين دق هاتفه علم أنه حسن ، وأنه يجب أن يرحل ، لم يبعدها عن أحضانه إلا بعد لحظات قبل جبينها مرة أخرى يتنهد قلقا عليهم قبل أن يحمل حقيبته يلوح لها بالوداع ، اختفت ابتسامتها ما أن أختفى من أمام عينيها تحاول ألا تبكي ، تحركت صوب الشرفة سريعا تتابعه بعينيها رأته وهو يصافح حسن يتحركان لخارج الحي تابعته عينيها إلى أن أختفى من أمامها فسمحت لنفسها أخيرا بالبكاء ، ستشتاق له ، لا تعتقد ذلك ، فهي قد اشتاقت إليه بالفعل وقد رحل قبل لحظات فقط ، انتبهت حين أقتربت والدتها منها فعانقتها تبكي بحرقة في حين مسحت فتحية على رأسها تهدئها :
- ما تقلقيش يا حبيبتي هيبقى كويس والله ، ما تعيطيش عشان كايلا ما تخافش
______________
-سيداتي وسادتي صباح الخير ، نشرة الأخبار الصباحية في تمام السادسة صباحًا ، معنا مراسلنا حسين من أمام مطار القاهرة الدولي ينقل لنا أهم حدث شغل الجميع اليومين الماضيين وصول النبيل وحيد التهامي نجل العائلة بعد أن ثبت أن جميع أوراقه الرسمية صحيحة مئة بالمئة ، حسين ما هي الصورة عندك ؟
انتقلت الكاميرا لتصور محيط المطار من الخارج يقف أمام العدسة شاب تقريبا في منتصف العشرينات يتحدث ينقل الصورة أمامه :
- صباح الخير يا محمد ،إحنا دلوقتي قدام مطار القاهرة في انتظار الطيارة اللي من المفترض ميعاد هبوطها بعد عشر دقايق
في الطائرة نظر من خلال النافذة المغلقة المجاورة له أقترب من الهبوط ، رفع يده يُعدل وضع نظارته على عينيه لازال لم يعتاد عليها ولكنها تضيف لوجهه الكثير من الاحترام، قام من مقعده توجه صوب المرحاض نظر للمرآة أمامه يلتقط نفسا عميقًا ، أي خطأ ولو صغير سيكلفه الكثير ، نظر للحُلة الباهظة التي يرتديها ، رفع يده يحرك أصابعه في خصلات شعره ، يتذكر كل كلمة قالها الجوكر ، عاد لمقعده حين علم أن الطائرة ستهبط الآن ، ما هي إلا دقائق وهبطت الطائرة وفُتح بابها ، انحنى قليلا يخرج من باب الطائرة بات على أول درجات السُلم ، وقف ينظر حوله أخذ نفسا قويا ، قبل أن ينزل لأسفل ، يتحرك بخطوات هادئة ، هامته لأعلى يحمل معطف أسود ثقيل على ذراعه ، خرج من المطار وقف ينتظر حقيبته ، توجه إلى مكتب الجوازات ، نظر الموظف له ولجواز السفر لعدة لحظات قبل أن يبتسم يردف :
- نورت مصر
ابتسم وحيد في هدوء يشكره قبل أن يأخذ منه جواز السفر ، يحمل حقيبته يخرج من المطار ، توقف حين رأى عدد لا بأس به من الصحفيين ومراسلوا القنوات الإخبارية يهرعون إليه يلتفون حوله وبدأوا يمطرونه بالأسئلة ، كان يود بشدة أن يصرخ فيهم أن يبتعدوا عنه و لكنه لا يجب أن يفعل ، فقط ابتسم إبتسامة هادئة وطلب منهم بكل أدب :
- أنا آسف بس ممكن واحد واحد يسأل ، عشان أنا مش سامع حاجة ومش عارف أرد على أي سؤال
هنا قال أحد الصحفيين يسأل سريعا قبل غيره :
- وحيد بيه ، ممكن نعرف حضرتك كنت بتشتغل ايه وأنت في إيطاليا
ابتسم وحيد يجيب بكل تهذيب :
- أنا دكتور في الأدب الإنجليزي
هنا سريعا انبثق سؤال آخر :
- طب حضرتك كدكتور في الأدب الإنجليزي إزاي هتدير مجموعة شركات
لم تفارق الابتسامة شفي وحيد بل رد بكل ثقة :
- كوني دكتور في الأدب الإنجليزي مش معناه إني جاهل في مجال البيزنس ، أنا درسته سنين ومعايا من العلم والتطبيق والخبرة ، اللي يخليني أقدر أدير شركات العيلة
هنا سخر منه أحد من المراسلين يردد :
- ويا ترى بقى هتقدر تدير تجارة المخدرات بردوا بتاعت والدك
لم تختفي ابتسامة وحيد ، وإنما نظر لمن تحدث بكل هدوء قبل أن يتحدث بنبرة لبقة للغاية :
- أنا آسف ، أنا مش هقدر أرد على سؤالك ، لأنه فيه إهانة ليا ، عن إذنكوا
وتحرك من بين الجمع الغفير إلى أقرب سيارة أجرة كانت تنتظره ، دخل المقعد الخلفي جلس هناك وما أن فعل مد السائق له هاتف صغير عقد جبينه لم يدم تعجبه طويلا حين سمع صوت الجوكر يأتي من الهاتف :
- برافو يا وليد عجبني ثباتك الانفعالي ، كنت متابعك لحظة بلحظة ، دلوقتي تروح ترتاح عشان نبدأ أول عملية
_______________
توقف القطار بعد رحلة دامت لساعات غطا فيها في النوم ، حين توقف القطار أستيقظ جبران نظر لحسن النائم جواره لكزه في ذراعه يوقظه :
- حسن أصحى وصلنا
فتح حسن عينيه ينظر إلى جبران قبل أن يمط ذراعيه انثني جانب فمه بما يشبه ابتسامة يردد بحماس :
- يلا يا معلم جبران يا سواح
ضحك جبران قبل أن يقف عن مقعده جذب حقيبته وفعل حسن المثل ، خرجا من محطة القطار يبحثان عن أي سيارة أجرة تقلهما إلى حيث بلدة والد جبران ، لف جبران رأسه يمينا ويسارًا يبحث عن أي سيارة ، انتبه فجاءة حين أقتربت منه سيدة يبدو أنها تبيع الشاي في المحطة وضعت صينية الشاي من يدها جانبا ، قبل أن تهرع إليه أمسكت بذراعيه تصيح سعيدة :
-جبران حمدلله على سلامتك يا زينة الرجال ، وحشتني ، وحشتني أوي
عقد جبينه قبل أن يزيح يدي تلك السيدة بعيدًا عنه يحادثها محتدًا :
-أنتِ مين يا ست أنتِ وتعرفيني منين؟
عقدت السيدة الواقفة أمامه جبينها قبل أن تضع يدها على خاصرتها تصيح في وجهه غاضبة :
- نعم يا حيلتها ، أنت هتعمل مش عارفني ولا عشان خدت غرضك خلاص ، وقطعت الورقتين العرفي اللي كانوا لينا ، طب على الأقل ما تنكرش العيش والملح ، أنا كنت جاية أشوفك وأسلم عليك ، مش عايزة منك حاجة ، كاتك الهم راجل عرة
وتحركت تحمل صينية الشاي تبتعد من أمامهم ، هنا نظر جبران إلى حسن الذي انفجر في الضحك يردد :
- البس يا معلم بداية القصيدة كُفر
حرك جبران رأسه لا يصدق أنه تم سبه في خمس دقائق من وجوده في بلد لا يعرفها من إمرأة لم يقابلها يومًا ، خرج مع حسن وأخيرًا عثرا على سيارة أجرة أوصلتهم إلى مدخل البلدة ، ما أن نزل وبدأ يتحرك في الطرقات ليصل لمنزل رزق السواح ، بدأ يلاحظ نظرات وهمهمات الناس من حوله ، لم يتوتر بل تحرك بكل ثقة إلى أن وصل لمنزل رزق السواح وقف أمام البيت الضخم ما أن عبر البوابة ، رأى ذلك الرجل الذي من المفترض هو أبيه يقف في منتصف الحديقة ينظر إليه بأعين جامدة حادة ، أقترب جبران منه وابتسم يقول بهدوء :
- مساء الخير يا حج رزق ، أخبارك إيه ، أنا جاي عشان ، أصحح وضع غلط حصل....
قاطعه رزق قبل أن يُكمل يدق على الأرض بعصاه بقوة يردد ساخرًا :
- وضع غلط ، إيه صحيت من النوم اكتشفت أنك جبران ، ولا كنت ناسي أنك جبران
اومأ جبران برأسه يوافق ما قاله قبل أن يردف بكل هدوء :
- أيوة يا حج أنا المفروض جبران ، بس من أربع سنين عملت حادثة كنت بين الحيا والموت ، ولما فوقت لقيت نفسي مش فاكر حتى أنا مين ، الدكاترة لقوا البطاقة بتاعتي وقالولي أن اسمي جبران ، عيشت زي العيل الصغير التايه ، اللي ما يعرفش حتى نفسه لأكتر من سنة لحد ما بدأت افهم الدنيا ، وعرفت من حسن الصبي بتاعي ودراعي اليمين إني تاجر حشيش ، وكملت حياتي وأنا كل اللي عارفه أن أنا اسمي جبران وإني بتاجر في الكيف
ومن ثم أنزل الحقيبة من على كتفه يخرج منها عدة أوراق يمد يده لها لأبيه يردف بنبرة حزينة للغاية :
- دا تقرير المستشفى تقدر تتأكد منه ، أنا ما كنتش ناوي أدور عليك ، كنت ناوي أكمل حياتي زي ما أنا عايشها ، بس الولد الصغير اللي حضن رجلي وما كنش عاوز ، وكان بيعيط عشان يفضل في حضني ما فارقش عيني لحظة ، عشان كدة بدأت أدور عليكوا ، أنا عايز أشوف إبني
زادت نظرات رزق قسوة ودون مقدمات رفع يده وصفع جبران على وجهه صفعة عنيفة جعلت وجهه يلتف ، هنا خاف جبران من أن يكن رزق لم يصدق ما قال ولكن الأمر لم يكن كذلك ، أقترب رزق منه يقبض على تلابيب يصرخ فيه غاضبا :
- لو ما كنتش طلعت عن طوع أبوك ما كنش حُصل فيك ، ما كنتش سيبت ابنك الصغير وهو عنده سنتين ، وجاي بعد 8 سنين تدور عليه ، ما كنتش سيبت مرتك وهي عروسة وهربت ، الكيف والمزاج جروا رجليك ، وبدل ما كنت بتشرب وبقول عيل طايش وبكرة يكبر ، بقيت تاجر وبتبيع الحشيش وبتاجر في القرف دا ، زيك زي عمك طاهر ، لما هج وهرب زمان ورجع ميت ، أنا كنت خايف إنت كمان ترجع ميت
ومن ثم أخذ الأوراق من يده يلقيها بعيدًا يجذبه إليه يعانقه يتحدث بنبرة أكثر وسعادة :
- اتوحشتك جوي يا ولدي ، كنت خايف أموت قبل ما أشوفك تاني ، تعالى يلا ، الكل هيفرح بشوفتك ، ومرتك هترد فيها الروح ، ادخل يا ولدي تعالى أنت وضيفك
لف رزق ذراعه حول كتفي جبران يصطحبه للداخل ، أما حسن فوقف مكانه عدة لحظات يحاول ألا يبكي حين ذكر رزق اسم أبيه ، أخذ نفسا قويا قبل أن يتبعهم للداخل ، جلس جوار جبران على الأريكة ينظر لانحاء البيت الكبير إلى أن وقعت عينيه على صورة كبيرة على الحائط أمامه ، كانت لرزق وهو في سن أصغر يجاوره شاب في مقتبل عمره ، وسيم يضحك ، يلف رزق ذراعه حول كتفيه ، ذلك الرجل يعرفه حتى لو كانت المرة الأولى التي يرى فيها صورة له ، ابتسم حزينا تدمع عينيه يبدو أن والده كانت تحب أبيه أكثر فقد أخذ الكثير من ملامح وجهه ، انتبه حين لكزه جبران خفية ينظر له يحذره إلا يبكي ، فرفع يده سريعا يمسح دموعه خفية ، ما هي إلا لحظات وظهر الطفل الصغير يركض صوب جبران يصيح سعيدًا :
- بابا
حمله جبران يُجلسه على قدميه يبتسم في وجهه سعيدًا :
- أهلا أهلا أستاذ سعد ، عامل ايه يا حبيبي وحشتني
توسعت حدقتي الطفل الصغير قبل أن يردد فرحًا :
- بجد يا بابا ، أنا حبيبك أنت بتحبني ، أنا افتكرتك بتكرهني لما حضنتك ما رضتش تحضني وبعدتني عنك
شعر بالسوء لما فعل ، حمحم يحاول أن يقول شيئا يراضي به الصغير :
- معلش يا حبيبي أنا كنت تعبان ما تزعلش مني ، أنا جيت عشانك ، وهفضل معاك دايما ، وهوديك المدرسة وأجيبك منها ، عشان أشوفك صُحابك ، ونلعب كورة سوا
شعر الطفل الصغير بأنه يطير من الفرحة من الكلمات التي تخرج من فم أبيه ، ليعانقه بقوة يصيح سعيدًا :
- بجد يا بابا ، أنا بحبك أوي أوي ، أنت أحسن بابا في الدنيا كلها
ربت جبران على ظهر الصغير برفق ، قبل أن تلمح عينيه نفس السيدة التي رآها قبلا تدخل إلى الغرفة يجذب رزق يدها ليدخلها يحادثها :
- يا بت همي ادخلي ما أنا خبرتك ما كانش فاكر حد يا حزينة ، واد يا جبران تعالا هم اهنه
قام من مكانه يتحرك صوب والده ، مال رزق على أذن أمنية يهمس لها بعدة كلمات فتوترت تومأ برأسها تخرج من الغرفة ، وقف جبران أمام رزق ، ليتحدث الأخير :
- لو نعرف أنك جاي كان زمان الوكل جاهز ، بس أنت جيت على غفلة اطلع ريح جار مرتك عشان في الليل هندبح الدبايح ونعمل ليلة ونعزم أهل البلد كلهم يحضروا
توتر جبران يحاول أن يقول شيئا يتهرب به :
- معلش يا حج أنا مش هينفع أطلع وأسيب حسن عشان ما يزعلش
ضحك رزق يسخر مما قال :
- وهو عيل صغير ولا إيه ، اطلع يا واد ، وأنا هفضل اهنه مع حسن صاحبك
نظر جبران إلى حسن ليستنجد به ولكنه كان ينظر صوب صورة أبيه لا تنزاح عينيه عنها ، تنهد يومأ برأسه موافقا يسأل أبيه :
- حاضر هي أوضتي فين
أخبره رزق أن غرفة ناحية اليسار الغرفة الثالثة ، تنهد قلقا يصعد لأعلى يقرر أنه لن يحدث شيئا سيدخل للغرفة وينام ما الصعب في ذلك ، انتبه حين اقتربت منه فتاة تقريبا في نهاية العشرينات ما أن وقفت أمامه ابتسمت تقول متغنجة :
- وحشتني يا سي جبران ، زوزو ما وحشتكش
توسعت حدقتيه يتمتم مدهوشا يضرب كفا فوق آخر :
- أنتِ كمان ، هو ما كنش بيعتق ولا إيه ، وطبعا كنا ضاربين عرفي
ابتسمت الفتاة سعيدة تومأ برأسها ، ليعض على شفتيه يصيح بعلو صوته :
- يا مرارك يا جبران ، يالهوي على اللي هشوفه
سمع صوت أبيه يصيح من أسفل :
- مالك يا واد بتندب كيف الحريم ليه
لم يرد عليه بل استمر يصعد لأعلى ينظر حوله هنا وهناك إلى أن اصطدم بمزهرية كبيرة امسكها سريعا قبل أن تسقط يتمتم مذعورا :
- يارب ما اطلعش متجوز الفازة دي عرفي هي كمان
توجه إلى الغرفة التي أخبره عنها أبيه فتح الباب ودخل يُغلق الباب ما أن التفت توسعت حدقتيه ذهولا مما رأى .....